أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

فرصة أخيرة لإنقاذ سورية/ مروان قبلان

08 مايو 2025

بعد خمسة أشهر على سقوط نظام الأسد، ما زال الوضع الأمني في سورية يتّسم بالهشاشة، فتتنقل الأزمات الأمنية التي تأخذ طابعاً طائفياً من منطقة إلى أخرى، فيما تتزايد احتمالات المواجهة بين الإدارة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد مؤتمر القامشلي أخيراً، الذي طالب بمركزية إدارية واسعة (فهمها كثيرون دعوة إلى الفدرالية). في الوقت نفسه، تتصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، ويزداد تدخّلها في شؤون سورية الداخلية بداعي حماية الأقليات، في غياب تقدّم حقيقي في جبهة العلاقة مع واشنطن، التي تضع إدارة دمشق الجديدة في فترة اختبار قبل أن تحسم موقفها منها. ما زال الوضع الاقتصادي والمعيشي (هو الآخر) صعباً، بسبب عجز دول عديدة عن مدّ يد المساعدة بسبب العقوبات الأميركية، وإحجام رجال أعمال سوريين (وغيرهم) عن ضخّ استثمارات في عروق الاقتصاد المُنهَك، إمّا نتيجة عدم القدرة على تحويل الأموال إلى سورية، أو بانتظار اتّضاح مصير العقوبات الأميركية بعد انتهاء فترة الإعفاء التي قرّرتها إدارة بايدن المنصرفة، مطلع يوليو/ تمّوز المقبل. بالطبع، لم يكن أحد يتوقّع أن تكون طريق الإدارة السورية الجديدة معبّدةً بالورود بعد الدمار والخراب الذي ألحقه نظام الأسد بالبلاد ونسيجها الاجتماعي، لكنّ الأكيد أيضاً أن نهجها لم يكن مساعداً، وبسببه خسرنا (بعد خمسة أشهر ثمينة) الزخم المحلّي والعربي والدولي الذي صاحب سقوط النظام البائد، كما أخذت تتلاشى الرغبة التي تشكّلت لدى جزء معتبر من الدول بشأن مساعدة سورية في النهوض، وتجنّب الفوضى، متشجّعةً بالخطاب الوطني المتوازن، الذي تبنّاه أحمد الشرع (وإدارته) لحظةَ سقوط النظام.

في الشهرَين الأخيرَين، أخذت الصدامات الطائفية (بغضّ النظر عن أسبابها) تؤذي صورة الإدارة الجديدة، التي راحت تبدو للعالم غير قادرة (أو غير راغبة) في ضبطها والحدّ منها. لقد باتت أحداث العنف الطائفي المتنقل تثير مخاوفَ الدول المجاورة من احتمال انتقالها إليها، أمّا الدول الأبعد فقد صارت تخشى من بدء فصلٍ جديدٍ في الصراع السوري، يدفع بموجات لجوء جديدة في حال (لا سمح الله!) دخلت البلاد في مواجهاتٍ طائفيةٍ واسعة، مدعومة من أطراف خارجية، فيما باتت هذه التطوّرات تمدّ خصوم الإدارة في دمشق بالذخيرة اللازمة للتشكيك في صدق نياتها وخطابها الرائج أنها تغيّرت، وتسعى إلى بناء دولة المواطنة والقانون.

فوق ذلك، انكشفت قابلية الإدارة الجديدة للابتزاز الإسرائيلي والأميركي، بحيث بدا وكأنّها مفتوحةً للاستدراج بهذا الاتجاه من دون حدود، ففي مقابل الاستجابة لمطالبها الثلاثة المتمثّلة في: رفع تصنيف هيئة تحرير الشام تنظيماً إرهابياً من جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة؛ ورفع العقوبات الأميركية عن سورية؛ وانتزاع اعتراف دولي (أميركي تحديداً). تتفنّن إدارة ترامب في تقديم مطالبها التي تثبت حسن السلوك، فيما صارت إسرائيل هي من يقرّر شروط التطبيع مع دمشق، بدل العكس، وتسعى إلى استغلال عجز الأخيرة عن احتواء التوتّرات الطائفية لتجريدها من قدراتها العسكرية، والعمل على تفتيتها، بذريعة “حماية الأقلّيات” السورية، التي تتوجّس من توجّهات الإدارة الجديدة.

داخلياً، يتفاقم الشعور بالمرارة لدى فئاتٍ واسعة من السوريين، بمن فيهم “سنّة” المدن الكبرى، بسبب التهميش والإقصاء، مع استمرار الإدارة الجديدة في نهج الاستئثار والاستفراد، وسباقها مع الزمن للإمساك بمفاصل الدولة عبر تعييناتٍ شرطها الوحيد الولاء والانتماء إلى “الجماعة”. تثير التوجّهات السياسية للإدارة الجديدة أيضاً مخاوفَ جزءٍ لا يستهان به من السوريين من مختلف الطوائف، خاصّة بعد إنشاء ما سمّي بـ”أمانة الشؤون السياسية” في وزارة الخارجية، التي باتت تقوم مقام الحزب الحاكم (استولت الأمانة المذكورة على مقارّ حزب البعث وصادرت جميع ممتلكاته لصالحها). يحصل هذا فيما يحظر على الآخرين تشكيل الأحزاب السياسية بموجب المادة “1/14” من نصّ الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/ آذار الماضي. تدفع هذه التوجّهات المترافقة مع انعدام الشفافية وأجواء الشحن والتخوين والترهيب، التي تسود وسائط التواصل الاجتماعي، ضدّ أيّ صوت معارض أو ناصح، كثيرين ممّن تحمّسوا للنظام الجديد في أوّل الأمر إلى الانفضاض عنه. بتنا في كلّ يوم نرى أن قاعدة النظام الجديد تصبح أضيق، وعدد أصدقائه يصبح أقلّ. ولولا أن وضع البلد لا يحتمل، ولولا حرص كثيرين على وحدة سورية، وتمتّعهم بدرجة عالية من المسؤولية تجاه التحدّيات التاريخية التي تواجهها، سواء من أعداء الخارج، خاصّة إسرائيل، أو الخوف من انزلاق البلاد إلى الفوضى، لشهدنا بدايةَ تشكّل جبهة معارضة سياسية واسعة للنظام الجديد.

لا أحد يريد ذلك، على أمل أن يغيّر النظام الجديد نهجه وسياساته، فتُقدّم مصلحة الوطن على المطامح الشخصية، ونوازع حبّ السلطة والتعامل مع الدولة بمنطق غنيمة الحرب. وهذا لن يتم من دون بناء توافق وطني واسع على الحكم يتبلور من خلال حوار وطني حقيقي، ينتج منه حكومة وحدة وطنية، تشارك فيها القوى السياسية والاجتماعية المؤثّرة كافّة، مهمتها التعامل مع العالم ورفع العقوبات، ومواجهة اعتداءات إسرائيل وتدخّلاتها، بصفتها ممثّلةً للسوريين كلّهم، وقيادة المرحلة الانتقالية الصعبة نحو برّ الأمان، مع حفظ حقّ هيئة تحرير الشام في تبوّؤ مكانة متقدّمة فيها. من دون هذا لن نخطو خطوةً واحدةً نحو الأمام، بل سنبقى ندور في الحلقة المفرغة نفسها من العنف الأهلي، واستمرار الفقر، والبلطجة الإسرائيلية التي تتغذّى من انقساماتنا الطائفية، ونضيّع بذلك فرصةً ذهبيةً للإنقاذ والنهوض. هذا موقف لا مكان فيه للسلبية أو التسويف، خوفاً من تهويلات وسائل التواصل الاجتماعي، ولا مكان فيه للانتظار حتى تتضح الصورة، أو استبانة أين ترجح الكفّة، ففي هذا سلوك انتهازي غير مسؤول، وتخاذل لا يليق عن نصرة وطن مهدّد بالضياع. وكلّما أسرعنا في بناء الإجماع الوطني المنشود في شكل الدولة ونظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وطريق إدارتها، كلّما زادت فرصنا في النجاح.

امتازت سورية عبر التاريخ بنقطتي قوّة أساسيَّتَين، موقعها الجغرافي الاستثنائي في مركز العالم القديم، وطاقاتها البشرية التي أنتجت للعالم أغنى الحضارات. الجغرافيا معطىً ثابتٌ لا يتغيّر، وقد قرّرت مصير سورية آلاف السنين، وكذلك شأن الرأسمال البشري السوري بتجدّده الدائم، ومستوى الوعي ونضج التفكير الذي يتمتّع به. هذا يدفع إلى القول إن الجيل الراهن من النُخب والقادة السوريين ليسوا أقلّ شأناً من آبائهم، صنّاع الاستقلال السوري الأول، وهم بالمثل قادرون على اغتنام الفرصة والتصدّي لمهمة إنقاذ البلد، الفارق اليوم أننا أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية أكبر من تلك التي واجهت الأوائل.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى