أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوععن أشتباكات صحنايا وجرمانا

هل تتحوّل “المُساكنة” الطائفية في سورية زواجاً مُعلناً؟/ عبير نصر

07 مايو 2025

تزامنت التشوّهات الجغرافية في سورية مع تقلّباتٍ عسكرية عاصفة بعد عام 2011، لعجزها في إدارة الحراك السياسي توافقياً بعيداً عن التعنّت والاقتتال، فأخذت بُعداً مختلفاً بعدما أُبرم، إنْ أمكن التعبير مجازياً، ما يشبه عقد زواجٍ عُرفي بين دويلاتٍ ثلاثٍ مبنيّةٍ على أسسٍ عرقية وطائفية: دويلة الأكراد، حكومة إدلب، سورية المفيدة. عقدٌ مشوّه أنتج خللاً بنيوياً ومشكلات مستدامة في سعيه المتعجّل إلى الهيمنة. وبعد سقوط نظام الأسد، أُضيف مزيد من التعقيد إلى المشهد السوري المأزوم، إثر بروز مشروع يستحوذ على الفضاء العام يستمدّ شرعيته من حجم الاحتراب الداخلي بين السوريين أنفسهم، يسعى إلى تقسيم سورية بخفّة سياسية إلى مناطق أكثر تشرذماً، ومن دون إثارة الهواجس الوطنية والاستفزازات، الأمر الذي يعكس رؤية إسرائيل حول إعادة تشكيل وجه الشرق الأوسط الجديد. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ مجلس الوزراء الإسرائيلي كان ناقشَ اليوم التالي بعد سقوط الأسد، وفقاً لصحيفة يسرائيل هيوم، وانتهى باقتراح الدعوة إلى تقسيم سورية، بدعوى ضمان أمن جميع المكوّنات السورية وحقوقها، ولم يتم الكشف عن ذلك إلا أخيراً، إذ يصعُب تحصين المجتمع السوري وترسيخ هويته المحلية، ما يتطلّب مراجعة نقدية، جادة ومسؤولة حول ضرورة توحيد السوريين، باعتبارهم السدّ المنيع أمام مشاريع التفتيت، فلا يمكن بناء مستقبل آمن إلّا بتجاوز رواسب تركة الأسد، والانطلاق نحو مُصالحةٍ وطنية شاملة، فالتاريخ السوري يُكتَب الآن بالفعل، ويتطلب الأمر الكثير من المرونة البراغماتية التي من شأنها إنتاج خطاب وطني معزّزٍ بسلسلة من الترضيات والتوافقات السياسية والاجتماعية.

في السياق، وعلى الرغم من خلفيتها الإسلامية المتشددة، امتنعت الحكومةُ الجديدة عن توجيه أيّ خطاب مناهض لإسرائيل التي تحاول إيجاد مناطق عازلة عصيّة على الاختراق، تؤمّن العمق الاستراتيجي لها تجنّباً لأيّ طوفان هادر آخر، وتعمل على الاستثمار الذكي في التصدّعات الطائفية واللعب على الأوتار السورية المشدودة. تفرض استراتيجية غزو جديد تقوم على العُقد الأيديولوجية لإيجاد مشرقٍ عربي على شاكلتها تماماً، متمحورٍ حول هويته الدينية المتطرّفة. لذا تتّخذ تل أبيب موقفاً عدائياً ضد دمشق، تصاعدَ بعد الضربات القاسية فجر يوم 3 مايو/أيار الجاري، طاولت محافظاتٍ عدّة، مؤكّدة أنّ الحرب لن تنتهي إلا بتقسيم سورية. والذرائع حاضرة بالطبع: تُقيم إقليماً جنوبياً بحجّة حماية الدروز، وشرقياً كردياً، أيضاً إقليماً غربياً علوياً بذريعة أنها لن تسمح بإقامة خلافةٍ إسلامية على شواطئ البحر المتوسط، وهكذا يبقى الإقليم السنّي معزولاً عن إخوانه، فيفشل العزل القسري في إحداث توافقٍ نسبي بين الدويلات الهشّة على نحو ما سبق ذكره، ليغدو الاستقطاب قوياً ومُنذراً بكثير من المخاطر والتحديات.

عموماً، تبقى مسألةُ حماية الأقليات الشماعةَ التي تُعلَّق عليها مصالح اللاعبين الكبار في سورية، ولها في الواقع معطيات حاضرة، بداية بمجازر الساحل الدامية، والتهمة دعم انقلاب فاشل نفذته فلول النظام البائد، مروراً باشتعال السويداء، والسبب تسجيل صوتي مفبرك تضمّن شَتْم النبي محمد (ص)، أكّدت وزارة الداخلية أنّ المتهم (الدرزي) بريء منه، وليس نهاية بعقد مؤتمرٍ كردي طرحَ مشروع حكم ذاتي لا مركزي بعدما عاجلهم البيان الدستوري فتشظّت أحلامهم نتفاً.

بالتالي، من المشروع السؤال إلى أين تتجه سورية بينما يجلس دونالد ترامب يتحدّث بفخرٍ عن صداقته بتركيا وإسرائيل، حريصاً على إقامة بازارٍ سياسي استعراضي بينهما وصولاً إلى تفاهمٍ سلس لاقتسام بلد ليس بلدهم؟! ولهذا التقسيم هيكلية جاهزة على الأرض، قد تنسجم معه مرّة وقد تخالفه مرّات، ووحدهم السوريون يصنعون هذا الفارق لتعزيز مشروع تقسيم المقسّم أو إيقافه. هم الذين فشلوا طوال قرن في بناء دولة وطنية يتعثّرون مجدّداً لاعتبارات كثيرة، يتعلّق معظمها بالأحقاد الطائفية المُعلّقة منذ عهد نظام الأسد. على التوازي، من المرجّح، وفي ظلّ المناخ الوطني المتشنّج الذي غدا أرضاً سريعة الاشتعال، أن تغدو البلاد جسداً مريضاً يُداوى بفيدرالية فاشلة لن تخلو، حكماً، من الصراع والمواجهات.

وبالكيفية نفسها، ينطبق الحال على اضطهاد الأقليات، كونه جرس إنذار مبكّر لوقوع الكارثة، إذ، ولهول ما يحدُث، تتعالى أصواتٌ تطالب بالتدخل الدولي على أقلّ تقدير، تعزّزها “فزعات” الإبادة الطائفية التي تستقطب آلاف الغاضبين بدعوى الجهاد ضد المتمرّدين. هذه “الفزعات الفزّاعات” أوضحت، بما لا يدعو إلى الشك، أنّ ميثاق التعايش المشترك أصبح شبه مستحيل. ومهما يكن من أمر التقسيم الجغرافي، الأخطر منه الجدران العازلة والشاهقة التي شيّدها نظام الأسد بين السوريين، والتي أنتجت بنىً اجتماعية متباينة في أهدافها، ما يعني أنّ التشظّي كامنٌ في الوعي الجمعي، يظهر من خلال التصاق السكان العضوي بالسلطات المُقامة بحكم الأمر الواقع فيما سُمّي “الانسجام الديمغرافي”. ويبدو أنّ الفسيفساء السورية لم تكن مجرّد مزحة ساذجة، بل لعنة قاتلة، وكلّ طائفة تجهد اليوم في صناعة كيان بديل يحمي وجودها وبأيّ ثمن.

سيؤسّس ذلك كله تباعاً لواقعٍ تقسيمي غير معلن مرشحاً بقوة للتحول إلى شكل نهائي يصعُب تغييره، وسيزيد المعادلة السورية استعصاءً ومرارةً أن يغدو الدرزي في إسرائيل، مثلاً، أقرب إلى درزي السويداء من ابن درعا، وعلوي لواء اسكندرون أقرب إلى علوي اللاذقية من ابن إدلب، ومسيحي لبنان أقرب إلى مسيحي دمشق من ابن الغوطة… وهكذا دواليك، ما سيخلّف شرخاً كبيراً بين السوريين يصعب إنكاره، وكلّ مكوّن يُلحق به صفة مُشينة ومُطلقة: الأكراد انفصاليون، الدروز خونة، العلويون فلول، المسيحيون ضالّون، السنّة إرهابيون…. إلخ.

وبصدد مآلات الملفّ السوري، كان طرحَ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر فكرة تقسيم سورية: (هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، انتصار السنّة، تعايش مختلف القوميات معاً، ولكن في مناطق مستقلّة ذاتياً، فلا تقمع بعضها بعضاً). ومع تحقّق السيناريو الثاني، لا يبدو أنّ إسقاط عهد الأسد سيُعلن خاتمة المأساة السورية، بينما يبدو المشهد الملتهب في مجمله مجرّد تصفية حساباتٍ قديمةٍ بين السوريين، وبداية لمراحل جديدة من التعثّر في بناء دولة موحّدة تعاني أصلاً من انقساماتٍ عميقةٍ ومتجذّرة. يزيد الطين بلّة انهيار المؤسسات جميعها تاركة خلفها خرائب دولة وشعباً منهكاً. وعليه، ليس موضع تشكّك أو جدال الجزم أنه يسهل تفجير فتنة طائفية في أيّ وقت، ولأتفه الأسباب، في مجتمع مهزوم ومشبع بالتوحش الخامل كالمجتمع السوري، الذي ينتقل بسلاسةٍ مريبةٍ إلى دمار كامل تحوّطه حدود الدم، وتسكنه أنقاض بشرية مُغيّبة ومذعورة لا تفعل شيئاً، وللمفارقة، سوى أن تقتل وتتألم.

نافل القول… عندما يسقط مشروع المواطنة بقدرٍ كبير من الخسائر والانتكاسات، وينتصر العنف، موقعةً إثر موقعة، يتفشّى ما يشبه الوباء العام المُعدِي، فتُمحى الحدود بين المتديّن والملحد، وبين المثقف والأميّ، ليمارسوا الفعل الطائفي الإقصائي ذاته، ويتنامى لدى “الأكثرية” كما “الأقلية” شعورٌ ضمني بأنها مستهدفة، فتزداد حساسيّتها بالتعامل مع خصوصياتها ومقدّساتها، أيضاً مكتسباتها السياسية وقد باتت في موضع قوة، لذا تتعامل بقسوة مفرطة مع من تظنّهم أعداءها إذا أتيحت لها فرصة التسلط والاستعداء، ويكون الانطلاق دائماً من الوحش الطائفي الذي ربّاه نظام الأسد داخل كلّ سوري، متمخضاً اليوم عن تفريخ كثير من “الجلادين – الضحايا”.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى