تقنيةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

خوارزمية الذباب السوري.. القمع بلا برمجة/ رائد وحش

7 مايو 2025

لا شيء يثير الذعر في نفوس البعض اليوم أكثر من وسمهم بـ”التشبيح”، ليس لأنها كلمة جارحة وحسب، بل لبلاغتها في فضح الانتماء الأخطر: البقاء النفسي والسياسي في زمن الأسد، حتى بعد سقوطه. فلم يكن التشبيح يومًا مجرد سلوك بمقدار ما عرفناه كتوقيع أخلاقي على حقبة قميئة، وكل من يمارسه اليوم، عن وعي أو غفلة، لا يفعل سوى إعادة إنتاج تلك القذارة بصيغ محدّثة.

ولعل ما يدفعنا لتفكيك هذا السلوك هو أنه لم يعد يكفي التعامل معه كشتيمة، لكن باعتباره نظامًا متكاملًا من التفكير والتبرير والهيمنة، يتخذ أشكالًا متعددة تبدأ بالعنف ولا تنتهي عند حدود التزييف والتشويه.

يتخذ التشبيح، في العُرف والممارسة، شكلين: ماديٌّ ومعنوي. وإذا كان التشبيح المادي يقتصر على البطش والعنف الجسدي، فإن التشبيح المعنوي أكثر دهاءً وغنى، لأنه يندسّ في اللغة والخطاب والتفكير. إذ يبدأ من التأييد الأعمى للروايات الرسمية، ثم ينتقل إلى النفاق المعلن تجاه أصغر تفصيل حتى يُضخمه ليغدو بمستوى الملاحم الوطنية. وحين لا يجد هؤلاء رواية يؤيدونها أو شيئًا يبالغون في تبجيله يبدأون بالأكاذيب واختراع حقائق من العدم، دون اكتراث بمجافاتها للمنطق والأخلاق، إذ يبدو لهم تغيير الحقائق فعلًا مشروعًا يفخرون بممارسته.

إلى جانب ذلك التزوير، يجد التشبيح المعنوي متعته في التنادي بأن الإدارة الجديدة بحاجة إلى وقت كي تحقق بعض التقدم، مع أن الذي يحرك الغضب الشعبي هو ممارسة العنف دون مبررات أخلاقية وقانونية، وليس الوقت المتروك للملفات الحساسة.

يلعب التشبيح المعنوي السوري دور الذباب الإلكتروني، حيث يُستخدم لإذلال الناس وتحقيرهم، وتخوينهم وإرغامهم على سد أفواههم. والمشكلة أن هذه النزعة الذبابية لا تأتي بإشراف أو توجيه رسمي، إلا أنها تنطلق، في الغالب الأعم، من تلقاء نفسها، في تعبير رهيب على أن مجتمعنا تشّربت تعاليم القمع، وصار قادرًا على أن يمارسها في المجال العام بوصفها واجبًا مقدّسًا، وهذا يقدم مؤشرًا خطيرًا على انحدار المجال العام السوري، إذ بات يقوم على منطق التغلب والقهر والتنكيل بدلًا من الإنصاف والحوار والاحترام.

ولأن هذا المنطق حاضر في حياتنا اليومية، وأصحابه يحيطون بنا من كل الجهات، ندرك أن عهود التدجين الأسدي لم تذهب هدرًا مع الأسف. ففكر المنظمات البعثية، ورؤية الإعلام الرسمي، ما زالا يشتغلان بكفاءة مثيرة للإعجاب، وها هما يجتمعان على إنتاج هذا المشهد البائس، في حين يبدو صوت العقل الثوري، المحتج والرافض والناقد، شبه معدوم، وكأن الثورة لم تترك إلا فراغًا فكريًا قابل لأن يُملأ بتعاليم الاستبداد.

في هذا المشهد، حيث الجميع تحت التهديد في الفضاء العام، بات المطلوب من الضحايا أن يعيدوا ترتيب أنفسهم وتنظيم صفوفهم، لا كمطفئي حرائق، بل كجنود في آخر المعارك الممكنة: حرب الروايات. فسوريا، التي هُزمت في ميادين الديمقراطية والتمثيل، وفي إمكانية تجاوز التوترات الطائفية، وعلى مستوى استمرار العجز الاقتصادي وغياب القدرة على تحسين شروط العيش، وحتى في مجرد الشروع بإعادة الإعمار؛ لا يجب أن نتركها تُهزم هنا أيضًا، فلم يبقَ لنا سوى جبهة المعنى. وهذه ليست دعوة إلى حرب بالمعنى التقليدي، إنما إلى مواجهة من نوع آخر: حرب ضد التزييف، ضد الصمت المفروض، ضد القمع باسم الشرعية الثورية، ضد الرواية الواحدة التي تريد شرعنة المجازر وطمس أصوات الناس والتاريخ معًا.

إنها دعوة لاسترداد الفضاء العام، بالكلمة، بالمعنى، بالعقل، بالحقيقة. فحرب الروايات وامتلاك السردية هي ما تبقى أمام التيارات الديمقراطية والمناصرة لحقوق الإنسان، بعدما خَسِرَت كلّ الجبهات الأخرى.

في النهاية، من لا يكتب روايته سيُدفن في رواية جلاده.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى