حيادية الدولة بين الحق والواجب/ هفال يوسف

نشر في 8 أيار/مايو ,2025
إنّ الحديث عن حيادية الدولة يُفضي، بالضرورة، إلى الحديث عن العلمانية، سواء استخدمنا هذا المصطلح أم لم نستخدمه، ذلك لأنه يتناول مفاهيمَ تنتمي إلى الفضاء السياسي، مثل الدولة والمواطن والدستور والقانون، إلخ. والفضاء السياسي هو ميدان العلمنة أو -إذا شئنا التوسّع- ميدان العقلانية الذي يشمل كل ما هو قابل للعقلنة والإدراك، وهو فضاء مختلف عن فضاء الدين بصفته إيمانًا بمقدّس. فالمقدس، تعريفًا، هو نطاق مقاومة مطلق للإدراك، وهنا يكمن جوهر قدسية المقدس، فهو عصيّ ليس على العقل فقط، بل على التصوّر، بل حتى على “الوهم”، حسب تعبير الإمام الغزالي. لذا فإن القول بأن “العلمانية مروق من الدين”، كما أشار الشيخ القرضاوي، لا معنى له، إلا عند وضع الدين والعلمانية في المستوى المفهومي نفسه، وهذا لا يجوز منطقيًا، لأن العلمانية ليست دِينًا، ولا نظامًا أخلاقيًا، ولا حتى أيديولوجيا سياسية. وقد سبق لفرنسيس بيكون أن ميّز بين المسائل الإيمانية والمسائل العقلانية، بحيث بات الخلط بينهما يدخل في باب الجهل أو التعدّي.
بالتالي، لا يمكن الجمع بين الدولة والدين في جملة واحدة إلا في ما يتعلق بما هو دنيوي في الدين، أي كل ما يتعلق بالمعاملات بين الناس، وهو -في حالة الدين- الشريعة. أما العقيدة الدينية، باعتبارها إيمانًا بمقدس عصيّ على الإدراك (“الله غيب مطلق” – ابن عربي)، فهي متعالية على كل من العقلنة والعلمنة، ولا يجوز، منطقيًا، وضع العلمانية في مواجهة العقيدة الدينية.
المواجهة الفعلية ممكنة بين العَلمانية وبين إسباغ صفة القداسة على الشق الدنيوي من الدين، أي الشريعة، وتغليب سلطة النص على سلطة العقل، وهذه المواجهة تحدث، في الحقيقة، في فضاء العلمنة نفسه؛ في فضاء “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”؛ فهذه المواجهة تحدث في الفضاء السياسي كشكل من أشكال الصراع على السلطة، ولا شأن لها بالمقدس المتعالي، ولو عدنا إلى “ميثاق المدينة” الذي وضعه النبي محمد، وجدنا أنه يؤسس لسلطة سياسية وتحالف عسكري، ويُرسي دعائم دولة مدنية، ويمكننا أن نرى هذا الفصل بين السلطة الروحية، ممثلةً بالخليفة أمير المؤمنين، وبين السلطة الزمنية، ممثلةً بالسلاطين والولاة، في مجمل تاريخ الدولة الإسلامية، من الأمويين إلى العثمانيين، وهذا أمر طبيعي ومنطقي. أما القول بأن الإسلام دين ودولة، فيخلط بين ما هو مقدَّس (ثابت لا يخضع لعوامل التاريخ كالعقيدة)، وبين ما هو متغيّر ومتطور وتاريخي، كالتشريع، وقد ناقش عدد من المجددين الإسلاميين هذا الموقف وانتقدوه ودحضوه، فقد أشار علي عبد الرازق، على سبيل المثال، إلى أن القضاء ووظائف الحكم ومؤسسات الدولة هي “خطط سياسية صرفة، ولا شأن للدين بها”، مضيفًا أن هذه الأمور “لم ينكرها [النص الديني]، ولا أقرّ بها ولا نهى عنها، وإنما تركَها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة”، وهذا الموقف مناقض تمامًا لموقف حسن البنّا، على سبيل المثال، الذي يقول “إن الإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل، لا ينفكّ واحد عن الآخر”، أو لموقف راشد الغنوشي الذي يرى أن “العقيدة والشريعة والعبادة كلّ متكامل، ومن ثم لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة والدين الدولة”. والواقع أننا نجد حتى في التاريخ الإسلامي ما يدحض موقف “الإسلاموية السياسية” هذا، فعلى سبيل المثال، حكم الإمبراطور المغولي المسلم أكبر الهند ذات المئة لغة والألف إله، من دون أن يتدخل في الشؤون الدينية للسكان، وكان الحكم في عهد الخليفة عضد الدولة المسلم السنّي في أيدي البويهيين الشيعة، وما إلى ذلك.
بعد هذه المقدمة الطويلة نسبيًا، نعود إلى السؤال المطروح في البحث قيد المناقشة: هل يمكن للدولة أن تكون حيادية تجاه العقائد الدينية للمواطنين؟! الجواب هو: نعم قطعًا، بل هذا من واجبات الدولة، إذا أرادت تحقيق المساواة بين جميع المواطنين بلا استثناء، لأنها، في الحالة المعاكسة، تفقد صفتها التمثيلية لجميع المواطنين، وبالتالي تفقد شرعيتها. فالدولة، أي دولة، هي كيان متعدد العناصر، فهي تضمّ جماعات وأقوامًا متعددي المذاهب والاثنيات والثقافات، ولا يمكنها أن تتحول إلى كيان أحادي العنصر، إلا من خلال العنف والإكراه واتباع سياسات الهندسة البشرية التي قد تصل إلى حدّ الإبادات الجماعية، والتاريخ ممتلئ بشواهد على ذلك. فالعقيدة الدينية، وكذلك الأيديولوجيات الشمولية الدنيوية، حين تتحول إلى سلطة يغلب عليها الطغيان حكمًا، ويكفي أن نضرب مثلًا ما جرى للمسيحية بعد أن صارت دينًا للدولة، في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين، وكيف تحولت من عقيدة تدعو إلى “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم”، إلى محاكم تفتيش وحرق الناس أحياء بتهمة الهرطقة والزندقة.
ولكي تكون الدولة حيادية تجاه العقائد الدينية للمواطنين، يجب أن تكون هي نفسها دولة لا دينية، وإلا فسنكون أمام “عصبية منتصرة” (التعبير لميشيل سورا باستلهام من ابن خلدون)، لا سيما مع هذا “الإسلام الجديد” (إن صحّ التعبير) الذي نشأ مع أبو الأعلى المودودي وحسن البنا، نتيجةً للاحتلال البريطاني للهند، والصراع الذي اندلع بين الهندوس والمسلمين عند استقلال الهند (حزب “جماعت إسلامي”)، ولاستبداد حكم جمال عبد الناصر في حالة حركة “الإخوان المسلمين”، والتغيرات التي طرأت على حركة “النهضة الإسلامية” على أيدي سيد قطب والترابي والغنوشي والقرضاوي وغيرهم، وصولًا إلى الحركات الجهادية المتطرفة والأنشطة الدعوية التي خرجت -عمليًا- من رحم عولمة الحداثة وثورة الاتصالات.
من هذا المنطلق، إن النظر إلى الدعوة إلى “حيادية الدولة”، بأنها تستهدف الدين أو تعاديه، هي نظرة قاصرة، إن لم تكن عمياء، ذلك لأن هذا الحياد، الإيجابي لزومًا، يمنع استغلال الدين نفسه لتحقيق أهداف دنيوية، ويطهّره من الأدران والنجاسات التي يتلطّخ بها عند إدخاله في مستنقعات السياسة، ليتمكن من تأدية دوره بصفته هدًى ورحمةً للعالمين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى حيادية الدولة تمنعها من الطغيان على جمهور المؤمنين، ومن التدخل في شؤونهم الدينية، الأمر الذي يسمح لهم بممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية بحرية وأمان.
في الختام، أودّ التذكير بما قاله السيد المسيح لأحبار اليهود: “لقد وُجدَ السبت من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين”، فهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن الدافع الأساس لأي تشريع يجب أن يكون خدمة مصالح الناس، وليس خدمة عقيدةٍ تقدَّم إلى الناس كشيء مجرّد، أو كفكرة ميتافيزيقية، أو في أسوأ الأحوال كأيديولوجيا لحزب سياسي، هدفه الاستيلاء على السلطة وإخضاع الشعب لإرادة بضعة أشخاص يزعمون أنهم ينفذون مشيئة الله، تعالى علوًّا عما يصفون.
تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية للسوريين”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
تحميل الموضوع
مركز حرمون