سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعشهادات

أنا ميسون لكن اسمي سارة

طُلب منا أن نكون مخبرين للأجهزة الأمنية

06 أيار 2025

“كنت أداوم في “سانا” صباحاً، وألتحق بالمظاهرات بعد الدوام” هذا ما تقوله الصحفية والناشطة، ميسون المصري، في شهادتها عن نشاطها خلال الثورة، في سوريا وفي المنفى، حيث عملت ونشطت تحت اسم “سارة الحوراني”.

أنا ميسون المصري، تخرّجتُ في كلية الإعلام/ جامعة دمشق، وبعد نجاحي في مسابقة التوظيف عام ٢٠٠٠، اشتغلتُ صحفيةً في وكالة “سانا” في مدينة درعا. عندما اندلعت الثورة، في ١٨ أذار/ مارس ٢٠١١، كنت في مناوبة في مكتب الوكالة. لم يكن الكثيرون يتوقّعونه ولكن كان هناك شعورٌ عام بأنّ شيئاً ما قادماً. حينها، بدلاً من ممارسة عملنا كصحفيين، طُلب منا أن نكون مُخبرين للأجهزة الأمنية. كان علينا جمع معلومات دقيقة عن الحراك الشعبي في محافظة درعا، وحتى الاندساس بين المتظاهرين لنقل تفاصيل الأحداث. لكنني لم أستطع القيام بذلك.

لاحظتُ كيف تعاملت القوّات الأمنية مع المتظاهرين، فقد كان القناصة مُنتشرين فوق أسطح المباني، بما في ذلك مبنى وكالة “سانا”، حيث تمركزوا لاستهداف المحتجين. طُلب منا كتابة تقارير تُخالف الواقع، وتصوّر الأوضاع على أنها مجرّد فوضى أو احتجاجات مموّلة من الخارج، لكنني كنت أعلم أنّ المحتجين الذين خرجوا للمطالبة بالحريّة هم من أبناء المدينة؛ بعضهم من أقاربي وأصدقائي.

خلال اقتحام درعا البلد لأوّل مرّة، تمّ قطع جميع وسائل الاتصال، وبدأ القصف وإطلاق الرصاص بشكل كثيف، واستخدم الغازات المُسيّلة للدموع. كانت الأوضاع في غاية الخطورة. في صباح اليوم التالي، نزلتُ مع أحد زملائي من مكتب “سانا” سيراً على الأقدام، ورأيتُ مشهداً لن أنساه أبداً: سيّارة إسعافٍ مرشوشةً بالرصاص، والدماء منتشرة في المكان، وأحذية الجرحى والشهداء متناثرة على الأرض.

“العودة إلى طرطوس لا تشبه العودة إلى سوريا”

14 نيسان 2025

في ذلك الحين كنت أداوم في “سانا” صباحاً، وألتحق بالمظاهرات بعد الدوام. كان الوضع صعباً للغاية، ولم تكن هناك خياراتٌ كثيرة؛ إما أن تكون مع الحق، أو أن تصطف مع الباطل والإجرام. لذا، عندما سنحت الفرصة (بعد تحرير بعض الحواجز وتكوين مناطق آمنة) قرّرتُ تقديم إجازةٍ غير مدفوعة الأجر حتى لا أتعرّض للملاحقة، وخاصةً أنّ مديرتي كتبت تقريراً بحقّي. بدأتُ بعدها العمل تحت اسم سارة الحوراني، وذلك بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي كانت تُحيط بي، من كثرة الحواجز الأمنية، وصعوبة التحرّك بحرية أو حتى التصريح بالاسم الحقيقي.

بعد فترة نزوحٍ وتشرّد، ومع تصاعد الأحداث، انتقلتُ إلى العمل في التوثيق، حيث بدأتُ في جمع المعلومات عن الانتهاكات والقصف العشوائي. كنت أنقل الأخبار عبر منصّات التواصل الاجتماعي التابعة للحراك الثوري. ثم انضممتُ إلى وسائل إعلام سوريةٍ معارضة، مثل “سوريتنا”، “كلنا سوريين”، “الأخبار الآن”، وكذلك وكالة “قاسيون”. كتبتُ أيضاً في بعض الصحف العربية مثل “العربي الجديد” و”الحياة اللندنية”، حيث نشرت تحقيقين عن الوضع الإنساني. في ذلك الوقت كنت أنشر أعمالي تحت اسم سارة حفاظًا على سلامتي. ومع مرور الوقت، وتحديداً في عام ٢٠١٨، أصبحتُ مديرة مكتب وكالة “قاسيون” في المنطقة الجنوبية، وبدأتُ بتوثيق الانتهاكات بشكل أكثر تنظيماً، من خلال كتابة التقارير وتصوير الأحداث ونقلها إلى العالم. كان عملي يركّز على الجانب الإنساني أكثر من الجانب العسكري، حيث كنت أوثّق معاناة المدنيين، وأعمل على تزويد المنظمات الحقوقية بالمعلومات حول الجرائم التي يرتكبها النظام.

الإسعاف والدفاع المدني

في عام ٢٠١٣، فقدتُ شقيقي صلاح برصاص قناص. لم نستطع إسعافه بسبب غياب الإمكانيات الطبيّة، وكان هذا الحادث دافعاً لانضمامي إلى الدفاع المدني السوري. تلقيت تدريباتٍ في الإسعافات الأولية في الأردن، وبدأتُ بالمشاركة في عمليات الإنقاذ والإغاثة أثناء القصف. إلى جانب ذلك واصلتُ عملي كصحفية، كما عملتُ في مشاريع لدعم الأطفال والنساء، حيث ساهمتُ في تأسيس مراكز تعليمية للأطفال وتنظيم ورش توعيةٍ للنساء في مجالات متعدّدة، منها الإعلام والتصوير وكتابة التقارير. لاحقاً، أصبحتُ مسؤولةً عن المركزين المُخصّصين للعناصر النسائية من الدفاع المدني في درعا البلد، ثم في المنطقة الجنوبية التي تشمل درعا والقنيطرة.

بعد سيطرة النظام السوري على الجنوب عام ٢٠١٨، تلقيتُ تحذيراتٍ تفيد بأنّ اسمي على قائمة المطلوبين. في البداية، لم أكن أريد المغادرة، ولكن بعد أن أصبح اعتقالي وشيكاً، اضطررت للخروج من سوريا في ٢٠ تموز/ يوليو ٢٠١٨، متوجّهةً إلى الأردن، حيث أقمت في مخيّم الأزرق لمدة ثلاثة أشهر، قبل الانتقال إلى كندا.

المنفى

عملي في وكالة “سانا” لم يكن سهلاً، لأنّني كنت أعمل في بيئة لا تقبل بسهولة فكرة أن تعمل امرأةٌ في مجال الصحافة. لكن، مغادرتي لسوريا كانت أصعب. في الحقيقة هي من أصعب لحظات حياتي، إلى جانب استشهاد شقيقيّ الاثنين وستةٍ من أبنائهم، وما شاهدته من مآسٍ خلال الثورة. آنذاك، شعرت بأنني اقتُلعت من جذوري وأنني لن أعود أبداً.

بعد وصولي إلى كندا مع زوجي، واجهتُ صدمةً نفسية حادة، وبدأتُ أعاني من كوابيس مستمرّة، ما دفعني لتلقي العلاج النفسي لمدة ثلاث سنوات. ساعدني العلاج على التخفيف من حدّة الكوابيس، إلا أنها لم تختفِ تماماً، وما تزال ترافقني حتى اليوم. في كندا شعرت بإحساسٍ عميقٍ بالذنب، لأنني تركت الناس هناك وجئت إلى مكانٍ آمن، بينما هم ما يزالون يعانون. بعد كلّ التضحيات والجهود التي بذلناها، شعرتُ أننا انهزمنا واضطررنا للرحيل، بينما بشار الأسد ما زال في السلطة. هذا الإحساس أثّر بشدة على حالتي النفسية، وبقيت أحمله معي حتى سقوط النظام.

رغم التحديات النفسية والمعيشية، بقيتُ على تواصلٍ مع الدفاع المدني، وانضممت للعمل معهم في كندا. في مكتب الخوذ البيضاء في مونتريال، بدأت كمحرّرةٍ صحفية، قبل أن ألتحق بقسم المناصرة، وما زلت أعمل فيه حتى الآن. عملي هذا كان أفضل علاجٍ نفسيٍّ لي. صحيح أننا لا نقدّم ذات الخدمات التي يُمكن تقديمها داخل سوريا، لكننا ما زلنا قادرين على فعل شيءٍ من أجل الناس، على الأقل إيصال صوتهم والتعبير عن معاناتهم، عبر عقد اجتماعاتٍ ولقاءاتٍ مع مسؤولين من دول مختلفة.

أما فيما يخصّ عملي الإعلامي، بعد عام ٢٠١٨، فلم أعد قادرة على الكتابة كما كنت أفعل سابقاً. شعرتُ وكأن هناك حاجزاً يمنعني من التعبير بالكلمات، لذلك قرّرت التوجّه إلى المونتاج والتحريك الغرافيكي، حيث وجدت أنّ هذا المجال يوفّر وسيلةً أخرى لإيصال الرسائل والقصص بطريقةٍ بصريةٍ مؤثّرة. إضافةً إلى ذلك، ما زلت عضوةً في “تجمع أحرار حوران”، الذي انضممت إليه في عام ٢٠١٦. هو تجمّعٌ إعلاميٌّ مستقل في الجنوب السوري، تعرّض مؤسِّسه للاعتقال ثم استُشهد، إلا أنّ التجمّع استمرّ في العمل حتى بات أهم تجمّعٍ اعلاميّ في المنطقة الجنوبية، رغم أنه لا يتلقى دعماً خارجياً، ويعتمد بالكامل على جهود متطوّعين، معظمهم من الشباب الذين، رغم أنهم لم يدرسوا الإعلام أكاديمياً، استطاعوا تطوير مهاراتهم بشكلٍ كبير منذ تأسيسه عام ٢٠١٤. كنت أساهم بتقديم مواد مصوّرة وكتابة التقارير، وتولّيتُ رئاسته لفترةٍ بعد خروجي. أمّا الآن، فأنا عضوةٌ في مجلس إدارته وأقوم بتحرير الفيديوهات والموشن جرافيك.

العودة

رغم أنني حصلت على الجنسية الكندية، أرى أنّ العمل على أرض الوطن أفضل من البقاء خارجه. هذا هو مخططي، حيث أسعى للعودة. ومع ذلك، لا أعلم كم سيستغرق الأمر، لا سيما أنّ البلاد تمرّ بظروفٍ صعبة تحتاج إلى الكثير من العمل، خصوصاً من الناحية الأمنية والاقتصادية.

لا أسعى لأن أكون جزءاً من المؤسّسات الإدارية أو الحكومة، بل أطمح للعمل على الأرض مع الناس، وخاصةً مع النساء والأطفال، لأنني أؤمن بأنهم الأساس ويجب أن نقف إلى جانبهم. وإذا كانت هناك فرصةٌ للعمل في المجال الإعلامي، فسأعود إليه أيضاً، سواء في التصوير، أو المونتاج، أو أي جانب آخر، فهو ضروريٌّ لنقل الصورة الحقيقية عما يحدث على أرض الواقع.

أريد أن أعود لأساعد الناس في مجالاتٍ مختلفة، سواء في الإغاثة أو التعليم، لأن تعليم الأطفال أمرٌ في غاية الأهمية. هناك تسرّبٌ كبير من المدارس، وزيادة في عمالة الأطفال. كلّ هذه القضايا تحتاج إلى جهدٍ كبير. كما أنّ الدعم النفسي ضروري، خاصة أنني شخصياً مررتُ بتجربةٍ أثرت على حالتي النفسية، وأدرك أهمية تقديم هذا النوع من الدعم لمن يحتاجونه.

أما بالنسبة لدور النساء، فقد كنّ من أكثر الفئات التي تحمّلت المعاناة في سوريا، سواء كنّ معتقلات، أو أمهاتٍ لشهداء، أو أرامل فقدن أزواجهن واضطررن إلى العمل لتربية أطفالهن بمفردهن. لقد تحملن مسؤولياتٍ كبيرة. أرى ذلك في والدتي، وهي أمٌّ لشهداء وأرملة، وأدرك كم كان الحمل ثقيلاً عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى كثيرٍ من النساء السوريات.

أعمل في الدفاع المدني، وأفتخر كثيراً بالنساء اللواتي يعملن معي، فقد قدّمن تضحياتٍ عظيمة، وخاصة خلال كارثة الزلزال، حيث وقفن إلى جانب الرجال في عمليات البحث والإنقاذ… اليوم، تبذل النساء السوريات جهداً جباراً، سواء في رعاية الأيتام، أو تأمين لقمة العيش، أو العمل في المجالات الإنسانية، القانونية، والإعلامية. ومع ذلك، هناك مخاوف من أن يتم تقييد عملهن مجدداً في المستقبل، رغم أنّ لديهن إمكانياتٍ كبيرة، ليس فقط في المجالات الإنسانية، بل حتى في السياسة والمناصب القيادية. لكن تحقيق ذلك يتطلّب بيئةً سياسية وعسكرية مستقرّة تسمح لهنّ بالعمل والمساهمة في بناء البلاد.

نمرّ حالياً بمرحلةٍ انتقاليةٍ صعبة، والقادم لن يكون سهلاً. لكننا اخترنا أن نقف ضدّ الظلم، وسنظل ثابتين على هذا الموقف، بغضّ النظر عن هُويّة الظالم. اليوم، تحقيق العدالة ومحاسبة كلّ من ساهم في الإجرام ضدّ الشعب السوري هو أمر ضروري، لأن سوريا لن تتمكّن من الوقوف مجدّداً من دون إنصاف الضحايا. بالطبع، إعادة بناء البلاد لن تكون سهلة، فالوضع معقّدٌ جداً، خاصة مع التدخلات الخارجية والتحديات السياسية والعسكرية على الأرض، لكنني متفائلة، وأؤمن بسوريا وبحقها في مستقبل أفضل.

حكاية ما انحكت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى