تعاقد سوري: نزع السلاح مقابل المشاركة في السلطة/ ياسين الحاج صالح

مخرج من حالة حرب الجميع ضد الجميع
08-05-2025
تدعو السلطات السورية الجديدة إلى نزع سلاح أي مجموعات مسلحة خارج الدولة باسم عمومية هذه الأخيرة واحتكارها للقوة المسلحة. وهو ما يبدو مُتّسقاً مع تصورها المُعبَّر عنه على لسان الرئيس الانتقالي، الخاص بانتهاء الثورة وبدء الدولة. الثورة في عُرف الفريق الحاكم اليوم هي مجمل الصراع السوري خلال ما يقارب 14 عاماً قبل سقوط النظام الأسدي، وقد حمل السلاح خلالها، فضلاً عن النظام وحُماته الأجانب، من واجهوه من مقاتلين متنوعين، ومن واجهوا داعش، ومن عملوا على حماية أنفسهم، فضلاً عن مُتكسِّبين من كل نوع حول هذه المجموعات، بعضهم عصابات إجرام. ومن حملة السلاح مجاهدون محليون ومُعوْلَمون، قضيتهم دينية، كان بعضهم من قوى «عملية ردع العنوان» التي أسفرت عن سقوط النظام.
والدعوة مُوجَّهة افتراضاً إلى تلك المجموعات المسلحة كافة، تلك التي شاركت في إسقاط النظام وتلك التي لم تشارك (قوات قسد وتشكيلات مسلّحة درزية)، وما بقي من قوات النظام السابقة، وبالطبع عصابات الجريمة، وكذلك غير قليل من مجموعات تتمازج فيها الهوية والجريمة والسلاح. سورية طوال سنوات كانت أقرب إلى نموذج حرب «الجميع ضد الجميع» الذي تكلم عليه توماس هوبس، وتأسست عليه نظرية العقد الاجتماعي. وهي في وضع يدعو إلى التفكير في تأسيس أو تَعاقُد وطني جديد.
يثير الجدل بخصوص الدعوة إلى نزع السلاح شيئين. أولهما؛ هل نحن اليوم حيال دولة، تحتكر العنف المشروع لأنها دولة عامة الولاية بالفعل، وتمارس سلطتها خدمةً للمصلحة الوطنية التي تعلو على أي جماعات أهلية، بما فيها أي دين أو جماعة دينية؟ أي هل نحن حيال مشروع بناء دولة عامة أم سيطرة دينية خاصة؟ ذلك أن فكرة احتكار الدولة للعنف مرتبطة عضوياً بفكرة الدولة الوطنية، ولم تكن يوماً سمة للحكم الديني أو السلطات الإمبراطورية. والسؤال يثيره الواقع بالنظر إلى ما يبدو من استمرار مجموعات دينية في حمل السلاح، وعدم تَمكُّن السلطة الجديدة من نزعه أو عدم إرادتها لذلك، مع ما هو معلوم من مشاركة هذه المجموعات، ومنها مجاهدون أجانب، في مجازر الساحل، وفي هجمات على أشرفية صحنايا. وهذا يُحيل إلى الشيء الثاني المثير للجدل بخصوص نزع السلاح، وهو وجه آخر لعمومية الدولة، لكن ليس من حيث شمول ولايتها السكانَ كلهم هذه المرة، بل من حيث مشاركة السكان كلهم بصور مختلفة في امتلاك سلطتها أو التأثير عليها بما يتوافق مع مصالحهم العادلة والمعقولة. بعبارة أخرى، يقتضي احتكار الدولة وحدها للسلاح ونزعه من المحكومين مشاركة المحكومين في سلطة الدولة، بما في ذلك في جيشها أو قوّاتها المسلحة. وهذا ليس واقع الحال في سورية اليوم. فأياً يكن تعريفنا للمحكومين، جماعات أهلية أو تيارات فكرية وسياسية أو منظمات وشبكات اجتماعية، أو مجموع السكان، فإنهم غير مُشاركين في هياكل السلطة الجديدة ولا مُمثلَّين فيها. وهذا في زمن تأسيسي، يرجح لقيامه الباكر على الاستبعاد أن يترسَّخَ أكثر ويتصلَّبَ كلما مر عليه الزمن، حتى نحصل على سلطة فئوية غير عمومية، لا بد أن تحمي فئويتها بالعنف، ولا بد أن تتبادل الكراهية مع قطاعات تتسع من المحكومين مثلما حدث بالفعل في الحقبة الأسدية.
هذا للقول إن التعاقد الوطني لا بد أن يقوم في سورية ما بعد الأسدية، التي تحاول الخروج من حرب الجميع ضد الجميع، على مشاركة الجميع في السلطة مقابل نزع السلاح. أما ما يمكن أن يقوم على نزع السلاح دون مشاركة في السلطة فليس دولة وطنية، وإنما شكل آخر من الحكم الفئوي الذي قد يلجأ إلى المُزايدة الدينية لحجب طابعه الفئوي الضيق، مثلما لجأ الحكم البعثي إلى المُزايدة القومية العربية. ثم إن ما قد يقوم على نزع السلاح دون مشاركة في الحكم هو سلطة طغيان عاتية، تواجه فيها سيادةٌ مطلقةٌ مسلحة شعباً أعزل، تفتك به وتسلبه وتنهبه وتعذبه، لأن هذا ما يُغري به فائض القوة الذي تتمتع به. ولا يُعوَّل في هذا الشأن على النيات، فالأعمال في الشؤون السياسية ليست بالنيات، إنما بالعواقب، وبما يمهد لهذه العواقب من اختلالات في توزّع القوة في المجتمع ومن أوضاع اجتماعية وسياسية غير متوازنة. وهذا هو الفرق المهم بين ما يخص الدولة من أعمال وما يخص الدين. فلأن الله مُطّلع على أفئدة الناس الذين يُحاسَبون أمامه، ولأنه رؤوف بهم، فإن النيّات هي معيار الحكم على أفعالهم. وهو ما لا يستطيع السياسيون انتحاله، لأنهم مسؤولون أمام محكوميهم، والمعيار في الحكم على سياساتهم هو مُحصّلاتها وعواقبها. يمكن للفريق الحاكم اليوم أن يرفض معيار العواقب في الحكم على سياسته، ويفضل معيار النيّات الديني، لكن هذا لا يستقيم مع إرادة احتكار السلاح، وهي قائمة على تصور الدولة ككيان وطني عمومي مسؤول عن مصلحة وأمان العموم.
والواقع السوري اليوم يطرح قضية نزع السلاح على مستويين أساسيين. الأول، والأهم على الإطلاق، هو نزع السلاح المجموعات المسلحة الدينية التي تجنح إلى التصرف بصورة مستقلة، تتدخل في الحياة الخاصة للسكان، ويوجهها تفكير ديني يقوّض كل منطق احتكار الدولة للسلاح. الأولوية هنا، لأن مصداقية احتكار سلطة الدولة للسلاح تقوم على نزعه عن مَحاسيبها غير الدولتيين، وإلزامهم بمنطق الدولة الوطنية. وهو ما ينطبق بصورة خاصة على الجهاديين الأجانب. إذ لم تعرف دولة وطنية حديثة امتلاك أجانب للسلاح في أراضيها، وبخاصة بعد إنجاز المهمة التي يُفترض أنهم كانوا عوناً فيها: إسقاط النظام (الذي اعتمد وجودياً على أجانب). قد يكون مفهوماً ألّا يستطيع أكثر هؤلاء العودة إلى بلدانهم، لكن هذا يقضي بأن يظلوا لاجئين آمنين مسالمين في سورية، لا مسلحين بلا حساسية وطنية من أي نوع. من شأن استمرار امتلاكهم للسلاح أن يُقرِّبهم من قوة احتلال أجنبية، فينزع وطنية الحكم الذي يوفر لهم مظلة ويقربه هو ذاته من كونه حكماً احتلالياً. ألم يكن الحال كذلك مع الحكم الأسدي؟
والمستوى الثاني يتصل بقوات قسد، وفيها أجانب هي الأخرى، ثم بفصائل مسلحة درزية. وهنا يفرض منطق التعاقد المشار إليه قبل قليل: المشاركة في السلطة مقابل نزع السلاح. وهو ما يدعو إلى مراجعة الإعلان الدستوري والحكومة المُشكَّلة في أواخر آذار الماضي، لأنهما يؤسسان بالأحرى لسلطة دون شراكة، ما يجعل من نزع السلاح انكشافاً خطيراً أمام فريق مُسلّح لا يشبه الدولة.
نزعُ السلاح الذي يخرج من منطق التعاقد هو نزع سلاح أي عصابات جريمة منظمة أو أي سلاح محتمل بيد موالين للحكم الأسدي. لكن ليس لهذا الأخير أن يلتبس بحال بوضع العلويين في حال انكشافٍ ممّا هو محقق فعلاً، على ما دلَّلَ تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان حين تكلم على مقتل عشرين مدنياً علوياً في حمص خلال خمسة أيام قبل نهاية نيسان الماضي. هذا منطق استباحة، يثير سؤالاً عما إذا كان من يريدون احتكار السلاح غير قادرين على «ضبِّ» جماعاتهم أم هم متواطئون مع اعتداءاتها. وأياً يكن التقدير فإن هذا واقع لا يشجع أحداً على التخلي عن سلاحه. بخصوص العلويين، كما بخصوص الكرد والدروز، يتعين إعمال منطق التعاقد والمشاركة الفعلية (وليس الإسمية أو الواجهية) في السلطة.
ويمكن للمشاركة في السلطة أن تأخذ شكلين: شكل توسيع نطاقات وصلاحيات السلطة في الأطراف، في صورة حكم محلي فاعل بما يُؤمّن لسكان المحلات المعنية تحكماً ذاتياً بأوضاعهم وشعوراً بالأمان، ثم شكل مواقعَ مؤثرة في السلطة المركزية بما يشد تلك القطاعات السكانية إلى الدولة ويعزز ثقتهم بها.
هذه المناقشة مخاطبة للفاعل السياسي العقلاني، تنطلق من الواقع الراهن وتعمل على أن يتشكل وفق معايير الدولة والسياسة الوطنية، لكنها تفترض حسّاً تأسيسياً يفتقر إليه الفريق الحاكم اليوم، ولا نتميز عموماً بقوته بيننا. كان من شأن حسٍّ تأسيسي كهذا أن يتغلب، أو ينافس على الأقل، نوازع الانتقام وتأكيدات الذات الفئوية في أوساطنا. هذه النوازع الأخيرة تشدُّنا إلى الماضي، إلى الغرق بلا نهاية في حرب الجميع ضد الجميع. هذا بينما يوجه الحس التأسيسي نحو الانفصال عن الماضي والتعاقد الجامع على أسس حياة جديدة. وليست هذه المخاطبة غافلة عن إكراهات اللحظة، لكن هذه اللحظة توفر فرصاً للعَقنلة وليس إكراهات فقط، وهي فرص ضاع بعضها وتضيع إمكانياتها كلما مر الوقت. كل قضية نزع السلاح واحتكاره لا معنى لها إلّا لأنها خطوة أساسية نحو عقلنة النظام السياسي والحياة الاجتماعية.
يبقى أنه ليس فيما تَقدَّمَ ما يقول إن الجماعات الوراثية الأهلية هي الأطر الحصرية للمشاركة في السلطة، ولكننا ملزمون بالانطلاق منها لأنها حاملة للسلاح. هذا مثال على إكراهات اللحظة، ومن جهتين. من جهة الجماعات نفسها، فهي لا تستطيع أن تجازف بتسليم السلاح دون مشاركة سياسية فاعلة، أي دون تشكّل الدولة كدولة وطنية. ومن جهة الدولة، هي مضطرة للتمثيل لأن دونه مخاطر تَفكُّك الكيان الوطني وضياع كامل للشرعية. هناك ضرورة لإبداع عدالة سياسية، تأخذ شرطنا العياني باعتبارها، وتعمل على عَقلنته. العدالة السياسية هي التشارُك التوافقي في السلطة العمومية. وكلُّ معنى المرحلة الانتقالية هو التعامل مع إكراهات اليوم بمنطق وطني عقلاني، يَؤول خلال الفترة المُقرَّرة إلى تَقدُّم متوازٍ في نزع السلاح والمشاركة السياسية، إلى تَشكُّل أكثر مدنية وأقلَّ أهلية وطائفية للمجتمع، وإلى سيادة واحدة متجسدة في الدولة وتعددية سياسية تشغل المساحة بين الدولة العامة وبين المجتمع السوري المتنوع. وأبسط من كل ذلك، من عنف أكثر إلى عنف أقل، ومن تمييز أكثر إلى تمييز أقل، ومن الذلّ إلى الكرامة. هل نحن سائرون في هذا الاتجاه؟ مؤشرات خمسة أشهر مُنقضية لا تقول ذلك.
موقع الجمهورية