نزيف سوريا الذي لا يتوقف/ بكر صدقي

سوريا جريحة، مستنزفة، مدمرة، جائعة، عارية، محاصرة… كانت هكذا منذ سنوات، تحت الظل الأسدي الثقيل، وما زالت كذلك بعد هروب بشار الأسد إلى موسكو مخلفاً وراءه خراباً فظيعاً. لم تلتئم جراح الماضي، بل أضيفت إليها جراح جديدة أبرزها مجازر موصوفة بحق المدنيين العلويين في مناطق الساحل وأخرى في مناطق الدروز، وانتهاكات متنوعة بحق الجميع. روح الانتقام الأعمى المسلح تعيث بربرية وتسلطاً اعتاد السوريون نسبهما إلى شبيحة الأسد، وإذ بها تستأنف حضورها بفاعلين جدد.
أين السلطة من ذلك؟ القتلة الجدد هم بنيتها التحتية، أداتها الضاربة، سواء تبرأت من إجرامهم أو امتدحت «غيرتهم على دينهم» على ما حدث بذريعة التسجيل المنسوب إلى شخص غير معروف فيه إساءة لمقدساتهم. غير أن المقصود بالسلطة هنا السلطة السياسية، الرئيس أحمد الشرع والدائرة الضيقة من «الثقاة»، وزير الخارجية، وزير الداخلية، رئيس جهاز المخابرات، أي النواة القيادية الضيقة لهيئة تحرير الشام. هؤلاء هم أصحاب السلطة والقرار بعدما اجتمع قادة الفصائل المسلحة وعينوا الشرع رئيساً لـ»الجمهورية» وأعلنوا حل فصائلهم على أن يندرجوا في إطار جيش جديد تقوده وزارة الدفاع. مضت على ذلك أربعة شهور لكن الفصائل ظلت موجودة، يشار إليها بمناسبة وقوع انتهاكات على أنها «غير منضبطة». الواقع أنها منضبطة جداً بمعاييرها الإيديولوجية ونزوعها الطائفي المعلن وتمسكها بالسلطة القائمة، مع تغطية صاخبة من جمهور من المؤيدين الذين استأنفوا عمل أسلافهم من مؤيدي نظام الأسد المنهار.
أمضت سلطة هيئة تحرير الشام شهريها الأولين في حملة علاقات عامة، فكان العالم يأتي إلى دمشق، وفوداً سياسية وإعلامية، للتعرف إلى أحمد الشرع وأسعد الشيباني اللذين لم يبخلا على الزوار بالكلام. بدورها حملت الوفود السياسية إليهما نصائح وشروطاً وإملاءات، فقدما لها تطمينات بأن سوريا لن تخوض حروباً جديدة ضد «جيرانها» (أي إسرائيل) ولن تصدّر الإرهاب والكبتاغون إلى العالم، وستدمر ما تبقى من عدة السلاح الكيماوي. ولم يتمالك الشيباني نفسه فقال، في منتدى دافوس، إن النموذج الذي تتطلع إليه سوريا اقتصادياً هو نموذج سنغافورة!
تفاءل السوريون خيراً بسقوط النظام الأسدي الذي كان سقوط سوريا في هوة عميقة شرطاً لاستمراره في الحكم، بخاصة أن ذلك السقوط حدث بسرعة وبلا إراقة دماء، فأوهموا أنفسهم بأن الجماعة السلفية الجهادية التي كانت تحكم إدلب قد تغيرت، فأعطوها فرصة كما يقال لإنجاز الانتقال السياسي الصعب من الكارثة إلى بر الأمان. لكن الحكام الجدد توهموا بدورهم أنهم يستطيعون حكم سوريا بالطريقة نفسها التي حكموا بها إدلب طوال سنوات، ولا يحتاجون إلى أي شركاء في السلطة.
كان ذلك اللقاء القصير بين الشرع وآخر رئيس وزراء في عهد الأسد، محمد الجلالي، إشارة مشؤومة لما تلا ذلك من أحداث. كان برفقة الشرع في ذلك اللقاء كل من رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب محمد البشير وشقيق الشرع حازم الذي سيتولى لاحقاً منصبا مهما بعد تشكيل الحكومة الحالية. أبدى الجلالي استعداده لمساعدة العهد الجديد من خلال مشاركة بعض وزرائه في الحكومة الجديدة وتسليم ملفات الوزارات التي ستنتقل إلى وزراء جدد، في نوع من تأمين استمرارية للجهاز البيروقراطي في الإدارة العامة بعيداً عن آلام وتكاليف القطع البنيوي الشامل. فرد عليه الشرع بالقول إن حكومة الإنقاذ قد اكتسبت خبرات كبيرة في الإدارة العامة في إدلب، وهي قادرة وحدها على إدارة شؤون الدولة. وحين ارتفعت أصوات النقد، لاحقاً، تجاه «اللون الواحد» في تشكيل الحكومة الجديدة، كان رد الشرع هو أنه في حاجة لفريق عمل «منسجم» لإدارة الفترة الانتقالية. كان واضحاً أن السلطة الجديدة متمسكة بالتفرد بإدارة البلاد، منطلقة من وهم ذاتي بأنها وحدها تعرف ما يجب القيام به، وأن أي مشاركة في السلطة من شأنها أن تشوّش عليها مشروعها.
ولكن ما هو مشروعها إذا وضعنا جانباً نموذج سنغافورة؟ لم تعلن السلطة شيئاً واضحاً بهذا الخصوص، وإن كانت إجراءاتها وأعمالها وخطاب بعض أنصارها تشي بملامح النموذج الذي تريده لسوريا: نظام تسلطي مركزي بأمة سنية غالبة بنزوع ذكوري طاغٍ، وإيديولوجيا براغماتية مع هامش واسع للدعوة السلفية في المتن الاجتماعي، ونموذج اقتصادي ليبرالي عماده التجارة الحرة واعتماد مرحلي على دعم خارجي من دول حليفة، إضافة إلى إشارات صدرت مؤخراً عن استعداد للتطبيع مع إسرائيل في الإطار «الإبراهيمي».
وعموماً سعى الشرع وصحبه، منذ استيلائهم على فراغ السلطة، إلى إرضاء الخارج، الغرب أساساً، الذي لا يهمه كثيراً كيف يتم ترتيب البيت الداخلي إلا بقدر اتصال ذلك بمطالبه وعلى رأسها تحقيق الاستقرار. من المحتمل أن السلطة ترى في المجازر التي استهدفت ـ إلى الآن – العلويين والدروز نوعاً من تطويع الداخل مادامت لا تستجلب ردود فعل دولية كبيرة وتم احتواؤها بأقل الخسائر على صورتها أمام الغرب، وكذا تفريغاً لأحقاد طائفية أو ثارات متراكمة، كبديل عن عدالة انتقالية لا تريدها.
شجع السلطة على المضي في الطريق الذي اختارته أن الإجراءات الشكلية التي قامت بها كمؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري والحكومة الجديدة والتعيينات العسكرية والإدارية وتشكيل مجلس الإفتاء وغيرها لم تثر رفضاً من الدول الغربية على رغم الرفض الواسع في المجتمعات السورية. فإذا مضت الأمور على هذا المنوال ربما نصل، بعد سنوات، إلى انتخابات يتوهم الفريق الحاكم أن فوزه فيها مضمون لأن غالبية السكان من السنّة، هذا ما لم تلغ فكرة الانتخابات أساساً. غير أن ما تتجاهله السلطة، أو ربما لا تهتم به كثيراً، هو أن سلطتها لن تشمل، في الشروط القائمة والمنظورة، لا مناطق الإدارة الذاتية الكردية ولا مناطق الدروز والعلويين الذين دفعت المجازر أصواتاً من بينهم لطلب حماية دولية. من المحتمل أن السلطة ستتعايش مع نوع من الإدارات الذاتية في تلك المناطق كأمر واقع من غير إعلان رسمي، الأمر الذي يحقق بالضبط ما تريده إسرائيل: دولة ضعيفة مفككة بلا سلاح ولا أفق، مع بقاء قوات عسكرية أمريكية وتركية وإسرائيلية وروسية على أراضيها، وعقوبات اقتصادية مستمرة.
كاتب سوري
القدس العربي