سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الحوار

البروفسور نجيب جورج عوض: لا خلاص إلا بنموذج سوري نكتبه بأخطائنا

حاوره: عروة درويش

8 مايو 2025

محتويات

من يملك الحق في تعريف «الهوية»؟

هل يمكن أن تنشأ هوية بلا دولة؟

هل نستطيع التعلم من التاريخ دون أن نعيد تمثيله؟

الدولة والإقصاء

من يعيد المجتمع إلى الحياة بعد أن أُطفئت مصابيحه؟

لحظات أمل!

الفيدرالية وصفة إنقاذ… أم قنبلة موقوتة؟

التطبيع مع «إسرائيل» ثمن لبقاء الدولة!

في الختام

حين تنهار الدولة، لا تتداعى مؤسساتها فحسب، بل ينهار معها المعنى: معنى الانتماء، ومعنى الهوية، ومعنى أن تكون مواطناً في وطن لم تختر شروطه. في سوريا، لم يُترك للناس يوماً أن يصوغوا هويتهم بحرية، فالسلطات القمعية كانت دائماً فوقهم: تُملي، وتُصنّف، وتُقصي.

لكن، في زمن ما بعد «الانهيار الكبير»، يعود السؤال من تحت الرماد: من نحن؟ وما الذي تبقى من فكرة “الدولة الوطنية”؟ وهل ما زال بالإمكان بناء مشروع وطني جديد؟ في هذا الحوار الحصري مع “سوريا اليوم 24“، يفتح البروفسور نجيب جورج عوض واحداً من أعمق النقاشات الفكرية حول المصير السوري: من أزمة الهوية، إلى هشاشة السلطة، إلى احتمال الفيدرالية، وصولاً إلى السؤال الأكثر إشكالية عن مدى ضرورة التطبيع مع «إسرائيل».

هذا ليس حواراً عادياً، بل محاولة فكرية سياسية لالتقاط خيوط المعنى من بين أنقاض الحاضر الذي يطل ثقيلاً تارة، وخفيفاً مفعماً بالأمل تارة أخرى… لطرح الأسئلة التي لا مفر منها إذا أردنا أن نبدأ من جديد.

من يملك الحق في تعريف «الهوية»؟

في سوريا، وربما جميع أرجاء العالم العربي، نادراً ما تم طرح سؤال الهوية كأداة تفكيك سياسي أو تأمل مجتمعي، بل غالباً ما تم سوقه كإجابة جاهزة. إن حكام سوريا، بدءاً من سايكس بيكو، وصولاً إلى سقوط السلطة السابقة، لم يسمحوا – إلا بفترات قصيرة نسبياً – للسوريين بأجمعهم بالتمتع بهوية جامعة على اختلافهم، بل كانت هذه الهوية المزعومة انعكاساً لما تريده الأنظمة. أُريد بالهوية السورية، سواء من قبل الأنظمة أو المستفيدين من وجودها، ألا تكون مشروعاً ديناميكياً نابضاً بالتعدد والتفاعل، بل هوية مفروضة من فوق، وربما نداءات البعث من المنابر الرسمية «بالعروبة» فقط هو أبلغ مثال على تهميش كل من هو غير عربي. من هنا جاء السؤال للبروفسور نجيب جورج عوض:

    برأيكم، هل كان للسوريين في مرحلة ما هوية وطنية جامعة، أم أن الهوية السورية كانت دائماً موزعة بين انتماءات طائفية ودينية وقومية؟

صُنعت فكرة الهوية الوطنية في دوائر السلطة ودوائر الأدلجة. تم استخدام هذه الفكرة لأغراض الهيمنة والسيطرة على الشارع، وصُنعت هوية مثل «الهوية السورية العربية» باعتبارها هوية أيديولوجية مُسقطة من علِ السلطة، ومفروضة على الجميع. إذا ما أراد الباحث الحقيقي السوسيولوجي والأنثروبولجي البحث، فإنّه يبدأ من الواقع وليس من الإيديولوجيا. الواقع يقول إن الناس في سوريا لم يُمنحوا فرصة لصنع هويتهم الوطنية المشتركة بأنفسهم، ولذلك فإن ما نسميه «هوية وطنية» كان دائماً مفهوماً وهمياً ومصطنعاً (Artificial)، ليس لها وجود في الوعي الجمعي للناس. كانت الناس مجبرة أن تتحدّث عن هوية، لكنني أرى بأنّ الناس لم يتمتعوا بفرصة بناء هويتهم الوطنية. من هنا لا أرى أنّ تاريخ السوريين شهد هويات وطنية حقيقية، بل إيديولوجيا «هووية» مصطنعة فُرضت على الناس من أعلى.

هل يمكن أن تنشأ هوية بلا دولة؟

في سوريا، تحطمت البنى السياسية والاجتماعية، وتحولت إلى أشلاء تحاول بشكل مذهل أن تعيد تعريف نفسها كل يوم وفق ميزان السلاح والولاء. فهل من الممكن أصلاً الحديث عن هوية وطنية في غياب مؤسسة الدولة؟

    هل نحن حالياً في حالة عبثية هوياتية؟ وهل نحتاج لمشروع جامع مثل مشروع الدولة لتأسيس هوية؟

نحن لا شك بحاجة إلى دولة في المقام الأول. حالياً، بحسب توصيفي العلمي كمراقب، سوريا تعيش حالة لا دولة، وهي حالة تشبه كثيراً ما نسميّه في علم السياسة: «جمهوريات الموز». هذا المصطلح التقني يعبّر عن حالة من غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والمجتمعي، ونحن نعيش هذه الحالة في الوقت الراهن. من هنا حتماً سوريا بحاجة إلى دولة. كل تجمّع بشري متواجد معاً، وارتضى أن يعيش معاً، بحاجة إلى دولة. لكن إن أردنا التعاطي مع الواقع السوسيولوجي السوري الحقيقي، فنحن أمام هويات متعددة في سوريا، وعلينا تقبّل هذه الحقيقة. لهذا علينا أن نقبل بوجود هويات متعددة في سوريا، وأن نبني هوية جامعة على قاعدة «الوحدة في التنوع». أي هوية لا تُبنى على قاعدة «الوحدة في التنوع»، هي هوية جامدة مسمطة آتية من قبل طرف مرجعي لديه سلطة وقوة يفرضها على الآخرين. التشتت الهووي الذي تعيشه سوريا اليوم سببه أنّ النظام الاستبدادي الذي كان قد فرض هوية جمعية على الجميع قد مضى، وذهبت معه الإيديولوجيا التي فرضها، فوجد الناس أنفسهم يتجهون قسراً نحو هويات ضيّقة، إما هويات طائفية أو دينية أو ثقافية أو عرقية ضيقة جداً، لعدم وجود خيار جامع آخر أمامهم، يعطيهم الفرصة لتطوير حالة «وحدة في التنوع». وطالما بقيت هذه الفرصة غائبة، سيبقى الناس متقوقعون ضمن هويّاتهم الضيّقة.

هل نستطيع التعلم من التاريخ دون أن نعيد تمثيله؟

الحنين إلى الماضي واحد من أخطر الفخاخ التي تسقط فيها المجتمعات المتصدعة. كثيرون اليوم يتحدثون عن «العصر الأموي» كما لو كان نموذجاً مثالياً للتعايش، دون أن يسألوا أنفسهم: هل كان ذلك فعلاً مشروع دولة أم مجرد لحظة تاريخية مرّت فيها المنطقة؟ وهل يُعقل أن نستدعي تاريخاً لم نفهمه بعد، لنُسقطه على حاضر يتطلب حلولاً أكثر شجاعة وتعقيداً؟

    في كتابك «المسيحية الأموية» تشرح أن المسيحيين كانوا مكوناً أصيلاً من الدولة الأموية، وفي أحاديثك الإعلامية تشرح بأنهم لم يكتفوا بالتعايش مع المسلمين، بل شعروا بالانتماء إلى الدولة الإسلامية التي اعتبروها مخلّصاً لهم من الدولة البيزنطية. هل تعتقد أن هذه التجربة يمكن أن تُبنى عليها في سوريا اليوم، سواء للمسيحيين أم لبقية مكونات المجتمع السوري؟

نحن يمكن أن نتعلم من التجارب التاريخية، لكن لا يمكن أن نُسقِط الماضي ونطبقه على الحاضر، فهذا الأمر ينافي القراءة التاريخية. نحن يمكننا تعلم الدروس والعبر من التاريخ. بحسب مراقبتي، جميع الموجودين اليوم في سوريا، ممن يتحدثون عن الدولة الأموية – مع احترامي للجميع – لا يعرفون شيئاً عن التاريخ الأموي الحقيقي، ولا يعرفون شيئاً عن الخلافة الأموية الحقيقية.

نعم المسيحيون في المشرق انتموا وليس فقط تعايشوا في إطار الخلافة الأموية، وكانوا يؤمنون بأنهم جزء منها. لم يكونوا يشعرون بأنهم رعايا عليهم التعامل مع الوضع الجديد، بل تعاملوا بوصفهم جزء من المشروع الحضاري. فالعائلة السفيانية كان لديها حلم كوني وطموح بأن تبني إمبراطورية وحضارة، وبالتالي انفتحت هذه الأسرة على بناء الحضارة مع كل مكونات المنطقة. لكن اليوم للأسف لا نرَ الأمر ذاته في المشهد السوري، بل نرى حالة من الأحادية والاستئثار، والإصرار على خلق كيان مرجعي أحادي يشبه الكيان الذي كان قائماً في الماضي. هذه العقلية تعني أننا لم نتعلم أي شيء من التجربة الأموية على الإطلاق.

الدولة والإقصاء

الانتماء ليس مجرد شعور، بل عقد اجتماعي يُشعرك بأن وجودك معترف به، وأنك مساهمٌ فعلي في تعريف المعنى العام. لكن، ماذا لو كان هناك مجموعة تحاول الهيمنة على الدولة عبر فرض هوية دينية ضيقة؟ كيف يمكن لمواطن غير مؤدلج إسلاموياً أن يشعر بأنه جزء من دولة بهذا الشكل؟

    نحن نعيش اليوم في واقع تحاول فيه بعض الفصائل الإسلاموية أن تفرض على السلطة القائمة أن تبني هوية الدولة بشكل إسلاموي. هل يمكن لهذه الفئة – إن نجحت – أن تبني دولة تجعل غير الإسلاميين يشعرون بالانتماء، وهل من فرصة لهم أن ينجحوا في سعيهم؟

هذا سؤال مهم جداً. أولاً، أنا من الباحثين الأكاديميين الذين كتبوا أبحاثاً بالعربية والإنجليزية أن الدين، في جوهره، ليس هوية. تعريف الذات بالدين لا يقول شيئاً عن الذات، لأن مركزية الدين هي «الله»،  هي الآخر المُفارق وليس الإنسان، فحين تقول لشخص “أنا مسلم”، فأنت لا تعرّف نفسك بل تعرّف علاقتك بالإله، أي أن الدين لا يمكن أن يشكل هوية. من يحكم سوريا اليوم ويقول “هويتي مسلمة أو هويتي مسيحية” لا يقول شيئاً عن الهوية مشروع الدولة. لبناء دولة حقيقية، يجب التوقف عن خلط الهوية والدين، ويجب أن تقوم الهوية الوطنية على الجماعية المبنية «الوحدة في التنوع». عندما يحاول شخص ما بناء هويته على مبدأ “أنا غير الآخر”، فهذا يعني من حيث الجوهر أن هويته تقوم على نفي الآخر.

    استخدمت أكثر من مرة لفظ «الوحدة في التنوّع»، ماذا يعني هذا المصطلح؟

«الوحدة في التنوّع» هي ضد فكرة الأحادية وضد فكرة الاتحاد بمعنى دمج مجموعة مع أخرى بشكل قسري. إنها تعني أن نحترم التعدد في سوريا، وأن نحترم التمايزات على كل المستويات، ونحولها إلى دافع لتلاقي الجماعات مع بعضها البعض كي تفكر معاً في طبيعة التعاقد المدني الذي تريده كي تعيش كشعب واحد في دولة واحدة. يعني هذا عدم وجود مجموعة تتغلب على أخرى بدلالة أنها أكثرية عددية، أو أن تشعر مجموعة بأنها ضعيفة ومحمية لأنها أقلية. هذا يعني التكافئ على كل المستويات، أي المساواة في الحقوق والواجبات، وفي تقرير المصير، وفي التعبير عن الذات، وفي تشكيل الماهيات الناظمة للدولة والتعاقد المجتمعي المدني الذي اتفقت عليه تلك المجموعات، بصرف عن أحجام تلك المجموعات وتمايزها وإمكانياتها المادية والعسكرية واللوجستية، وبصرف النظر عن موقعها الجغرافي وتعبيراتها الثقافية والأخلاقية. أي أن نخلق هوية متناغمة، لا متجانسة ولا أحادية.

من يعيد المجتمع إلى الحياة بعد أن أُطفئت مصابيحه؟

حين يُقصى الفكر، ويُخنق المجال العام، وتُمحى مفردات الشأن السياسي من لغة الناس، تصبح إعادة بناء الدولة فعلياً أشبه بإعادة إحياء من موت سريري طويل. لكن، من يجب أن يبدأ؟ ومن يمتلك الشرعية المعنوية والمعرفية لإطلاق هذه الشرارة؟ هل النخب الأكاديمية قادرة على لعب هذا الدور؟ وهل يمكن للمعرفة أن تُصبح أداة إنقاذ، لا مجرد ترفٍ نظري معزول في قاعات جامعية أو ندوات النخبة؟

    ما الدور الذي يجب أن يقوم به «المثقفون» – مع التحفظ على كلمة مثقفين – أو النخب الأكاديمية في هذه المرحلة، خاصة في حال ظهور مجموعات تحاول إعادة إنتاج سلطة ذات طابع قمعي؟ هل عليهم الدعوة إلى تجمّعات أو تظاهرات، أم إلى أحزاب، أم إلى شيء آخر؟

أوافقك على تحفّظك على مصطلح “المثقفين” لأنه مصطلح ورثناه من بدايات القرن العشرين من الماركسية الوجودية في فرنسا – سارتر ورفاقه. هذا النوع من المثقفين لم يعد موجوداً في الشارع العربي بأي حال، وهذه الكلمة ملتبسة جداً وغامضة وغير واقعية في العالم العربي.

أنا بوصفي باحث أكاديمي علمي، أفضّل التحدث عن دور الأكاديميين. أرى أن دور المختصين اليوم هو مساعدة المجتمع السوري على إعادة خلق مؤسساته ونشاطاته الأهلية والمدنية. نحن حُرمنا من العمل المدني والفكري لعقود بسبب قمع الأسد. أربعة أجيال من السوريين – وهذا توصيف وليس اتهام بطبيعة الحال – لا تعرف معنى التفكير السياسي أو المدني في العمل العام. لهذا من واجب الأكاديميين والمختصين السوريين اليوم أن يقودوا حملات توعية، ويرفعوا الصوت دائماً، ويشجعوا الأجيال الجديدة على بناء كياناتها الأهلية والمدنية، وأن تتعلم كيفية التفكير بالشأن العام بوعي سياسي. هذا يتطلب مجتمعاً حراً، بلا رقابة ولا تهديد ولا ترهيب. مجتمع يسمح لأبناءه وبناته ببناء نشاطاتهم الفكرية والتعبير عنها وتطويرها، بوجود عمل توعوي يقوم به الأكاديميون والمختصون.

حالياً هناك محاولات بدأت في سوريا كما نرى، لكن هذه المحاولات إما مبنية على تجارب قديمة كانت قبل الثورة وهذا لا ينفع، وإما تجارب خجولة صريحة ومليئة بالحماس والصدق، لكنها لا تزال مراهقة ويافعة جداً. السبب في ذلك برأيي أن الكثير من النخب الفكرية السورية اليوم خارج المشهد، فكثير منهم صامتون، أو على الهامش، أو يشعرون بأنهم مهمشون لا أحد يستمع إليهم من الإدارة، ولا أحد يعطيهم قيمتهم. وفقاً لمراقبتي، يتم اليوم إعطاء مساحة واسعة لشرائح جديدة غير مؤهلة ولا تتمتع بالكفاءة العلمية ولا التدريب والحرفية المهنية – وذلك مع احترامي وتقديري للجميع – ولا الخبرة الفكرية الكافية الذي يخولها مساعدة الجيل الجديد على بناء مشروعه الوطني.

لحظات أمل!

نعيش اليوم في سوريا لحظات أمل، فبرغم كل ما يحدث من أحداث مزعجة، لا يزال الأمل هو الطاغي لدى السوريين. الجميع يحلم بتأسيس دولة جديدة، دولة تحفظ كرامتهم، وتنشر ثقافة القانون والمساواة فيما بينهم، حتى يتاح لهم العيش هم وأولادهم في سلام وطمأنينة.

    في مقابلاتك الإعلامية الأخيرة، بدوت وكأنك متفائل، أو غير متشائم على الأقل، حيث قمت بقراءة التصريحات الصادرة عن السلطة بشكل إيجابي. هل أنت متفائل بأننا نسير على الطريق الصحيح نحو تأسيس دولة وطنية؟ أم أن الواقع هشّ وقد يقودنا إلى احتمالات خطرة؟

أنا كأكاديمي أشتغل في العمل العلمي أقف خارج إطار التشاؤم أو التفاؤل لأنهما من خارج الفكر السياسي. في الفكر السياسي هناك توصيف الواقع. حين أرى شيئاً جيداً أقول إنه جيد، وإن رأيت إشكالية أقول أن هناك إشكالية. ولهذا عندما استمع إلى تصريحات جيدة، أقول بأنها جيدة وتخدم بناء الدولة، وإن كانت غير جيدة فمهمتي أن أفككها وأضعها أمام الرأي العام لأنبهه على مخاطرها.

أنا قمت بتقديم سبعة مقترحات نشرتها على صفحتي على فيسبوك، قدمتها للمعنيين، لأنه من وجهة نظري، الوضع في سوريا لا يوحي بأننا نسير نحو دولة. المعطيات التي نشهدها على الأرض اليوم تقول لنا بأننا لا زلنا نعيش حالة «اللا دولة». وإذا بقينا هكذا، فلن نحقق حلم بناء الدولة. لذلك قدمت سبعة مقترحات علنية تساعد من هم في موقع المسؤولية على المسير قدماً بشكل متوازن وحقيقي فاعل نحو بناء الدولة.

أنا لا يمكنني التنبؤ، فبوصفي أكاديمي أقوم فقط بتوصيف الواقع. والواقع اليوم – وقد أكون مخطئاً – أن حالة اللادولة لها اليد العليا والتأثير الأكبر على الأصوات الموجودة اليوم في الإدارة، والذين يريدون بحق بناء دولة. وأنا أظن أن علينا كسوريين، وأيضاً محيطنا العربي، أن نساعد الأصوات التي تريد بناء دولة في سوريا، لتصبح هي الصوت الغالب على الأرض. اليوم الصوت الغالب على الأرض هو الصوت الذي لا يزال يلعب دور «المقاتل» و«المجاهد» و«المقاوم»، وليس صوت رجل الدولة. هذا خطير جداً ولا يجعلني متفائلاً على المستوى الشخصي.

الفيدرالية وصفة إنقاذ… أم قنبلة موقوتة؟

كلما طُرحت فكرة الفيدرالية في العالم العربي، انبعثت معها مخاوف التقسيم، وكأن لا فرق بين تفكيك الدولة، وتنظيمها لا مركزياً. تُرى، هل الفيدرالية بالضرورة مشروع انقسام؟ أم أنها قد تكون، إذا أُحسن تصميمها، إحدى أدوات إعادة بناء الدولة على أسس عدالة محلية وتمثيل مناطقي؟ لكن هل لدى سوريا الظرف التاريخي الذي أسس لقيام فيدراليات شهيرة، مثل ألمانيا والإمارات وسويسرا، أم أن الفيدرالية التي نتحدث عنها هي فيدرالية العراق التي أضعفته؟ لكن إن لم تكن الفيدرالية هي الحل، فهل المركزية هي ما يجب أن نسعى إليه، ولو عنى ذلك إعادة إنتاج أزمة السلطة السابقة؟

    من ضمن اقتراحاتك السبعة المذكورة آنفاً، دعوت إلى نموذج اتحادي لسوريا، شبيه بما هو موجود في ألمانيا أو الإمارات. لكن، ألم تنشأ هذه النماذج نتيجة تجميع دول وإمارات صغيرة بهدف تقويتها، وهو ما قد لا ينطبق على سوريا؟ ألا يعني اعتماد الفيدرالية في الحالة السورية ترك صاعق تفجير آني أو مستقبلي للتقسيم؟ هل هناك فرق حقيقي بين الفيدرالية واللا مركزية؟

أنا تحدثت وميزت بين «نظام الجمهورية الاتحادي Federal system» و«نظام اتحاد الجمهوريات Federational system». «نظام اتحاد الجمهوريات» هو دول لها علمها الخاص وجيشها واقتصادها، تقرر التوحد مع بعض، وهو ليس النموذج الذي أقصده بالحديث عن الفيدرالية. الفيدرالية التي أدعو لها تقول بوجود دولة واحدة، جمهورية واحدة، لها علم واحد وجيش واحد ونظام جمهوري واحد، ولكنها تمنح المناطق أو الأقاليم داخل الدولة صلاحيات كاملة لإدارة شؤونها محلياً عبر برلماناتها وحكامها ومجالسها المنتخبة ومديرياتها التي تعمل مثل وزارات مصغرة. هذا النظام هو المعمول به في ألمانيا والولايات المتحدة.

أما عن الكيفية التي وصلت فيها ألمانيا إلى نظامها الاتحادي، فألمانيا لديها قصتها التاريخية الخاصة بها، التي تنطبق على شعب وظروف وسياق ألمانيا. ما أريده هو تبني النموذج الألماني وليس تبني السيرورة التاريخية التي أوصلت ألمانيا إلى النموذج. الطريقة التي سنصل بها إلى هذا النموذج في سوريا هو أمرٌ خاص بنا، فنحن من نكتب قصتنا التي تلائم ظروفنا.

من المهم أن نفهم أنه لا يجب علينا استيراد التجربة، بل كتابة قصتنا بأنفسنا كسوريين. يعني هذا أننا سنخطأ ونتعثر، ولكن هذه هي حركة التاريخ، وهذه هي الطريق التي تبني فيها الشعوب ماهيتها الشعبية الدولاتية. علينا بالتأكيد أن نتعلّم من أخطائنا، ولكن إن كان هناك إرادة شعبية بخلق جمهورية اتحادية، سنبدأ السير تجاه تحقيقها ومواجهة تحدياتها. أما إن كنا غير متفقين منذ البدء على شكل الجمهورية الذي نريد، فستخلق محاولات فرض نماذج محددة على الآخرين الكثير من الفوضى، ولن تخرج سوريا من الحفرة.

    قد يكون ما أطلبه مرهق ويحتاج أكثر من مقال، ولكن أتمنى منك أن تسمي لي بعض الخطوات العملية تجاه تأسيس هذا النوع من الجمهورية الاتحادية، خاصة أن هناك بعض المناطق التي يكون فيها مستوى العشائرية مرتفع، ومناطق أخرى يتركز فيها رأس المال…الخ.

دعني أعطيك مثالاً بسيطاً: اليوم، جميع المحافظين، ومدراء النواحي، ومسؤولي الأمن، يتم تعيينهم بقرار جمهوري صادر عن السيد أحمد الشرع. هذا منطق مركزي، أما المنطق الجمهوري الاتحادي يعني بأن يتم اختيار وتسمية هذه المناصب من قبل أهل كل محافظة. قد يبدو ما أقوله تبسيطياً، لكنني أحاول إعطاء مثل مركّز. يمكن اختيار هؤلاء في كل محافظة عبر الاقتراع، كأن يتم تشكيل مجلس إداري للمحافظة، بحيث تتحمل المحافظة مسؤولية نفسها، بغض النظر عمّن سيصل عبر الاقتراع.

    تمام، مثال مركّز موفّق. لكن ضمن هذا الإطار، أعتقد بأنك سترى في الاتفاق بين السلطة والمجموعات الموجودة في السويداء – تنسيب 700 شخص إلى الأمن العام خاصين بالمحافظة، والاتفاق تالياً على ضم مجموعات تحمل السلاح إلى وزارة الدفاع – هو خطوة على الدرب الصحيح.

هذه الخطوة جيدة وعلى الطريق الصحيح، فهي تعني أن الإدارة اعترفت بقدرة أهالي السويداء على تولي الأمن في محافظتهم. لكن هنا علينا أن ننتبه إلى أن الإدارة قامت بهذه الخطوة نتيجة الضغط، وقامت بالمثل في مناطق الأكراد. لكن ماذا عن باقي المحافظات السورية التي لم يتم تطبيق هذه الأشياء فيها؟ في الجمهورية الاتحادية يتم تطبيق النظام على الجميع بالتساوي، ويعني هذا حق الجميع بإدارة مسائلهم بأنفسهم.

التطبيع مع «إسرائيل» ثمن لبقاء الدولة!

التطبيع مع «إسرائيل» ليس مجرد حدث دبلوماسي، بل زلزال أخلاقي ومعرفي في المخيال الجمعي العربي، لا سيما حين يُطرح كشرطٍ لبقاء الدولة أو كسب «الهدوء» الذي يسمح لها بالبناء. لكن بالفعل، هناك من يشير إلى أنه دون التطبيع مع هذا الكيان «والبروفسور نجيب منهم»، لن يكون لسوريا فرصة بالاستقرار، وأن «إسرائيل» لاعب إقليمي لن تسمح بنشوء دولة لا تطبّع معها. لكن من جهة أخرى، هناك من يقول «وأنا منهم» بأن «إسرائيل» في مرحلة تراجع، وأن وزنها في الإقليم أقل بكثير مما تبديه من عنجهية، ولذلك لا يجب أن تقدم لها أي تنازلات. من هنا جاء السؤال الختامي للبروفسور نجيب:

    الآن إلى السؤال الأكثر إشكالية ربما، وهو أحد مقترحاتك السبعة: التطبيع مع «إسرائيل». لا يجب اجتزاء موقفك من السياق، فقد شرحت في غير موضع بشكل وافي عن رؤيتك لتوازن القوى الإقليمية، وعن كونه واقعاً يجب على السياسيين التعامل معه. لكن المشكلة هنا أننا عند الحديث عن «إسرائيل»، فإننا نتحدث عن محتل، يضمن أمنه بإضعاف الآخرين. بينما لا ينطبق هذا على الدول الإقليمية الأخرى. فكيف يمكن التطبيع مع هكذا دولة؟

لا يمكن عدم التطبيع مع هكذا دولة! لم يعد هناك خيار لأي دولة في المشرق العربي ألا تطبّع مع إسرائيل. من المهم أستاذ عروة أن تدرك أنني لا أتحدث بالاستناد إلى مشاعري الوطنية والوجدانية، فأنا بشكل شخصي مع القضية الفلسطينية حتماً.

أنا أتحدث هنا بوصفي أكاديمي يقارب الأمور من منطق سياسي وجيوسياسي. الواقع يقول اليوم بعدم وجود خيار، لا لسوريا ولا لأي دولة في المشرق العربي، إلا أن تسير في خط التطبيع مع من يحكم المنطقة، ويدير ملفات ملاك المنطقة بشكل مباشر وعلني، وأن هذا المدير قد تحدث بشكل صريح العام الماضي بأنه مستعد لتدمير كل من يقف في طريقه. لم تخفِ «إسرائيل» نواياها، وقالت للإدارة السورية: «إما أن تطبّعي معي، فأعطيكي هامش لبناء دولة إلى جانبي – على قياسي – أو أنتم أحرار ولكن البلد سوف تتفتت».

ما يحمي سوريا اليوم من التفتيت – وحديثي هو لمصلحة سوريا، دون أن يعنيني هذا العدو البربري الذي يحكمنا كلنا “بالبوط العسكري” – ويعطيها فرصة لخلق دولة وبناء نفسها، تحتاج إلى هامش من الهدوء. هذا الهدوء لا يمكن أن يحدث إن لم نطبّع أو نصل إلى تفاهم جيوسياسي معين مع «إسرائيل» كي تسمح بهذا. باعتقادي أن حديثي ليس بالغريب على الإدارة السورية. برأيي وتبعاً لمراقبتي، فالإدارة المرحلية اليوم في سوريا مقتنعة بما أقول، والخطوة السياسية الصحيحة التي سمحت لها بالوصول إلى السلطة هي الوصول إلى حالة التطبيع مع «إسرائيل»، وهذا الأمر يخدم سوريا اليوم. إن أردت مصلحة سوريا، فعلي القيام بكل شيء لهذه المصلحة.

الإدارة السورية منذ وصولها إلى السلطة قامت بإرسال رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى «إسرائيل» بأن سوريا لن تكون مصدر تهديد لأي من جيرانها. أكد على ذلك رئيس المرحلة الانتقالية ووزير خارجيته والعديد من الأطراف التي تم تعيينها. الأمر لم يعد مخفي على الإطلاق.

في الواقع أنا أعتقد أن الذي يمنع التطبيع بين الإدارة السورية و«إسرائيل» هو تركيا. التركي اليوم لا يريد أن تقوم الإدارة السورية بالتطبيع مع إسرائيل ما لم يأخذ هو حصته ويستفيد من هذا التطبيع. بالنسبة «لإسرائيل»، فمثلما حاربت الإيراني ونفوذه في سوريا، هي تقوم اليوم بمحاربة تركيا ونفوذها، وهي تريد أن توصل لها رسالة: «أنا أدير ملفات المشرق وحدي، ولا أسمح لكِ بإدارتها معي». الكباش القائم بين تركيا و«إسرائيل» هو برأيي ما يؤخر التطبيع بين الإدارة السورية و«إسرائيل».

في الختام

أن تكون سوريّاً اليوم، يعني أن تسير في حقل ألغام من المعاني الممزقة: فليس لدى السوريين هوية جامعة، ولا دولة متفق عليها، ولا مشروعٌ واحد يمكن الالتفاف حوله. في هذا السياق، تبدو الأسئلة التي طرحناها على الدكتور نجيب جورج عوض، أشبه بخريطة أولى للبحث لا عن «الحل»، بل عن نقطة بداية للفهم.

فإذا كنا نريد دولة، يجب أن نعترف بتنوعنا. وإذا أردنا هوية، فيجب أن تُصاغ من الناس، لا من فوقهم. وإذا كنا نسعى للسلام، فلابد أن نُقر من يتحكم بشروطه. بين هذه التناقضات، لا يقدم الدكتور نجيب يقيناً، بل رؤية محفوفة بالاحتمالات والمخاطر — وهذا تماماً ما يجعلها جديرة بالإنصات.

اقرأ أيضاً: نضال الحاج مصطفى: طبيب سوري يبني جسور الطب بين السويد والرقة

————————————————————————————————————

    تنويه

    يفتح موقع «سوريا اليوم 24» صفحاته لكل من يحمل رأياً ويرغب في التعبير عنه بحرّية ومسؤولية، إيماناً منا بأن الحوار هو السبيل الأمثل لفهم الواقع وصياغة المستقبل. نحن نُجري لقاءاتنا مع ضيوف من مشارب فكرية وسياسية متعددة، نستمع إليهم ونعرض ما لديهم بأمانة وموضوعية. ولكن نشرنا لآرائهم لا يعني بالضرورة تبنّيها، بل يأتي في إطار رسالتنا الهادفة إلى ترسيخ ثقافة الحوار وتبادل الرؤى في فضاء من الاحترام والانفتاح.

«سوريا اليوم 24»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى