نقد ومقالات

كتابة الرواية: بين التخييل والواقع/ مروان ياسين الدليمي

6 – مايو – 2025

كتابة الرواية من أكثر الفنون تعقيدًا وإثارة للتساؤلات في عالم الأدب. فهي ليست مجرد سرد للأحداث أو تشكيل للشخصيات، بل هي عملية إبداعية عميقة تتجاوز حدود الورق لتتغلغل في حياة الكاتب والقارئ على حد سواء. فالكتابة هنا;تحمل خصوصية فريدة تجعلها فنًا وتحديًا في آن ، تفرض على من يدخل هذه المغامرة الجمالية أن يمتلك خيالًا واسعًا لينسج عوالم متكاملة من الشخصيات والأحداث.لأنها عملية تأملية عميقة، تكشف عن رؤية الكاتب الفلسفية للحياة وتجاربه الشخصية. ولعل أبرز سماتها أنها تتميز بقدرتها على مزج الواقع بالخيال بسلاسة، مما يخلق تجربة غامرة للقارئ. إلى جانب أنها تفرض على الروائي أن يكون على قدر عال من الصبر والمثابرة، لأنها قد تمتد لفترات طويلة من الزمن. في مقابل ذلك فهي تمنحه حرية صياغة الأصوات واللغة بأسلوب يعكس هويته الفنية، وتتيح أمامه امكانية استكشاف قضايا إنسانية معقدة بعمق بالاعتماد على بناء شخصيات حية تتطور مع تقدم السرد ، وهذا يفرض عليه أن يخلق توازنا دقيقا بين التخطيط المسبق والإرتجال الإبداعي أثناء عملية الكتابة. بالتالي فإن الكتابة الروائية ;بقدر ما هي رحلة داخلية للكاتب فهي بالنتيجة موجهة للقارئ. وهنا نطرح عدة تساؤلات :ما جدوى الكتابة القائمة على التخييل، وأهميتها للقارئ في حياته الواقعية وما إذا كانت تمتلك القدرة على منح الإنسان ما يفتقده في واقعه ؟ .وهل الكتابة الأدبية هي حياة أخرى يطمح الكاتب لعيشها؟ أم أنها تمرين للحياة؟ أم محاولة لإضاءة الجوانب المعتمة في وجودنا؟ وإلى متى يمكننا الاستمرار في الكتابة؟ وما هو العمر الأفضل لها؟ وللإجابة على هذه التساؤلات سأستعين بمقولات لكتاب عالميين لدعم الأفكار وإثرائها بتجاربهم.

جدوى الكتابة التخييلية وأهميتها للقارئ:

الكتابة التخييلية، بطبيعتها، تأخذنا إلى عوالم لا تخضع بالضرورة لقوانين الواقع. لكن هل هذا يعني أنها مجرد هروب أو ترفيه؟ الروائي الفرنسي مارسيل بروست(1871- 1922)، في عمله الضخم في البحث عن الزمن المفقود، يرى أن الأدب ليس مجرد تسلية، بل هو وسيلة لاستكشاف النفس البشرية بعمق. يقول بروست: «الكتب الحقيقية يجب أن تكون أبناء الظلام والصمت، وليس أبناء النور والثرثرة». هنا، يشير بروست إلى أن التخييل قادر على كشف الحقائق التي قد يعميها ضوء الواقع الساطع.

بالنسبة للقارئ، الرواية التخييلية ليست مجرد قصة، بل تجربة تعكس واقعه وتتيح له مواجهة مخاوفه، أحلامه، وتناقضاته. الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف(1882-1941 ) كانت تؤمن أن الرواية تمنح القارئ مساحة للتفكير في حياته من زاوية جديدة. تقول وولف: «الخيال هو أكثر الحقائق صدقًا». من خلال التخييل، يمكن للقارئ أن يجد عزاءً لما يفتقده في حياته الواقعية، سواء كان ذلك الحب، الحرية، أو المغامرة. ففي عالم الرواية، يمكن للإنسان أن يعيش حياة بديلة دون قيود الزمان والمكان.

هل تمنح الرواية ما يفتقده القارئ في الواقع؟

في كثير من الأحيان، يلجأ القراء إلى الروايات بحثًا عن شيء يعجز الواقع عن تقديمه. الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي(1821-1881 ) ، في أعماله مثل الإخوة كارامازوف، يقدم شخصيات تعاني من صراعات داخلية عميقة، مما يجعل القارئ يرى انعكاسًا لنفسه فيها. يقول دوستويفسكي: «الإنسان لغز يجب حله، وإذا قضيت حياتك كلها تحاول حلّه، فلا تقل إنك أضعت وقتك». هنا، يبرز التخييل كأداة تمنح القارئ فرصة لفهم نفسه والعالم من حوله، وتعوضه عن الفراغات التي قد يتركها الواقع.

لكن هل هذا التعويض دائم؟ ربما لا. فالرواية، مهما كانت قوتها، تبقى تجربة مؤقتة. لكن تأثيرها قد يمتد ليغير نظرة القارئ إلى حياته، ويمنحه أملًا أو إلهامًا لمواجهة واقعه.

الكتابة الأدبية: حياة أخرى أم تمرين للواقع؟

بالنسبة للكاتب، هل الرواية هي حياة بديلة يهرب إليها؟ أم أنها مرآة للواقع؟ الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس(1899- 1986 )، الذي اشتهر بقصصه القصيرة المليئة بالتخييل الفلسفي، يقول: «أعتقد أن الكتابة هي نوع من الحلم الموجه». هذا يشير إلى أن الكاتب، من خلال الرواية، يعيش تجربة يتحكم فيها، على عكس الحياة الواقعية التي قد تكون فوضوية وخارجة عن السيطرة. من جهة أخرى، يرى الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي أن الكتابة هي انعكاس للحياة وليست بديلاً عنها. يقول همنغواي(1899- 1961): «كل ما عليك فعله هو أن تكتب جملة واحدة صادقة. أكتب الجملة الأكثر صدقًا التي تعرفها». هنا، يبدو أن الرواية بالنسبة له هي تمرين لفهم الحياة وصقلها، وليست مجرد عالم موازٍ. ربما تكون الإجابة مزيجًا من الاثنين. فالكاتب، كما يقترح غابرييل غارسيا ماركيز، يستخدم التخييل لإضاءة الجوانب المعتمة من الواقع. يقول ماركيز: «الحياة ليست ما عشناه، بل ما نتذكره وكيف نتذكره لنرويه». الرواية، إذن، قد تكون محاولة لإعادة صياغة الحياة وفهمها، مع إضافة لمسة من الطموح لعيش ما لم يتحقق.

إلى متى نستمر في الكتابة؟ وما العمر الأفضل؟

الكتابة ليست مقيدة بزمن معين، لكنها تتطلب شغفًا وحياة عاشتها الروح. الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار كتبت حتى سن متأخرة، مؤمنة أن الكتابة هي تعبير عن الحرية الوجودية. تقول: «أكتب لأفهم، ولأعيش مرتين». هذا يشير إلى أن الكتابة قد تستمر طالما بقي في النفس شيء تريد قوله.

لكن هل هناك عمر مثالي للكتابة؟ بعض الكتاب، مثل دوستويفسكي، أنتجوا أعظم أعمالهم في منتصف العمر بعد تجارب حياتية غنية. بينما كتب آخرون مثل فرانز كافكا أعمالاً عظيمة في شبابهم، مليئة بالقلق الوجودي. ربما لا يوجد عمر محدد، بل لحظة يصبح فيها الكاتب جاهزًا لترجمة تجربته إلى كلمات.

في النهاية، كتابة الرواية هي فن متعدد الأوجه. وبالنسبة للقارئ، هي نافذة على الحياة وتعويض عن نقص الواقع. وبالنسبة للكاتب، هي حلم، تمرين، ومحاولة لفهم الذات والعالم. كما قال الكاتب الإنجليزي جون رونالد تولكين(1892-1973 ): «نحن نصنع القصص لنضيء الظلام». طالما بقي هناك ظلام في حياتنا، ستظل الرواية ضرورة، بلا حدود للعمر أو الزمن. فهي، في جوهرها، ليست مجرد كلمات، بل حياة تتشكل بين السطور.

كاتب عراقي

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى