عن “أحداث دمشق: مذبحة 1860” ملف كامل من إعداد “صفحات سورية”، مع بعض الكتب التي تناولتها وروابط لها

أحداث دمشق: مذبحة وتدمير العالم العثماني القديم/ حسن الخطيب
أولًا: مقدمة
في صيف عام 1860، دخل مجموعة من الفتيان المسلمين إلى حي باب توما ذي الغالبية المسيحية، وقاموا باستفزاز أهالي الحي بالصراخ ورسم الصليب بالدهان الأحمر على الأرض وعلى أبواب البيوت. فتقدم أهالي الحي بالشكوى إلى الوالي العثماني، الذي أمر باعتقال الشباب وإجبارهم على تنظيف الطرقات. على الرغم من ذلك، فإن المشهد تكرر في اليومين التاليين ورافقته عبارات الصراخ الطائفي من أهالي الفتيان مثل: “يا يا أمة محمد، المسلمون يكنسون حارة النصارى! لم يبقَ إسلام في الشام…لم يبقَ إسلام”، و”يا غيرة الدين”… ثم انفجر الوضع بشكل مفاجئ، وهجم أهالي الأحياء المجاورة بالمسدسات الحربية والسيوف والفؤوس على الحي المسيحي. انسحبت وحدات الحماية العثمانية من الحي، وجرت مذبحة راح ضحيتها ربع المجتمع المسيحي في دمشق، كما رافقتها أعمال اغتصاب ونهب وحرق للبيوت والأرزاق والمصانع والكنائس، وكذلك القنصليتان الروسية والأمريكية، كما يذكر المؤرخ السوري سامي مروان المبيض[1].
وفي كتابه الصادر باللغة الإنكليزية سنة 2024 بعنوان أحداث دمشق مذبحة 1860 وتدمير العالم العثماني القديم[2] يتناول المستشرق والمؤرخ البريطاني يوجين روغان الخلفية التاريخية، الاقتصادية، السياسية والاستعمارية وراء وقوع هذه الأحداث المروعة. فتش روغان في مصادر عديدة من تلك الحقبة، كالمراسلات الدبلوماسية والأوراق القنصلية، وشهادات الشهود. وركز روغان بشكل رئيس على المذكرات الشخصية التي كتبها ميخائيل مشاقة عن المجزرة، بالإضافة إلى المراسلات التي كتبها مشاقة في معرض عمله، حينما كان يعمل نائب قنصل للولايات المتحدة الأمريكية وكتب هذه المراسلات لرئيسه ج. أوغسطس جونسون المقيم في بيروت آنذاك.
ثانيًا: أهمية الكتاب
إن أحداث 1860 دمشق شغلت العديد الباحثين خصوصًا في الآونة الأخيرة؛ فقد تناول العديد من المؤرخين والباحثين هذه الأحداث من منظورات وسياقات مختلفة؛ وذلك اعتمادًا على روايات شهود عيان عاصروا المجزرة، أو ممن نجوا منها. ويكمن الفرق الذي يميز بحث كل واحد منهم عن الآخر بالحافز الشخصي الذي يقف وراء دافع كل واحدٍ منهم للكتابة عن هذه الأحداث المؤلمة. فبالنسبة إلى الباحث السوري سامي مروان المبيض، والذي ينتمي إلى المدينة نفسها، يبدو أن حافزه وطنيًا؛ إذ يقر في مقدمة كتابه أن الرغبة في الاعتراف بالجزء السلبي من ماضي المدينة بغية التعلم منه[3] هو ما دفعه لكتابة كتابه الذي صدر عام 2021 بعنوان نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860. أما الباحثة رنا أبو مؤنس التي صدر لها عن مطابع بريل اللندنية عام 2022 كتابًا باللغة الإنكليزية بعنوان العلاقات الإسلامية المسيحية في دمشق في ظل أعمال الشغب عام 1860 فيبدو أن الحافز لديها تحليليًا بحتًا. وتستبعد أبو مؤنس البعد الديني كسبب مباشر للمذبحة، على الرغم من أن معظم مرتكبي المذبحة من المسلمين وكل ضحاياها من المسيحيين؛ فالدين بحسب أبو مؤنس كان عاملًا مؤثرًا وليس سببًا مباشرًا. أما السبب المباشر وراء تلك الأحداث فهو الاقتصاد[4].
وعلى الرغم من وفرة الكتابات عن المذبحة، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية كتاب يوجين روغان، موضوع هذه المراجعة. ويمكن اعتبار كتاب روغان تجميعًا للأجزاء المختلفة للصورة التاريخية للحدث. فالكتاب يتميز عن الكتب والدراسات التي صدرت قبله وتناولت الأحداث نفسها، بشغف الكاتب للإلمام بكافة جوانب الأسباب التي أدت إلى وقوعها، والوقوف على سياقاتها المتعددة، دينيًا، اجتماعيًا، اقتصاديًا، سياسيًا واستعماريًا. فاعتمد يوجين على مذكرات مشاقة كمصدر أساسي لبحثه، وذهب إلى البحث والتنقيب في معظم الأوراق التي عاصرته؛ وذلك لتحقيق مذكرات مشاقة ووضعا في سياقها التاريخي الصحيح. جمع الكاتب أوراق ومراسلات مشاقة القنصلية من الأرشيف الوطني الأمريكي، ثم سافر إلى دمشق فكان يقضي وقته بين مكتبتها الوطنية ومكتبة المعهد الفرنسي في دمشق بحثًا في أرشيفهما عن أوراق لتلك الحقبة، سواء أكانت شهادات عيان أو مراسلات قنصلية ودبلوماسية فرنسية عن تلك الحقبة. كما زار أرشيف الجامعة الأمريكية في بيروت لجمع الأطروحات التي تتناول الموضوع نفسه، ثم اتجه يوجين إلى إسطنبول للبحث في الأرشيف العثماني عن أحوال السلطة العثمانية قبل وبعد المجزرة وردة فعلها تجاه تلك الأحداث. وبالإضافة إلى مذكرات مشاقة، وقف يوجين على شهادات شخصيات بارزة في المدينة عاصرت المذبحة، وكان لها دور في حماية المسيحيين في المدينة، في مقدمتهم الأمير عبدالقادر الجزائري (ص ص12-13).
ثالثًا: تعيين ميخائيل مشاقة نائب قنصل للولايات المتحدة في دمشق
لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر بتلك القوة التي تنافس القوى الأوروبية في أراضي الدولة العثمانية، ولم يكن لها سوى نصيب هامشي من التجارة في دمشق أمام توغل البريطانيين والفرنسيين فيها. ولذلك، فقد أراد السفير الأمريكي في لبنان ج. أوغسطس جونسون افتتاح بعثة دبلوماسية في دمشق من أجل تسهيل التجارة الأمريكية فيها. وقد كان من المعتاد أن توظف البعثات الأجنبية في أراضي الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر دبلوماسيين محليين من المسيحيين أو اليهود كممثلين لها لدى السلطات العثمانية. وكان ميخائيل مشاقة (1800-1888)، المولود في لبنان لأسرة يونانية كاثوليكية، ويعيش منذ عام 1834 في دمشق، وهو من أفضل الأشخاص تعليمًا في المدينة وأكثرهم كفاءة لتولي المهام القنصلية للولايات المتحدة الأمريكية هناك (ص ص18-19). يصف يوجين مشاقة في مقدمة كتابه بأنه: “كان رجل نهضة حقيقي، عمل في قصور أمراء لبنان وتدرب كطبيب. نشر العديد من الكتب والرسائل في اللاهوت والفلسفة وحتى في نظرية الموسيقى العربية. ومن أشهر أعماله هو تاريخ سوريا ولبنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” (ص2).
بدأ مشاقة حياته المهنية، عندما كان في السابعة عشر من عمره، عندما رافق أخواله في سفرهم للتجارة إلى دمياط، وتعلم منهم أساليب التجارة. ودخل العمل السياسي في سن مبكرة حينما عمل في قصر آل الشهابي، العائلة التي تحكم جبل لبنان منذ العام 1697. ومن خلال عمله هذا، بنى خبرة سياسية جيدة بالإضافة إلى شبكة علاقات واسعة مع شخصيات عامة في المنطقة من مختلف المجتمعات الدينية، الدروز، المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك، الشيعة والسنة. وعندما دخل الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا إلى سوريا ولبنان عام 1831 ووقف الشهابيون بقيادة الأمير بشير الثاني الشهابي مع إبراهيم باشا، ورافق مشاقة الشهابيون في الحملة العسكرية إلى دمشق. ومع وقوع عدد كبير من الجرحى في معركة حمص في الجيش المصري عاد مشاقة إلى ممارسة مهنته الثالثة، وهي الطب، حيث درس مشاقة مبادئ الطب من الكتب المترجمة إلى العربية عام 1828 حينما عانى لأشهر من مرض الملاريا، كما أنه كان أثناء خدمته لدى الأمير بشير الثاني الشهابي يرافق الطبيب الإيطالي الخاص بالأمير بشير وتعلم منه بعض الخبرة الطبية. وبسبب قلة الأطباء والأعداد الكبيرة من الجرحى في معركة حمص 1832 فحتى مجرد رجل عادي مع معلومات طبية أساسية ينفع أن يكون طبيبًا (ص25).
وفي عام 1834 قرر مشاقة الإقامة نهائيًأ في دمشق، فعمل فيها كطبيب وتزوج ابنة ميخائيل فارس، أحد وجهاء الطائفة الكاثوليكية اليونانية في دمشق. بنى مشاقة شبكة علاقات واسعة مع وجهاء المدينة، وأصبح محط احترام الجميع. حينما قرر السفير الأمريكي في لبنان جونسون افتتاح قنصلية في دمشق عام 1859، لم يكن ليجد أفضل من ميخائيل مشاقة للعمل كنائب للقنصل؛ فالرجل معروف بحنكته السياسية، خبرته التجارية التفاوضية، وشخصيته الكاريزمية الاجتماعية في المدينة. علاوةً على أنه محط دعم البعثات التبشيرية البروتستانتية لهذا المنصب، فالرجل كان متمرّدًا على تعاليم الكنيسة الكاثوليكية الشرقية بعد ما تأثر بكتابات رواد التنوير الأوروبي التي ترجمتها البعثات التبشيرية نفسها للغة العربية. وقد أوصت البعثة التبشيرية الأمريكية به فجاء في تقريرها، تعليقًا على نقاش ديني حاد جرى بين مشاقة وبين البطريرك الكاثوليكي المحلي: “صديقنا السيد مشاقة، ربما يكون أكثر علمانيي البلد ذكاءً، والبطريرك هو أكثر رجال الدين علمًا. كان النقاش بينهما بمثابة معركة بين العمالقة حيث جذب الانتباه من جميع الجهات وباهتمام كبير لما يجري بينهما” (ص28).
رابعًا: السياق التاريخي للمذبحة
التزمت دمشق في العلاقة بين الأغلبية المسلمة والأقليات غير المسلمة في دمشق بشكل صارم بقواعد الشريعة الإسلامية خلال فترة الحكم العثماني. وقد احترم المسلمون بشكل كامل حياة وممتلكات السكان المسيحيين واليهود، وكان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون في نفس الأحياء، ويمارسون نفس الأعمال، وكانت متاجرهم مختلطة في الأسواق. ومع ذلك، فإن المساواة في الأعمال والعلاقات المالية لم تكن لتشمل العلاقات الاجتماعية، فقد كانت الأغلبية المسلمة في المدينة تفرض قواعد صارمة للسلوك واللباس على المسيحيين واليهود، وتؤكد تفوق المسلمين على غير المسلمين. ومنذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر حينما خضعت دمشق لسيطرة إبراهيم باشا، بدأت المدينة تشهد تغييرات سياسية واقتصادية كبيرة من شأنها أن تحول النظام الاجتماعي التقليدي، وتخلق جوًّا من التوترات بين المسلمين وغير المسلمين.
1- القنصليات الغربية في دمشق منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر:
كان لكل القوى الغربية قنصليات في مصر تحت حكم محمد علي، وبعد أن أصبحت سوريا تحت سيطرته أصبحت الفرصة سانحة لهذه القوى لافتتاح قنصليات لها في دمشق. وفي الواقع كانت بريطانيا قد عينت ويليام فارين قنصلًا لها في دمشق منذ 1830، لكنه لم يجرؤ على دخول المدينة حتى عام 1834 تحت حماية قوات محمد علي؛ وذلك لأن النخب الدمشقية كانوا يشعرون بالريبة تجاه القنصليات الأوروبية ويكنّون لها البغضاء. وقد اعتبرت جريدة التايمز البريطانية دخول فارين إلى دمشق وقتها انتصارًا؛ إذ وصفت مشهد دخوله المدينة في تقريرها الإخباري: “اصطف المتفرجون على جانبي شوارع المدينة، وكانت نوافذ وأسقف المنازل مزدحمة وكان الناس يقفون حتى اثنين وثلاثة على حواف المحلات التجارية. لم يسبق أن شاهد أحد مثل هذا المشهد في دمشق، والتي ظلت منزهة عن اللباس والعادات الأوروبية، واعتبارها مدينة مقدسة حتى دخول السيد فارين. ولم يكن يُسمح لأي شخص قبل الآن بدخولها على ظهر حصان” (ص58). وكانت مسألة دخول غير المسلم إلى دمشق مسألة حساسة بالنسبة إلى المسلمين؛ إذ إنه من بين القيود الاجتماعية على غير المسلمين بأنه لم يكن مسموحًا لغير المسلمين بركوب الخيل حتى لا ينظر إلى المسلم من مكانة أعلى.
وتبع افتتاح القنصلية البريطانية في دمشق افتتاح قنصليات أجنبية أخرى، فافتتح الفرنسيون قنصلية عام 1839، وتبعتها النمسا عام 1840، والروسية عام 1846، وافتتحت الإمبراطورية البروسية (الألمانية) قنصلية لها عام 1849، وفي الخمسينيات من القرن نفسه افتتحت هولندا واليونان قنصليات لها في المدينة. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت آخر الواصلين تقريبًأ حينما افتتحت قنصليتها عام 1859 في دمشق وعينت ميخائيل مشاقة نائبًا قنصليًا لها هناك.
2- التجارة الغربية في دمشق:
كانت الدول الأوروبية ترغب في افتتاح قنصليات لها في دمشق لأغراض تجارية أكثر منها لأغراض دبلوماسية. فكانت دمشق وحلب أهم المراكز التجارية في الشرق في تلك الفترة، وكانت أسواق المدينتين الأكثر ربحية. وفي غضون سنوات قليلة، تمكن القناصل الأوروبيون كل منهم بتعزيز تجارة بلده في سوريا، وتحصيل امتيازات تجارية وإعفاءات ضريبية لمواطنيه التجار من الدولة العثمانية، على حساب تجار المحليين في دمشق. فقد تدفقت الأقمشة القطنية والصوفية الأوروبية إلى دمشق، وقد كانت أرخص بكثير من تلك المصنعة محليًا، وهذا ما ترك أثر سلبي كبير على الصناعة المحلية للأقمشة. بالإضافة إلى ذلك، فقد واجه النساجون المحليون مشكلة ثانية في صعوبة تأمين المواد الخام، حيث كان التجار الأوروبيون يشترون القطن الخام والصوف والحرير لملء سفنهم كي لا تعود فارغة إلى الديار؛ وذلك تسبب بإزاحة الكثير من النساجين المحليين من السوق، وساهم في إفقار الكثير من التجار خصوصًا المسلمين. (ص61).
3- تحول قوافل الحج عن الطرق البرية إلى الطرق البحرية بفعل السفن البخارية الأوروبية:
ليست البضائع وحدها ما كان يغري البريطانيين والفرنسيين في الشرق، وإنما قطاع النقل البحري أيضًا. في عام 1835 أسس البريطانيون أول مركز للشحن بالبخار إلى الشرق عبر المتوسط، تبعهم الفرنسيون عام 1837، والنمساويون عام 1839، وبحلول عام 1841 كان هناك أكثر من خمس وسبعين سفينة بخارية أوروبية تبحر في المتوسط. وكانت الرحلات عبر السفن البخارية أكثر أمانًا ويقينًا من السفن الشراعية من جهة، ومن جهة ثانية خفضت أوقات الرحلات بشكل كبير. ونمت السفن البخارية على مدار أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر بشكل كبير، ما ساهم في خفض تكاليف السفر والشحن. كان من شأن ذلك أن يتحول الكثير من المسلمين لأداء فريضة الحج عبر البحر عن الطرق البرية التقليدية التي تمر من دمشق. فانخفض عدد الحجاج الذين يدخلون دمشق كل عام من حوالي عشرين ألف سنويًا إلى حوالي ستة آلاف بحلول عام 1845، وفي مطلع الخمسينيات أفاد القنصل الفرنسي في دمشق بأن عدد القوافل المغادرة من دمشق لم تتجاوز الألفين وخمسمائة حاج. كان لذلك تداعيات سلبية على التجارة المحلية، حيث كانت القوافل التجارية ترافق قوافل الحجاج القادمة من الشرق، فكانت الأسواق الدمشقية تزدهر ذهابًا وإيابًا من قوافل الحج. بالإضافة إلى ذلك، كان لانخفاض قوافل الحج التي تمر من دمشق آثار ثقافية وروحية مرتبطة بالمدينة، حيث كانت تُقام احتفالات ثقافية ودينية كبيرة ابتهاجًا بقوافل الحجاج التي تمر من المدينة، فكانت هذه الاحتفالات تتقلص سنويًا (ص63).
4- تنامي قوة الأقليات في دمشق:
ربما يكمن التغيير الأهم في المدينة هو تنامي قوة الأقليات الدينية، والذي يمكن النظر إليه كنتيجة للتغييرات السابقة. حينما سيطر إبراهيم باشا على دمشق عام 1832، أدخل مفاهيم المساواة القانونية بين المسلمين وغير المسلمين. وشكلت هذه المفاهيم، التي تم العمل بها بشكل فعلي في مصر، بمثابة صدمة للمسلمين في دمشق، وأثارت استياءهم بشكل كبير. ويصف المستشرق الفرنسي ألفونس دو لامارتين تلك الفترة: “المسلمون في دمشق كانوا مستائين من المساواة التي شرعها إبراهيم باشا بينهم وبين المسيحيين. كما أن بعض المسيحيين استغلوا التسامح الذي تمتعوا به لإهانة أعدائهم بانتهاك عاداتهم وأعرافهم بشكل مباشر، ما أذكى مرارة التعصب بين المسلمين” (ص65). لم تكن إصلاحات إبراهيم باشا وحدها من عزز من قوة الأقليات، إنما توسع التجارة الأوروبية في دمشق. فقد اعتمد التجار الأوروبيون على عملاء محليين لإدارة تجارتهم، وقد كان الأوروبيون المسيحيون ومثلهم اليهود يوظفون أبناء دينهم للعمل لديهم في إدارة شؤونهم التجارية.
وإن أحداث دمشق الدموية 1860 لم تكن حدثًا منفصلًا، إنما جزء من أحداث عنف طائفية أوسع في أماكن عدة من أرجاء الدولة العثمانية خصوصًا بين المسيحيين والمسلمين منذ القرن التاسع عشر. فمنذ أربعينيات القرن التاسع عشر، شهد جبل لبنان صراعا طائفيا بين سكانه الدروز والموارنة. فقد سكن الدروز والموارنة لبنان عبر التاريخ جنبًا إلى جنب، وقد خضع لبنان تاريخيًا لسيطرة العوائل الدرزية. وفي القرن السابع عشر اكتسب الموارنة الحماية الفرنسية بوصفهم مجتمعا كاثوليكيا، لكن فرنسا عززت علاقتها بالموارنة منذ القرن التاسع عشر لحماية مصالحها الإمبراطورية في شرق المتوسط. وبعد خروج قوات إبراهيم باشا من سوريا ولبنان سعى الموارنة عام 1841 بقيادة البطركرية في لبنان إلى تأسيس نظام جديد يهيمن عليه المسيحيون تحت قيادة أمير ماروني وطرد الدروز من جبل لبنان بالكامل، ما أدى إلى موجة أولى من الأحداث الطائفية راح ضحيتها أكثر من 250 قتيل من الطرفين (ص103-106).
5- معارضة التنظيمات العثمانية:
مع بدايات القرن التاسع عشر، أصبحت الدولة العثمانية في حالة ضعف اقتصادي وعسكري أمام جيرانها الأوروبيين، كما لم تعد قادرة على ضبط المتمردين في الداخل. وانخفضت كفاءة الجيش بشكل كبير نتيجة عجز موارد الدولة الحالية على إمداد الجيش بالتمويل الكافي. أدرك العثمانيون حينها أن الدولة في حاجة إلى إصلاحات ضرورية، خصوصًا في المؤسسة العسكرية لرفع كفاءة الجيش، وإصلاح الجهاز الإداري ليستوعب قوانين ضريبية حديثة ترفد خزينة الدولة بالموارد المالية اللازمة. كما كان هناك حاجة ماسة لتحديث التعليم لتزويد الدولة بموظفين أكثر كفاءة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. في عام 1839 أطلقت الدولة مرسوم التنظيمات، والتي كانت بداية عصر جديد من الإصلاح لتحويل الإمبراطورية العثمانية من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية. وركز المرسوم على ثلاث نقاط رئيسة؛ الإصلاح الاجتماعي والمساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية، الإصلاح المالي وإنشاء نظام ضريبي جديد، وإصلاح شروط الخدمة العسكرية (ص79-80).
ولاقت التنظيمات العثمانية معارضة شديدة من رعايا الدولة، حينما بدأت هذه التنظيمات تمسّ حياتهم اليومية. فقد قاوم الرعايا العثمانيون جهود الدولة لتسجيل أسماءهم في سجلات الدولة بسبب خوفهم من الضرائب والتجنيد الإجباري. وتهرب المزارعون من تسجيل أراضيهم في سجلات الدولة لأطول فترة ممكنة. كما ندد المسلمون المحافظون بالتنظيمات؛ لأنها تدخل أفكارًا غير إسلامية إلى الدولة والمجتمع. وكانت القضية الأكثر حساسية هي التغييرات التي طرأت على الأوضاع القانونية للمسيحيين واليهود بموجب مرسوم الإصلاح لعام 1856، خصوصُا وأن القوى الأوروبية كانت تستخدم حقوق الأقليات على مدار القرن التاسع عشر كذريعة للتدخل في شؤون الدولة العثمانية. أرادت الدولة العثمانية من مرسوم المساواة بين المسلمين وغير المسلمين أن تكف يد الدول الأوروبية عن التدخل في شؤونها الداخلية بحجة حماية الأقليات. لكن من جهة أخرى، كان هذا المرسوم هو المرسوم الأول من مراسيم الإصلاح الذي يتعارض مع حرفية النص القرآني الذي ينص على التمييز بين المسلمين وغير المسلمين (ص87).
خامسًا: رؤية نقدية في الكتاب
يمثل الكتاب إضافة مهمة إلى البحث التاريخي ليس في أحداث المذبحة فحسب، وإنما في تاريخ سوريا ولبنان خلال الحكم العثماني؛ إذ رجع الكتاب للتمحيص في تاريخ المنطقة منذ القرن الثامن عشر؛ وذلك من أجل فهم أحداث مذبحة من خلال سياقاتها التاريخية بشكل دقيق ومدروس. ومذبحة دمشق 1860 بالنسبة إلى الكتاب هي جزء من صورة أكبر في تاريخ الدولة العثمانية، ونتيجة من نتائج عدة لما كان يجري في تلك الحقبة من تحولات كبيرة في الشرق العثماني وعلاقته مع الغرب الأوروبي على حد سواء. ومذبحة دمشق ليست حدثا منفصلا بذاته، وإنما جزء من أحداث عنف طائفية، خصوصًا بين المسلمين والمسيحيين، ضربت عدة أجزاء في الدولة العثمانية منذ القرن التاسع عشر. ولا يمكن البحث في الأسباب الخاصة وراء هذا الحدث فحسب دون البحث في الأسباب الكامنة وراء هذه الأحداث بشكل أعم وأوسع. وهذا ما فعله يوجين روغان في هذا الكتاب؛ إذ إنه حقق أولًا في شهادة مشاقة عن المذبحة، ثم وضع هذا الحدث في سياقاته التاريخية الدينية، السياسية، الاجتماعية والاستعمارية.
يؤخذ على الكتاب بأنه يفسر حرب لبنان الأهلية (1975-1990) على أنها امتداد بشكل أو بآخر للأحداث الطائفية الدموية في لبنان وسوريا خلال الحكم العثماني في الربع الثاني من القرن التاسع عشر. يرى يوجين أن السلطات العثمانية كانت تترك إدارة شؤون المناطق للسلطات المحلية العشائرية والزعامات القبلية. ولم يكن لدى هؤلاء سياسة أيدلوجية في إدارة نزاعاتهم مع بعضهم البعض، ولا في إدارة نزاعاتهم مع السلطة العثمانية، واتبع هؤلاء الزعماء السياسة الواقعية في إدارة علاقاتهم مع الدولة العثمانية من جهة وفي إدارة شؤون مناطقهم من جهة أخرى. وقد جرت حرب لبنان الأهلية عام 1975 بشكل مشابه لما جرى في لبنان وسوريا من أحداث عنف طائفي في القرن التاسع عشر (ص9). ويبدو أن يوجين يبني تفسيره هذا اعتمادًا على مبدأ الحتمية التاريخية الذي يقول إن التاريخ البشري لا يمكن أن يسير إلا بالمسار الذي سار به في ظل الظروف والسياقات التي حدثت به. وهذا، برأيي، خطأ يقع فيه العديد من المستشرقين والمحللين الغربيين في معرض تفسيرهم للأحداث المعاصرة في الشرق وربطها في سياقات تاريخية غير كافية بمفردها لتقديم إجابات وافية عن الأحداث المعاصرة. فالزعامات اللبنانية المشاركة في الحرب الأهلية (1975-1990)، كانت تدير شؤونها بسياسات أيدلوجية إلى حد كبير. وهذا يخالف مبدأ الحتمية التاريخية الذي يعتمده يوجين لتفسير الحرب الأهلية اللبنانية نهايات القرن العشرين بناءً على أحداث القرن السابق.
المراجع:
*- بلغة أجنبية:
Rogan. Eugene, The Damascus Events: The 1860 Massacare and the Destruction of the Old Ottoman World, (UK: Penguin Books, 2024).
Abu-Mounis. Rana, Muslim-Christian Relations in Damascus amid the 1860 Riot, (London: Brill, 2022).
*- بلغة عربية:
المبيض. سامي مروان، نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860، ط1، (بيروت: دار الريس، 2021).
[1] سامي مروان المبيض، نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860، ط1، (بيروت: دار الريس)، ص17-20
[2] Eugene Rogan, The Damascus Events: The 1860 Massacare and the Destruction of the Old Ottoman World, (UK: Penguin Books, 2024).
[3] سامي مروان المبيض، نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860، ط1، (بيروت: دار الريس)، ص12
[4] Rana Abu-Mounis, Muslim-Christian Relations in Damascus amid the 1860 Riot, (London: Brill), 2022
———————————

كتاب “أحداث دمشق: مذبحة 1869 ونهاية العالم العثماني القديم”/ محمد تركي الربيعو
شكل عام 1860 نقطة تحول كبيرة في حياة المشرق العربي، إذ شهد هذا العام ما عرف بالمذابح والحروب الأهلية التي عاشها جبل لبنان بين الدروز والموارنة، ولاحقا في دمشق عندما قامت مجموعات كبيرة من أهالي المدينة المسلمين بشن هجوم على محال وبيوت المسيحيين مما أسفر عن مقتل الآلاف يومها.
وكان المؤرخ الراحل الشهير (من أصول لبنانية) ألبرت حوراني قد اعتبر -خلال تدريسه لطلابه في جامعة أكسفورد التي بقي يدرس فيها حتى تقاعده- أن عام المذبحة هو الحدث الذي أسس للشرق الأوسط الحديث. ولعل اختيار حوراني لهذا التاريخ بدلا من تواريخ أخرى مثل تاريخ الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798، أو صعود محمد علي باشا عام 1805، أو فترة التنظيمات العثماني 1839 قد يعود للدور المركزي الذي لعبته أحداث 1860 في موطن أجداده في لبنان، كونه مثل البداية لما عرف بمتصرفية جبل لبنان وتقاسم السلطة على أساس طائفي بين الدروز والمسيحيين، وهو تقاسم بقي يحكم حياة اللبنانيين حتى أيامنا هذه.
بعد رحيل حوراني 1993 ورث عدد كبير من المؤرخين دورة التاريخ التي وضعها حوراني، مثل المؤرخ السوري زهير غزال الذي وجد أن مذبحة دمشق بدت بمثابة البداية لتراجع دور القوى المحلية وتشكل جذور المناخ الاستبدادي في سوريا المعاصرة.
ويُعتبر المؤرخ البريطاني يوجين روغان واحدا أيضا ممن ورثوا رؤية حوراني في أكسفورد، مع ذلك فقد لاحظ روغان أن نتائج ما حدث في دمشق لم يكن شبيها بما حدث في جبل لبنان على صعيد التقسيمات الطائفية، وإنما كان الحدث بمثابة تحول في تاريخ المدينة الحضري والاجتماعي. وربما هذا الشغف بلحظة 1860 قاده في بدايات مشواره التأريخي 1988 إلى مراسلات نائب القنصل الأميركي في دمشق ميخائيل مشاقة المجهولة، وهي مراسلات كتبت في الفترة بين 1859 – 1870.
من هو ميخائيل مشاقة؟
كان مشاقة 1800 – 1888 قد ولد في عائلة لبنانية، وعمل في مهن عديدة، قبل أن يستقر به الحال لاحقا في مهنة الطب بدمشق. عرف باهتماماته المتعددة في التاريخ والرياضيات والموسيقى، وترك لنا في هذا السياق كتابه الشهير “الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقية” – 1866، إلا أن المراسلات التي عثر عليه روغان في إحدى المكتبات الأمريكية -وهي مدونة باللغة العربية- تكشف لنا عن جانب آخر غالبا ما أهمل في حياة مشاقة.
إذ يُلاحَظ -مثلا في التعريف الذي خصصته ويكيبيديا لمشاقة- عدم وجود أي إشارة إلى كونه عمل في السياسة والقنصلية الأمريكية بدمشق، بينما تكشف لنا الأوراق الجديدة أنه عين نائبا للقنصل عام 1859، وظل لسنوات يرسل تقارير عن أحوال المدينة، وأهمها ربما ما جرى في مذبحة 1860. اذ تمكن مشاقة وبعد عدة أيام من المذبحة، من كتابة وإرسال تقارير حول ما جرى، وهو ما يكسب مراسلاته أهمية خاصة، كونها لم تكتب بعد الحادثة بسنوات، وإنما بأيام قليلة، مما يوفر لنا شهادة حية وجديدة حول ما جرى، كما أن ما ميز هذه المراسلات هو أنها بقيت ترسم صورة عن السياسات الحضرية والقانونية التي سنها العثمانيون في المدينة بعد المذبحة ولمدة عشر سنوات.
بين 1860 وأيلول/سبتمبر 2001
بعد اكتشاف روغان بسنوات لمراسلات مشاقة قرر السفر إلى دمشق لإعداد كتاب حول المذبحة، لكن الحظوظ أيضا لم تحالفه في هذه المهمة. فأثناء تجوله في أحد شوارع حي باب توما -والذي جرت به المذبحة- إذا بالأخبار تتحدث عن تفجير طائرات في أبراج نيويورك. بدا عام 2001 نقطة تحول شبيهة بتحول عام 1860 على صعيد الشرق الأوسط، وحتى على صعيد مؤلفات روغان. إذ اعتقد في تلك اللحظة أنه من المهم تحدي الافتراضات الكامنة وراء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على الإرهاب، من خلال كتابة تاريخ العالم العربي للقارىء العام.
ولذلك قرر تأجيل الكتابة عن دمشق 1860 والانصراف لإعداد كتابه الشهير عن العرب. بعد ذلك أكمل روغان كتاباً آخرَ عن العثمانيين في فترة الحرب العالمية الأولى، وربما ما ميز كتابه هذا هو أنه جاء بيوميات وأوراق جديدة لجنود عثمانيين كتبوها خلال الحرب.
“في عام 1870 عكف مشاقة على كتابة مذكراته، تحدث فيها عن حياته العائلية، وعالج في الجزء الخامس والأخير ما حدث في دمشق والجهود اللاحقة التي بذلها العثمانيون لإعادة بناء المدينة ودمج المسيحيين مرة ثانية. لكن ما يلفت نظر روغان أن مشاقة في تقاريره القنصلية بدا غاضبا من المسؤولين العثمانيين، بينما نراه في مذكراته يدين الضحايا المسيحيين بدلا من الموظفين المحليين العثمانيين أو مسلمي المدينة، إذ كان عليهم كما يعتقد أن يظهروا احتراماً أكبر للمسلمين وللسلطة العثمانية. كما نراه يثني على موقف العثمانيين لما جلبوهم من استقرار. يعتقد روغان أن رؤية مشاقة الأولى الراضية عن سياسات العثمانيين، لا تعكس أي اقتراب، بقدر ما تمثل مناخ مرحلة ما بعد المذبحة وسياسات فؤاد باشا، والتي خلقت قناعات جديدة لدى أبناء المدينة قائمة على التعايش”.
مذابح سوريا ما بعد 2011
كان روغان قد نشره كتابه عن العثمانيين في عام 2015 في مئوية الحرب العالمية الأولى، والتي قتل فيها جده في معركة جناق قلعة قبل وصوله لشواطىء إسطنبول. وفي ذات العام كانت سوريا تعيش في دوامة أتون حرب واسعة. وربما هذا ما جعله يقرر العودة لأوراق مشاقة، والكشف عنها في كتابه الأخير ( أحداث دمشق: مذبحة 1860 ونهاية العالم العثماني القديم).
يعتقد روجين أنه مع بدايات القرن التاسع عشر ظهرت الحركات القومية الانفصالية وانخرط المسيحيون وجيرانهم المسلمون بدءا من اليونان في عام 1821 في مذابح متبادلة، وأصبحت الإبادة هي الحل الناجع للعثمانيين في مرات عديدة. وبالانتقال إلى دمشق الثلاثينيات تبدو مدينة محافظة رافضة لدخول الغرباء. وهو ما نراه من خلال امتعاضهم من قرارات إبراهيم باشا 1832 – 1840 والتي سمحت للمسيحيين بالحصول على بعض الحقوق مثل ركوب الخيل، وإدخال القناصل الأوروبيين.
استمر العثمانيون لاحقاً في إعطاء الامتيازات للقنصليات والمحسوبين عليهم من مسيحيي المدينة، مما فاقم من غضب النخب المحلية المسلمة، والتي وجدت أن الحكومة المركزية تعمل لغير صالحهم، وفاقم تدفق الأقمشة القطنية الأوروبية الرخيصة -إلى أسواق دمشق- من غضب شرائح دمشقية واسعة ممن كانت تعمل في مهنة النسج (النويلاتية). مع ذلك لم يكن هناك ما يوحي بأن مذبحة قادمة في أفق المدينة. وربما جاء العامل الأهم في ما عُرِفَ بمذابح الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، والتي يبدو أن صداها وصل لدمشق في عام 1860. فبعد سيطرة الدروز على مدينة زحلة في ذات العام احتفل الدمشقيون في الأسواق بما اعتبروه نصرا على المسيحيين وحلفائهم الأوروبيين.
أطفال مسلمون يكنسون باب توما
في ظل هذه التوتر تذكر بعض الأخبار قيام بعض الشبان والأطفال برسم الصلبان في أحياء المسيحيين وإجبار البعض على الدوس عليها. وعلى إثر هذه الحادثة قامت السلطات المحلية العثمانية باعتقال الأطفال والشبان وأجبرتهم وهم مقيدون من أرجلهم بحمل مكانس والسير بها نحو الأحياء المسيحية لكنسها. وهنا ثارت المدينة اندفع المسلمون نحو الأحياء المسيحية داخل المدينة القديمة لتقع واحدة من أكبر المجازر التي عرفتها مدينة دمشق في القرن التاسع عشر.
9 تموز/يوليو يوم المذبحة
في 9 تموز/ يوليو حوصر منزل مشاقة وباقي المسيحيين في حيي باب توما وباب شرقي، واقتحم مقاتلون دروز ومسلمون منازل المسيحيين. أخذت زوجة مشاقة تقبل أرجل المهاجمين كي لا يقتلوهم. لم تنفع كل هذه الدعوات وقام رجل بضرب ابنة مشاقة بفأس فأصابها، كما أصيب زوجها بجرح خطير في رأسه. يومها ذُبح الرهبان والكهنة ولم تنجُ كنيسة أو دير داخل أسوار المدينة.
في هذه الأثناء، اكتفى الجنود العثمانيون بالتفرج، وشارك بعضهم أيضا في عمليات القتل. بينما تدخل الأمير عبد القادر الجزائري برفقة 1100 مقاتل جزائري دُفِعَت رواتبهم من قبل القنصلية الفرنسية.
ويبدو الدمشقيون في رواية روغان غير مكترثين بمكانة الجزائري الرمزية، إذ طالبوه بتسليم المسيحيين وعدم التدخل بشؤون المدينة. وقد أسفرت ثمانية أيام من العنف عن مقتل ما يقارب الـ5000 آلاف مسيحي، نصفهم من دمشق، والباقون لاجئون من بلدات وقرى لبنان.
فؤاد باشا: تحطيم دمشق القديمة
وشكل ما جرى “لحظة إبادة جماعية” وفق تعبير روغان، ولذلك جرى إرسال وزير الخارجية فؤاد باشا كممثل خاص للسلطان للتحقيق في ما جرى، خاصة وأن اسطنبول دعت إلى ضرورة الإسراع في معاقبة المذنبيين خوفا من من احتلال الأوروبيين لسوريا.
وعند وصول قوات فؤاد باشا لدمشق قامت قواته باعتقال 1000 رجل تقريباً -من بينهم وجهاء محليون- وأمر بإعدام أكثر من خمسين سجينا وترك جثثهم معلقة طوال اليوم في شوارع المدينة ، كما صدر قرار لاحقاً بقتل 110 جندي محلي في ساحة المدينة.
بدا فؤاد مصرا على تطبيق سياسات أكثر قسوة وإعادة الحياة للمدينة، لكن الوضع المالي لدمشق لم يكن يسمح بتطبيق إجراءات إعادة الإعمار، وظلت دمشق في هذه الفترة في مهب الريح، تعاني من ازدياد انتشار البغايا في شوارعها. ولذلك عمل فؤاد على الاتصال بمدحت باشا حاكم مقاطعة نيش في صربيا الحديثة والتي عانت من توترات طائفية مشابهة. وكانت النتيجة تحويل دمشق إلى مركز لولاية سوريا، مما سمح لها بتحصيل إيرادات وضرائب كبيرة من المناطق الأخرى.
وبذلك تمكن الموظفون العثمانيون من تنشيط المجتمع والاقتصاد وبناء أسواق جديدة وإنشاء مدارس. وقد كان لهذا التطور السريع تأثير كبير على العلاقات الاجتماعية في المدينة، ففي داخل المباني الحكومية الجديدة، أخذ مسيحيون ومسلمون ويهود يتلاقون كل صباح في المكاتب الحكومية في ساحة المرجة أثناء ذهابهم إلى العمل في المحاكم. وبحلول عقدين ركز الدمشقيون أعينهم بقوة على الحاضر والمستقبل بدلاً من الماضي وكان لديهم الأسباب للأمل في أن يتمتع أطفالهم بمستقبل أفضل.
في عام 1870 عكف مشاقة على كتابة مذكراته، تحدث فيها عن حياته العائلية، وعالج في الجزء الخامس والأخير ما حدث في دمشق والجهود اللاحقة التي بذلها العثمانيون لإعادة بناء المدينة ودمج المسيحيين مرة ثانية. لكن ما يلفت نظر روغان أن مشاقة في تقاريره القنصلية بدا غاضبا من المسؤولين العثمانيين، بينما نراه في مذكراته يدين الضحايا المسيحيين بدلا من الموظفين المحليين العثمانيين أو مسلمي المدينة، إذ كان عليهم كما يعتقد أن يظهروا احتراماً أكبر للمسلمين وللسلطة العثمانية. كما نراه يثني على موقف العثمانيين لما جلبوهم من استقرار.
يعتقد روغان أن رؤية مشاقة الأولى الراضية عن سياسات العثمانيين، لا تعكس أي اقتراب، بقدر ما تمثل مناخ مرحلة ما بعد المذبحة وسياسات فؤاد باشا، والتي خلقت قناعات جديدة لدى أبناء المدينة قائمة على التعايش.
تبقى هنا ملاحظة، وهي: أن كان روغان قد أعد كتابه بناء على الأوراق الجديدة، لكنه يذكر في المقدمة أن ما يحدث في دمشق اليوم لم يغب عن باله وهو يكتب عن الماضي، ولذلك يبدو أحيانا وكأنه يحاول القول إن ما جرى في تلك الفترة على صعيد معاقبة الجناة ودفع المدينة لإعادة الإعمار، قد ساهما في تجاوز المحنة الطائفية، فهل نشهد شيئا شبيها في مستقبل دمشق اليوم؟
———————————
سوريا والطائفية… هل نحن أمام أزمة أبدية؟/ محمد تركي الربيعو
تحديث 10 أيار 2025
كنا قد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى كتاب المؤرخ البريطاني يوجين روغان الأخير«أحداث دمشق: مذبحة 1860 ونهاية العالم العثماني القديم»، ولعل من المفيد مرة أخرى العودة له، خاصة في ظل الأوضاع التي تعيشها سوريا هذه الأيام. فبعد سقوط نظام الأسد وموت الأبد، تبدو البلاد وهي تعيش أزمة أبدية جديدة، وفق ما يعتقده، قسم كبير من السوريين، وهذه الأزمة تتعلق بالخلافات والصراعات الطائفية، التي أخذت تشهدها في عدة أماكن من الساحل السوري، وحتى بعض الأحياء ذات الخلفية الاجتماعية الدرزية في مدينة دمشق (صحنايا وجرمانا)، إضافة إلى توتر العلاقة بين السلطة الجديدة (ذات الخلفية الإسلامية) أو «السنية»، وفق تعبير البعض أيضاً، وباقي الطوائف والإثنيات (الكردية)، التي لا تخفي مخاوفها من المستقبل، ولذلك نراها تعبر عن ذلك من خلال الدعوة لتكوين نظام أقرب ما يكون للفيدراليات، الأمر الذي لا تقبل به دمشق، وحتى أوساط واسعة من السوريين، وهو ما بات يعقد أحياناً من المشهد، لينفجر هنا وهناك، تحت مشاهد مذابح طائفية، أو صدامات طائفية، بما يوحي وكأن سوريا قد دخلت في عالم أبدي من نوع آخر، يتمثل هذه المرة بالصراع الطائفي داخلها، الذي يبدو أن لا حل قريبا له، أو قد يتفاقم، ويصل إلى لحظة لا رجعة فيها.
الخلاف الطائفي
لا يعد موضوع الخلاف الطائفي في سوريا جديدا، إذ عاشت البلاد ومنذ عدة عقود حساسيات ومشاهد طائفية متعددة، عبرت عن نفسها بأشكال مختلفة، قبل أن تتفاقم خلال سنوات الثورة والحرب، وتعبر عن نفسها أيضا بمذابح قام بها نظام الأسد، أو حلفائه (حزب الله اللبناني الشيعي، وميليشيات شيعية عراقية وإيرانية)، أو من خلال مذابح ارتكبتها بعض الميليشيات الإسلامية السلفية أيضا (داعش، النصرة) وغيرها من الجماعات الإسلامية، ولذلك فإن هناك من يقرأ ما يحدث اليوم بوصفه امتداداً لما جرى في البلاد من ناحية، وباعتباره أيضا يعكس من زاوية أخرى حالة التوتر الطائفي الذي يعيشه المشرق عموماً منذ قرن تقريبا، والذي عاد وعبّر عن نفسه خلال الحرب الأهلية في لبنان (1975ـ 1990)، قبل أن يتفاقم وينفجر بعد عام 2003 في العراق، وما عرفته الأحداث لاحقا من مذابح طائفية بين الشيعة والسنة. ولذلك تبدو هنا الطائفية وكأنها قدر هذا المشرق، وأنه لا سبيل لحلها، إلا بكسر شوكة طرف لصالح طرف آخر، قبل أن يعود الطرف المهزوم لاحقاً للأخذ بثأره. والمشكلة في هذا الرأي أنه بدلاً من النظر في الطائفية بوصفها مشكلة دنيوية، ناجمة في الأساس عن صراع قوى اجتماعية وسياسية على السلطة ومواردها، وعلى الفضاء العام عموما، تعمل على «تأبيد الطائفية» دون محاولة عقلنة هذه المشكلة والبحث عن حلول جدية. وهنا يوفر لنا المشهد التاريخي السوري، فرصة جيدة لإعادة النظر في الأزمة الطائفية السورية وكيفية حلها، وهذا ما جعلنا نشير في البداية لكتاب روغان. كان روغان في كتابه قد لاحظ نقطة أساسية نعتقد من الضروري الوقوف عندها. فخلال تقليبه في أحد الأرشيفات عن المنطقة، عثر بالصدفة على أوراق كتبها أحد أعيان دمشق المسيحيين (ميخائيل مشاقة)، الذي كتب في الطب والموسيقى، وعمل في السياسة أيضا، من خلال تسلمه لمنصب نائب القنصل الأمريكي في دمشق، خلال الستينيات من القرن التاسع عشر. وخلال هذه الفترة، كان مشاقة مكلفاً بحكم طبيعة عمله بتقديم وإعداد تقارير دورية عن الأوضاع في المدينة، للقنصل الأمريكي المقيم في بيروت. ولعل حظه العاثر، جعله يكون شاهداً على مذابح 1860، التي وقعت في دمشق بحق المسيحيين، وأدت إلى مقتل ما يقارب الـ3000 شخص على أقل تقدير. يومها عاش مشاقة ظروفاً مشابهة لما عاشه كل أهالي حي باب توما، الذي جرت في داخله المذبحة، فتعرض للطعن، إلا أن الصدفة ربما حالت دون أن يقتل مع عائلته، مثلما حدث مع مئات العائلات المسيحية الأخرى. ولأن مشاقة آنذاك، كان مسؤولاً دبلوماسياً، ولذلك لم يمر سوى أسبوع على المذبحة، حتى أخذ في كتابة تقارير للقنصل الأمريكي يعلمه بها بما جرى، وما يحدث، بوصفه شاهداً، وأحد ضحايا هذه المذبحة، وأيضاً مراقبا وعارفاً بتفاصيل المدينة والنقاشات الدائرة. ومع هذه التقارير، التي كشف عنها روغان لأول مرة، نكون أمام أقدم شهادة حية عن «الطوشة»، أو مذبحة المسيحيين في دمشق. وكان من الطبيعي في ظل كتابتها بعد أسبوع، أن تعكس موقفاً ناقماً من مشاقة عن المسلمين، وما فعلوه بحق المسيحيين، كما بدا في التقرير محملاً العثمانيين مسؤولية ما جرى، وأنهم السبب الأساسي لاندلاع المذبحة، التي جاءت امتداداً أيضاً للمذابح الطائفية، التي جرت بين الدروز المسلمين والمسيحيين في لبنان، بالإضافة لعوامل أخرى داخلية يطول الحديث عنها، ويمكن العودة لفهمها من خلال مثلاً قراءة كتاب ليندا شيلشر (دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، والذي قدمت فيه قراءة دقيقة للأرضية المحلية التي قامت عليها المذبحة.
مسؤولية العثمانيين
لكن المفارقة الغريبة، التي لاحظها روغان هنا، أن مشاقة وبعد عقد تقريباً وأكثر من هذه المذبحة، نشر مذكراته، وتطرق لما جرى يومها، إلا أنه بدا فيها وخلافاً لتقاريره الأولى، التي حمل العثمانيين المسؤولية، أو لمح إلى أن ما جرى لم يكن سوى نتاج حقد وكره للمسلمين تجاه الطوائف الأخرى، بسبب صعود دورها ونفوذها مقارنة بفترة ما قبل 1830، التي لم يكن يسمح فيها للمسيحي، كما تنقل لنا بعض اليوميات والمذكرات ركوب الخيل مثلاً، أو ارتداء بعض أنواع الثياب، بينما تعدل الوضع لاحقاً مع قدوم إبراهيم باشا (1831ـ 1840)، الذي منح فيها للمسيحيين حرية ارتداء ما يرغبون فيه، وقربهم منه، وهو ما مثل مرحلة جديدة في حياة مسيحيي المدينة، التي استمرت لاحقاً مع توليهم لبعض خطوط التجارة مع أوروبا (الحرير بالأخص)، وحصول أعداد كبيرة منهم (التجار) على وثائق حماية من بعض القنصليات الأوروبية، الأمر الذي أثار امتعاض التجار وحتى الساسة الدمشقيين.
واللافت في مذكرات مشاقة أيضاً، أنه لم يتوقف عند تبرئة ساحة العثمانيين مما جرى، بل نراه أيضا عاتباً على المسيحيين، ومحملاً إياهم أحياناً مسؤولية ما جرى، بسبب قربهم من الأوروبيين بشكل مبالغ فيه. ولعل هذه المفارقة بين التقارير التي كتبها مشاقة بعد المذبحة بأيام، ومذكراته التي كتبها لاحقاً، هو ما شكل متن كتاب روغان، اذ ظل الأخير محتاراً بسبب هذا التغير، ولماذا تغير محتوى الكتابة؟ هل لأن مشاقة مثلاً كان قد استرد أمواله المنهوبة ومكانته؟ أم أن هناك سبباً يتعلق بالظروف التي عرفتها المدينة خلال عقد بعد المذبحة؟ ومن خلال الحفر في سجلات المدينة وشكل تنظيمها بعيد المذبحة، والقرارات الإدارية التي صدرت عنها، وصل روغان إلى نقطة تقول، إن موقف مشاقة (المسيحي) الإيجابي من السلطة العثمانية لاحقاً لا يعكس موقفاً شخصيا، بل هو موقف عبّرت عنه أوساط مسيحية دمشقية عديدة، بعد عقد وأكثر من المذبحة. وفي سياق تفسيره لهذا التحول، يربط روغان ما جرى من تغييرات بالسياسات الحضرية والاجتماعية، التي تبناها الحكام المحليون بعيد المذبحة، وأدت برأيه إلى تحطيم كل العالم الدمشقي العثماني القديم. فبعد وقوع (لحظة الإبادة الجماعية)، وفق تعبير روغان، وصل وزير الخارجية فؤاد باشا كممثل خاص للسلطان للتحقيق في ما جرى، خاصة أن إسطنبول دعت إلى ضرورة الإسراع في معاقبة المذنبين، خوفا من احتلال الأوروبيين لسوريا. وعند وصول قوات فؤاد باشا لدمشق، قامت قواته باعتقال 1000 رجل تقريبا، من بينهم وجهاء محليون، وأُمر بإعدام أكثر من خمسين سجينا ممن شاركوا في المذابح، وترك جثثهم معلقة طوال اليوم في شوارع المدينة، كما صدر قرار لاحقاً بقتل 110 جنود محليين في ساحة المدينة.
العلاقات الاجتماعية
بدا فؤاد مصرا على تطبيق سياسات أكثر قسوة وإعادة الحياة للمدينة، لكن الوضع المالي لدمشق آنذاك لم يكن يسمح بتطبيق إجراءات إعادة الإعمار، ولذلك عمل فؤاد على الاتصال بمدحت باشا، حاكم مقاطعة نيش في صربيا الحديثة، التي عانت من توترات طائفية مشابهة. وكانت النتيجة تحويل دمشق إلى مركز لولاية سوريا، ما سمح لها بتحصيل إيرادات وضرائب كبيرة من المناطق الأخرى. وبذلك تمكن الموظفون العثمانيون من تنشيط المجتمع والاقتصاد، وبناء أسواق جديدة وإنشاء مدارس. وكان لهذا التطور السريع تأثير كبير على العلاقات الاجتماعية في المدينة، إذ تحولت خلال عقد تقريباً من مدينة مغلقة، ذات تجارة محدودة، إلى مدينة محورية في محيطها، ومركزا رئيسيا للنشاط الاقتصادي، والأهم من ذلك أن هذا التطور الاقتصادي والحضري، انعكس أيضا على تطور مؤسسات الحكومة، ففي داخل المباني الحكومية الجديدة، أخذ مسيحيون ومسلمون ويهود يتلاقون كل صباح في المكاتب الحكومية في ساحة المرجة، أثناء ذهابهم إلى العمل في المحاكم. وبحلول عقدين ركز الدمشقيون أعينهم بقوة على الحاضر والمستقبل، بدلاً من الماضي، وكانت لديهم الأسباب للأمل في أن يتمتع أطفالهم بمستقبل أفضل. ويمكن القول إن السياسات التي اتبعها حكام تلك الفترة، على مستوى إعادة إعمار المناطق المدمرة، ومعاقبة الجناة، والتركيز على الوضع الخدمي بالمدينة (توسيع الطرقات مثلا)، ودمج باقي الطوائف في مؤسسات الدولة، كلها عوامل ساهمت في تجاوز الدمشقيين لمحنتهم بعد عقد وأكثر، وهذا لا يعني أن الحساسات الطائفية اختفت تماماً، إلا أن المسلمين والمسيحيين واليهود في المدينة، وجدوا في الإجراءات والسياسات الحكومية الجديدة، فرصة جديدة لتشكيل علاقة أفضل من السابق، وهو ما جعلهم يغلّبون فكرة التعايش على فكرة الانقسام الطائفي/ الاجتماعي الأزلي. وربما في هذه الصورة، ما قد يكون مفيداً للسلطات الحالية في سوريا، فخلافاً لنقطة أن السلطة الجديدة في سوريا هي سلطة إسلامية، وهو ما يعني استحالة إقدامها على أي إصلاحات جادة، أو تأسيس فضاء تعايشي، تشعر فيه جمع الطوائف بالمساواة والمشاركة، وهو بالمناسبة موقف، أو رأي يدعمه الكثير من الشواهد اليوم، وأهمها في رأينا عملية سلق الإعلان الدستوري، أو مؤتمر الحوار الوطني، لكن لو حاولنا أن نترك الشك أو الظنون على طرف الآن، ليس لأنها إثم، أو تدعو للفتنة، أو لتغليب (صوت الشيطان)، وفق تعبير مفتي سوريا أسامة الرفاعي، وليته لم يذكر هذه العبارة، وإنما لمحاولة البحث عن حل فعلي بعيد عن الوعي الطائفي، أو لنقل محاولة عقلنة ما يجري، فإنه يمكن القول، إن في مشهد ما بعد 1860 في سوريا ما قد يكون مفيداً لفهم تداعيات ما يجري اليوم، والبحث عن حلول للصراع الذي يبدو طائفيا في سوريا (وهو صراع سياسي كما نعتقد في جوهره)، اذ يبدو أن على الحكومة السورية اليوم أن تقوم بإجراءات عقابية أكثر حزماً، بدءا من موضوع العدالة الانتقالية، الذي قد يساهم في الحد كثيراً من روح «المظلومية السنية»، التي يشعر بها كثير من السوريين بعد سنوات الحرب، كما أن مسار العدالة الانتقالية الفعلي قد يساهم فعلاً في الفصل بين المجرمين من جهة، وتجريم طائفة كاملة (بالأخص العلويين)، إذ لا يمكن أن يبقى هذا الموضوع دون حل، ومقتصرا على زيارة بعض الإعلاميين، أو على لغة التطمينات، وإنما يكون ذلك من خلال قوانين وإجراءات واضحة، وأيضاً من خلال الكشف عن تفاصيل ما جرى أيضاً من مذابح مؤخراً، ومعاقبة المسؤولين عنها.
الملف الاقتصادي
من ناحية أخرى، يبدو أن سياسة العثمانيين بعيد المذبحة، قد تكون مفيدة أيضاً على مستوى ضرورة التركيز على الملفات الاقتصادية، إذ لا يتعلق هذا الملف فقط بتحسين شرعية هذا النظام أو ذاك، وإنما قد يحسن من المزاج العام في البلاد، ويتيح فرصاً لفتح النقاش مرة أخرى حول البلاد. صحيح أن هناك تحديات كثيرة، لكن أيضا من واجب السلطة أن تكون شفافة أكثر في هذا الجانب، وأن تبدي مرونة أوسع في القوانين الاقتصادية، بدلاً من تغليب بعض الجهات على حساب جهات أخرى ، وهو ما قد يتيح الفرصة أيضا لإعادة النظر في المشهد السياسي في البلاد عامة، وبالأخص موضوع خلق الفضاء السياسي البديل، الذي يحتاج إلى وجود قوانين تتعلق بالمجال السياسي وتنظيمه والأحزاب، وهي قوانين يبدو أن السلطة أيضا تحكيها بهدوء لتتلاءم مع الجسم الذي تتخيله، بينما بات من الواجب عليها النظر بجدية أكبر في هذا الجانب، ومراعاة أنها ترث وضعاً صعباً، وأن بعض الأقليات تعيش منذ سنوات وهي معزولة عن دمشق، ما يعني ضرورة أن تكون هناك إجراءات تدريجية للاندماج، وهذا لا يعني عدم تحميل الآخر بعض المسؤولية، لكن السلطة هي المسؤولة في النهاية عن خلق وعي سياسي ومفردات أخرى، وهي إجراءات لا يمكن أن تكون دون وجود فضاء سياسي أوسع، وصحافة وإعلام وحريات ، ومسؤولية بأهمية الاختلاف الديني حتى، بدلاً من ترك الساحة للشيوخ ورجال الدين فقط، ولا شك أن لهم الحق بذلك، ليتحدثوا باسم الجماعات الأهلية في سوريا، وكأن الطائفة هي نهاية التكوين الاجتماعي في سوريا والمشرق العربي عموما.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————
دراسة تاريخيّة تحليليّة فتنة دمشق 1860
للتحميل من الرابط
——————————–
مؤرخ سوري يستعيد أحداث «نكبة نصارى الشام»… لعلّ الذكرى تنفع/ جوان سوز
دراسة عميقة تهدف لتجنب ويلات المجازر الطائفية
آخر تحديث 08 سبتمبر 2021
في مثل هذه الأيام قبل 161 عاماً، وتحديداً في 9 يوليو (تموز) عام 1860، اندلعت فتنة طائفية عنيفة في دمشق بحي باب توما وبعض حارات حي القيمرية، نتجت عنها مذبحة رهيبة بحق مسيحيي المدينة، حيث قضى نحو 5 آلاف منهم (من أصل 22 ألف مسيحي كانوا يقطنون أسوار المدينة القديمة) على مدار 7 أيام بلياليها، بأفعال وحشية، انتهكت كل المحرمات والمقدسات.
خلفت تلك الأحداث الفظيعة، التي عرفت شعبياً باسم «طوشة النصارى»، قروحاً غائرة في الذاكرة السورية، ولم يجر تناولها إلا لماماً على يد أشخاص معدودين نجوا من المأساة أو مؤرخين سوريين ولبنانيين أو قناصل الدول الغربية في المشرق أو باحثين غربيين في التاريخ، وظل تداولها محصوراً في نطاق أكاديمي ضيق أو كتب معدودة.
وفي يناير (كانون الثاني) 2021، أصدر المؤرخ السوري الرصين، الدكتور سامي مروان مبيّض، كتابه الأحدث عن تاريخ دمشق تحت عنوان «نكبة نصارى الشام أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860»، الذي يقول في مقدمته: «ها نحن نعود إليها (المجزرة) اليوم لدراستها بعمق، ليس نبشًا لماضٍ أسود بهدف التحريض، بل لنتعلم منه، أملاً في أن لا يعاد أبداً»، داعيًا السوريين إلى التحلي بالشجاعة الكافية بدل التعتيم عليها «ملقين باللوم في ما حدث إما على الدولة العثمانية الحاكمة يومها أو على الدول الأوروبية، رافضين الاعتراف بأن أجدادهم شاركوا في مذبحة شنيعة من هذا الجحيم»، منتقداً جميع الحكومات السورية منذ نهاية الحكم العثماني قبل أكثر من 100 عام وحتى الآن، التي لم تأت على ذكر المذبحة في «الكتب والمطبوعات الحكومية».
يستخدم مبيّض أسلوباً سردياً، يجعل الكتاب أقرب إلى قصة تاريخية مشوقة، تنتظر فصولها، واحداً تلو الآخر؛ رغم جدية الموضوع وبحثه في مأساة إنسانية عميقة. ويحقق المؤرخ في الروايات المتنوعة عبر تقاطع مصادرها الموثقة، مجتهداً في بحث سياقات المأساة في السياسة والاقتصاد والدستور والعلاقات مع الغرب، بعيداً عن الأدلجة أو اتخاذ موقف التبرئة أو الإدانة المسبقة، واضعاً القارئ في أجواء التوترات، مسميّاً الأحداث والأماكن والأشخاص بكل وضوح. أما اللغة، فهي بسيطة بجمل قصيرة سلسة، تتجاوز الملل الذي قد يلازم طائفة لا بأس بها من كتب التاريخ، وهو أسلوب يتبعه المؤرخ في مقالاته وكتبه.
نستعرض فيما يلي أبرز ملامح الكتاب، الصادر في بيروت عن دار رياض الريس للنشر والكتب، الذي يتحدث عن المسكوت عنه في تاريخ دمشق الحديث، التي كانت- آنذاك- جزءًا من الإمبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط.
ماذا حصل؟
في 7 يوليو (تموز) 1860، قدم مجموعة فتيان إلى حي باب توما ذي الغالبية المسيحية، و«بدأوا يستفزون الأهالي بالصراخ والكلام البذيء ورسم الصليب بالدهان الأحمر على الأرض أو على أبواب البيوت». وبعد شكوى إلى الوالي العثماني، اعتقل الفتيان وأجبروا على تكنيس الطرقات، ثم تكرر المشهد في اليومين التاليين وبدأ الصراخ الطائفي من أهالي الفتيان بعبارات مثل: «يا مسلمون يا أمة محمد، المسلمون يكنسون حارة النصارى!»، و«يا غيرة الدين».. إلخ. تفاقم الوضع فجأة وهجم أهالي الأحياء المجاورة بالمسدسات الحربية والسيوف والفؤوس على الحي المسيحي، فانسحبت وحدات الحماية العثمانية وبدأت مجزرة، قضت على نحو ربع المجتمع المسيحي في دمشق، رافقتها أعمال اغتصاب ونهب وحرق للبيوت والأرزاق والمصانع والكنائس، وكذلك القنصليتان الروسية والأميركية.
شارك الرعاع المعبأون طائفياً في المذبحة، ولولا أن فتحت أسر مسلمة كثيرة أبوابها للمسيحيين مثل الأمير عبد القادر الجزائري ووجهاء آخرين من أسر المهايني والموصلي والعمادي والنوري والعابد، لكان الوضع أكثر قتامة وبشاعة. كما وصلت أعمال الفوضى إلى ريف دمشق. ولم تتوقف الأعمال الوحشية.
وينقل الكتاب عن الدبلوماسي البريطاني سايرس غراهام وصفه للمشهد بالقول: «في هذا المساء (26 يوليو/ تموز) مررت بالحي المسيحي… فلم أجد إلا بقايا منازل… الجثث كانت تملأ المكان… لقد تم حرق الحي المسيحي بأكمله ولم يسلم منه بيت واحد».
أسباب الفتنة
تحرى الكاتب أصول تاريخ مأساة 1860، التي سبقتها بعام واحد فتنة درزية- مسيحية بدأت نذورها وبشاعاتها في جبل لبنان، ووصلت الفتنة إلى مدينة زحلة (غربي لبنان)، حيث فتك الدروز بأهلها المسيحيين في يونيو (حزيران) 1860، واحتفل بعض المسلمين في دمشق بما سموه «فتح زحلة» وزينوا حاراتهم وبيوتهم. وأدى ذلك إلى موجة لاجئين مسيحيين من زحلة إلى دمشق، وبخاصة حي باب توما، حيث كانوا على موعد مع مجزرة أخرى بعد أقل من شهر من لجوئهم!
كما يستعرض الأسباب المحتملة للمجزرة ضمن سياقات مختلفة، أبرزها الاقتصادي، فقد كانت دمشق المدينة الأهم في المشرق في مجال الصناعة الحريرية، وبخاصة أيام الحكم العلوي (1831-1840) عند ضم بلاد الشام إلى مصر تحت حكم وقيادة محمد علي وابنه إبراهيم. لكن، بعد أفول الحكم العلوي بمساعدة إنجليزية للعثمانيين، زادت ضرائب التصدير إلى 12 في المائة، وخفضت ضرائب الاستيراد على المنتجات الإنجليزية إلى 5 في المائة، إلا أن صناع وتجار الحرير المسيحيين واليهود تفوقوا على نظرائهم المسلمين بحكم صلاتهم بالغرب واستحواذهم على الوكالات التجارية، وكذلك حصول بعض كبار التجار والصناعيين منهم على نوع من حماية القناصل، فيما تراجع دور وثروة التجار والصناعيين الملكيين. وقد ولد ذلك نوعاً من الغيرة، إذ إضافة إلى تجارة وصناعة الحرير، عمل التجار المسيحيون واليهود، مقام البنوك التجارية، التي لم تكن موجودة من حيث الإقراض وفتح اعتمادات الاستيراد وتحصيل الأموال من الخارج. وقد أضاء المؤرخ على جزء من ذلك بذكر قصة الشيخ عبد الله الحلبي، الذي كان أحد أشهر رجال الدين وتاجراً للحرير، حيث وجهت إليه أصابع اتهام قتل تاجر الحرير الدمشقي الشهير فرنسيس مسابكي أثناء الفتنة. ويضيف الكتاب أنه «جاء في التقارير الدبلوماسية الروسية أن الشيخ الحلبي اقترض 800 ألف قرش من المسابكي لأجل تجارته، وقيل إنه أمر بقتله ليسقط الدَين مع هلاك صاحبه».
المواطنة والحداثة
خلال فترة الحكم العلوي، أقر الحاكم إبراهيم بن محمد علي، سلسلة إصلاحات كرست مبدأ المساواة الكاملة بين المواطنين، إذ لم ترق تلك الإصلاحات لجزء معتبر من مجتمع المسلمين الدمشقيين وقياداتهم الدينية والتجارية، وبخاصة بعد قرون من الشعور بالتفوق وممارسة التمييز العثماني ضد «الذميين من أهل الكتاب» في لون اللباس وضرورة إفساح الطريق. وزاد من حدة الاحتقان، تنصيب عدد من المسيحيين في المجالس الاستشارية والتنفيذية مثل حنا البحري. كما سمح الحاكم إبراهيم بوجود البعثات الدبلوماسية وافتتح طريق الحداثة والتعليم وإصلاح المؤسسات والتمثيل ونظام التجنيد العسكري.
وحتى بعد سقوط الحكم المصري وتولي العثمانيين زمام الأمور من جديد، تواصلت الإصلاحات الدستورية وأقرت ونفذت ابتداءً من عام 1856. ويقول الكتاب: «كان الوضع الأمني في المدينة حرجاً بسبب سلسلة من الإصلاحات العثمانية، المعروفة بـ«التنظيمات»، والتي بدأت في إسطنبول وفرضت التساوي التام أمام القانون بين المسلمين والمسيحيين «الذميين»… ألغيت كلمة نصراني أو «ذمي» من السجلات الحكومية في دمشق، واستبدلت بها كلمة «كريستياني (مسيحي) من رعايا الدولة العثمانية… زاد من غضب المشايخ فرض الضرائب على العلماء وأئمة دمشق، بعدما كانوا معفيين منها تماماً في الماضي، واستخدام تلك الضرائب لتحسين الأحياء المسيحية».
إعدام والي دمشق والعقاب الجماعي
أرسل السلطان العثماني عبد المجيد وزير خارجيته فؤاد بعد المجزرة بأسبوع، ولكن بعد الخراب الكبير، ورافقه جيش مؤلف من 3 آلاف جندي لاستعادة الأمن والأمان. ويشرح الكتاب ما حصل بعد المجزرة: «أحضرت فرنسا جيشاً جراراً لدخول دمشق… وشكلت لجنة دولية للتحقيق… ولقطع الطريق على التدخل الدولي، صدرت أحكام بإعدام والي الشام العثماني أحمد عزت باشا ومعه قائد حامية حاصبيا عثمان بك وقائد حامية راشيا محمد علي بك والقائد العسكري لمنطقة باب توما علي بك، ودفنوا في دمشق».
ويذكر الكتاب شيئاً من محاضر التحقيق، التي جاء فيها أن «الوالي كان متخوفاً دوماً من المسيحيين، وكان يراهم عصاة للدولة».
كما قسمت لجنة التحقيق التهم إلى 3 أقسام: سالب ومهيج وقاتل. ورأى الوزير فؤاد باشا أن المسلمين والمسيحيين مسؤولون عما حصل. وبدأت عملية جمع المسروقات وجرى إفراغ معظم بيوت حي القنوات الدمشقي بالقوة وإعطاؤها للمسيحيين وإعادة المسروقات لأصحابها. كما أعدم بضع مئات من المشاركين في الساحات أمام الناس وسجن آخرون، ونفي جمع من المشايخ والوجهاء، ومنهم عبد الله الحلبي. واشتدت حملات التجنيد لأهالي دمشق في الجيش العثماني، وهم له كارهون.
أما يهود المدينة، فلم يصب أحد منهم بأذى، بل أخذ بعضهم أطفالاً المسيحيين للإتجار بهم كعبيد. وذكر القنصل اليوناني في دمشق: «تجب الإشارة هنا إلى أنه في ظل الفوضى العارمة بدمشق، لم يؤذ يهودي واحد». كما ذكرت جريدة «التايمز» أنهم «احتفلوا بالمذابح وقدموا عصير الليمون للمجرمين الخارجين من الحي المسيحي. كما وجهت إلى اليهود اتهامات بشراء المسروقات بثمن بخس، واعتقل عدد منهم، وتوفي أحدهم في المعتقل. كما تعرض بعض اليهود لابتزاز مسيحيين، مقابل عدم الشهادة ضدهم، وبخاصة أن لجنة التحقيق صدقت أي مسيحي فيما يدعي، مهما كان ادعاؤه».
أقفل المحضر في سبتمبر (أيلول) عام 1860 ونزح آلاف المسيحيين الدمشقيين إلى بيروت والأراضي المصرية الواقعة تحت حكم محمد علي، وبخاصة من الصناعيين والتجار. وانهار الاقتصاد السوري بعدها وخرجت إلى النور طبقة جديدة من الأعيان والوجهاء والسياسيين، بعد التخلص من الطبقة القديمة.
لماذا فتح الجراح
يقول المؤرخ مبيّض في المقدمة: «لقد غيرت تلك الأحداث مدينة دمشق جذرياً وكشفت عن خلل رهيب في بنيتها الاجتماعية والسياسية والطائفية».
ويخرج بخلاصة قاسية عند المقارنة مع ما يحدث اليوم في سوريا بقوله: «فمجازر اليوم خير دليل على أننا لم نتعلم شيئاً من أحداث 1860، وما زلنا كما كنا في منتصف القرن التاسع عشر مجتمعاً قبلياً وقابلاً للانحراف نحو الهاوية».
ويضيف: «في الذكرى 161 لأحداث الستين، يجب أن نقف عليها بشجاعة ونحاول فهمها بتمعن، بعيداً عن الشحن الطائفي والمذهبي، لبناء هوية وطنية حقيقية ومجتمع غير قابل للاختراق».
فهل تفتح هذه المكاشفة التاريخية وغيرها الباب أمام تحقيق أمنية المؤرخ. ليس مطلوباً التفاؤل أو التشاؤم، لعل العقلانية هي أكثر ما يحتاجه السوريون في مقاربة ماضيهم، وحاضرهم أيضاً.
لتحميل كتاب نكبة نصارى الشام
————————–
محمد علي باشا وتوسعاته في بلاد الشام
للتحميل من الرابط
—————————-
التنطيمات العثمانية وآثارها على الولايات العربية
للتحميل من الرابط
———————————-
صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين“
للتحميل من الرابط
————————————
مسيحيو سورية/ إياد العبدالله، عبد الله أمين الحلاق
14-09-2017
يحاول هذا البحث توثيق المشهد المسيحي في سوريا بعد الثورة وقبلها، دون ادعاء الإحاطة بكافة تنويعات المجتمعات المسيحية السورية. وللبحث ملحقان من إعداد رند صباغ، الأول يتناول المسيحيين السوريين في زمن الثورة، والثاني حول مسيحيي يبرود.
ينشر هذا البحث بتعاونٍ ودعمٍ من المؤسسة الأورو-متوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان.
أولاً – الصعود إلى «الشأن العام»
في نطاق «الجماعة المسيحية»
دخل مسيحيو سورية إلى الحقبة العثمانية وهم مثقلون بأعباء وأوضاع قاسية، ذلك أنه لم يكن قد مرّ على الحروب الصليبية سوى أقل من ثلاثة قرون، إلا أن آثارها بقيت قائمة على سكان المنطقة، مسلمين ومسيحيين. ثمة نظرة تجاه المسيحيين ستواكب تلك الحروب من قبل عامة المسلمين، وستُماهي بين الغزاة وبين مسيحيي المنطقة الذين سيُنظر إليهم على أنهم طابور خامس بين المسلمينحسين العودات، العرب النصارى، دار الأهالي، دمشق، ط1: 1992 ص142، 143. وينظر أيضاً: نقولا زيادة، المسيحية والعرب، دار قدمس، دمشق، ط3: 2001، ص231.. وربما كان مما كرّس هذه النظرة في الأذهان، ما سيقوم به المماليك المنتصرون الذين قاتلوا الصليبيين وصدّوهم، إذ أنهم، أي المماليك، سيستهدفون النصارى في سورية ومصر بمراسيم وسياسات تضيّقُ عليهم وتحطّ من شأنهمحسين العودات، المرجع السابق، ص144..
كانت هذه هي حال المسيحيين عندما جاء العثمانيون، الذين كان عليهم التعامل مع واقع معقد، قوامه هذا التعدد الملّي الواسع في إمبراطوريتهم المحدثة. فكان «نظام الملل» العثماني هو ما تمّ إقراره للتصدي لهذا الوضع. ويقتضي هذا النظام تقسيم السكان بحسب مللهم، وإعطاء كل ملّة حقوق التصرف في شؤونها الخاصة، الدينية والتعليمية والطقوسية وقضايا الأحوال الشخصية، وهو ما يعني أن نظام الملل هذا شكل انفراجاً كبيراً بالنسبة للمسيحيين مقارنة بوضعهم أيام المماليك. أما بالنسبة للعثمانيين، فقد كان أداةً لتنظيم العلاقة مع هذا التنوع داخل دولتهم، ففي الوقت الذي يتيح نوع من الاستقلال الذاتي لهذه الملل، فهو في ذات الوقت يسهّل ربط هذه الملل بالمركز عبر سياسات وأنظمة دولتية فوقية، كالجباية مثلاً، أو عبر النخب المناط بها إدارة هذه الملل. وكمثال على كيفية اختراق هذه الملل وصناعة النخب فيها نذكر، على صعيد المسيحيين، كيف قام العثمانيون بِرَهن «الكنيسة العربية للخارج»، وذلك عندما أُلحق «الأقباط واليعاقبة والسريان والنساطرة» بالبطريرك الأرمني، وكذلك بطريركية أنطاكية الأرثوذكسية، ومثلها بطريركية القدس، فكانتا تحت نفوذ بطريركية القسطنطينية، التي يهمين عليها اليونانيونعز الدين عناية، المسيحية العربية: تشظي الهوية ومستخلصات الوعي التاريخي، من كتاب: الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1: 2013، ص202 و203..
لقد كانت علاقات العثمانيين مع اليونان سابقة على ذلك، وتعود إلى بدايات الدولة العثمانية حين أخذت تتوسع نحو أوروبا مما أخاف اليونانيين الأرثوذكس الذين تطلعوا إلى مدد من أوروبا الكاثوليكية لصدّ هجوم المسلمين الأتراك، لكن الرد كان من قبل روما، مقر البابا، المدد مقابل خضوع الكنائس الشرقية لهاأسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، ج2، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، طبعة 1988، ص358 و359 و360.. وبالفعل ستسعى نخب دينية أرثوذكسية يونانية نحو روما للتفاوض مع روما التي ستطرح صيغة اتحادية بين الكنيستين سيتم التعبير عنها في مؤتمر فلورنسا الذي أعلن في بيانه عن انهدام «الحائط الفاصل بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية»، وعلى تنصيب البابا في روما مرجعاً أولاً لكل المسيحيين في العالمللاطلاع على البيان كاملاً، المرجع السابق، ص 366 و367 و368.
لكن، وعلى الرغم مما يَعِدُ به هذا الاتفاق من إنقاذ المسيحيين الشرقيين من المسلمين، إلا أن ردة فعل اليونانيين ستكون غاضبةً ورافضةً له، بل وسيُنعت من وقع عليه بالخيانة والهرطقة. وتفاعلت الأمور إلى درجة أن مالَ بعض الأكليروس والشعب نحو الأتراك المسلمين، الذين سيتدخلون لتنصيب وتعيين قيادات دينية تدين بالولاء لهم، مع تأييد شعبي كبيرالمرجع السابق، ص368 و369.. كان لصالح الأتراك أن لا تتحد الكنيستان، لذلك سعوا إلى إرضاء اليونانيين بوصف بلادهم هي حائط صدٍّ بوجه أوروبا ومنطلقاً لغزوها، وكذلك الأمر بالنسبة للأرمن الذين اعتُبروا حائط الصد الأول بوجه الروس، وربما كان هذا أحد أسباب إلحاق الكنائس العربية بالبطريرك الأرمني وبطريركية القسطنطينية.
ذكرنا ما سبق للإشارة أيضاً إلى أمرٍ سيشترك فيه أرثوذكس المشرق العربي، في سورية خصوصاً، مع أرثوذكس اليونان، وهو تجلى خصوصاً بعد الاختراق الأوروبي للدولة العثمانية، حيث تراوحت ردّات فعل الأرثوذكس العرب بين الحذر منه والرفض على الرغم من ادعاءات حماية المسيحيين في المشرق التي قدمها الأوروبيون. كان ذلك قبل تصاعد المد القومي بين شعوب الدولة العثمانية، عندما كان العامل الديني هو الأساس في تصنيف الذات والآخرين. لذلك لن تُسجَّلَ ردّات فعل عنيفة بين أوساط الأرثوذكس العرب على سيطرة اليونانيين على كنائسهم. وكذلك، كان التدخل الروسي مرحباً به في أوساط عديدة منهم. فهؤلاء جميعاً هم «أخوة في الدين»، وسينظرون على العكس من ذلك للتدخل الغربي الأوروبي «الفرنسي والانكليزي خصوصاً»، لا سيما وأن هذا التبشير الديني كان أحد مظاهر هذا التدخل. ويرصد أسد رستم هذا الموقف من خلال تقرير أعدّه السفير الفرنسي في الأستانة 1740، يرى فيه أن «ما يحيق بالمسيحيين من ضيم في ظل الأتراك العثمانيين إنما ينشأ عن مسيحيين آخرين يعاكسون إخوانهم»، حيث وقف الروم الأرثوذكس مع الدولة العثمانية في الاعتراض على التبشير الديني، مطالبين بالحد منه والالتزام ضمن حدود تواجد قنصليات بلدانهم ومواطنيهم وتجارهم. إذ إن «السبب الذي يبرر وجود هؤلاء الآباء هو القيام بالخدمات الروحية لهؤلاء التجار والقناصل»، ولذلك «لا يجوز لهم أن يقبلوا رعايا السلطان في كنائسهم ولا أن يزوروهم في بيوتهم أو أن يعلموا أطفالهم في مدارسهم لإخضاعهم إلى سلطة البابا». ثم يروي التقرير كيف استطاع الروم الأرثوذكس استصدار براءتين في 1725 «أوجبتا منع المرسلين من دخول بيوت المسيحيين رعايا السلطان وإكراه الذين اتبعوا عوائد الإفرنج على العودة إلى دينهم وطرد المرسلين من الأماكن الخالية من القناصل». ويضيف أن «هذه الأوامر نفذت في ديار بكر والموصل وبغداد وأرضروم وأنها على وشك التنفيذ في دمشقأسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى، ج3، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، طبعة 1988، ص160 و161 و162.. يروي ميخائيل مشاقة بعض فصول هذا التناحر بين الأرثوذكس والكاثوليك في حلب، ويعيد أسباب هذا التناحر، من وجهة نظره، إلى «استبداد» بطريرك الروم الأرثوذكس الذي أمعن في محاولات التحكم وإذلال الكاثوليك ومطارنتهم، حتى أنه أودع بعضهم السجن. ويعيد مشاقة ذات التهمة الموجهة للكاثوليك على أنهم يتواصلون مع «الإفرنج»ميخائيل مشاقة، مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان، مصر، طبعة 1908، ص76 و77.
كانت حلب أحد الأمكنة التي تعكس حدة هذا الصراع، ودور كل من روما والقنصليات والعثمانيين والكنائس فيه، بل إن هناك من يذهب إلى أن أغلب مسيحيي حلبوكانوا يشكلون حوالي 20% من سكان المدينة آنذاك، بحسب ما ذكره: برنار هيبرجي، هنديّة الصوفية الآثمة 1720 ـ 1798، نقله عن الفرنسية: جان هاشم، دار النهار، بيروت، ط1: 2010، ص20. كانوا من الأرثوذكس، لكن لم ينته القرن الثامن عشر إلا وقد أصبح الكاثوليك هم الأكثريةللأسف سقط المرجع منا.، وربما كان هذا الانتقال نحو الكثلكة هو أصل بروز طائفة مسيحية جديدة هي «الروم الكاثوليك» التي يذهب شاهين مكاريوس إلى أنه ليس في الأرض كلها مثل هذه الطائفة «إلا في بلاد الشام والبلدان التي يتردد عليها أهل الشام مثل مصر وأميركا وغيرها»شاهين مكاريوس، حسر اللثام عن نكبات الشام، مصر، ط1: 1895، ص5 و6. وهو يضيف الموارنة أيضاً.. ويروي أسد رستم عبر صفحات طويلة تفاصيل هذا الصراع، مظهراً كيف أن الكثلكة اخترقت حتى بطاركة أرثوذكسيين، وكيف أن بعضهم اندفع إليها، إما بدافع الرغبة بالاتحاد بروما وإما لأنه تأثر بالكاثوليكية عبر مدارسها ونشاط المبشرين المدعومين من بعض القنصليات، ولا سيما فرنساأسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكيا العظمى، ج3، مرجع سابق، من ص103 وحتى 155..
كانت واقعة التعدد ضمن المسيحيين أنفسهم قد فرضت نفسها على نظام الملل العثماني، فكان في بداياته يتعامل معهم على أنهم «ملّة واحدة»، لكنه سرعان ما سيعترف بهذا التعدد، لتغدو كل طائفة مسيحية «ملّة» بحد ذاتها، تتمتع باستقلالها الذاتي فيما يخص شؤونها الداخلية من طقوس وعبادات وأحوال شخصية، طالما أنها تدفع الجزية بانتظام أو لا تشكل خطراً، لا سيما بعد أن أخذ نفوذ الغرب يشتد في السلطنة. سيلعب «قانون الملّة» هذا دوراً في تعزيز مفهوم الجماعة المسيحية ومفاهيم التضامن بين أبنائها، لا سيما وأنه خارج هذه الجماعة، أي في المجال العام. لقد كان جميع المسيحيين محكومين بالقواعد العامة المستمدة من الشريعة الإسلامية، وبهذا، فإنه من الطبيعي أن يشعر المسيحي بالغربة أو القلق عن هذا «المجال العام»، ليغدو مجال الجماعة مبعث السكينة والطمأنينة. نستخدم هنا مفهوم «المجال العام» بدلالات محددة، فهذا المفهوم مع الآليات التي سترتبط به لن يبدأ بالتبلور إلا في القرن التاسع عشر تقريباً، مع استفحال التدخل الغربي، في السلطنة، فحتى ذلك الحين لم تكن هذه الأخيرة مركزية أو قادرة على مسك هذا المجال الواسع الذي تحكمه، وأن تصهره أو تلحقه بها على نحو قوي. لكن مع ذلك، يبقى أن المساحات العامة الموجودة كانت تملأها الدولة العثمانية المسلمة أولاً، ومن ثم رعاياها المسلمون، وهو ما يعني بالتالي أن ثمة حدوداً يقف وراءها المسيحيون، وهي ليست جميعها مرسومة بالضرورة من قبل المسلمين، دولة أو مجتمعاً، بل بعضها سيقوم المسيحيون برسمه لدواعي الهوية والتضامن والعيش.
نحو الفضاء العام
ما سُقناه من كلام عن «الجماعة المسيحية» أو عن الحدود الخاصة بها، لا يعني أن المسيحيين كانوا في انقطاع تام عن المجتمع، بل كان ثمة حضور في بعض المساحات التي تنتمي إلى الحقل العام، كالاقتصاد مثلاً. على سبيل المثال، لم يكن المسيحيون خارج اللوحة الاقتصادية في مدينة حلب، التي كانت عامرة ثم ما لبثت أن تراجعت بعد ازدهار الملاحة الأوروبية في المحيط الهندي والحرب العثمانية الصفوية في بدايات القرن 17، التي قضت على التجارة مع الخليج العربي وما بعده، وحرمت حلب من تجارة التوابل. لكن المدينة سرعان ما استعادت عافيتها الاقتصادية عبر تجارة الحرير ومنتجات الأرياف المجاورة والمصانع المحلية مع إستانبول والقاهرة خصوصاً، ثم مع الغرب خلال القرن 18 حيث كانت حلب مركزاً لتصدير النسيج والقطنيات. المسيحيون لم يكونوا غائبين عن هذه الحياة الاقتصادية، وكغيرهم من الحلبيين، خلال القرن 16، كانت «أنظار أكثريتهم متجهة على الأرجح صوب العالم التركي والفارسي وقد استمدوا منهما ليس فقط مواردهم المادية، بل أيضاً أذواقهم ومرجعياتهم الثقافية. وابتداءً من القرن السابع عشر تحولت أنظارهم ناحية أخرى، فانفتحوا أكثر فأكثر على أوروبا المتوسطية وتزايدت رغبتهم في ثروات الغرب المادية وغير المادية»برنار هيبرجي، مرجع سابق، ص19 و20..
يرصد ألبرت حوراني هذا الصعود الاقتصادي، الذي انعكست نتائجه على صعد الثقافة والتعليم، وكذلك على الحضور السياسي، لا سيما وأن المسيحيين أصبحوا تحت حماية ورعاية الدول الأوروبية وروسيا، وفق معاهدات مع الدولة العثمانية كانت فرنسا هي السبّاقة لها منذ أيام السلطان سليمان القانوني. لقد «كانت الطوائف الأرثوذكسية وغيرها من الطوائف المسيحية تزداد ثروة وثقافة ونفوذاً طوال القرن الثامن عشر. فالحماية الأجنبية لم تمنحها امتيازات سياسية فحسب، بل وفرت لأبنائها أيضاً، وهم العاملون بالتجارة مع أوروبا في ذلك الحين، منافع تجارية ومالية. وقد اغتنى، بنوع خاص، اليونانيون والأرمن والمسيحيون السوريون الناطقون بالضاد، فارتفع مع هذا الغنى مستواهم الثقافي واشتد شعورهم الطائفي»ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة 1798ـ 1939، ترجمة: كريم عزقول، دار النهار، بيروت، ص58..
العلاقات الثقافية بين مسيحيي سورية والغرب تعود حتى إلى ما قبل الاختراق الأوروبي للدولة العثمانية، وإن كان هذا متاحاً لكاثوليك سورية أكثر من غيرهم، لا سيما موارنة حلب يذكر برنار هيبرجي أنهم يأتون في المرتبة الرابعة بين مسيحيي حلب، من حيث الحضور والعدد، بعد الأرثوذكس والأرمن والسريان. وثمة اختلاف حول أصل تواجدهم في حلب، هناك من يذهب إلى أنهم قدموا من لبنان، وهناك من يشير إلى عراقتهم في المدينة. مرجع سابق، ص22. ولبنان. وإن كانت الدوافع الدينية وراء هذه الصلات القديمة، إلا أن نتائجها ستكون لافتة على الصعيد الثقافي أولاً، ثم السياسي مع قدوم الأوربيين الذين سيجدون نخبة محلية من مسيحيي الشرق تتكلم لغاتهم ومطلعة على ثقافاتهم، مما سهّل عملية الاعتماد عليهم كمترجمين ووسطاء مع المجتمعات المحلية والنخب السياسية والثقافية في الدولة. لكن مع تزايد التغلغل الأوروبي الذي جاء مع إرسالياته التبشيرية ومدارسه، سيأخذ التعليم شكلاً أكثر تنظيماً بما يتوافق مع المصالح الأوروبية الثقافية والسياسية والاقتصادية، فهدف إلى إعداد كوادر يمكن الاعتماد عليها، معظمها من المسيحيين، وسيكون لهذا أثر في خلق تمايزات اجتماعية، طبقية ومهنية وثقافية، ستبدو أنها لصالح المسيحيين الذين أخذوا يظهرون في المجتمع بشكل جديد غير معهود سابقاً.
يشير شاهين مكاريوس إلى علاقة الأجانب بالتعليم، فيذهب إلى أنهم وحيث وُجدوا، «تكثر المدارس والكتب، وحيث يقل عددهم تقل المعارف، وليس للحكومة من المدارس إلا الشيء القليل وهي قاصرة على أولاد المسلمين». ثم يذكر النهضة التي عاشتها بيروت وطرابلس ودمشق بسبب هذه المدارس، وكيف «دخل الشبان والشابات والصبيان والبنات مدارس الإفرنج على أشكالها، فنبغ منهم الأفراد وانتشر المتعلمون في كل أقصاء البلاد ونزح فريق كبير منهم إلى القطر المصري وأميركا وأوروبا. والسوريون اليوم أصحاب القلم في كل البلدان العربية فهم يحررون كل جريدة عربية تذكر في القطر المصري وغيره من الديار العربية»شاهين مكاريوس، مصدر سابق، ص11 و12.. أما على صعيد مسلمي سورية، فحتى عام 1860 كان التعليم بيد علماء الدين يمارسونه في المدارس التقليدية والكتاتيب والمكاتب. حتى المدارس الثانوية «الرشدية» التي أنشئت في مطلع الستينيات لتقديم تعليم مختلف وأكثر عصرية، قام العلماء بالسيطرة على إدارتهافيليب خوري، أعيان المدن والقومية العربية، ترجمة: عفيف الرّزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1: 1993، ص53.. كانت المدارس الكاثوليكية هي السباقة في الوجود بفضل الإرساليات المدعومة من قبل فرنسا التي استطاعت منذ وقت مبكر انتزاع حق حماية المسيحيين عام 1535، وتركزت معظم هذه المدارس في لبنان وحلبألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص77.. أما في دمشق، فإنه حتى عام 1880 لم يكن هناك إلا أربع مدارس مسيحية، كانت «تخدم أساساً الأقليات الدينية في المدينة، لكن القليل من أبناء النخبة المسلمة بدأ بالانتساب إليها بعد فترة من الزمن» فيليب خوري، مرجع سابق، ص54.. كان تأثير هذه المدارس كبيراً بعد عام 1860، فقد كان طلابها «يحصلون على تعليم ثانوي جيد يشمل العلوم الحديثة واللغات الأوروبية»، كما «أسهم التعليم التبشيري كذلك في «نهضة» اللغة العربية وإحيائها، وعلى الرغم من طبيعتها الطائفية، فإنها خلقت جواً ثقافياً يتمتع بمسحة علمانية في دمشق»المرجع السابق، ص54..
لقد كان اهتمام المسيحيين في حلب باللغة العربية سابق على هذا التاريخ، بل وحتى على تأثير المدارس التبشيرية، وذلك على يد «الفئة الوحيدة التي كانت تملك ناصيتها يومذاك، (…) [أي] مشايخ الدين الإسلامي»ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص78.، وبرز منهم على هذا الصعيد، «اللغوي الماروني جرمانوس فرحات 1670 – 1732»، أسقف حلب، والمعروف بمؤلفه في نحو العربية واسمه بحث المطالب، والذي يتحدث عنه مارون عبود قائلاً: إن لهذا الأسقف المولود في القرن السابع عشر فضل التأليف في النحو، فهو أول نصراني ألَّفَ فيه، بعدما أخذ هذا العلم عن الشيخ سليمان النحوي المسلم في حلب»عز الدين عناية، مرجع سابق، ص203..
فيما يبدو، فقد كانت معظم المدارس الكاثوليكية ذات توجهات محافظة تعنى بالأمور الدينية وبإعداد كوادر تقنية تلبي حاجات الوساطة والإدارة التي يحتاج إليها الأوروبيون أو السوق، بينما كان اهتمام المدارس البروتستانتية يتوجه معظمه نحو تدريس الآداب واللغات والعلوم، ولهذا مثلت البروتستانتية عند البعض قوة تحررية لا بد من السير في ركابها لكسر القوالب الجاهزة والانطلاق نحو عالم أرحب. وهذا ما فعله مثقفون مسيحيون آنذاك، كبطرس البستاني الذي غادر المارونية إلى البروتستانتية وكان هذا يعني، بحسب الحوراني «أن تذهب إلى آخر مدى نحو التأكيد على الحق في أن تتبع ما يمليه عليك عقلك وضميرك»ألبرت حوراني، الإسلام في الفكر الأوروبي، الأهلية للتوزيع والنشر، بيروت، 1994، ص204. وحول ذات الموضوع ينظر: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص127.. ولإعطاء فكرة عن طبيعة الأجواء المتفاعلة مع المدارس والكليات البروتستانتية، نذكر الحادثة التي يوردها ألبرت حوراني في الكلية الأميركية في بيروت عام 1882، حيث فُصل مدرس العلوم الطبيعية لأنه كان مؤيداً لنظرية داروين، وتضامناً معه استقال بعض معلمي الكلية وعلى رأسهم المعلم الشهير فان ديك. وعلى إثر هذا قامت شخصيات شامية، على رأسها المفتي محمود حمزة والأمير عبد القادر الجزائري، بإرسال رسالة احتجاجية على تصرف الكلية، ومؤيدة لما قام به فان ديكألبرت حوراني، الإسلام في الفكر الأوروبي، مرجع سابق، ص204..
هذه المدارس من حيث توجهاتها ومضامين مناهجها لم تكن معزولة عن الحركية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ميزت الدولة العثمانية في قرنيها الأخيرين بعد الحضور الأوروبي فيها، والذي أطلق العنان لصعود قوى اجتماعية جديدة، معظمها من المسيحيين، على حساب القوى التقليدية التي تراجعت مكانتها وقوتها. ولهذا، فإن النخب التي ستتخرج من هذه المدارس لم تكن معزولة بدورها عن هذه الحركية، بل ستكون لسان حالها في معظم الأحيان، ويصحّ هذا على النخب المسيحية والمسلمة، لكن التنوع داخل النخب المسيحية كان أكثر وأغنى من ذلك الذي نجده بين أوساط النخب الإسلامية. نَظَرَ بعض المسيحيين للتفوق الأوروبي على أنه تفوق مسيحي، وأن الحداثة هي منتج مسيحي أيضاً، وكان هذه الرأي أكثر انتشاراً في أوساط كاثوليكية، الموارنة خصوصاً. لكن آخرين ذهبوا عكس ذلك، أي أن الوصول للحداثة لن ينجح إلا عبر تحييد المسيحية والدين عموماً عن الشأن العام والدولة، بل وأكثر، على جثة الأكليروس «المسيحي والإسلامي»، أو على حسابهألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص300.. (أديب اسحق، شبلي شميل، فرح أنطون). لقد امتلك المثقفون المسيحيون هامشاً أكبر من النخب الإسلامية في التطرق لقضايا التغيير والدين والمجتمع، ذلك أن الحداثة التي أخذت تنتهك الخصوصيات دون هوادة، وتناضل لكي تعلن نفسها مرجعية لهذا العالم وسيدة عليه، كانت ردةُ فعل النخب الإسلامية عليها هي إعلاء فضائل التعصب «جمال الدين الأفغاني، مثلاً» والذاتية والمفاضلة بين الأمم والأديان. بمعنى آخر، كانت هذه الحداثة هي بمثابة اعتداء وتهديد للذات تستوجب الردّ عليها ودحرها. البعض لن يغفل عّما جاءت به الحداثة من انجازات وتفوق لأهلها، وسيقر بذلك لكن دون التسليم لها بالتفوق، أو إذا ما تفوقت هي بالعلم والماديات فإن التفوق الأخلاقي والروحي هو ما تفتقر إليه وهو ماركة مسجلة للإسلام وأهله. العودة إلى جوهر الإسلام، هو الكفيل إذاً بتحقيق الكمال لمجتمعاتنا، فهو غير المسيحية المجافية، بحسب محمد عبده وآخرين، للعقل والعلم، على عكس الاسلام المُنتِجِ لكليهما. وإلا، فلماذا نبذ العلماء الغربيون المسيحية وساروا في ركاب المادية؟! وهي ذات الصيغة التي عبر عنها الأفغاني بقوله إن المسيحيين «أقوياء لأنهم ليسوا حقيقة بمسيحيين، والمسلمون ضعفاء لأنهم ليسوا حقيقة بمسلمين»المرجع سابق، ص161..
على الجانب السياسي، وفي الوقت الذي تراوحت معظم مواقف النخب الإسلامية بين الدعوة إلى مدنية مضادة للمدنية الغربية، قوامها اتباع الأخلاق الإسلامية الحميدة والخضوع للسلطان العثماني والابتعاد عن «إتقان العادات الأجنبية» (أبو الهدى الصيادي). أو كما صاغ جمال الدين الأفغاني رؤيته حول الدولة العثمانية بوصفها الحيز الجامع والأكثر صلاحاً للإسلام والمسلمين، واعتبار كل تقليد للغرب خيانة وشعوراً بالنقص. والذي أكد في خطابه لخديوي مصر، الحاجة إلى مستبد عادل، لأن الحكم الجمهوري «لا يصلح للشرق ولا لأهله اليوم». مقابل كل هذا، سنجد مواقف النخب المسيحية تتراوح بين متمسك بالإطار العثماني مع المطالبة بحقوق دستورية أو وضعية أفضل للشعوب العثمانية، وبين مأخوذ بالغرب ومستدعٍ له كملاذ وحام ومستعين به كضامن للحرية والهوية والاستقلال؛ وبين آخرين تبنوا هويات علمانية كالوطنية السورية أو العروبة، وأخيراً هناك من تبنى الكوسموبوليتية الحداثية وفكرة المواطن العالمي بوصفه مستقبل العالم، بينما التضامنات القومية أو الوطنية لا تختلف في الجوهر عن التضامنات الدينية، تُبقي العالم منقسماً وتساهم في صناعة الشرورالمرجع السابق، ص301.. بالنسبة للوطنية والعروبة، والتي بدأت بالانتشار في القرن التاسع عشر، لا يمكن إغفال التأثير الأوروبي في صياغة هذين المفهومين، لكن أيضاً كان لسياق البحث عن أخوة بديلة عن الأخوة الدينية التي تجعل من أبناء الدين الواحد أخوة دورٌ في تبني هذه المفاهيم، وهو ما ستجده نخب مسيحية باحثة عن المساواة وعن حضور أكبر في مفهوم «الأخوة في الوطن» الذي توفره مفاهيم علمانية من مثل الوطنية والعروبة. نستذكر هنا مثالين من مسيحيين سوريين، الأول هو الحلبي فرنسيس مراش الذي يستحضر في «غابة الحق» ضرورة بناء «مملكة المدنية والحرية»، و«حاجة العرب قبل كل شيء إلى أمرين: مدارس حديثة وحب للوطن طليق من الاعتبارات الدينية»المرجع السابق، ص296.. المثال الآخر هو أديب إسحق، دمشقي المولد ومن أصل أرمني، والذي يعرض له الحوراني بعض الأفكار التي نادى بها: «فكرة الجماعة «الشرقية» التي يوحدها احتقار أوروبا لها ومقاومتها للنفوذ الأوروبي، وفكرة الجماعة «العربية» القائمة على وحدة الشعور، وفكرة الجماعة «العثمانية» التي تربط بينها شريعة مشتركة وسلطة واحدة ورغبة في العيش المشترك، وفكرة «الوطن» الذي هو الوحدة الإقليمية التي ينتمي إليها جميع القاطنين فيها والغيورين عليها» المرجع السابق، ص237.. التأثير الغربي واضحٌ في هذه الأفكار الأربعة التي نادى بها إسحق، لكن واضحٌ أيضاً أنها معادية للغرب ومعتزة في مضامينها بالشرق والعروبة والهوية العثمانية إلى درجة أن مثقفاً مسيحياً ذا ميول علمانية واضحة سوف يلتحق بخط لا يخفي نزعته الإسلامية في مواجهة الغرب، كالأفغاني ومحمد عبده الذي سيغدو مساعداً لهما في القاهرةإرنست دون، الشرق الأوسط الحديث، ج3، إشراف: ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ك ويلسون، ترجمة: أسعد صقر، دار طلاس، دمشق، ط1: 1996، ص62..
لم يكن المسيحيون العرب هم الوحيدون الذين استيقظت لديهم الهوية القومية من بين مسيحيي الدولة العثمانية، بل سبقهم لهذا مسيحيو اليونان والبلقان وغيرهم، وكان لثوراتهم القومية أثر كبير في بلورة الأفكار القومية عند مسيحيي المشرق. بالنسبة لليونان، سادة الأرثوذكس، أثناء ثورتهم القومية في العقود الأولى من القرن 19، لم تكن القسطنطينية «كنيستهم المقدسة» مصدر إلهامٍ للثائرين، أو حاضرة في رموز ثورتهم، بل كانت هذه الأخيرة مستمدة من تاريخ اليونانألبرت حوراني، الفكر العربي…، مرجع سابق، ص64.. ستكون أفكار الثورة اليونانية ملهمةً لبعض مسيحيي المشرق، ولن يمضي سوى عقدان أو ثلاثة إلا وستبدأ النغمة القومية عند مسيحيي الشرق تعلو في فضاء السلطنة، لكن بشروط صعبة بسبب أنهم يعيشون في مجتمعات لا تخفي أكثريتها المسلمة ولاءها للدولة العثمانية وخصومتها مع الغرب وأفكاره. كانت اليونان تعتبر الكتلة المسيحية الأكبر في الدولة العثمانية، وكان لاستقلالها أثر كبير في تحفيز باقي الشعوب المسيحية على طلب الاستقلال والاستعانة بأوروبا لأجل ذلك، وهذا ما دفع العثمانيين إلى سياسات أكثر إسلامية، ما أقلق المسيحيين العرب وكان حافزاً لبعض النخب في السير قدماً على تأكيد الانتماء العروبي أو السوري أو على هويات علمانية أخرى. بل إن هذا التأثير وصل حتى إلى أوساط دينية، كالأرثوذكس الذين عاشوا لقرون تحت سيادة اليونانيين الدينية وبمباركة عثمانية.
يرصد أسد رستم هذه التحولات للكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي، ومقره في دمشق، وعن اهتمام الصحف اليونانية التي أشارت إلى «أن الأنطاكيين يرغبون في أن يروا مطراناً وطنياً يرأسهم»أسد رستم، كنيسة مدينة…، ج3، مرجع سابق، ص242.، وكيف أن هذا الأمر ووجه بصعوبات حتى من قبل الباب العالي العثماني الذي تدخل بداية لصالح استمرار سيادة اليونانالمرجع السابق، ص251.، إلا أن أرثوذكس دمشق ما إن وصل إليها البطريرك اليوناني الجديد حتى قاطعوا كنيسته ونادوا بإسقاطهالمرجع السابق، ص255 وص257.. واستمروا في احتجاجهم حتى أسقطوه في 1897، وكان أول بطريرك عربي للكنيسة الأنطاكية هو الدمشقي ملاتيوس اليوناني المرجع السابق، ص270 و271.
بعد عام 1860 ستبرز نخب قادمة من أوساط أرثوذكسية وبروتستانتية تنادي بالعروبة، ويذكر وجيه كوثراني مثالاً عن ذلك: المنشورات التي كانت تعلق في كل من دمشق وبيروت وطرابلس وتندد بظلم وفساد الأتراك وتبدأ بياناتها بتعابير من مثل: «يا أبناء سورية»، «يا أهل الوطن»، وتذكّر بـ «بالنخوة العربية» وبـ «الحميّة السورية»، وتدرج المطالب التالية: «استقلال نشترك به مع إخواننا اللبنانيين بحيث تضمنا جميعاً الصوالح الوطنية. أن تكون اللغة العربية رسمية في البلاد، وأن يحق لأبنائها الحرية التامة في نشر أفكارهم ومؤلفاتهم وجرنالاتهم بمقتضى واجبات الانسانية ومقتضيات التقدم والعمران»وجيه كوثراني، السلطة والمجتمع والعمل السياسي (من تاريخ الولاية العثمانية في بلاد الشام)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1: 1988، ص130 و131.. بقيت النسخة العروبية التي صدرت عن نخب مسيحية هي المهيمنة حتى انقلاب 1908 تقريباً، أو وصول الاتحاد والترقي إلى السلطة وطموحه إلى إعادة طبخ ما تبقى من شعوب في الإطار العثماني بحيث يتم إدخالها في تصور قومي تركي، علماني، مركزي وفوقي وصاهر، تبنته جمعية الاتحاد والترقي. وهذا يعني أن العلمانية المنبوذة في أوساط إسلامية لم تعد قادمة من الغرب وحسب، بل وأيضاً من مركز الخلافة بصيغة قوانين وإجراءات تهدف إلى فرضها، لا سيما آلية التتريك التي سعت إلى تهميش أو إزاحة اللغة العربية. وهذا ما دفع نخب مسلمة، وبعضها ينتمي إلى النخب التقليدية، إلى تبني عروبة مضادة تهدف إلى الوقوف في وجه التيار الجارف القادم من مركز الخلافة، لكنها عروبة لم تكن عموماً معادية للعثمانيةفيليب خوري، مرجع سابق، ص99.. وبحسب فيليب خوري، فإن «التيار الرئيسي للحركة العربية لم يسعَ قبل الحرب العالمية الأولى لا إلى فصل الولايات الناطقة بالعربية عن الإمبراطورية العثمانية، ولا إلى إيجاد أمة عربية مميزة ذات حدود ثقافية وإقليمية مميزة»المرجع السابق، ص152.، وهذا يطابق ما دعا إليه تيار نشط بين المسيحيين السوريين أيضاً: العروبة لكن ضمن الإطار العثماني والمواطنة العثمانية. بالنسبة للعروبة المستجدة لدى بعض الأوساط المسلمة، فإنها حافظت على مكانة الإسلام فيها، بل وتم تطعيمها به، عبر التركيز على «تفوق العرب ضمن الإسلام»، أو على أنها خطوة «لا بد منها باتجاه إعادة إحياء الإسلام». أما عن كوادر هذه العروبة المستجدة، والتي نجد بعض جذورها لدى عبد الرحمن الكواكبي، فكانوا «في معظم الأحيان رجال دين تربوا وتعلموا في بيئة ثقافية إسلامية تقليدية استعداداً للتوظف في مؤسسات دينية»المرجع السابق، ص153.. لكن سيبرز أيضاً من بين المسلمين من سيتبنى الصيغة العلمانية للقومية العربية، وهم في معظمهم سوريون درسوا في المدارس العثمانية الاختصاصية أو الكلية البروتستانتية السورية في بيروت أو في أوروبا، وتأثروا بـ «الجو العلماني لسياسة تركيا الفتاة والجمعيات السرية»، وكان معظم هؤلاء قادمين من «العائلات الأرستقراطية وعائلات الطبقة المتوسطة، وضباط جيش، وعدداً قليلاً من المسيحيين، معظمهم من المذهب الأرثوذكسي». ونظر هؤلاء إلى «فكرة حركة إسلامية جامعة بقيادة عربية وخلق دولة إسلامية تعتمد على تضامن ديني بحت على أنها فكرة لا يمكن الدفاع عنها». وهم وإن لم يستبعدوا الإسلام، إلا أنهم نظروا إليه «كثقافة وحضارة وليس كقانون إلهي»، ولهذا فلم يعد صالحاً كمبدأ للحكم لأنه لا يؤمن المساواة لباقي العناصر كالمسيحيين واليهودالمرجع السابق، ص154 و155..
العام الذي سيبقى في الذاكرة: مجزرة 1860
كانت المسألة الشرقية هي الإطار العام الذي حصلت بسببه، وفي سياقه، مجزرة عام 1860 في دمشق، والمجازر التي قبلها في لبنان. وكنا قد استعرضنا بعض جوانب هذه المسألة عندما تطرقنا إلى التدخل الأوروبي الفاعل في الدولة العثمانية، وما جرّه من انقلابات وانهدامات طالت العوالم الاجتماعية للسكان، وكذلك الاقتصادية والثقافية والسياسية والقانونية، كانت معظمها تصبّ في صالح صعود المسيحيين وتحسين أوضاعهم على حساب أوضاع كانت قائمة لصالح نخب دينية أو تجارية أو ثقافية مسلمة. وإذا كانت أحداث جسام، كاحتلال مصر من قبل الفرنسيين 1798 ثم استقلال اليونان وثورات مسيحيي البلقان، علامةً على ضعف دولة المسلمين وتراجعها أمام «عدو خارجي» لا يُضمر سوى الشر. لكن صعود المسيحيين، وهم مواطنو الدولة العثمانية، بدعم من ذات «العدو»، يعني أن العطب وصل إلى جسد الدولة. كانت الوصفة التي ستواجه بها نخب إسلامية هذا الضعف وهذه التحولات الجسام هي السعي لبلورة ذاتية إسلامية قوامها التناقض بين الإسلام من جهة، والغرب والمسيحية من جهة أخرى. وإذا كان هذا الأمر منوطاً بالنخب، فإن فئات اجتماعية أخرى ساءت أحوالها أيضاً، سيكون الغضب هو وسيلة تعبيرها.
يروي عبدالله حنا عن «ثورة» قام بها أهل دمشق في عام 1831، إثر تولي والي عثماني جديد أمور المدينة الذي فرض ضرائب جديدة، حيث اشتعلت المعارك في معظم أنحاء المدينة بين السكان وجنود الوالي، ومع ذلك لم يتعرض أحد من «الثوار» للمسيحيين أو لأملاكهم، على عكس اليهود الذين طالهم بعض الغضب وذلك لارتباطاتهم المالية بحكام إستانبول ودمشق وعكا بحكم عملهم كصيارفة، فكانوا مؤيدين لفرض ضرائب جديدة، لكن الثورة كانت موجهة بشكل مباشر ضد سلطة الواليعبد الله حنا، حركات العامة الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار ابن خلدون، بيروت، ط1: 1985، ص207 و208.. في العام ذاته بدأت حملة محمد علي باشا على بلاد الشام، ونجح بانتزاع مدنها ومنها دمشق وتابع في تقدمه حتى تركيا، وستبقى بلاد الشام تحت الحكم المصري قرابة عقد من الزمان جرت فيه الكثير من الوقائع والتحولات. كان العهد المصري إيجابياً بالنسبة للمسيحيين. إذ يروي مؤرخون عاصروا تلك الحقبة عن ممارسات كانت تمعن في قهر وإهانة المسيحيين، وكان البعض من العامة ورجال الدين من المسلمين يظنونها أنها من صحيح الدينشاهين مكاريوس، مصدر سابق، ص43.. من ذلك، منعهم من لبس لباس المسلمين أو أن يركبوا المطايا ما عدا البطريركالمصدر السابق، ص43.، وكذلك فرض ما يسمى بـ «كيس الحاجة»، وهو كيس يحمله المسيحيون للسخرةالمصدر السابق، ص38 و39. وأنظر أيضاً ميخائيل مشاقة، مصدر سابق، ص27 ويقول مشاقة أن حمل الكيس كان قانوناً حكومياً.، أو الطلب إلى المسيحي في الطريق أن «يشمّل»، أي أن يسير على يسار المسلم، فإذا ما ازدحم الطريق، يؤمر بالطورقة «أي يمشي في الطاروق… والطاروق عبارة عن منخفض في وسط الشارع تسير به البهائم»ميخائيل مشاقة، مصدر سابق، ص27.، حتى أن بعض المسيحيين غير دينه وأسلم ليتجنب كل هذاميخائيل مشاقة، مصدر سابق، ص27.. ويورد كل من مشاقة وشاهين منشوراً أرسله درويش باشا والي دمشق في عام 1821 إلى مسلمي صيدنايا يظهر أن بعض هذه الممارسات كانت برعاية مباشرة من الحكومة، إذ يبدو الوالي فيه غاضباً من كون النصارى يقلدون «الإسلام في ملابسهم وعمائمهم ونعالهم وتعدوا درجاتهم وخالفوا»، ثم يذكرهم أن هذا الأمر هو ضد إرادة الحاكم، ثم يطالبهم أن ينذروا المسيحيين ألا يعودوا لمثل هذا وإلا فإن العقاب ينتظرهمشاهين مكاريوس، مصدر سابق، ص44، ومشاقة، مصدر سابق، ص28 و29.. في العهد المصري، قام ابراهيم باشا بإلغاء التمييز الواقع على المسيحيين، وساواهم بالمسلمين، بل إن بعض المسيحيين كما في بعض الروايات شعروا وكأن انتصار ابراهيم باشا هو انتصار لهم، فصار «إذا تشاجر نصراني مع مسلم مثل ما يقول له المسلم يقول النصراني وأزود»شاهين مكاريوس، مصدر سابق، ص44، ومشاقة، مصدر سابق، ص28 و29.، أو كما يروي أسد رستم عن حادثة في 1832، قام بها «بعض السفلة من نصارى دمشق»، حيث «زوّقوا جملاً وركبوا عليه رجلاً مسلماً من أهالي حارة الخراب يسمى حمزة الذكرة وأعطوه مسودتي عرق وأحضروا المشاعل وزوقوها بالأزهار والفاكهة وعملوها على كسم الصلبان. ومشوا من طالع القبة في صفوف وأخذوا يغنون «ابراهيم باشا يا منصور الله يلعن المقهور» وكانوا كلما مشوا بعض خطوات يقفون فيمسك حمزة المسودة بيده ويلوح بها ويصرخ المسيح قام. فغضب المسلمون وتوعدوا»أسد رستم، كنيسة مدينة…، مرجع سابق، ص214.. يضاف إلى ما سبق، أن المسيحيين، لا سيما النخبة الاقتصادية منهم، التي استطاعت أن تستفيد من التحولات الاقتصادية بعد انكشاف السلطنة أمام الغرب، هي أكثر من استفادت أيضاً من الاصلاحات والتغييرات التي قام بها ابراهيم باشا في بلاد الشام، ليكون هذا حجر أساس في تنافس وصراع بين النخب المسيحية الصاعدة والنخب التقليدية المسلمةعبد الله حنا، مرجع سابق، ص252 و253.. منذ اجتياح الجيوش المصرية لبلاد الشام، أصبح الحضور الدبلوماسي الغربي كثيفاً في المنطقة، ما بين مؤيد للمصريين كفرنسا، وآخرين، كالإنكليز، تخوفوا من مشروع محمد علي فوقفوا ضده، وهؤلاء الأخيرون عملوا على جبهتين: دعم السلطنة في وجه محمد علي، ودعم بعض الجهات للقيام بقلاقل وثورات ضد الحكم المصري، كالدروز مثلاً.
ما إن خرج المصريون من بلاد الشام حتى كان لبنان هو ساحة المواجهة الأولى بين المسيحيين من جهة، والدروز المدعومين من قبل الأتراك والإنكليز وبعض وجهاء وعوام المسلمين من جهة أخرى. وستستمر الأوضاع على هذا النحو بين مد وجزر قرابة العشرين عاماً. خلال هذا، كانت الدبلوماسية الأوروبية تسعى إلى مزيد من الاختراق، وكذلك روسيا التي ستطالب بحماية الأرثوذكس أسوة بما نالته فرنسا على هذا الصعيد. وعندما رفض السلطان العثماني مطالب روسيا، أعلنت هذه الأخيرة الحرب التي ستسمى بحرب القرم 1854 – 1856، والتي ستنتهي بانسحاب روسيا من معظم الأراضي التي احتلتها وإعطائها حق حماية الأرثوذكس على أراضي السلطنة، ثم بإعلان «الخط الهمايوني» الذي أعلن فيه السلطان المساواة التامة بين رعيته، على اختلاف أديانهم وطوائفهم، وأتاح حرية حركة أكبر للرأسمال الغربي، وهو ما يعني المزيد من الامتيازات للمسيحيين على أرض السلطنة، فتفجرت الأمور من جديد في لبنان وارتكبت المجازر الكبيرة بحق المسيحيينالمرجع السابق، ص253. أما عن المجازر التي أتينا على ذكرها فتفاصيلها موجودة في العديد من المؤلفات التي رصدت تلك المرحلة، ومن قبل مؤرخين كانوا شاهدين عليها، ومنهم شاهين مكاريوس، وميخائيل مشاقة اللذين اعتمدنا عليهما في هذا البحث.. كانت أصداء هذه المذابح بحق المسيحيين تُقابَلُ بالفرح من قبل بعض المسلمين في دمشقشاهين مكاريوس، مصدر سابق، ص224، وعبد الله حنا، مرجع سابق، ص259.. وربما يعكسُ هذا البيانُ الذي أطلقه علماء دين في دمشق 1860م، داعين فيه المسلمين إلى استغلال ضعف القوى الغربية بعد أن أنهكتها حرب القرم وعدم قدرتها على التدخل لحماية «الأمة المسيحية» مجموعة المحررات السياسية والمفاوضات الدولية عن سوريا ولبنان، تعريب فيليب وفريد الخازن، المجلد الثاني، مطبعة صبر، 1911، ص205. لأن هؤلاء المسيحيين «متآمرون على المسلمين مع الدول الأوروبية»المرجع السابق، ص205.، بل وذهبوا إلى أن «شهادة المسيحي غير معتبرة شرعاً بل يجب تفضيل شهادة النصيري عليه»المرجع السابق، ص204.. ولم تكن حلب بدورها غائبة عن هذه الأحداث، إذ ستعلق ملصقات على أبواب بعض جوامعها تدعو إلى ذبح المسيحيينالمرجع السابق، ص4.، لتتطور فيما بعد، بحسب إحدى المراسلات، إلى «منازعات بين المسلمين والمسيحيين في شوارع حلب»المرجع السابق، ص108..
أما بالنسبة للفئات الاجتماعية التي شاركت بالمذبحة، فكانت من «التجار والباعة والزعماء العسكريين المحليين (عدا الميدان) والمهاجرين الأكراد وسكان الأرياف (الحوارنة) القاطنين حديثاً في الضواحي»عبدالله حنا، مرجع سابق، ص256.، وكذلك الدروزالشيخ عبد الرزاق البيطار، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تحقيق وتنسيق: محمد بهجة البيطار، ج1، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، دار صادر، بيروت، ط2: 1993، ص262 و263.. معظم هؤلاء كما نرى هم من الذين تعطلت مصالحهم وتراجعت مكانتهم، كالتجار والآغوات (الزعماء المحليين)، وذلك نتيجة التنظيمات العثمانية التي صبَّ معظمها في صالح المسيحيين والأوروبيين. أما من اشترك من العوام فهو إما بسبب فقرهم، أو بسبب تحريك الآغوات لهمالمرجع السابق، ص255 و256.. وبالطبع سيكون هناك من بين آغوات دمشق ووجهائها ومشايخها من سيقف في وجه الفتنة وسيقوم بحماية المسيحيين، كآغوات وأهالي حي الميدان والأمير عبد القادر الجزائري والشيخ محمود أفندي مفتي دمشق السابق والشيخ سليم العطار وبعض محلات المسلمين المعتدلين الذين قاموا بإيواء المسيحيين الهاربين من الموتالمرجع السابق، ص263 و264. وحول موقف أهالي حي الميدان ينظر: عبد الرزاق البيطار، مصدر سابق، ص263.. بدأت المجزرة في 9 تموز 1860 بإيعاز وتحريض من الوالي العثماني الجديد أحمد عزت باشا الذي أسندت إليه ولاية الشام في 1859المرجع السابق، ص258 و259 و260 و261.، ذهب ضحيتها ما يقارب الستة آلاف مسيحي، أي خُمس المسيحيين في دمشق، عدا عن البيوت والأملاك التي نهبت أو حرقتالمرجع السابق، 262.. وقد أجاد الشيخ عبد الرزاق البيطار في وصف أحوال المسيحيين آنذاك، والأهوال التي وقعت عليهم، حتى أنه استخدم تعبيراً قرآنياً في وصف يوم القيامة: «وترى الناس سكارى وما هم بسكارى»عبد الرزاق البيطار، مصدر سابق، ص264..
ما بعد 1860 ليس كما قبله، حيث سيغدو لجبل لبنان إدارة مسيحية تتمتع بالحكم الذاتي، وإن كان تعيين هذه الإدارة سيتم بتدخل من الباب العالي. سيشكل هذا الحدث بداية تبلور وعي مسيحي عند البيروقراطية المسيحية «المارونية» الحاكمة، يروم الاستقلال عن الأستانة وتشكيل كيانه المسيحي كملجأ جاذب لمسيحيي المنطقة. كما أفسحت المجازر المجال للمزيد من التدخل الغربي، لا سيما فرنسا، مما زاد من تخوف السلطان العثماني الذي أوفد وزير خارجيته فؤاد باشا لإنهاء الفتنة، يرافقه المسيحي الحلبي رزق الله حسون ليترجم له البيانات والبلاغات، فكان أن أنشأ فؤاد باشا محكمة لأجل هذا، حكمت على ما يقارب المئتين بالإعدام ومئات بالسجن والنفي، وكانوا جميعهم من المسلمين، وبعض من طالهم العقاب كان من النخب الدمشقية المسلمة.
ثانياً – النكوص إلى «الجماعة المسيحية»
في زمن «العروبة الأولى»… وبعد زوال دولتها
في عام 1916 سيعلن الشريف حسين ثورته ضد الأتراك، وكانت هذه الثورة محملة بتصورات ووعود حول واقعٍ ومستقبلٍ معينٍ للعرب، نجدها تتقاطع مع بعض التصورات لمثقفٍ مسيحيٍ مات في العام ذاته، ولم يتسنَ له أن يرى ما آلت إليه الأمور.
في عام 1905 نشر المثقف المسيحي نجيب عازوري كتابه «يقظة الأمة العربية»، الذي يدعو فيه إلى إقامة دولة عربية متحررة مستقلة عن العثمانيين تضم العراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، وكذلك إلى التحالف مع الغرب من أجل نجاح هذا المشروع، أما عن شكل هذه الدولة فهو ملكية دستورية. أما الشريف حسين الذي سينطلق لتحقيق هذا المشروع، فهو لدى العازوري غير مرشح سوى لخلافة دينية، أي منصب روحي يماثل ذلك الموقع الذي يحظى به بابا الفاتيكان، بينما يرشح أحد أبناء الخديوي المصري للملكية، وهذا التصور ينبع من تصور علماني للعازوري يروم فيه فصل السلطتين الدينية والسياسية عن بعضهما البعضستيفان ويلد، الحياة الفكرية في المشرق العربي 1890 ـ 1939، إعداد: مروان بحيري، ترجمة: عطا عبد الوهاب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1: 1983، ،ص111 و112.. لكن العازوري، صاحب نداء «بلاد العرب للعرب»المرجع السابق، ص111 وص115.، والداعي إلى بناء كنيسة كاثوليكية عربية لغة الصلاة والعبادة فيها هي العربية وحدهاالمرجع السابق، ص111 وص115.، كان ميالاً إلى وصاية غربية «فرنسية على وجه الخصوص» على هذه الدولة العربية المرتجاةالمرجع السابق، ص114 و115.. ولهذا سنجد أن مثقفاً مسيحياً عثمانياً هو فريد كساب، سيرد على عازوري بكتاب في عام 1906، بعنوان «الإمبراطورية العربية الجديدة»، متهماً إياه بأنه «عميل لمصالح الروم الكاثوليك»المرجع السابق، ص116.. وهذه الأخيرة لم يأت بها فريد كساب بدون مستند واقعي، إذ أن الدعاية لفرنسا كانت إحدى الفعاليات البارزة في أوساط مسيحية كاثوليكية، في لبنان «موارنة» وفي سورية «روم كاثوليك». لكن الغرب «فرنسا وإنكلترا» الذي راهنَ العازوري عليه، سيسعى إلى الوصاية على هذه المنطقة العربية، لكن بعد تحويلها إلى أشلاء.
بقيت العروبة كتيار ناشئ في خضم التطورات والتحولات في الدولة العثمانية حكراً على نخب عربية، كانت في معظمها مسيحية في البداية ثم ما لبثت أن انتشرت في أوساط مسلمة، لا سيما بعد 1908، كآلية دفاعية في وجه السياسات الطورانية للاتحاد والترقي. كانت الثورة انتصاراً لمشروع هذه النخب، لكنها كانت غير ذلك لدى نخب أخرى، بل ولمعظم مسلمي بلاد الشام الذين راعهم الدعم الغربي لها، وعلى هذا سيصفها أحد أبنائها، محمد جميل بيهم، بأنها «جزء من المخطط الأوروبي القديم الذي يرمي إلى الفرقة بين المسلمين والقضاء على الخلافة»حازم صاغية، أول العروبةـ (تخلي الأكثرية وتولي الأقلية)، دار الجديد، بيروت، الطبعة الأولى 1993، ص77.. بل إن البعض لن يوفر الاستعانة ببعض المفاهيم الدينية التي تجعل من هذه الثورة غزواً غربياً صليبياً، كقول الأمير سعيد الجزائري للشريف حسين: «أن الصليب يحارب الهلال اليوم، وأنت ابن رسول الله»المرجع السابق، ص106.. بقي مشروع العروبة هذا موضع تشكيك طالما بقي الغرب حليفاً له، لكن ما إن انقلب هذا الحليف على هذه العروبة وعلى دولتها الأولى، حتى بدأت قاعدتها الشعبية بالصعود على حساب الفكرة الإسلامية، وأخذت تغدو رويداً رويداً الحصن الأيديولوجي الذي تنطلق منه مجابهة المشاريع الغربية، لكن اللافت فيها أيضاً أن فرسانها القدامى من المسيحيين سيغدون على هامش هذا المشهد، لا سيما وأن التناقض الرئيسي لهذه العروبة سيتحول من العثمانيين إلى الغرب حلفاء الأمس، وهو ما يفتح باب تعزيزها بعناصر من تراث المجابهة الذي طوره مثقفون مسلمون في العقود الماضية. وربما لذلك سوف يلاحظ صبحي العمري، الضابط الذي خاض غمار الثورة العربية ضد العثمانيين ومعركة ميسلون ضد الفرنسيين، الواقع الطائفي المستجد. وحول المسيحيين سيقول: «لقد كان المسيحيون بصورة عامة لا يزالون تحت تأثير الماضي. لقد كان المسيحي في العهد العثماني مواطناً من الدرجة الثالثة، لا يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، فلا يعقل أن ينقلبوا بمجرد خروج الأتراك قوميين عرباً وينسوا كل ما مر بهم، من مظالم وإهانات خلال تلك القرون الطويلة، وهكذا كانت أكثرية المسيحيين، غير مرتاحة للحكم الوطني فبقوا أصدقاء لفرنسا»صبحي العمري، ميسلون (نهاية عهد)، سلسلة أوراق الثورة العربية (3)، دار رياض الريس، لندن، ط1: 1991، ص 51 ـ 52.، وإن كان كلامه ينطبق، كما أسلفنا، على الأوساط الكاثوليكية في كل من سورية ولبنان.
يرجّحُ البحث أن انتهاء الدولة العربية الأولى ودخول الفرنسيين إلى سورية ولبنان، كانت هي البداية الرسمية لانكفاء المسيحيين نحو ما سندعوه بـ «الجماعة المسيحية»، على ما في هذا التعبير من مغامرة تشي بالتعميم والتنميط. وعلى كل حال، كان لشكل الإدارة الفرنسية لسورية دور كبير في هذا. في مرحلة السعي العثماني نحو تحديث القوانين والمؤسسات بما يقارب النموذج الغربي الدمجي، لم يكن هذا السعي يواجَه فقط من قبل نخب تقليدية محلية مسلمة أو دولتية تهدَّدَت مصالحها، بل كذلك من قبل الغرب المقتحم الذي سعى بدوره للحفاظ على النموذج العثماني «المللي» الذي يتيح له أن يخترق ويترسخ عبر قواعد وكتل اجتماعية محلية. وربما كانت أبرز تطبيقات الغرب على هذا الصعيد بعد رحيل العثمانيين، هو إنشاء كيانات سياسية، دول، في المنطقة، على أساس الاعتبارات الدينية والطائفية، كاليهودي في فلسطين والمسيحي في لبنان والدرزي في جبل العرب والعلوي في الساحل السوري والسني في كل من دمشق وحلب. في كتاب له عن سورية التي زارها بعد استقرار الفرنسيين فيها، يقول عن غورو: «كانت سورية تمثل أمام عينيه أرضاً مسيحية»بيير لامازيير، مسافر إلى سورية، ترجمة: فوزية الزوباري، دار المدى، دمشق، ط1: 2009، ص156.، ويأتي على ذكر خطاب للجنرال في دمشق، قال فيه: «حضوري هنا، يكرس انتصار الصليب على الهلال»المرجع السابق، ص157.! ويرصد الحلبي عبد الرحمن الكيالي عبر كتابه «المراحل في الانتداب الفرنسي ونضالنا الوطني»، وهو كتاب يقع في أربعة أجزاء، الكثير من سياسات الأقليات أو التمييز بين السكان على أساس الدين والطائفة، كما وردت سواء عند سياسيين فرنسيين أو في الصحافة الفرنسية، تدور كلها حول فكرة أن وجود فرنسا هو حماية لهذه الأقليات، أو للمسيحيين على وجه التحديد، كما ورد على لسان ويغاند المندوب السامي الذي كان مفوضاً سامياً في سورية 1923، والذي أكد في محاضرة له أن انسحاب فرنسا من سورية لن يعني إلا فتح «أبواب الفتن» و«تذبيح المسيحيين»عبد الرحمن الكيالي، المراحل في الانتداب الفرنسي ونضالنا الوطني، ج1، مطبعة الضاد، حلب، 1958، ص16.، وأن تحقيق الوحدة السورية التي يطالب بها بعض السياسيين «يضع تحت رحمة أكثرية «غير متصفة بروح الهوادة» أقلية من السكان المسيحيين والعلويين، ما عدا الطوائف الأخرى التي يجب علينا أن نحميها»المرجع السابق، ص18 و19.. لا يعني ما سبق أن البحث يميلُ إلى أن هذه الوقائع الطائفية هي من خَلقِ الانتداب الفرنسي، إنما يشير إلى مساهمته فيها.
في الواقع، لم يخلُ الأمر من اندفاعات ضد المسيحيين عبر إلحاقهم بالفرنسيين، وكانت خلفية هذه الاندفاعات إما إسلامية أو «وطنية». ووصل بعضها إلى حد ارتكاب مجازر، كما حصل عام 1920 في قرية عين إبل المسيحية، والتي قامت بها مجموعات شيعية وأخرى تابعة لأدهم خنجر وعشيرة الفواعرة، الذين حضروا في مؤتمر الحجير نيسان 1920 لمناصرة قضية الدولة العربية في وجه الفرنسيين، مع أنه كان من بين الحضور مسيحيون أيضاً. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يدخل بها الشيعة على خط التناقض الإسلامي – الغربي/المسيحي آنذاك، عبر المشاركة في هذه المذبحة التي تتفاوت التقديرات حول عدد ضحاياها، ولكنها لا تقل عن مئة للأسف، سقط منّا المرجع الذي يرصد هذه الواقعة، لكن بعض تفاصيلها على الموقع الذي ينقل شهادة الخوري يوسف فرح عن المجزرة في الرابط.. ثمة توتر أهلي آخر سيرافق ثورة السوريين 1925، بقيادة سلطان الأطرش. ستُقلِقُ هذه الثورة أوساط مسيحية عديدة، فمن يقف على رأسها هم ممن يشهد لهم التاريخ القريب بقسوتهم على المسيحيين، وكذلك فقد كان هدف هذه الثورة طرد الفرنسيين الذين حموا المسيحيين عندما عاداهم أهل هذه الثورة. وعن بعض الأحداث التي تعكس هذا التوتر، هجوم الثوار على قرية كوكبا المسيحية، والذي يصفه حنا أبو راشد وهو نصير للثورة ومؤرخ لها بأنه «اعتداء لا يجيزه شرع، ولا يقره قانون، ولا يعترف به تقليد في تلك البلاد، ولا تقتضيه مقتضيات الثورة…»، وأشار إلى أن وقع خبر كوكبا كان «وقعاً أليماً جداً وأحدث نفوراً شديداً»حنا أبو راشد، جبل الدروز، مكتبة زيدان العمومية، مصر، ط1: 1925، ص306. لكن الكاتب بعد عام واحد سيغير رأيه، ويقوم بتبرئة من اتهمهم بالمجزرة في كوكبا، ويصف هذه الأخيرة بأنها أصبحت «كمتطوعة الجركس قوة عدائية للوطن قبل أن تكون للثوار، وبهذا فهي خارجة عن المسيحية كما خرجت الجركس عن الإسلامية…»، أنظر: حنا أبو راشد، حوران الدامية، مكتبة زيدان العمومية، مصر، ط1: 1926، ص270.، فكانت أحد نتائجه «رحيل ألوف المسيحيين المذعورين عن قراهم الأصلية»ستيفن هامسلي لونغريغ، تاريخ سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ترجمة بيار عقل، دار الحقيقة، بيروت، ط1: 1978، ص207.. الشيء ذاته بالنسبة لمسيحيي حوران، حيث يشير فيليب خوري إلى أن الثوار أحرقوا «ما لا يقل عن خمس قرى مسيحية»، وإلى نزوح مسيحيين من حوران إلى دمشق «حاملين معهم حكايات عن المجازر وأعمال النهب»فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي (سياسة القومية العربية 1920 ـ 1945)، ترجمة ونشر: مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط1: 1997، ص187.. بدورها ستقوم سلطات الانتداب باستثمار هذه المخاوف عند المسيحيين، فقامت بتسليح المدنيين منهم في دمشق وقرى لبنان الجنوبي، وهو ما اعتبره ستيفن لونغريغ إساءة «إلى مستقبل البلاد عبر زيادة المشاعر السلبية، بل وعمليات الانتقام، فيما بين المسيحيين والمسلمين، الأمر الذي يتضرر منه المسيحيون أكثر من سواهم»ستيفن لونغريغ، مرجع سابق، ص206 و207.. سينتبه سلطان الأطرش لهذه المعضلة التي تواجه ثورته، سّيما وأنها تتكلم بلسان الوطنية السوريةعلى سبيل المثال ينظر المنشور الصادر عن الثورة والمرسل للبنانيين. حنا أبو راشد، حوران الدامية، مرجع سابق، ص274.، لذلك سيتحرك الأطرش لتلافي ما هو أعظم، فأرسل كتاباً إلى بطريرك الروم الأرثوذكس في دمشق، يؤكد فيه أن «لا خطر ولا خوف على المسيحيين من الثورة، التي لا تقصد إيذائهم، ولا ترمي إلى إساءة معاملتهم»، لكن البطريرك سلّم الكتاب لسلطة الانتداب حتى لا يُتَّهَمَ بالاتصال بالثوارحنا أبو راشد، جبل الدروز، مرجع سابق، ص301.. ولقد تعددت مبادرات سلطان الأطرش على هذا الصعيد، ومنها دعوته في منشور عام إلى «إعلان الاخاء الوطني العام بين الطوائف» حيث يتحد «الدرزي والسني والشيعي والمسيحي، اتحاداً وثيقاً، وليؤلف بين قلوبنا الإخاء القومي والمجد الوطني…»المرجع السابق، ص302.. ومن ناحية أخرى، يبقى من المفيد أن نذكر أن ثمة مسيحيين ناصروا ثورة الأطرش ضد الانتداب الفرنسي، بل ومنهم من كان مقرباً من الأطرش كعقلة القطامي. وهناك مسيحيون ساندوا الثورة من بلدان المهجر بالمال، وهو أمر رأى فيه الأمير أمين محمد أرسلان «انسحاق آفة التعصب الطائفي الكبرى، التي هي سبب شقائنا في الشرق»المرجع السابق، ص307..
ستشهد ثلاثينيات القرن الماضي ولادة أحزاب جماهيرية عروبية وإسلامية وشيوعية، تحمل تصورات حول الهوية ومستقبل البلاد، بدأت تنافس التيار الوطني الآخذ بالصعود هو أيضاً. وبالتوازي مع هذا، ستظهر أحزاب أو مشاريع مناهضة لما سبق، كحزب الكتائب اللبناني الذي يتوجه إلى مسيحيي لبنان، موارنته خصوصاً؛ أو كحزب أنطون سعادة «الحزب السوري القومي» الذي يناضل من أجل هوية قومية سورية تبدو وكأنها وسط بين الصيغة المارونية السياسية «حزب الكتائب» والتي تريد حبس المسيحيين في سجن الطائفة، وبين الصيغة العروبية الفضفاضة التي سيعود فيها المسيحيون أقلية أو أهل ذمة، كلا المشروعين عند سعادة هما دينيان، ولذلك وسمهما بالرجعية، ذلك أنه «كما لبست الحزبية المحمدية (…) في الرجعية الجديدة لباس (القومية العربية) وارتكزت على مرتكزين أساسيين هما اللغة العربية والدين المحمدي اللذين نشرهما الفتح العربي المحمدي، كذلك لبست الحزبية الدينية المسيحية في الرجعية الجديدة لباس (القومية اللبنانية) واتخذت لنفسها مرتكزين أساسيين هما الدين المسيحي ونظام جبل لبنان تحت السيادة التركية، والذي وضع عقب الحرب الأهلية الدينية المعروفة (بحركة سنة الستين)، التي جرت فيها سنة 1860 مذابح دينية منكرة»مختارات في المسألة اللبنانية ـ الانعزالية أفلست، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الطبعة الأولى، 1976، ص128 و129.. فكرة «القومية السورية» ليست من عنديّات سعادة، بل كان وجودها سابقاً من خلال مثقفين مسيحيين كانوا أول من أعلن «أن السوريين ليسوا عرب، لا بل ليس هناك من أمة عربية…» ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مرجع سابق، ص345.. سيكون لحزب أنطون سعادة حضور كبير في أوساط المسيحيين في سورية ولبنان. ذلك أن «سورية الكبرى» التي نادى بها حزب سعادة، ستشكل إطاراً يرضي مسيحيين سوريين ويقلل من مخاوفهم، فـ «الأمة السورية» من جهة هي أمة متنوعة وكبيرة وغنية بثقافاتها، ومن جهة أخرى سيكون للمسيحيين فيها وزن ديموغرافي فاعل سيختفي في مشاريع أخرى، كتلك الداعية إلى أمة عربية أو أمة إسلامية.
واقع المسيحيين السوريين، آنذاك، كان أكثر تعقيداً من أن نختصره تحت عدة عناوين. ومبرر هذا التعقيد هو ذلك التعدد والتنوع في المواقف التي توزع عليها مسيحيو سورية، والتي يصل بعضها إلى حد التناقض، وقد رصدنا بعضها أعلاه؛ وأيضاً إلى الواقع المسيحي ذاته الذي كان متحركاً وحيوياً سواء على صعيد الأفكار أو الوجود الواقعي. فهم حاضرون على صعيد النخبة الوطنية المُنادية بالاستقلال، وربما كان فارس الخوري من أبرزهم على هذا الصعيد. وأيضاً في سياق العروبة التي تبلورت بعد الانتداب الفرنسي، والتي حددت تناقضها الرئيسي مع الغرب، بعد أن كانت سابقاً متحالفة معه وضد الترك، ونستذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، مشاركة مطران حماة الأرثوذكسي في مؤتمر بلودان 1937، والذي أكد على «فكرة الوحدة العربية وألحَّ على طابع التضامن الديني في مفهوم القومية العربية»ألبرت حوراني، الفكر العربي…، مرجع سابق، ص349. وتذكر مراجع عديدة أيضاً عن استقطاب التنظيمات القومية والوطنية لأعداد كبيرة من المسيحيين، كستيفن لونغريغ الذي يؤكد التواجد المسيحي البارز في عصبة العمل القومي ومنظمات الشباب الوطني: مرجع سابق، ص287..
لكن هناك من ذهب إلى النقيض أيضاً، كعصبة «الشارة البيضاء» التي تأسست في حلب واستطاعت أن تجد أنصاراً لها في الجزيرة السورية، وكان معظم منتسبيها من كاثوليك حلب والجزيرة، وكان لها تنظيم شبه عسكري اسمه «القمصان البيضاء». رفضت هذه العصبة ما أسمته بـ «الانتداب الدمشقي» وطالبت بـ «الانتداب الفرنسي»ستيفن لونغريغ، مرجع سابق، ص278. بديلاً عنه، فطالبت بفصل حلب عن دمشق. وسيكون لها دورٌ لافتٌ في «طوشة الجزيرة»، حيث طالبت أيضاً بفصلها عن دمشقفيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، مرجع سابق، ص525.، وكذلك في إثارة فتنة بين مسيحيي ومسلمي حلب أسفرت عن ثمانية قتلى و150 جريحاًالمرجع السابق، ص525. يذهب عبد الرحمن الكيالي إلى أن عدد القتلى هم خمسة، اثنان من المسلمين وثلاثة من الأرمن، وعدد الجرحى خمسة وعشرين من الطرفين. من أجل الاطلاع على سرد الكيالي للواقعة، أنظر: عبد الرحمن الكيالي، المراحل في الانتداب الفرنسي وفي نضالنا الوطني، ج4، مطبعة الضاد، حلب، 1960، ص310..
في العقد الأول من عهد الانتداب الفرنسي، شهدت هجرة المسيحيين تزايداً لافتاً، وكانت معظم هذه الهجرات نحو الأمريكيتين وأفريقيا الغربية، لكن بسبب الأوضاع الاقتصادية التي ستمر بها البلدان المضيفة في الثلاثينيات المنصرمة، سوف يتراجع زخم هذه الهجرة، بل وسوف يعود بعض المهاجرين إلى البلادستيفن لونغريغ، مرجع سابق، ص357.. لكن ثمة هجرة مسيحية إلى سورية أيضاً، بدأت منذ عام 1915 مع بدء المجازر بحق الأرمن من قبل الأتراك، ثم في عهد الفرنسيين استقبلت سورية عدة موجات من المهاجرين الأرمن واليونانيين. وقد قدَّرَ ستيفن العدد الإجمالي حتى 1932، بـ 120 ألف لاجئالمرجع السابق، ص176 و177.، توزع معظمهم على حلب ولبنان. وفي عام 1933 ثمة موجة لجوء أخرى، لكن هذه المرة من العراق، وهم الآشوريون، وقد تم توطينهم في الجزيرة العربية على ضفاف الخابورالمرجع السابق، ص269.. بعد سنوات قليلة من هذه الهجرات، ستفقد سورية عاصمة المسيحية المشرقية، أنطاكية، التي سيستولي عليها الأتراك إثر اتفاق مع الفرنسيين.
ثالثاً – في الجمهورية السورية، ثم في المملكة الأسدية
بعد الاستقلال، سيتراجع حديث المكونات «مسيحيين وسنة… إلخ»، لصالح تصورات تسعى أو تجتهد للكلام عن شعب واحد بهوية وطنية سورية، أو عروبية. تذهب كارولين دوناتي إلى أن نسبة المسيحيين في سورية عشية الاستقلال 14% من سكان سوريةكارولين دوناتي، الاستثناء السوري بين الحداثة والمقاومة، ترجمة: لما العزب، دار رياض الريس، بيروت، ط1: 2012، ص34.، وهي نسبة مقاربة لما ثبته حنا بطاطو، حيث ذهب إلى أن نسبتهم عام 1943 كانت 14.1%، لكنها ستنحدر إلى 8.3% وفق إحصاء 1960حنا بطاطو، فلاحو سورية، ترجمة: عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، مراجعة: ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1: 2014، ص49.. على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي كان للمسيحيين المدينيين حضورهم كأعيان ووجهاء اجتماعيين في دولة ما بعد الاستقلال، والتي كانت غير مستقرة سياسياً لكنها عموماً كانت تحت هيمنة نخبة وطنية ذات أصول سنية مدينية، ثم لاحقاً العسكر القادمون أيضاً من أصول سنية، على الرغم من أن التواجد المسيحي في الجيش السوري كان كبيراً، إذ كان عدد الضباط المسيحيين وفق إحصائية عام 1947: 68 ضابطاً من أصل 279 ضابط، أي بنسبة 27.3%بشير زين العابدين، الجيش والسياسة في سورية، دار الجابية، ط1: 2008، ص124..
وبعيداً عن أعيان المدن، توزع المسيحيون على معظم أرياف المحافظات السورية، وكان عملهم الرئيسي هو الزراعة «الفلاحة»، أسوة بمعظم أهل الريف السوري. ومع بروز «القضية الفلاحية» في الخمسينيات المنصرمة، وكان أكرم الحوراني أبرز من عبّر عنها، انجذب فلاحون مسيحيون إلى تلك القضية التي تنظر إليهم كطبقة ينبغي الاعتراف بها وبمصالحها والدفاع عنها. لذلك سيجد الحوراني من بين المسيحيين من يدعمه ويساند دعواهحنا بطاطو، مرجع سابق، ص251 و252 و253.، ثم لاحقاً بعد تزويج الاشتراكية بالعروبة البعثية، كانت حركة الحوراني هي من رفدَ الحزب الوليد بكوادر فلاحية، كان من بينها مسيحيون «معظمهم أرثوذكس»، وجدوا في الحزب الوليد اهتماماً بقضيتهم الاجتماعية-الطبقيةالمرجع السابق، ص267 و268.، إضافة إلى الطرح العروبي الذي يفتح باب الاعتراف بهم كجزء من أغلبية قومية عريقة. وربما كان لوجود مثقف مسيحي «أرثوذكسي» هو مشيل عفلق، كأحد أهم منظري ومؤسسي هذا الحزب، دور في استقطاب بعض المسيحيين، لا سيما من الطلبة أو من الفئات الوسطى عموماً.
ثمة مؤشرات إلى تراجع وضع المسيحيين وتزايد قلقهم في عهد الوحدة بين سورية ومصر، ليس لأن العروبة المصرية تحوي جرعات زائدة من الإسلام وحسب، وهو ما يوقظ المخاوف القديمة حول الوجود والضياع؛ بل لأن سياسات هذه العروبة كانت مستبعِدة للمسيحيين، فطوال سنين الوحدة لم يتقلد أي مسيحي منصباً وزارياً في الإقليم الشمالي «سورية»نيقولاس فان دام، الصراع على سورية، الطبعة الالكترونية الأولى: 2006، ص124.. لذلك سرعان ما ستؤيد مرجعيات المسيحيين الدينية انقلاب الانفصال 1961 باعتباره «ثورة مجاهدة» بحسب رئيس الطائفة المارونية، خلّصت البلاد من «الطغيان والحكم الجائر» (الرئيس الروحي للطائفة الانجيلية)، وأن سورية بسبب هذه الثورة عادت «إلى المخطط العالمي كياناً مذكوراً ونجماً مثيراً يشع سلاماً ونظاماً ووطنية وقومية عربية» (بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس)الفريق عبد الكريم زهر الدين، مذكراتي عن فترة الانفصال في سورية، بيروت، ط1: 1968، ص100 و101.. يميل البحث إلى أن عهد الوحدة كان بداية لسحب ما تبقى من حضور مسيحي في الشأن العام، ذلك أن وصول الجيش إلى الواجهة كان كفيلاً بإقصاء التعبيرات السياسية والاجتماعية المدنية التي لم يغب عنها المسيحيون، بل حتى في الجيش ذاته بدا وكأن وجود المسيحيين فيه بدأ ينحسر. يروي الفريق عبد الكريم زهر الدين أن الجيش عرض عليه وزارة الدفاع في حكومة الانفصال، على الرغم أنه يأتي في المرتبة الرابعة من حيث الرتبة والأقدمية، وإن كان رفضُ أحد الثلاثة الأعلى منه بُرِّرَ بضعف شخصيته وإمكانياته، إلا أن الآخرين رُفضا حصراً لكونهما مسيحيينالمصدر السابق، ص60. يكذّب مطيع السمان، والذي كان قائد قوى الأمن الداخل في عهد الانفصال، رواية زهر الدين ويهاجمه بعنف بالغ. فللرد على عبد الكريم يروي السمان أنه أصبح ضابطاً بتوصية فرنسية كرد جميل لوالده الذي قدم الكثير من الخدمات لسلطات الانتداب، ثم أن زهر الدين تزوج من مسيحية وأصبح هو ذاته وأولاده فيما بعد مسيحيين. بل ويلمح السمان إلا احتمال أن تكون اسرائيل ذاتها وراء وصول زهر الدين إلى منصب وزير الدفاع! أما في الرد على كلام زهر الدين حول إقصاء الضباط المسيحيين، فلا يورد السمان أي معلومة، وإنما ينطلق في تكذيبه من كلام عمومي حول درء الفتنة وباستذكار دور فارس الخوري المسيحي في بناء الدولة السورية. يراجع: مطيع السمان، وطن وعسكر، دار بيسان، د.م، ط1: 1995، من ص54 وحتى ص63..
في عهد البعث استمرَّ وزن المسيحيين في التراجع على صعيد الشأن العام، فخلال الصراعات بين ضباط البعث وغيرهم، أو فيما بينهم، التي ميّزت السنوات الأولى للبعث في السلطة، نكاد لا نجد اسماً مسيحياً وازناً بين هؤلاء. أما اجتماعياً، كنا قد رأينا كيف اجتذب البعث قبل وصوله إلى السلطة بعض الأوساط المسيحية، لكن بعد السلطة ظهرت بوادر معارضة واحتجاج عند المسيحيين تجاه بعض السياسات التي سعى إلى تطبيقها. يذكر كل من آني شابري ولوران تشابري في كتابهما «سياسة وأقليات في الشرق الأدنى»، أنه حتى عام 1967 امتنع رجال الدين المسيحيين عن التدخل في السياسة الوطنية للبعث، أو عن المشاركة في نقده الذي برز في أوساط دينية واجتماعية سنية محافظة، لكن مع إمعان البعث في فرض سياسات علمانية كان من نتيجتها «انحدار نفوذهم الاجتماعي والسياسي»، تغير موقفهم من البعث. كان لظهور مقال في مجلة «جيش الشعب» في نيسان 1967 يتعرض لفكرة الله والأديان، أن أثار الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات، التي كان للمسيحيين حضور فيها، فقد شارك رجال دين أرثوذكس في «مظاهرات حماة المعادية للحكومة، وتدخل رؤساء الطائفة الكاثوليكية بدمشق للإفراج عن العلماء»آني شابري ولورانت شابري، سياسة وأقليات في الشرق الأدنى، ت: ذوقان قرقوط، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1: 1991، ص240 و241. المسلمين الذين اعتقلوا آنذاك. وبعد حادثة مجلة «جيش الشعب» بأشهر، أي في أيلول 1967، أصدر الحكام البعثيون قراراً بتأميم المدارس الخاصة المملوكة لجهات أو مؤسسات دينية، وهو ما خلق ردة فعل رافضة وغاضبة عند المسيحيين الكاثوليك الذين اعتبروا أن هذا القرار انتهاك للمؤسسات المسيحية التي كانت محترمة منذ فجر التاريخ المسلمالمرجع السابق، ص241. وينظر كذلك كارولين دوناتي، الاستثناء السوري، مرجع سابق، ص94 و95.! وفي تشرين الثاني 1969، حصل احتجاج مسيحي أيضاً من قبل الأرثوذكس السوريين أثناء محاولة النظام التدخل في انتخاب مطران الأرثوذكس الشرقيين في حمصآني شابري ولورانت شابري، مرجع سابق، 242.. هذه السياسات البعثية وغيرها، لا سيما الاقتصادية منها، كانت حافزاً لنفور مسيحيين من حكم البعث وابتعادهم عنه وانضمامهم إلى الجهات الراغبة بالخلاص منه، وعلى هذه الأرضية سيأتي حافظ الأسد.
ما سيفعله حافظ الأسد في البداية هو أنه سوف يحاول استرضاء جميع النخب الدينية في سورية، السنّة أولاً ثم المسيحيين، عبر إقرار امتيازاتهم وخصوصياتهم، لا سيما بعد الاحتجاجات الكبيرة التي واجهته في 1973 على إثر الدستور الذي حاول تثبيته، والذي حذف منه الإشارة إلى دين رئيس الجمهورية، وهنا كانت المعارضة بشكل رئيسي من قبل فئات إسلامية محافظة. ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، سوف يتدخل جيش حافظ الأسد في البداية إلى جانب الطرف المسيحي ضد الفلسطينيين وقوى لبنانية متحالفة معهم. لم يجد هذا التدخل أثراً إيجابياً بين مسيحيي سورية، وأثار معارضات من قبل إسلاميين وتيارات يسارية، لكن انقلاب التدخل السوري ضد المعسكر المسيحي في لبنان أثار بعض القلق في أوساط مسيحية سورية تشارك المسيحية المحافظة في لبنان الرؤية في كون لبنان إنجاز المسيحيين وملاذهم. سنوات بعد ذلك ستبدأ المواجهات بين نظام الأسد والإسلاميين وستنتهي لصالح الأول في 1982، لكن الأسد سيستغل هذا الانتصار لتحقيق انتصار أكبر على المجتمع السوري ككل عبر القضاء على كل التنظيمات السياسية العلمانية اليسارية وعلى الحركة النقابية والطلابية أيضاً. أي القضاء على السياسة بوصفها فعالية تعكس مصالح الناس واختلافاتهم ومطامحهم، وتتيح لهم السعي للانتماء إلى فضاء عام مشترك كمواطنين في الدولة. آلاف الشباب والشابات سينتهون في المعتقلات والمنافي، وسيكون من بينهم مسيحيون انتمى معظمهم إلى اليسار السوري.
ستدخل سورية بعد ذلك في بيت الطاعة الأسدي، والمجتمع سيغدو غامضاً عصياً حتى على فهم أبنائه لأنه غدا موضوعاً أمنياً، فأجهزة الأمن هي الجهة الوحيدة المخولة بمعرفته ودراسته وإدارته. ولن يكون المسيحيون بعيدين عن هذا المناخ، إذ ستُلغى كل استقلالية كان قد سمح بها مضطراً نظام الأسد، وستغدو جميع الهيئات الدينية ملحقة به وتحت مراقبة الأجهزة الأمنية. وفق هذا الترتيب سيضطلع رجال الدين المسيحيين بدور الوساطة بين مجتمعاتهم المحلية وبين السلطة التي ستقرّهم على دورهم هذا وتمنحهم هذا الامتياز، وسيذهب بعضهم إلى ما هو أبعد نحو إقامة علاقات زبائنية مع جهات في الفروع الأمنية أو السلطة عموماًAnna Poujeau, « De l’art poétique pour politique », Archives de sciences sociales des religions, 171 | 2015, 140 – 141..
نجح حافظ الأسد في حبس المسيحيين داخل الكنيسة، بعد أن أغلق كل الأبواب التي كان من شأنها أن يطل السوريين من خلالها على بعضهم بعضاً، واستسلم المسيحيون، كغيرهم، لهذا القدر القاسي. ويوماً إثر آخر تماهوا مع معجزة حافظ الأسد الذي استطاع أن «يمشي الذيب مع الغنمة»، فالذئب هنا هو ذلك المسؤول عن كل المآسي في تاريخهم. أمام حاضر فقير وسقيم ولا أفق فيه، كان يحضر هذا التاريخ لملء الفراغ، عبر حكايات الآباء للأبناء والأحفاد، أو عبر سياسة مدروسة تؤديها مؤسسات مسيحية أو رجال دين بإشراف سلطوي، والحكمة المستخلصة من هذه الرواية: «أننا بألف خير ما دام الوضع كذلك، وإلا…». بكلمة أخرى، سيغيب عن ذاكرة المسيحيين كل تاريخهم الغني، حتى القريب منه، وستثبت هذه الذاكرة عند مجزرة 1860، القابلة للتكرار إذا ما تحرر الذئب من سجن الصياد.
في عهد بشار الأسد، طرأ تغيير طفيف على المسيحيين، وهو أنهم كانوا أكثر ظهوراً مما هم عليه في عهد حافظ الأسد. لكن هذا الظهور في حقيقته لم يكن إلا ديكوراً يتزين به النظام لمعرفته بأهمية المسيحيين كوسيط بينه وبين العالم. قام بشار الأسد بتعيين عدة أشخاص من أصول مسيحية كمستشارين له، وكان لافتاً تعيين المهندس باسل قس نصر الله، وهو مسيحي، كمستشار لمفتي الجمهورية المسلم، أحمد بدر الدين حسون. وانتشرت صور بشار مع رجال الدين، مسلمين ومسيحيين، كدليل على «الوحدة الوطنية»، لكن لم يكن يوجد، على الأغلب، سوى وزير مسيحي واحد. بعد حرب العراق 2003، كان لافتاً موقف المسيحيين من الضغوط الخارجية التي أخذ يتعرض لها النظام، لا سيما إثر الفوضى التي وقع فيها العراق، والتي كان نصيب المسيحيين من مآسيها كبيراً، وجزء من هؤلاء لاذ بسورية حاملاً معه حكايات مروعة عما حل بهمكارولين دوناتي، الاستثناء السوري، مرجع سابق، ص452.. الموقف ذاته سيتخذه مسيحيون سوريون إثر اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري 2005، حيث ارتفعت وتيرة الضغوط على النظام بانضمام دول غربية، كفرنسا، إلى جوقة الضاغطين والمطالبين بعقابه وحصاره. لم يكن موقفاً سهلاً للمسيحيين أن يكون خصمهم الغرب، فهم يشعرون أنه سندهم وأن قرابةً ما تجمعهم به، وهو مقصد هجرتهم التي لم تتوقف سواء لأسباب اقتصادية أو معنوية تتعلق بالأمان والحقوق. لكنهم في المشرق يستسيغون المعسكر الذي يوجه خطاباً معادياً للغرب ويعادون حلفاءه في المنطقة، كالسعودية. يبقى الغرب قريباً، ونحن الأكثر قابلية للاندماج فيه من غيرنا، لكنه لم يعد يحترم قواعد هذه القرابة لأنه يتخلى، عبر معاداته للنظام السوري، عن أقربائه، ويدعم أسباب إبادتهم وتهجيرهم، والعراق خير مثال. وقائع من الماضي والحاضر تتفاعل مع بعضها على شكل سيرة وتراجيديا تنتهي بحكمة مفادها «أننا الآن بأفضل حال»، وأن «الذي نعرفه أفضل من الذي لا نعرفه»، فنحن لا حول لنا ولا قوة، ولا ضمانات أن نحيا في حال حصل أي تغيير كما نحيا الآن، وربما سنكون أول من يدفع الثمن كما حصل مع مسيحيي العراق ولبنان، هذه رواية سادت عند مسيحيين سوريين، لكنها ليست للتداول العلني، ففي العلن ثمة رواية أخرى اسمها «الوطنية».
تتحدث الباحثة الفرنسية Anna Poujeau عن استعانة المسيحيين بروايات من دول الجوار أو من التاريخ، لتأكيد ما يذهبون إليه من خوف على مستقبلهم ومن احتمال استعادة وقائع الاضطهاد بحقهم. وذلك عبر رصدها لعائلة مسيحية تسكن في حي باب توما الدمشقي، مكونة من ثلاث أجيال: الجدة «أم وائل» وأبنائها وأحفادها. ترصد الباحثة الفرنسية مبررات وأشكال القلق والخوف لدى هذه العائلة بمجملها، ويكاد يصل القارئ إلى أن مخاوف أم وائل لا تختلف كثيراً أو جوهرياً عن تلك المخاوف التي لدى أبنائها وأحفادها المتعلمين، والذين انخرط بعضهم بالسياسة إلى حد ما، ويعتقد معظمهم أنهم من أهل الحداثة «الأبناء والأحفاد». ترى الباحثة أن «جيل» أم وائل يخاف لأنه ربما عانى، فأم وائل ولدت عام 1900 في إحدى قرى جبل العرب، وتحمل في جعبتها الكثير من الذكريات المؤلمة حول ظلم أصابها وأهلها أثناء مقامهم في الجبل وغيره، لكن أولادها لم يروا مثل هذه المعاناة. بِنت أم وائل شيوعية، لكنها مسيحية تخشى على المسيحيين في حال اهتزَّ الوضع القائم. والأبناء والأحفاد يعتقدون أن حال الاضطهاد الذي رأته أم وائل سيعود عليهم إذا ما تغيرت الأحوال، أو أن تمييزاً سيحلُّ عليهم فيما إذا أظهروا صلبانهم أو دينهم. تقول الكاتبة: «إنهم يعيشون هذا كما لو أنهم شهدوا ما شهدته أم وائل»Anna Poujeau, DRAMA CHRÉTIEN OU COMMENT PARLER POLITIQUE EN SYRIE, p. 455.. ترى الجدة أن حافظ الأسد قد جلب معه الاستقرار السياسي للبلاد بعد فترة انقلابات لم يخلُ بعضها من عنف، كما أنه فتح باب الحريات الدينية للمسيحيين، وهذا أمر غير وارد لو كان غيره في السلطة. تروي أم وائل هذه القصص وهي تقارن بماض قاسٍ عايشته شخصياً، لكن اللافت هو حضور السِيَر ذاتها لدى أولادها وأحفادها أيضاً، ربما وصلت إليهم من خلالها، ما يجذبهم ربما إلى المقارنة نفسها بين زمنين أحدهما ليس زمنهم، وهنا تشير الباحثة إلى دور الذاكرة التي تنتقل بين الأجيال في تحديد المواقف الثقافية والسياسيةالمرجع السابق، ص452 و453 و454.. في بعض الأحيان، تحضر قصص الاضطهاد، والمبالغة في سردها، «والتي يكون بعضها صحيحاً» كفعالية لا واعية بقصد تبرير التصالح مع مجتمعٍ ما أو وضعٍ ما، من موقع الضعف. اللسان الناطق باسم هذه الفعالية يقول: الآن أفضل مما سبق بكثير. وبين الاضطهاد السياسي والاضطهاد الديني، تكون الكفة لدى البعض راجحة لصالح الأول، لأنه على الأقل سوف يترك مجالاً وهوامشاً للحريات الدينية والاجتماعية.
بهذه الحال استقبل مسيحيون سوريون الثورة السورية عام 2011، وكان عددهم يقدر آنذاك بحسب الباحثة الفرنسية Anna Poujeau بنحو 6% من عموم السكان السوريينAnna Poujeau, « De l’art poétique pour politique », Archives de sciences sociales des religions, 171 | 2015, p. 139..
رابعاً – مسيحيو سورية بعد الثورة
انفجار البركان السوري عام 2011 كان إيذاناً بانزياحات مجتمعية كبرى، وبسورية جديدة لن يكون ما قبلها مشابهاً لما بعدها. تبدّى هذا منذ البداية ولا يزال، وتشهد على ذلك المآلات التي وصلت إليها البلاد اليوم. مسيحيون سوريون بدأوا الحديث عن المؤامرة والإرهاب والسلفيين منذ آذار 2011، في استعادة ضمنية ربما لــ «الحكمة» التي أوردناها في الفصل السابق من هذا البحث: «إننا بألف خير ما دام الوضع كذلك، وإلا…».
وفي الاصطفافات والمواقف، ينتشر في صفوف طرفي الصراع في سورية، إن جاز الحديث مجازاً عن طرفين، خطابٌ يقول بـ «وقوف المسيحيين مع النظام». يثابر على تكرار هذه المقولة موالون لهذا الأخير ومعارضون له، يرون إلى المسيحيين كتلة متجانسة تقف مع نظام الأسد وحلفائه في حربهم على عموم السوريين الثائرين، وجلّهم، موضوعياً، قَدِمَوا من بيئات «سنّية».
نقد الاستسهال القائم على إطلاق حكم على جماعة بشرية غير متجانسة اجتماعياً وطائفياً وسياسياً، لا يعني على أي حال عدم وجود ملامح عامة، صبغت هذه «الجماعة» الأهلية – الطائفية أو تلك في سورية، فيما يتعلق بالموقف من الحدث السوري، في ظل غياب أو عدم بروز اختراقات كبيرة ووازنة ضمن الجماعة الواحدة على مستوى الموقف مما يحدث في البلاد.
يروّج النظام سردية وقوف المسيحيين «والأقليات عموماً» معه، دعماً منه لرواية حربه المزعومة على الإرهاب، معرِّفاً الإرهاب بالمعارضة، والإرهابيين بكل المعترضين عليه والثائرين في وجهه. هذا مع تصدّر الحرب على الجهاديين والتكفيريين وسائل الإعلام الدائرة في فلكه، وتصدّرها خطاب الخائفين من التغيير وأيضاً، خطاب الشرائح المرتبطة مصالحها ببقاء الأسد «مسيحيين وغير مسيحيين» والمستكينة إلى استقرار الــ «كنا عايشين». وعلى الجانب الآخر، لا ينقص المعارضةَ طائفيون على مستوى الأفراد أو التشكيلات يسوقون رواية النظام ذاتها تجاه موقف المسيحيين والأقليات عموماً منه، وإن على أرضية مختلفة ولدوافع مختلفة عن دوافعه، بما يقوم لدى هؤلاء الطائفيين على افتراض «سنّية الثورة» و«أحقية السنّة بها» دون غيرهم.
خارج هذه الثنائية، «نظام ومعارضة سياسية وعسكرية»، تقع مساحة سوداء يشغلها تكفيريون جهاديون أقاموا لهم دولة إسلامية «داعش»، وجهاديون تكفيريون في العمق وعلى السطح، يحلو للبعض تصنيفهم ضمن إطار «المعارضة المعتدلة» تمييزاً لهم عن «داعش» فقط، وليس تمييزاً لهم بــ «الاعتدال» المفترَض. ولهذا التوصيف ودوافعه ونتائجه مقامٌ آخر. يعمل الإسلاميون الجهاديون هؤلاء على فرض نموذج معياري للإسلام لا ينطبق، كما نفترض، على شريحة كبيرة من السوريين السنّة. فكيف سيكون الحال مع من ليس سنياً؟ واستطراداً وعلى نطاق أعمّ: مع من ليس مسلماً؟
في النتيجة ومع اندلاع الثورة السورية، انقسم المسيحيون إلى ثلاثة فئات، بحسب بروفسور اللاهوت المسيحي في كلية هارفرد للدراسات الدينية نجيب عوضفي الرابط مقال طارق الدبس في موقع NOW: مسيحيو سورية، من وهم الازدهار إلى معضلة الثورة.. وتلك الفئات تتبدى في «فئة أولى تقف قلباً وقالباً مع النظام ومع الأسد حتى النهاية، وتتمنى أن يسحق الثورة والمعارضة ويبقى في السلطة. هذه الفئة أقلية في الشارع المسيحي. وفئة ثانية تدعم الثورة بشكل علني وواضح وتقف بشكل رسمي وعلني مع المعارضة السورية، وتتمنى أن تنتصر المعارضة المسلحة في حربها مع النظام. وهذه الفئة هي أيضاً أقلية نسبياً… أما الفئة ثالثة فيمكن تسميتها الفئة الساكنة. هي ليست فئة (ساكتة) بمعنى صامتة وليس عندها رأي. بل هي فئة غالبة لها رأي واضح من قيم الثورة السورية، الديمقراطية والحرية والعدالة والإصلاح والتمدن ونهاية الفساد والقمع. لكنها فئة (ساكنة)، أي لا تتحرك ولا تقوم بالفعل لسبيين: أولاً، خوفها الشديد من انتقام النظام وقمعه الوحشي لها (كما فعل مع سواها) وثانياً، عدم رضاها الواضح والمبرر والمفهوم عن المنهجية العملياتية التي اتبعتها بعض أطياف المعارضة الصِّدَامية، والتي لاقت النظام في منتصف الطريق في خياره العنفي والأمني فواجهت عنفه بعنف مقابل وطائفيته بطائفية مقابلة وإرهابه بإرهاب آخر».
هذه «الأغلبية الساحقة» من المسيحيين في سورية تنحاز، بحسب عوض إلى «التغيير ونهاية عهد الاستبداد والقمع والديكتاتورية، لكنها لا تعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق بالعنف والحرب والقتال، وكذلك لا تشعر بأن البدائل السلطوية التي يمكن للمعارضات السورية أن تجلبها تستحق الثقة بها».
من الصعوبة بمكان، الوصول إلى إحصائيات أو نسب تقديرية لهذه الفئة أو تلك من عموم المسيحيين في سورية، ولا نعرف من أين استقى بروفسور اللاهوت المسيحي نسبة الأقلية هنا أو الأغلبية الساحقة هناك من بين الفئات الثالثة التي ذكَرها، إلا أن هذا التقسيم إلى ثلاث فئات والذي قدّمه البروفيسور عوض، يبقى صحيحاً بالعموم ويصحّ أن يكون نموذجاً لانقسام الشارع السوري والشعب السوري على أرضية الموقف من الثورة، مع اختلاف النسب والدوافع التي تقف وراء هذا الموقف وخصوصاً لدى تناول الجماعات الأهلية أو الطوائف، على ما يكتنف ذلك التناول من خطورة واستجرارٍ لمفردات الاتهام بــ «الطائفية والدعوة إلى التقسيم» على أرضية «الوحدة الوطنية».
مخاوف المسيحيين اليوم باتت أمراً واقعاً، بعد أن كانت غير مبررة في بدايات الثورة السورية عام 2011، يوم لم يكن ثمة «جهاديون» في سورية إلا النظام. الخوف الاستباقي من التكفيريين، والذي انتصب في البدايات، صار اليوم حقيقةً وواقعاً. حقيقةٌ وواقعٌ لا يعنيان، على أي حال، وعياً استشرافياً للمستقبل، رصيناً، لدى الجماعات الخائفة من هذا المستقبل، بقدر ما يطرحان أسئلة الاجتماع والوطنية السوريتين، وما إذا كانت الوطنية ناجزة فعلاً في ظل نظام الأسدَين «حافظ وبشار» أو حتى قبلهما، وهو ما نميلُ للإجابة عنه بالنفي. «الوطنية» في أحد تطبيقاتها، كانت شعاراً إعلامياً وسياسياً يستر عورة التناقضات الاجتماعية واللعب السياسي عليها. ناهيك عما رافق مسارات الثورة من تمرحلات بالتزامن مع الحل العسكري وحرب الإبادة التي خاضها ولا يزال يخوضها الأسد ضد معارضيه وحواضنهم، وخطاب قبل وطني «أو بعد وطني، إسلامي مرتبط بمشروع عابر للدولة». هذا الكلام هو مقدمة للدراسة والإضاءة على تفاصيل بعض المجتمعات المسيحية في سورية بعد الثورة بما لا يدعي الإحاطة الكاملة في هذا البحث، بعيداً عن أي حكم قيمة تبعاً لثنائية «الخير والشر». هو محاولة لفهم واقع المسيحيين انطلاقاً من مسار الأحداث، الذي لا ندعي القدرة على رصده بالمطلق.
الثورة على تخوم الأحياء المسيحية
«عندما عدتُ يوم 18 آذار إلى المنزل، كنتُ أخبرُ والديَّ وقد توقعتُ أنهما قد سمعا الأخبار مثلي، وأثارت لديهم ردة الفعل عينها، وكان في زيارتنا بعض الأقارب. وما إن تحدثتُ بالأمر، حتى فوجئتُ بالجميع. بعضهم وصفها بالمشكلة العرضية، وآخرون أكدوا بأن سورية لن تعرف شيئاً مما حصل في مصر. والأكثر صدمةً، كان من أدان أهالي درعا وأطفالهم، بحجة أنهم يعلمون بطش النظام، ورغم ذلك قرروا تحديه بمثل هذه الفعلة غير المسؤولة»Playing the Sectarian Card. Friedrich-Ebert –Stiftung. P. 76.. بهذا الكلام، أعطت ماريا رأياً لشريحتين من شرائح مسيحيي دمشق «ومسيحيي سورية وشريحة من السوريين بشكل عام» في بدايات الثورة واندلاعها، بين من يرى استحالة أن تشهد سورية ما شهدته البلدان العربية التي سبقتها «تونس، مصر، ليبيا، اليمن» دون توضيح ما وراء سبب الاستبعاد هذا: هل له علاقة بطبيعة النظام، «في افتراض الخوف المقيم في نفوس السوريين بما يعنيه من اعتراف ضمني بطبيعة النظام السوري كنظام مستبد وديكتاتوري يمسك بالبلد بشكل تستحيل معه الانتفاضة ضده»، أم لأسباب أخرى مختلفة. والقسم الثاني بدأ بلوم الضحية مستنداً أيضاً إلى بنية النظام وطبيعته العنفية.
عمد ناشطون في الثورة، والمسؤولون عن تسمية أيام الجمعة التي تشهد التظاهرات في كافة أنحاء البلاد في العادة، إلى مخاطبة المشاعر الدينية لدى الأقليات بهدف «توظيفها إيجابياً» على ما راج وقتها، لصالح «دعم فكرة وطنية الثورة ولا طائفيتها ولا مذهبيتها». ويمكن استحضار ذلك في مثالَي «جمعة صالح العلي، 17 حزيران 2011»ـ بما تحمله من رسالة للعلويين، و«الجمعة العظيمة، 22 نيسان 2011» في رسالة إلى مسيحيي سورية في تلك المناسبة المقدسة لديهم.
وفي «الجمعة العظيمة»، تتحدثُ ماريا أنه «كان من المفترض في هذا اليوم أن تتجه المظاهرات من مختلف المناطق المحيطة بالجهة الشرقية من العاصمة باتجاه ساحة العباسيين، التي تشكل معظم شوارعها مراكز الثقل المسيحي، لكنّ الهدف كان لكونها ثاني أهم وأكبر ساحة في دمشق من بعد ساحة الأمويين، واحتلالها لاعتصامٍ سلمي سيكون في صالح الثورة السلمية ومركز حشدٍ هام».
وتكمل بالقول «كنا أنا وعدد من أصدقائي نستعد للمشاركة إلى حين سمعنا الجيران والأهالي يتحدثون (لقد وصل الإرهابيون، إنهم قادمون لاحتلال القصاع). لا أعلم لماذا لم يرغبوا بتصديقهم، وفضلوا تصديق شائعات النظام، كان التغيير يخيفهم».
ومن ضمن الشهادات نفسها الموثقة في كتاب «سورية، اللعب على الورقة الطائفية»، يتحدث سالم: «رآني صديق من خلال نافذته فصاح لي لأصعد مسرعاً، حيث قام بسحبي إلى الداخل، ووجدت في ضيافته عدداً من الأصدقاء الذين تواروا في منزله. وجدت مجموعة من الرجال المسلحين كانوا يرتدون الجعب والملابس عينها التي رأيناها في فيديو البيضة قبل أيام، حتى أني شككت أن واحداً منهم كان ممن ظهروا في الشريط». يسمع سالم هتافاتٍ من الشارع «شبيحة للأبد» و«الله سورية بشار وبس»، يضيف: «كان صياحهم مسموعاً وواضحاً وهم يطلقون الرصاص في الهواء، إلا أني لم أكن أرى المتظاهرين على الإطلاق… لا أعلم إن كنت واهماً إلا أني سمعتُ من بعيد هديراً يقول: (حرية حرية، والشعب السوري واحد). في تلك اللحظة شعرتُ أني لست وحيداً، وأن هناك من يدعمني وهم أولئك القادمون من بعيد».
كان عناصر من الشبيحة يقفون عند مدخل سوق الهال، ومعهم أسلحتهم، ثم دخل جزء منهم إلى الداخل، وأخذوا بإطلاق الرصاص، ليرى أهالي الحي أن الرصاص بدأ من الداخل وليس من الخارج. «كانت لعبةً قذرة جداً، وهكذا أطلقوا النار وهم يحملون مبرراتهم (وإن كانوا ليسوا بحاجةٍ لها) أمام أهالي المنطقة، ودخلوا جميعاً مع وصول المظاهرة، سقط يومها حوالي 200 شهيد في أكثر من نقطة… كانت مجزرةً حقيقية»Playing the Sectarian Card. Friedrich-Ebert –Stiftung. P. 77..
في المقابل، تتحدث وئام قائلةً عن اليوم ذاته: «كان يوم عيد، وكنا مستعدين للذهاب إلى الصلاة ككل عام أنا وأطفالي، وقد كانت صلاة هذا العام مميزةً أكثر كون العيدين الشرقي والغربي قد توافقا في اليوم عينه، لذلك كانت أبواب جميع الكنائس مفتوحة… سمعتُ في الأخبار أنهم سموا الجمعة باسم الجمعة العظيمة، ماذا يريدون من هذا الأمر التجاري؟؟ لن يستطيعوا أن يمرروا مؤامرتهم بهذه التسمية، ما يفعلونه واضحٌ لنا جميعاً. إنها مؤامرة غربية وللأسف خليجية من أجل الصهيونية ومصلحة إسرائيل، وكلنا نعلم بمخطط تفريغ منطقة الشرق الأوسط من المسيحيين». وتكمل بالقول: «شعرتُ بشيء يشبه ما حصل أيام الثمانينيات عندما هجم الإخوان المسلمون، وخلصَنا حافظ الأسد منهم. واليوم كانت لدي الثقة بأن بشار الأسد سيفعل بالمثل مع السلفيين… لقد بدأوا بإطلاق النار، وأصاب أهالي الحي الذعر، لماذا يريدون القدوم إلى حينا؟؟ ماذا سيفعلون هنا؟؟. لقد أرادوا إفساد العيد علينا، ولكن الحمد لله استطاعت قوات الأمن أن تتصدى لهم»Playing the Sectarian Card. Friedrich-Ebert –Stiftung. P. 77..
في حمص، قتلت قوات الأمن متظاهرين في «ساحة الساعة» بتاريخ 18 نيسان، على خلفية الاعتصام الذي شهدته الساحة. وأثناء مرور المشيعين في أحياء تشهد كثافة سكانية مسيحية نسبياً فيها، مثل باب السباع والحميدية وبستان الديوان، لقي المشيعون تضامناً ملحوظاً معهم من توزيع الماء البارد عليه من قبل مسيحيين من تلك الأحياء وصولاً إلى مشاركة هؤلاء الأخيرين في تشييع شهداء المجزرة إلى مقبرة باب النصر. وبعد دفن الشهداء توجهت حشود المشيعين إلى ساحة الساعة الجديدة التي كان محظوراً الاقتراب منها. و«بدأ الاعتصام بمجموعة من وجهاء حمص ونشطائها وشيوخها وكهنتها. والجدير بالذكر أن من قام بإنارة الساحة هو رجل مسيحي يدعى أبو جورج، تبرّع بذلك دعماً للثورة»أسعد حنا، رصيف 24: المسيحيون في حمص ومواقفهم من الثورة والنظام.. وحتى نهاية عام 2012، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير حمل عنوان «حصيلة الشهداء المسيحيين والانتهاكات بحقهم في أثناء الثورة السورية»، مقتل 69 مواطناً من المسيحيين بينهم 3 اطفال و7 نساء على يد قوات الجيش والمخابرات السوريتَين، وتضرُّر ما لا يقل عن 18 كنيسة نتيجة القصف الجوي والمدفعي والبراميل المتفجرة على مختلف مناطق سورية.
وفي بعض التفاصيل، قصف طيران النظام السوري يوم الأربعاء 14 تشرين الثاني 2012 قرية تل نصري، وهي قرية آشورية مسيحية تبعد عن محافظة الحسكة 45 كم، واستهدف قصف القوات النظامية كنيسة السيدة العذراء يوم الثلاثاء 4 أيلول 2012، وكذلك كنيسة القديس جاورجيوس قرب مدينة جسر الشغور، وكنيسة أم الزنار في حمص التي قامت القوات النظامية بدخولها وسرقة محتوياتها. وعلى الصعيد ذاته أيضاً، ضربت القوات السورية النظامية دير سيدة صيدنايا بقذيفة غير متفجرة على خلفية قيام القائمين على الدير بإيصال الأدوية والمساعدات الإنسانية إلى المناطق القريبة المتضررة. «للمزيد يمكن قراءة تفاصيل إضافية في التقرير المنشور على الرابط أدناه في الهامش».
بتاريخ 29 آذار 2011، اجتمع مجلس أساقفة الكنائس المسيحية في دمشق وأصدر بياناً واضحاً في تأييده للنظام ولرئيسه بشار الأسد، إذ اعتبر البيان أن «ما يحدث في بلادنا هو مؤامرة خارجية اشتركت فيها، مع الأسف، أيادٍ داخلية وزادت في أوارها الوسائل الإعلامية المغرضة التي حاولت تشويه الصورة المشرقة التي تتمتع بها سورية في الداخل والخارج… نشدد في هذا الظرف على الوحدة الوطنية وعلى عدم الانزلاق إلى الفتنة الطائفية. إننا نبارك لشعبنا الأبي بما باشر به رئيسنا الدكتور بشار الأسد، العين الساهرة على الوطن، من إصلاحات، ونرجو أن تُتابع هذه الإصلاحات، كما نأمل أن تكون هذه الأحداث مناسَبة لِوَقفة ضمير لكل مواطن سوري، مسؤولاً كان أم غيرِ مسؤول، للانطلاق إلى مستقبل أفضل… وندعو الجميع أن يصلّوا من أجل بلدنا، ليبقى الله حامياً لسورية». من جانبه، قال البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع، في بيان صدر عن «بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذوكس» بتاريخ 3 نيسان 2011 أنه «يدين وبشدة اندساس بعض الأيادي الغريبة التي تُحرك ضعاف النفوس لتأليب الرأي العام في الداخل والخارج، للوصول إلى مآرب خاصة لا تخدم مصلحة سورية ومواطنيها الشرفاء، بل تضع سورية أمام مفترق طرق لا أحد يعلم نهايتها، وقد أخطأ العقل المدبر لهذه المؤامرات إذ اعتقد بأن إشعال نار الفتنة الطائفية سيقضّ مضجع السوريين، ويضعضع الجدار المتين الذي يحمي سورية ويمتعها بالأمن والسلام». وتابع عيواص في بيانه «كلنا ثقة بقائدنا الهمام السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد، الذي منحه الله حكمة الشيوخ وهمة الشباب، بأنه سيُخرج سورية من هذه الأحداث الأليمة بحلةٍ جديدة، وبشكل يضمن لجميع المواطنين الشرفاء كافة حقوقهم المشروعة».
وفي السياق ذاته، ناشد «بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك»، غريغوريوس الثالث لحام، دول العالم بتاريخ 16 نيسان 2011، «ترك سورية لمواطنيها»، قائلاً: «اتركوها للسوريين وكفاكم إرسالاً للسلاح والمحاربين والمرتزقة والمجرمين بل انزعوا السلاح ولنتحد»، معتبراً أن «الحرب والعنف والسلام لم ينجحوا! وتزويد المسلحين بالسلاح على أنواعه لم ينجح! نظرياتكم ونبوءاتكم بسقوط سورية رئيساً وحكومة، منذ بداية الأزمة وفي أشهرها الأولى عام 2011، لم تنجح».
لا يمكن اختزال كل مواقف رجال الدين المسيحيين بالمواقف الثلاثة آنفة الذكر وغيرها من مواقف محابية لنظام بشار الأسد، إلا أنها تشير إلى الصلة الوطيدة التي تربط كثيرين من رجال الدين المسيحي في سورية بالنظام تاريخياً، وهو ما يتبدى في المواقف المعلنة من قبل هؤلاء. وهؤلاء، بطبيعة الحال، لهم تأثيرهم الاجتماعي وليس الديني فقط، على بعض المسيحيين السوريين. الحديث عن الإرهاب والتطرف والفتنة الطائفية كان حاضراً في خطاب وعِظات هؤلاء البطاركة والأساقفة منذ عام 2011.
يمكن بالمقابل، ذكر مثالين فاقعين على خطاب مسيحي ديني في أماكن مختلفة من سورية، وخارج دمشق، كان مغايراً لمواقف رجال الدين المسيحيين آنفي الذكر، مثلاً لا حصراً، هما الأب فرانس فاندرلاخت والأب باولو دالوليو.
الأب فرانس فاندرلاخت، والمعروف بعمله الإنساني لصالح الناس المحاصرين في حمص، هو راهب هولندي الأصل يقيم في سورية منذ العام 1966، ولم يغادر حمص طيلة فترة حصارها حتى اغتياله في حي بستان الديوان بتاريخ 7 نيسان 2014. تبادَل النظام والمعارضة الاتهامات في قضية مقتل الأب فرانس على يد أحد الملثمين، الذي أرداه قتيلاً برصاصتين في الطريق أمام منزله.
في تقرير أعده موقع NOW حول اغتيال الأب فرانس، تحدث بعض أبناء المدينة عن احتمال كونه استُهدِفَ من قبل المعارضة. ويتحدث نبيل الحمصي قائلاً: «جهات إسلامية متشدّدة كانت تضمر العداء للأب فرانس بسبب انتمائه الديني. وفي الآونة الأخيرة، راجت الكثير من الإشاعات التي تُسيء إلى سمعة الكاهن المسيحي، إذ روّج الإسلاميون معلومات تفيد بأنّه يعمل لصالح النظام ويمدّه بالمعلومات عن مواقع الثوار وتنقلاتهم».
ويكمل الحمصي: «صحيح أن هذه الإشاعات لم تجد صداها بين سكان حمص المحاصرة بحكم العلاقة المتينة التي تربطهم بالأب فرانس، لكنّها كشفت الأخير أمنياً وجعلته هدفاً سهلاً لأي جهة معارضة تختلف معه عقائدياً»في الرابط مقال طارق الدبس في موقع NOW: شكوك في اغتيال إسلاميين الأب فرانس في حمص..
تلك العلاقة المتينة التي كانت تربط الأب فرانس بالمحاصرين، كانت سبباً لاتهام البعض الآخر النظام السوري باغتيال فاندرلاخت، فــ «وجود الأب فرانس في حمص المحاصرة قرابة عامين، يكفي ليدين النظام بأنه غير حامٍ للأقليات كما يدعي»اتحاد تنسيقيات الثورة السورية: النظام يقتل الأب فرانس لأنه وقف مع الثورة والشعب..
كتبَ الأب فان درلاخت في ذكرى مرور أول سنة على بدء قوات بشار الأسد بمحاصرة حمص وأهلها:
«سنة كاملة في حالة الحصار. إن جماعتنا الآن متألفة من 75 شخصاً، نصفهم عازبون ونصفهم متزوجون. تعيش أكثرية المتزوجين دون شريك ودون أولاد، وقد توفي في مرحلة الحصار 15 شخصاً موتاً طبيعياً، نقدّس يوم الأحد مع بعضنا البعض في كنيسة الآباء اليسوعية ونعطي بقدر الإمكان لكل طقس حقه. معظمنا من طائفة الروم الأرثوذكس ونجد أيضا مؤمنين من طوائف أخرى مثل السريان الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، السريان الكاثوليك، البروتستانت، نجد بعضنا البعض بعد الصلاة بلقاء أخوي وبزيارات بيتية. ندعو الجماعة يوم الأربعاء إلى الفطور وتحضّر جماعة من الدير المناقيش للجميع على نار الحطب. تحب الجماعة الالتقاء ببعضها البعض وتقدم خدمات للمحتاجين، يطبخ البعض مزيداً من الأكل حتى يستطيعوا التوزيع على الآخرين، نجد اهتماماً خاصاً للمسنين ويشعر كل واحد بأنه لا يعيش وحده، بل منتمياً إلى جماعة، إن هذا الانتماء مهم لأن كل شخص يعاني كثيراً من الصعوبات ويعيش الظروف المؤلمة مختلفاً عن الآخر، ننتظر في كل مرة أن يكون الفرج قريباً ويستعمل أناس العبارة –بهاليومين- بل أصبحت هاليومين أسبوعاً وشهراً وسنة، وعلينا أن نصبر كل مرة من جديد ونواجه المجهول والمخيف. انتقل أناس من بيوتهم إلى بيت جديد بسبب الخطر وغيرهم يعانون من تضرر بيوتهم، ويتساءل الكل: ماذا سيحدث؟ كل شيء ممكن. إن أبعاد خلفيات ظروفنا غامضة وعلى التاريخ توضيحها وإدراكها، شخصياً أشعر بأهمية هذه الظروف ولا أحب أن أكون في مكان آخر، ولي الشرف أن أعيش تقريباً 50 سنة في هذا البلد العزيز عليّ واغتنيت بكنزه وتعاملت معاملة أخوية ومحبة، مثلما شاركت سورية بفيضها، أحب أن أشاركها الآن بألمها، تسمح لي ظروفي أن أتواصل كل يوم من الداخل مع الشعب السوري وألمه ولا يمكن هذا التواصل إلا بمشاركة يومية وواقعية… لا أستطيع أن أتخيل نفسي في مكان آخر».
وانتقد الأب فرانس في حديث إلى وكالة «فرانس برس» المجتمع الدولي قائلاًمجلة رؤية سورية: الأب فرانس الهولندي يقتله مجهول برصاصة في الرأس. «أشعر دائماً أن المجتمع الدولي في وادٍ ونحن في واد. هم يتحدثون ويجتمعون في مطاعم وفنادق، لكن ما نعيشه هنا بعيدٌ جداً عما يعيشونه. يتكلمون عنا لكنهم لا يعيشون معنا».
الأب باولو دالوليو، كاهن يسوعي إيطالي أمضى حوالي 30 عاماً في سورية، قبل أن يقوم نظام بشار الأسد بنفيه من سورية في حزيران 2012، على خلفية موقفه الداعم للثورة السورية والذي يدين العنف والقتل المستمر فيها. لقد قرر النظام إبعاد الأب الإيطالي بذريعة أنه «خرج عن نطاق مهمته الكنسية». وذكر ناشطون في تقرير أعدته جريدة «الشرق الأوسط» أن «مغادرته تأتي بعد إنهاء خدماته من قبل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام، بعد خدمة استمرت أكثر من 30 عاماً في سورية». الجدير بالذكر أن البطريرك لحام الذي أنهى خدمات الأب باولو هو نفسه صاحب العظة المذكورة أعلاه، والتي يطالب فيها «المتآمرين» قائلاً «اتركوها للسوريين وكفاكم إرسالاً للسلاح والمحاربين والمرتزقة والمجرمين، بل انزعوا السلاح ولنتحد».
في مقابلة معه بعد أن طرده النظام السوري من سورية، اعتبر الأب باولو أن «الشعب السوري دفع ثمناً مرعباً، لكن التراجع إلى الوراء مستحيل، والمجتمع الدولي صار مقتنعاً أن هذا النظام غير قادر على إحداث التحول الديموقراطي. التغيير قادم ومتوقع من قبل الجميع… لكن الوقت أصبح قصيراً لأن الناس يموتون بالشوارع وهناك مشكلة إنسانية بالدرجة الأولى ولا بد للمجتمع الدولي أن يقوم بمهماته. الشعب السوري يطالب بحرياته ولكن سقط هذا الشعب بحالة الحرب الأهلية». وتابع قائلاً «سورية جُعلت حلبة للحرب الأهلية والحرب السنية-الشيعية. وأنا أخشى أن عدم سقوط النظام سيطيل الموضوع ويوطد الحرب الأهلية على الأرض مما سيجعل من المستحيل على المسيحيين البقاء في سورية». عاد الأب باولو إلى سورية عبر الحدود الشمالية أكثر من مرة. وأخيراً، وفي 28 تموز 2013، توجه إلى مدينة الرقة في محاولة منه لـ «مقابلة قياديين في تنظيم الدولة في المدينة لطلب الإفراج عن المعتقلين السياسيين»في الرابط تقرير اللجنة السورية لحقوق الإنسان. سنتان على اختطاف الأب باولو.، كما «شارك في تظاهرة شهدتها المدينة نصرة لمدينة حمص»، قبل أن يتم الإعلان عن اختفاءه في اليوم التالي.
واستطراداً، فإن للأب باولو رمزية أخرى تضاف إلى رمزيته الشخصية لدى عموم السوريين الثائرين والمعارضين لحكم الأسد، وهي أنه الإنسان الذي ربما يكون قد دفع حياته ثمناً لمواقفه المناهضة لسياسة النظام والتكفيريين المنتشرين اليوم على أرض سورية. الأب باولو كان يعرّف نفسه في كلماته وخطبه وكتاباته بأنه صلة وصل بين مسلمين ومسيحيين في سورية والمنطقة على طريق خلاص السوريين من عذاباتهم. لم يطرح نفسه نداً وخصماً مباشراً لخطاب رجال المسيحيين المحابين لنظام دمشق، لكنه كان فاعلاً وحاضراً بسلوكه وخطابه ومشاركته السوريين في حراكهم بما جعله نقطة تحول في نظرة مسيحيين إلى مسلمين وبالعكس. وفي آخر منشور على «فيسبوك» قبل تغييبه، كتب باولو دالوليو: «أصدقائي الأعزّاء، جئت اليوم إلى مدينة الرقة وأنا أشعر بالسعادة لسببين: أولهما أنني على أرض سورية الوطن وفي مدينة محررة، والسبب الثاني الاستقبال الرائع من قبل هذه المدينة الجميلة. لقد عشتُ أمسية رمضانية من أحلى ما يكون والناس في الشوارع بحريّة ووئام، إنها صورة للوطن الذي نريده لكل السوريين. طبعاً لا يوجد شيء كامل، لكن الانطلاق جيد، أدعو لي بالتوفيق من أجل المهمة التي جئت من أجلها. إن الثورة ليست توقّعات بل التزام! السلام عليكم وشهر رمضان كريم علينا أجمعين».
وسواء كان قد اختطف «أو ربما قتل» بسبب «ذميته» وهو الكاهن المسيحي، أو بسبب مواقفه السياسية تجاه التشدد الإسلامي، أو حتى في إطار تنسيق بين تنظيم داعش والنظام على ما لوح ناشطون ومحللون كثر، فإن تغييبه هو انعكاس لصورة سورية اليوم، التي تتناهش مكوناتها الطائفية والدينية أنياب النظام وحلفائه من جهة، وسكاكين ورصاص الإسلام الجهادي «المترفّع» عن كل ما هو سوري.
وعن دور رجال الدين المسيحيين أيضاً في موقف مسيحيي سورية تجاه الثورة، اعتبر جورج صبرة، رئيس المجلس الوطني السوري سابقاً أن «عدم تحرك المسيحيين في سورية إلى جانب إخوانهم بشكل فعال في الثورة، يرجع إلى تأخر الكنيسة في إظهار موقف حقيقي يضع المسيحيين في قلب الصورة»، معتبراً أن «هناك مسؤولية على الكنيسة في هذا التقصير، لكن المسيحيين عاجلاً أم آجلاً سينخرطون في الثورة».
وحول ولاء المسيحيين في سورية للنظام حتى الآن، علّق صبرة في كلامه الذي يعود إلى شباط 2012، بأن «هناك في الطائفة المسيحية السورية من يصطف مع النظام، ومن هو موجود في صفوف المعارضة، مثل بقية الطوائف. وعلى مستوى النخب، شارك المسيحيون بفعالية في جميع نشاطات الثورة، من الميدان وحتى المنابر السياسية والإعلامية، أما على مستوى الكتل الجماهيرية وكتل المجتمع، لم يتحرك المسيحيون في صفوف الثورة». لكنّ صبرة لم يستمر على قراءته تلك لقضية مشاركة المسيحيين في الثورة من عدمها، بل ذهب في المغالاة ليكون «ملكياً أكثر من الملك»، وهو المسيحي في جذوره الاجتماعية والأهلية، واليساري والعلماني بتنظيمه السياسي «قيادي في حزب الشعب الديمقراطي السوري»، حيث استغرب لاحقاً «إدراج الولايات المتحدة جبهة النصرة على لائحة الإرهاب»، مشدداً على أن «الشعب السوري يعتبرها جزءاً من الثورة».
قضية راهبات معلولا
في أوائل كانون الأول 2013، احتجزت «جبهة النصرة» 13 راهبة وعاملتين في دير «مار تقلا» الأرثوذكسي في بلدة معلولا، بعد قيامها إلى جانب فصائل عسكرية غيرها بهاجمة البلدة القريبة من دمشق، وأُفرج عنهن في العاشر من آذار 2014 بوساطة قطَرية، في مقابل إطلاق النظام سراح 150 امرأة سورية من النساء المعتقلات في سجونه.
القضية هذه كانت مثار تناقض في طريقة تعامل النظام السوري وإعلامه معها، فهي بدأت بترويج ظاهرة الخطف التي قامت بها الجبهة بحق الراهبات، بما يعنيه ذلك من تعزيز لرواية خطر الجماعات التكفيرية على الأقليات الدينية والطائفية «وهذا قول صحيح على أي حال، بعيداً عن دوافع النظام للعمل به وترويجه». إلا أن الموضوع اختلف اختلافاً جذرياً بعد نقل الراهبات إلى معبر المصنع على الحدود السورية – اللبنانية، حيث انتشر تسجيل يظهر تّوجُّه إحدى الراهبات بالشكر «على المعاملة الجيدة لجبهة النصرة بحقهن أثناء الاحتجاز».
التصريح كان إيذاناً بانقلاب خطاب النظام السوري تجاه الراهبات الخارجات من الأسر، حيث قالت وسائل إعلامه في نشرات الأخبار: «أن تنسى راهبة تم تحريرها، أو تتناسى، الجيش العربي السوري ودماء شهداءه، فذلك يندرج في خانة الخيانة، أو على الأقل: الانحراف عن الوطن. موقفٌ أقل ما يقال عنه أنه صادم، موجع، حين تقول من نذرت نفسها لخدمة الرب ما لا يقوله أبناء سورية الذين عاشوا محنتها يوماً بيوم وساعة بساعة، ودفعوا لأجل أن تظل سورية مهداً للعيش المشترك، الدم والروح، ضريبة انتماء ووطنية وكرامة… إن كلام تلك الراهبة يرقى إلى وصمة العار…»من فيديو تم حذفه عن يوتيوب بعد اطلاعنا عليه، وهو بعنوان: صدمة نظام الطاغية بشار من تصريحات راهبات معلولا بعد إطلاق سراحهن. وهو يعرض مقدمة لإحدى نشرات الأخبار على قناة “سما” التابعة للنظام..
شكلت تصريحات الراهبة صدمة لمعسكر النظام، ومن ضمنهم مسيحيون، لما تحمله هذه التصريحات من دلالات بدا وكأنها تصب في صالح جبهة النصرة. وعلى هذا، أعدّ ناشطون مسيحيون عريضة تخاطب البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس، تدعوه إلى طرد الراهبة «بيلاجيا سياف» رئيسة دير مار تقلا ببلدة معلولا من الخدمة الكنسية، وتضمنت العريضة اتهاماً للراهبة إياها بأنها على صلة مع حزب «القوات اللبنانية» الذي يتزعمه سمير جعجع.
يَعتبر الكاتب والصحافي السوري إيلي عبدو في قراءته لدلالات تلك المواقف وتحولاتها، وتعبيرها عن طبيعة علاقة النظام مع الأقليات، أن «عموم المسيحيين تمنوا لو أن راهبات معلولا لم يتفوهن بكلام يخدش موقفهم الكلاسيكي الداعم، كما يقولون، للدولة. فحملة الموالين المسعورة بدت إهانة معنوية قاسية. فالراهبات يمثلن امتداداً للمؤسسة الكنسية التي تمثل المسيحيين حالياً، وشتمهنّ وإذلالهنّ كلامياً هو في عمقه شتم وإذلال للكنسية. ما يعني أن نظام الأسد أراد أن يوبخ الأقلية التي حاولت التمرد عليه، على رغم كل المشاق التي يتكبدها بغرض حمايتها، فدفع مواليه نحو إهانة الراهبات».
وفي معلولا أيضاً، وفي 4 أيلول 2013، هاجمت جبهة النصرة حاجزين للنظام في منطقتي عين التينة وجبعدين، تم الحسم السريع فيهما لمصلحة «االنصرة» ومن شارك معها من فصائل أخرى. وبعد فرار عدد من عناصر النظام الذين كانوا يتمركزون على الحاجزين إلى داخلها، اتُّخذ قرار من أمير «النصرة» في القلمون والملقب بـ «أبي مالك» بملاحقة العناصر ودخلت «النصرة» إلى معلولا. وسط هذه الأجواء التي بدأ العنف يتصاعد فيها وسط البلدة، بدأ أهالي البلدة بالنزوح إلى خارجها، قبل أن «يُتخذ قرار من الجيش الحر وجبهة النصرة بالانسحاب الفوري من المدينة» بحسب القيادي المعروف في المعارضة السورية والمعتقل الحالي في سجون النظام فائق المير، والذي كان على اتصال ببعض الكتائب المقاتلة في هذه العملية. واعتبر المير أن «الكتائب على ما يبدو تختلف من منطقة الى أخرى»جريدة الحياة، 17 أيلول 2013، “النموذج الضروري في الأولى والتخبط في الثانية”. مقال لعبدالله أمين الحلاق يتضمن شهادة حصل عليها الكاتب من فائق المير، حول ما حدث في معلولا..
إعلام النظام تعامل مع ما حصل بالآلية المعروفة عنه ذاتها، وصارت مسألة حماية الأقليات حاضرة مجدداً بالارتكاز إلى اقتحام البلدة من قبل المعارضة المسلحة. حصل ذلك، «للمصادفة»، بعد حوالي أسبوعين من ارتكاب الأسد مجزرة الغوطة بالسلاح الكيماوي «21 آب 2013»، والتي قضى فيها أكثر من 1400 سوري في ليلة واحدة، وما تلاه من احتمالات توجيه ضربة عسكرية أمريكية عقابية نتيجة استعماله السلاح الكيماوي.
البطريرك لحام تحدث عن «محاولات تخريب حصلت في كنيسة مار الياس، وأن عمليات سرقة للبيوت حصلت، وهناك صلبان تم تكسيرها». بعد ذلك، ظهرت الراهبة بيلاجيا مرة باتصالات هاتفية مع قنوات إعلامية لتتحدث «أن أحداً من الجيش الحر لم يقترب من الكنائس، وأنه لم يتم قتل أحد، وإنما هي حالة من الخوف سيطرت على المدينة بسبب أصوات القذائف وانتشار الدخان، وهو ما أثار رعبهم في البداية».
روسيا والغرب، و«مغناطيس» المسيحيين الجاذب
قضية راهبات معلولا اللواتي اختطفن على أيدي جبهة النصرة، «خدمت» سردية النظام وحلفاءه في «محور الممانعة»، من دون أن تهتم تلك السردية اليومية المستمرة في مسارها بالبحث عن خدمة من هذا النوع. وحتى الطريقة التي تعامل بها إعلام بشار الأسد مع القضية عينها بعد تصريح الراهبة بيلاجيا سياف، لم تكن لتمحي الطريقة التي يتلقف بها النظام معطيات الواقع وتحولاته في خدمة خطابه. جاء الجهاديون السوريون وغير السوريين من المقاتلين على الأرض السورية ليقولوا للنظام بشكل غير مباشر: «نعم، أنت محقّ وعلى صواب».
الطريقة التي تعاملت بها التيارات القاعدية مع المسيحيين في سورية حين «استتبت» لها سلطة الأمر الواقع، كانت مجال استقطاب تحليلات غربية كثيرة، وكانت أيضاً «إحدى الأهداف» التي قال التدخل العسكري الروسي أنه دخل في سورية من أجلها. وهو تدخّلٌ في حلٍّ من هذه «الرسالة السامية» التي أناطها بنفسه على أي حال.
في الإعلام الغربي على سبيل المثال، عرضت القناة الأولى في شبكة ARD الألمانية وثائقياً عن الاضطهاد الذي يلحق بالمسيحيين السوريين، وعن هروب مئات الآلاف منهم إلى لبنان ومن ثم إلى أوروبالم يعد الوثائقي متاحاً على يوتيوب.. فيلم قصير اعتبر فيه المطران جورج صليبا وعائلتان سوريتان مسيحيتان تقيمان في لبنان، «أن الإسلاميين وليس نظام الأسد هم من يضطهد المسيحيين»، وأن «حزب الله هو من يساعد المسيحيين ويقاتل دفاعا عنهم». واعتبر صليبا أيضاً أن «النظام السوري وحزب الله يقاتلان دفاعاً عنا، و(الثوار) الذين يدعمهم الغرب هم من يقتلوننا»، خاتماً كلامه بالقول: Hezbollah is a good friend for Christian
لم يشرح المطران صليبا للغربيين الذين يشاهدون ذلك التقرير ما هي الفوارق بين الــ good friend الذي يشكله حزب الله له ولمسيحيين كثر «يحميهم الحزب» بحسبه وبحسب التقرير، وبين الإسلاميين الآخرين. وهي قصة بحاجة إلى الخوض الطويل في ماهية «حزب الله» كحزب طائفي أصولي يشبه الجهادية السنّية في مواضع ويختلف عنها في مواضع أخرى، وهي مسألة لم تَسأل عنها القناة الألمانية التي بثت لقاءات قصيرة مع مسيحيين موالين للأسد اختزلت مشهداً بالغ التعقيد بعبارة «الأسد يحمي الأقليات»، وهو ما لم يتأخر المطران صليبا في التشديد عليه.
مخاطبة الغرب واستثارة «فوبيا الإرهاب» منسوباً إلى الإسلام لدى المستعدين لتلقف تلك المخاوف في هذا الغرب، كان يسير على قدم وساق أيضاً في خطاب المسؤولين السوريين والإعلام الرسمي السوري. وربما يكون كلام بشار الأسد خير معبر عن ذلك في الحوار الذي أجراه معه الصحفي ريجيس لي سوميير، نائب رئيس تحرير مجلة «باري ماتش» الفرنسية، والذي تُمكن فيه ملاحظة جواب بشار الأسد لدى سؤاله عن رأيه بنظرة الرئيس السابق فرانسوا هولاند إليه شخصياً، وهو الذي تلخص بالقول «أنا لا أنافس هولاند على أي شيء. أعتقد أن من ينافسه في فرنسا الآن هو داعش لأن شعبيته قريبة من شعبية داعش».
«شعبية هولاند» التي افترض بشار الأسد أنها «قريبة من شعبية داعش»، هي مخاطبة لشرائح في الغرب وفي فرنسا خصوصاً، ترى في اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب السورية «خطراً على الاستقرار الغربي والأمن فيه»، وتلمح من ناحية ثانية إلى مقاتلي داعش الوافدين إلى سورية من فرنسا وغيرها، إذ لم يكفَّ الأسد وإعلامه عن اتهام دول أوروبا بــ «تسهيل انتقالهم إلى سورية». هذا كله طبعاً في إطار «المؤامرة الكونية على سورية».
لا تحتاج دوائر إعلامية كثيرة في الغرب إلى خطاب الأسد وإعلامه لكي تعوّم المسألة السورية باعتبارها مسألة أقليات ومسيحيين. ومن ضمن الأمثلة التي يمكن سوقها كمثال على التعامل الإعلامي في بعض وسائل الإعلام الغربية، التقارير التي تنشرها منظمة «أوبن دورز» الأمريكية المسيحية حول أحوال المسيحيين الذي يتعرضون للاضطهاد في العالم. وجاء في التقرير الذي بثته قناة France 24 التلفزيونية عام 2013 أن «سورية قفزت من المكان السادس والثلاثين إلى المكان الحادي عشر على القائمة بعد أن أصبحت أقليتها المسيحية -التي كان مقاتلو المعارضة يشتبهون في بداية الأمر بأن لها صلة وثيقة بحكومة الرئيس بشار الأسد- هدفا متكرراً للمقاتلين الإسلاميين المتشددين»france24: تقرير – نحو 100 مليون مسيحي يتعرضون للاضطهاد في أنحاء العالم..
السيناتور راند بول، وهو عضو مجلس الشيوخ الأمريكي قال في تصريح له إنه «في غياب بشار الأسد، سيكون هناك دولة إسلامية جديدة في سورية وستكون مضطهِدةً للمسيحيين»، معتبراً أن «العديد من المسيحيين الذين لا يزال مستقبلهم مجهولاً أيّدوا الرئيس السوري بشار الأسد خوفاً من أن يأخذ الاسلاميون الحكم في سورية، لأن المسيحيين سيتعرضون عندها للاضطهاد الشديد».
يمكن سرد وقائع كثيرة من تلك التي تختزل المسألة السورية بكونها مسألة أقليات أو مسيحيين يدّعي بشار الأسد أنه يدافع عنهم، إلا أن هذا لا يعني على أي حال أن الوجود المسيحي في سورية ليس في دائرة الخطر، وخصوصاً في ظل عدم اتضاح أفق لنهاية الحرب السورية وهو ما يتزامن مع نمو التيارات المتشددة دينياً في سورية والتطرف وإن هُزِمَ تنظيم داعش قريباً في سورية.
روسياً، تتقاطع خطابات حماية المسيحيين مع مواقف غربية ورد ذكر بعضها أعلاه في بعض الحالات، وإن مع غياب عمل عسكري غربي «فاعل» في سورية على عكس ما فعله الروس. هذا التقاطع يعبر عنه على سبيل المثال السيناتور الأمريكي ريتشارد بلاك، سيناتور فيرجينيا، في رسالته إلى بشار الأسد التي جاء فيها: «عزيزي السيد الرئيس: سُررت بالتدخل الروسي ضد الجيوش التي تغزو سورية. وبدعمهم، حقق الجيش السوري خطوات دراماتيكية ضد الإرهابيين… إنه من الواضح أن هدف الأتراك والسعوديين هو فرض دكتاتورية دينية على الشعب السوري. وإذا تمكنوا من النجاح في هذا الأمر فإن المسيحيين والأقليات الأخرى سوف يذبحون أو يباعون بسوق النخاسة. وسوف يُحرق، ويُغرق، ويُصلب، وتُقطع رؤوس كثير من السنة والشيعة المسلمين الجيدين… أشكركم لحماية حياة المسيحيين وكافة الناس الطيبين السوريين».
وقد بدأ فلاديمير بوتين وحتى قبل تدخله العسكري في سورية، باللعب على مسألة المسيحيين السوريين والخطر الذي يواجهونه بسبب غول الإسلام الجهادي. «وينقل المسيحيون العرب عن سفراء روسيا إن هؤلاء يحثونهم على تأييد موسكو الارثوذكسية حامية الأقليات وقائدة تحالفهم، وأن على المسيحيين العرب التمسك بالرئيس السوري بشار الأسد، الذي ينحدر من الأقلية السورية العلوية، وكذلك التمسك بالأقليتين الشيعية واليهودية في منطقة الشرق الاوسط»الرابط: جريدة المدن، حسين عبد الحسين: تحالف بوتين- ترامب.. يا مسيحيي العالم اتحدوا.. كما تداولت مواقع إخبارية صوراً لرجال دين مسيحيين روس يباركون صواريخ المقاتلات الروسية المتجهة الى السماء السورية، بينما أعربت الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا عن «دعمها قرار موسكو شنّ غارات جوية في سورية ضد تنظيم (داعش)»، ووصفت هذا التدخل بـ «المعركة المقدسة». وقال بطريرك الكنيسة الروسية، كيريل الأول، في بيان رسمي: «لقد اتخذت روسيا قراراً مسؤولاً باستخدام القوة العسكرية لحماية الشعب السوري من المعاناة التي يلحقها بهم الإرهابيون»، معتبراً أن «التدخل المسلح ضروري لأن العملية السياسية لن تؤدي إلى أي تحسن ملحوظ في حياة الأبرياء المحتاجين إلى الحماية العسكرية». وتحدث البطريرك عن معاناة المسيحيين في المنطقة وخطف رجال الدين المسيحيين وتدمير الكنائس، مضيفاً أن «معاناة المسلمين لا تقل عن ذلك»العربية نت، الكنيسة الروسية: بلادنا تقود حرباً مقدسة في سورية..
«الخليفة» و«أهل الذمة»
بعد سيطرته على مدينة الرقة، تعامل تنظيم داعش مع المسيحيين في المحافظة على اعتبارهم من «أهل الذمة»، بدءً من فرض الجزية عليهم وليس انتهاءً بالتهديد لهم بقانون جديد لا يحمل لهم إلا «الويل والثبور». قانون قد يودي بالمسيحي المنكود الحظ الذي لا يلتزم به إلى ما لا تحمد عقباه. فَتَحْتَ عنوان «عهد الأمان الذي أعطته الدولة الإسلامية لنصارى الرقة مقابل التزامهم بأحكام الذمة»، أمرَ التنظيم بألا يُحدث المسيحيون في مدينة الرقة أو ما حولها ديراً أو كنيسة أو صومعة راهب، وأن لا يجددوا ما خرّب منها… وألا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين أو أسواقهم، وأن لا يستعملوا مكبرات الصوت عند أداء صلواتهم وكذلك سائر عباداتهم، وأن يلتزموا بعدم إظهار شيء من طقوس العبادة خارج الكنائس». واستأنف البيان تهديده للمسيحيين بأن «لا يقوموا بأي أعمال عدوانية تجاه الدولة الإسلامية، كإيواء الجواسيس والمطلوبين قضائياً لها، أو من تثبت (حرابته) من النصارى أو من غيرهم، أو مساعدتهم في التخفي أو التنقل أو غير ذلك. وأيضاً ألا يمنعوا أحداً منهم من اعتناق الإسلام إذا أراد هو ذلك، ولا يجوز لهم امتلاك السلاح أو المتاجرة ببيع الخنازير أو الخمور مع المسلمين أو في أسواقهم وألا يتناولونها علانية»، كما نص العهد على التزام المسيحيين «بما تضعه الدولة الإسلامية من ضوابط كالحشمة في الملبس أو في البيع والشراء وغير ذلك». وأخيراً، «يلتزم النصارى بدفع الجزية على كل ذكَر منهم ومقدارها 4 دنانير من الذهب، أي ما يعادل 17 غراماً سنوياً على أهل الغنى ونصف ذلك على الفقراء منهم». للأمانة، فإن «الخليفة البغدادي» الذي يعد راعي هذا البيان «لم يترك المسيحيين دون مقابل» في حال التزامهم بهذا النص، فبالمقابل: «يعطى المسيحيون أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ذراريهم في ولاية الرقة، لا تهد كنائسهم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم». وبعد هذا البيان/ التخيير، «طلب المسيحيون مهلة للتشاور مع مرجعياتهم. ثم عقد اجتماع بحضور ممثل عن الدولة الإسلامية وأكثر من عشرين ممثلاً عن المسيحيين اختاروا، ووقعوا نيابة عن طائفتهم»فرانس 24، تقرير، مسيحيو الرقة يختارون دفع الجزية والتمسك بديانتهم..
يذكر أن العائلات المسيحية «خضعت في الرقة لدورة تعريفية من عناصر داعش حول كيفية التعامل مع المسلمين والحقوق والواجبات المفروضة عليهم كمسيحيين استمرت 7 أيام». داعش سيطر على المدينة بعد انسحاب «جبهة النصرة» وكتائب إسلامية غيرها منها وعلى رأسها «حركة أحرار الشام»، وبايع عدد من مقاتلي «جبهة النصرة» تنظيم «داعش»، وانسحب الباقون مع الكتائب المتواجدة في الرقة من المدينة، علماً أن أمير النصرة في الرقة والملقب بـ «أبو سعد الحضرمي» قد أُعدم على يد داعش.
أمير جبهة النصرة في سورية، أبو محمد الجولاني، حاول «طمأنة» المسيحيين بطريقة مواربة تحمل بين سطورها ما تحمله من انتقاص للمواطنة لدى المختلف دينياً، إن قُيض له أن يتمكن من مناطق يقطنها مسيحيون. قال عنهم في مقابلته الشهيرة مع الإعلامي أحمد منصور على قناة الجزيرة: «النصارى أغلبهم يقفون في صف النظام ونقاتل فقط من يقاتلنا، وليس لدينا حرب الآن معهم ولا نحملهم مسؤولية ما تفعله أمريكا أو ما يفعله أي من النصارى في العالم، أما القرى الشيعية التي نحاصرها الآن فهي قرى تحاربنا».
لم يهدد الجولاني المسيحيين ويتوعدهم على ما فعل تنظيم البغدادي، إلا أن «النصارى» وفقاً لما يمكن أن يقرأه المرء من هذا التصريح العمومي ليسوا مواطنين سوريين بنظره، طالما أنهم «نصارى، بالنسبة له»، وطالما أنه ألمح إلى الارتباط، وإن نفياً للتهمة عنه، بينهم وبين الغرب و«النصارى في هذا العالم». وفي السياق ذاته، تناقلت صفحات إعلامية مختلفة أخباراً عن تعرض مسيحيين في محافظة إدلب إلى التهجير بعد سيطرة فصائل إسلامية على رأسها جبهة النصرة للمنطقة في أيار 2015.
مسيحيو «الوسط»، دير الزور، والشمال السوري
احتجز تنظيم «داعش» 90 مسيحياً في شباط 2015، في هجومه على قريتي تل شاميرام وتل هرمز الآشوريتين التابعتين لمحافظة الحسكة، وذلك بعد سيطرته عليهما على حساب «وحدات الحماية الكردية». «تناقلت وسائل إعلام عديدة لاحقاً أخباراً عن أن المختطفين بلغوا 200 شخص». ثم قام التنظيم في تشرين الأول من العام نفسه بإعدام 3 من هؤلاء المختطفين رمياً بالرصاص.
اعتُبر شباط 2015 تاريخاً مفصلياً في حياة المسيحيين الآشوريين الذين لا يتجاوز عددهم 50 ألفاً في سورية، نتيجة ما تعرضوا له من اختطاف ثم قتل وتهجير. هذه الأحداث المأساوية شجعت الآشوريين على الانخراط في تنظيم وتعزيز العمل العسكري في قوات تحمل الهوية الآشورية، رغم أن الانتظام في قوات وميليشيات عسكرية قد بدأ بعد عامين من اندلاع الثورة السورية. هكذا، أنشأ «حزب الاتحاد السرياني» جناحاً عسكرياً له تحت اسم «السوتورو»، بعد «الفراغ» الذي تركه انسحاب النظام من الشمال الشرقي لمدينة الحسكة. كما نشأ «المجلس العسكري السرياني لحماية المناطق الآشورية»، وهذا الأخير يتبع لــ «قوات حماية الشعب الكردية»، في حين تتبع «قوات حماية الجزيرة» إلى النظام مباشرةالرابط: رصيف22، كريم شاهين، الميليشيات الآشورية التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية..
وتلاقت ثلاثة فصائل وتنظيمات آشورية مسيحية هي «تجمع شباب سورية الأم» و«التجمع المدني المسيحي» و«الحزب الآشوري الديموقراطي» في مدينة القامشلي، ووضعت «وثيقة عمل مشترك» تنطلق من «ثوابت وطنية أجمعت عليها هذه الفصائل تتضمن الإيمان المطلق بوحدة سورية أرضاً وشعباً، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي، والإيمان بضرورة التغيير السلمي الديموقراطي، ونبذ العنف والتطرف بكل أشكاله، ثم اعتماد الحوار أساساً لحل جميع القضايا».
في المشهد العسكري في المنطقة، باتت عشرات القرى الآشورية- المسيحية في منطقةِ تقاطع النيران بين تنظيم «داعش» من جهة، وبين «حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD» ومسلحي المجلس العسكري السرياني واللجان الشعبية الموالية لنظام الأسد في منطقة «الخابور» شمال غرب الحسكة، من جهة ثانية. «وفي كانون الثاني 2015، دخل داعش إلى قرية تل هرمز وطلب من الأهالي إزالة الصلبان من فوق الكنائس مهددين هؤلاء السكان في حال عدم القيام بذلك. لاحقاً، دخل عناصر حرس الخابور و PYD والمجلس العسكري السرياني ورفعوا الصلبان مجدداً فوق كنيسة القديس بيثيون، ما جعل الاشتباكات بين داعش والأطراف الآشورية المحلية وداعميها تتصاعد وسط نزوح كامل سكان قرية أم هرمز إلى قرية أم غركان القريبة منها».
أما في «رأس العين – سري كانيه»، المدينة الحدودية مع تركيا وذات الغالبية الكردية، والواقعة في الشمال الشرقي من سورية، فقد شنَّ داعش بتاريخ 11 آذار 2015 هجوماً مكّنه من السيطرة على قرية تل خنزير القريبة من المدينة. يقطن في رأس العين مسيحيون ينقسمون إلى «السريان الأرثوذوكس والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك والأرمن الأرثوذوكس»، وقد «شهدت موجة من الهجرة باتجاه أوروبا بعد بدء الاشتباكات والعمل العسكري في المنطقة والتي كان الجيش الحر طرفاً فيها في تشرين الثاني 2012»، وانضم مسيحيون في المدينة إلى «الجيش الحر» للقتال في صفوفه ضد قوات النظام.
لم تتوقف الاشتباكات لاحقاً بين «حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD» وتنظيم داعش، وبعد أن كان «الجيش الحر» طرفاً عسكرياً في المنطقة بات «الاتحاد الديموقراطي» هو المسيطر عليها، خصوصاً بعد الضربات التي تلقاها الجيش الحر على يد النظام وطيرانه.
في دير الزور، غير داعش اسم المدينة ليصبح اسمها «ولاية الخير»، لأنّ اسمها الأول يشير، وفقاً للتنظيم، «إلى الدين المسيحي، سيما كلمة (دير)، ما دفع التنظيم الى تغييره»، وقد هاجرت العديد من العوائل المسيحية من المدينة بعد حصار النظام لها وتعرضها للقصف اليومي. وعن ذلك، يتحدث أحد المسيحيين من أبناء دير الزور: «النظام لم يرحمنا بقمعه، ولكن بعد ظهور التنظيمات المتطرفة كتنظيم داعش والنصرة، قررتُ السفر خوفاً من تكرار مشهد مدينة الرقة في دير الزور». باتت المحافظة شبه خالية من المسيحيين، وهي التي كان يتركز الوجود المسيحي فيها في مدن ثلاث: البوكمال، الميادين، ودير الزور المدينة.
«الكنيسة الوحيدة الموجودة في منطقة البوكمال تعرضت أكثر من مرة للقصف عام 2012 على يد قوات النظام السوري، ومع سيطرة جبهة النصرة على المدينة في كانون الأول 2013، أصدر قاضي (الهيئة الشرعية) التابعة للجبهة قراراً يقضي بهدم الكنيسة بشكل كامل. وفي أيلول 2014، سيطر داعش بشكل كامل على البوكمال وريفها ومدينة القائم العراقية واستولى على أملاك اتباع الديانة المسيحية كاتباً على جدران ممتلكاتهم: ملك للدولة الإسلامية»جريدة الشرق الاوسط، 8 يناير كانون الثاني 2015، تهجير شبه كامل من “داعش” و”جبهة النصرة” للمسيحيين في محافظة دير الزور..
تأخرت مدينة حلب، ثاني كبرى مدن سورية بعد العاصمة دمشق، في طرق أبواب الثورة السورية سواء في طورها السِّلمي ثم لاحقاً العسكري. وبقيت من دون حضور قوي على المشهد السوري قياساً بمدن سورية غيرها «حمص مثلاً».
بالنسبة لمسيحيي المدينة، وبعد ازدادت حدة المعارك بين النظام ومعارضيه، اتخذت دول أوروبية إجراءات لإجلاء المسيحيين من المدينة وترحيلهم إلى بلجيكا وتشيكا وسلوفاكيا والمجر، وهذه الدول، ما عدا بلجيكا، كانت قد رفضت استقبال أي لاجئين مسلمين، وأعلنت أنها لن تستقبل غير «مسيحيين سوريين». أما من بقي منهم في المدينة فقد شارك بعضهم في حمل السلاح إلى جانب النظام، ولعل الأبرز من هؤلاء كانوا من الأرمن الذين وجد من بينهم من قاتل جنباً إلى جنب مع قوات الأسد ضد المعارضة السورية، بينما بقي الآخرون صامتين أسرى سردية المظلومية والخوف من المستقبل.
«وهل تعتقد أننا سنقف إلى جانب من ارتكب بحقنا المذابح، وكان سبباً في تهجيرنا قبل 100 عام من الآن؟ المعارضة اختارت أن تتصافح مع الأتراك، ونحن لن ننسى ماذا فعل الأتراك». هذا كلام لأحد الشباب من الأرمن في حلب، وهو في النهاية لسان حال جماعات ترى في ما يحصل في البلاد مؤامرة من تركية وغيرها من دول إقليمية على سورية. مع اندلاع «معركة حلب» لأول مرة في حزيران 2012، شارك الأرمن في القتال إلى جانب قوات النظام السوري، وهو ما «فسّر» رجال دين مثل الأب جون أسبابه ودوافعه إلى أن «الأثرياء في مدينة حلب لم يكونوا من أنصار النظام، لكنهم شعروا بأنهم اضطروا إلى حماية أنفسهم من الفلاحين المهاجرين (من الريف) الذين لجأوا إلى الحرب لتدمير قلب المدينة المتطور والحديث». وتداولت مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي فيديوهات للناشط اللبناني في «التيار الوطني الحر» الذي يترأسه حالياً جبران باسيل، طوني أوريان، يتوسط الجلسة بين المقاتلين الأرمن في حلب والذين التحقوا بــ «قوات القدس» المقاتلة إلى جانب قوات النظام السوري ويحثهم على القتال، معتبراً هؤلاء أناساً «تركوا كل الفوارق المذهبية والطائفية والتحقوا بأهم معركة تحصل بتاريخنا المعاصر في وجه كل شياطين الأرض».
وبحسب أسامة أبو زيد، المستشار القانوني للجيش السوري الحر، فإن «لواء القدس، الذي تشكل في عام 2013 من قبل النظام، وضم في المرحلة الأولى مقاتلين فلسطينيين بشكل أساسي، قد توسع لاحقاً ليضم مقاتلين من جنسيات وقوميات مختلفة من شيعة إيران ولبنان ومن الأفغان والأرمن»، لافتاً إلى أنّه اليوم أشبه بمجموعات صغيرة من «المرتزقة»، مكملاً بالقول «لا نعتقد أن هناك أعداداً كبيرة من الشبان الأرمن في صفوفه، إلا أن النظام يصر على محاولة تضخيم الأعداد بمسعى منه للإيحاء باتساع رقعة أنصاره من قوميات وطوائف مختلفة»جريدة الشرق الأوسط، 26 تموز 2016، ناشطون من الأرمن وتيار عون يقاتلون في سورية إلى جانب النظام.. لقد وجد مسيحيون في قيام جهات مسلحة «يرجح أنهم مقاتلون شيشانيون موجودون في سورية» باختطاف متروبوليت حلب والإسكندرون للروم الأرثوذكس المطران بولس اليازجي، ومتروبوليت حلب للسريان الأرثوذكس المطران يوحنا ابراهيم، وذلك على الطريق المؤدية إلى حلب من معبر باب الهوى الذي تسيطر عليه المعارضة والواقع على الحدود مع تركيا؛ ما يعزز مخاوفهم من المستقبل المجهول الذي سيأتي في حال سقوط النظام ووصول خصومه إلى السلطة.
مدينة محردة المسيحية، والواقعة شمال حماة «20 كم»، كانت نقطة تماس في الاشتباكات التي وقعت بين النظام السوري والمعارضة السورية المسلحة. وفي آب 2014 وصلت جبهة النصرة إلى أطراف المدينة، وتمكنت كتائب المعارضة من «اقتحام الحي الشرقي لمدينة محردة في آب 2014… فيما أعلن الثوار مدينة محردة وما حولها منطقة عسكرية بالكامل جراء الاشتباكات داخل وفي محيط المدينة». وقصفت قوات المعارضة المسلحة المدينة لاحقاً بقذائف الهاون. تراجعت المعارضة بعد ذلك من مواقعها التي استولت عليها تحت الضربات العسكرية لها من قبل نظام الأسد.
في آذار 2017، عادت مدينة محردة إلى واجهة الأحداث، حين اندلعت معارك كبيرة في مناطق عدة من ريف حماة بين النظام وحلفائه من جهة، والمعارضة المسلحة بتنويعاتها «جبهة النصرة (جبهة فتح الشام)، جيش النصر، جيش العزة، جيش إدلب الحر، والحزب الإسلامي التركستاني»، بهدف «السيطرة على مدينة حماة والمطار العسكري» بحسب المعارضة. ولم يكن ثمة أي محاولة لاقتحام المدينة او التعرض لسكانها هذه المرة. وقال الناطق العسكري في «جيش العزة» النقيب مصطفى معراتي، «أن سبب تحييد مدينة محردة، ذات الغالبية السكانية المسيحية، جاء لنزع حجة المسألة الطائفية واللعب على موضوعة حماية الأقليات التي يحاول النظام التركيز عليها». وقد وجه «جيش العزة» كلمة مصورة إلى أهالي محردة والمجتمع الدولي، بيّن فيها هذا الموقف. يأتي ذلك رداً على الموقف الذي صدر عن مركز «حميميم» الروسي، والذي اعتبر في بيان له أن «مدينة محردة هي الخط الأحمر، فعَلى التنظيمات الإرهابية أن تتعامل مع ذلك بجدية تامة لتجنب العواقب. ونحن نؤكد على استمرارية الدعم الجوي الذي توفره قاذفاتنا للقوات الحكومية في الريف الشمالي لمدينة حماة الذي يتعرض لهجمات إرهابية».
«القريتين»، منطقة سورية في ريف حمص تشبه أحوال المسيحيين في بعض تفاصيلها فيها ما حصل للمسيحيين في الرقة، حيث سيطر «داعش» عليها في 7 آب 2015 بعد معارك مع قوات النظام السوري. واختطف التنظيم عشرات من سكان المدينة المسيحيين. وبعد سيطرته عليها، أصدر «داعش» عبر المكتب الإعلامي لما يسمى «ولاية دمشق» وثيقة تتضمن 12 شرطاً لـ «منح الأمان للمسيحيين» من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. وتضمّن الاتفاق الذي وقّع عليه مسيحيّو القريتين مقابل عودتهم إلى منازلهم في القرية «أن يدفعوا الجزية، وقدرها 4 دنانير من الذهب، ما يعادل 4.25 غرامات، لأغنياء (أهل الذمة)، ونصف ذلك على متوسطي الحال، ونصف النصف على الفقراء من المسيحيين… ويحظر الاتفاق على المسيحيين إظهار الصلبان أو الكتب المقدسة أو استخدام مكبرات الصوت أثناء الصلاة، كذلك يمنعهم الاتفاق من بناء دير أو كنيسة أو صومعة لراهب في المنطقة».
خامساً: على سبيل الخلاصة
تتصاعد خطورة الوضع الميداني على المناطق التي يقطن فيها المسيحيون في الوقت الذي تمتثل أمام هؤلاء تجربة تهجير أقرانهم في العراق، بالتزامن مع انتعاش خطابات غربية تنظر إلى الشرق «السحري»، «سورية في حالتنا هذه»، كعالم آخر لا يمكن تفسير النزاعات فيه إلا بالدين والطائفة. بلدنا، من هذا المنظور، غارق في الإيديولوجيا الدينية والإسلام الحربي الذي تقيم السياسة وحراك الشارع والمطالب والكرامة في مكان بعيد عنه. وإذا تمت الالتفاتة إلى السوريين، تَبدَّوا كتلاً وأجساداً وعقولاً يسيرها الدين لتنقض على «أديان» غيرها في ذات الرقعة الجغرافية، كطبعٍ قارٍّ غير قابل للتجاوز لدى هؤلاء «المسلمين»، وهو «طبع لا يلجمه إلا بشار الأسد» بالنسبة لهم على ما يبدو.
تسييس النزاع السوري بعيداً عن «جوهرانية المجتمعات» في الأمثلة السابقة يقتصر، إن تمت قراءة الأحداث من وجهة نظر سياسية، على نظام «سياسي»، «علماني»، يحمي سوريين معرَّفين بطائفتهم من خطر سوريين آخرين معرّفين بطائفة أخرى، وهو ما ألمح له البطاركة السوريون الذين ذكرناهم أعلاه بشكل غير مباشر في خطبهم التي تكيل المديح للنظام السوري ورئيسه، مع ملاحظة الفارق في «الكفاءة» اللفظية والمهنية بين المدافعين عن «حامي الأقليات» في الغرب وبينهم في سورية.
حاولت هذه الدراسة توثيق غيض من فيض المشهد المسيحي بعد الثورة السورية وقبلها، من دون ادعاء الإحاطة بكافة جوانب وتنويعات المجتمعات المسيحية السورية. وإذا كان واضحاً أن المسيحيين ليسوا كتلة واحدة، إنما مجموعات تختلف بحسب المنطقة التي يلقي الحدث السوري بظلاله عليها، فإن ذلك لا بد أن يقودنا إلى الحديث عن الشرخ الذي لحق بالوطنية السورية قبل أن يلحق بالمجتمع السوري ما لحق به تجاه الحرب الدائرة اليوم. ثمة روابط ما قبل وطنية توجه مسار الجماعات ونمط وآليات التفكير فيها، وهي روابط كان ممنوعاً على السوريين، والمسيحيين خصوصاً في حالتنا المدروسة هنا، أن يعبروا عنها. ويتضح من خلال ارتفاع عتبة التأثر الجمعي بما يلحق بسوريين آخرين أن المسألة ليست متعلقة بجماعات تكفيرية، بل بغياب الثقة لدى سوريين مسيحيين تجاه سوريين منتفضين ضد نظام الأسد، يفسَّر حراك هؤلاء المنتفضين بالدين غالباً.
هذا ليس حكم قيمة على أي حال، بقدر ما هو محاولة لوضع اليد على الجرح الذي سيبقى مفتوحاً تحت عنوان «المجتمع السوري»، في الوقت الذي يلوح أن مجتمعات سورية مختلفة في الدين والطائفة، ومجتمعات مسيحية من ذات اللون الديني تعيش في بلد واحد، لا تزال تنظر إلى سورية بعد كل ما حدث من زاوية «الوحدة الوطنية التي يحميها طاغية». وإذا بات لدينا اليوم طغاة كثر على الأرض السورية يرتدون اللبوس الديني الإسلامي بالتزامن مع البقاء المؤسف للطاغية الأول، فإن ذلك يعني أن الاحتراب الطائفي سيستمر ما دامت القوى الدولية لم تتخذ قرارها بإنهاء الحرب السورية، سواء تمثلت هذه الأطراف بالغرب والولايات المتحدة، أو بالروس الذين يتلخص المشهد لديهم بالإبقاء على نظام الأسد. وغني عن القول إن الحل لن يكون باستجرار سرديات حماية الأقليات في الشرق، ولا بكون الإسلام هو الحل.
هذا كله لأن نظاماً حكم سورية لخمسين عاماً، لم يكن نظاماً سياسياً على الإطلاق، إذ تبدو السياسة التي يناط بها العمل على حل التناقضات الموروثة وبناء ثقة وطنية بين عموم السوريين، طارئة على مسيرة نصف قرن من حكمه. وإن حضرت السياسة لديه، كانت موجهة إلى الخارج، تحت عنوان الاستقرار سابقاً، وحماية الأقليات حالياً، وما بينهما من أوهام لا تزال تجد من يتلقفها حتى اليوم.
*****
ملحق رقم 1
المسيحيون السوريون في الثورة السورية
إعداد: رند صباغ
مقدمة
ما زال ملف المسيحيين يحتل حيزاً كبيراً من النقاش تستدعيه الأوضاع الراهنة في سورية، جزءٌ من هذا النقاش يخوض به محاسيب النظام السوري الذين يجتهدون لإبراز هذا الأخير كحامٍ للمسيحيين، بقصد استرضاء الغرب أو الحفاظ على المسيحيين في صف النظام؛ وجزءٌ آخر قادم من الغرب ذاته، وبعضه يستذكر المسيحيين في سياق الخوف عليهم من الوحش القادم. ويختلط في هذا الخطاب الأخير غالباً بعض من ترسبات استشراقية ونضالية مسيحانية أو علمانية تخشى الإسلام، وربما علاقاتٌ ومصالح يقف ضدها انقلاب واقع الحال.
كثيرٌ من هذه النقاشات تسودها حالة من السطحية الدعائية، التي لا تحترم لا وقائع ولا احصائيات، فنحن نرى، مثلاً، أن بعض المنابر العالمية التي تعرف نفسها على أنها تلعب دور المراقب لرصد الانتهاكات التي يتعرض لها المسيحيون، تخلط بين استهداف المسيحيين بصفتهم الدينية وسقوطهم كضحايا جراء أحداث العنف. فإيراد عدد الضحايا من المسيحيين في سورية دون ذكر عدد الضحايا بشكل عام في البلاد، وإن كان الرقم صحيحاً، يعطي إيحاءً خاطئاً للقارئ، ويوجهه إلى فهم راديكالي للوقائع التي تفتقر للمصداقية الكاملة عند نقلها.
أما الخطأ الآخر والأكثر تواتراً، فهو التعامل مع المسيحيين السوريين ككتلة مصمتة ومنفصلة عن مجموع السوريين الكلي. وبالتالي، فإن هذه الكتلة قد تمتلك خصائص وعوامل مشتركة يمكن دراستها والتأثير بها وفهم أفعالها بشكل واضح، مما قد يقود إلى افتراض أن المسيحيين ليسوا جزءً من الثقافة السورية، وأنهم يختلفون بشكل كبير في أسلوب حياتهم وأنماطهم اليومية عن أترابهم من السوريين المسلمين.
بيد أن النقطة الأساسية التي تخلق الفارق الجوهري بين الأقلية المسيحية في سورية وغيرها من الأقليات، هي غياب الكتلة لحساب التكتلات وعدد من المجموعات، وبروز الفرد بشكل أوضح. فلا كتلة مسيحية في سورية كما أنه لا كتلة سنية في سورية، وإن تباينت نسب التعداد السكاني في كلا العينتين بشكل كبير. إلا أن هناك بعض العوامل المشتركة بينهما والتي تسمح بمقارنتهما إلى حدٍ ما. فالمسيحيون السوريون حالهم حال السنة في سورية، يتوزعون على كافة الأراضي السورية ولا ينحصرون في مناطق محددة، وإن عرفت بعض المحافظات كثافة أكبر بقليل من غيرها، أو تغيرت الموازين بفعل الهجرات الداخلية التي تبدلت أكثر من مرة في القرن الأخير.
وقد تبدو منطقة وادي النصارى «وادي النضارة رسمياً»، ومشتى الحلو والقرى المتجاورة بين ريف حمص وريف طرطوس منطقة مسيحية، لكنها لا تمتلك كفة الكثافة العددية بقدر ما تمتلك كفة التجانس الديني. والمسيحيون أيضاً متباينون اقتصادياً وتعليمياً وينتشرون في جسم المجتمع بشكل رأسي، وينتمون إلى ما لا يقل عن 14 طائفة رسمية، مما يجعل مرجعياتهم الدينية مختلفة أيضاً.
لا يمكن الغوص في معرفة نسبة المشاركة المسيحية في الثورة، فهي وبحسب الأسباب التي أوردناها في المقدمة لا تنطوي على عوامل قابلة للقياس، سواءً من حيث تجانس المجموعة البشرية جغرافياً واجتماعياً وثقافياً، أو من حيث علاقتها بالسلطة الدينية «إن صح التعبير»، إلا أن الواقع منذ 2011 يطرح أمامنا عدداً من المعطيات التي أثارت اللغط والتساؤل حول موقف المسيحيين حيال الثورة السورية. هكذا، سنحاول قدر المستطاع فهم الخطوط العامة، دون الادعاء بأن هذا الفهم أو التقسيم دقيق بشكل كامل.
فمنذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، شارك عدد لا بأس به من الشباب السوري المسيحي بدرجات متفاوتة، وكان من بين أوائل المشاركين في المظاهرات السلمية في عدد من المحافظات، إضافة لحضور واضح لبعض الشخصيات المسيحية المعارضة في الساحة السياسية. إلا أن هذه المشاركة لا تعكس موقفاً مسيحياً، بل موقف أفراد، فالنظر للموقف المسيحي رسمياً يعتمد على موقف الكنيسة التي اتخذت خطين واضحين لا ثالث لهما: فهي إما مع النظام بشكل واضح، أو تحيد بنفسها بشكل من الأشكال دون إثارة غضب النظام.
العوامل الأساسية في مواقف المسيحيين الأولى إبان الثورة
ينقسم المسيحيون بين فئات المجتمع الثلاث الأساسية في شكل التعاطي مع الثورة السورية، فمنهم من يدعمها بالفعل بدرجاتٍ مختلفة بدءاً من المشاركة الفعلية ووصولاً إلى مجرد تبني فكرة الثورة، ومنهم من يفضّل الحياد، وآخرون يوالون النظام بدرجات مختلفة أيضاً، بين مؤيدين صامتين وصولاً إلى التشبيح والمشاركة في الأعمال القتالية.
وربما يمكننا تقسيم العوامل على هذا الشكل:
1- الخوف من التغيير وعدم الاستقرار
لم يعرف المسيحيون الاستقرار الفعلي خلال تاريخِ طويلٍ في المنطقة حتى النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان حافلاً بالأحداث الدموية في مطلعه. وهي أحداث لم تقابل بأي شكل من أشكال التعويض والمصالحة الفعلية، حتى أنها لم تؤرخ «باستثناء مجازر الأرمن»، ما جعل مجالات نقل التاريخ شفوياً أكبر بكثير، وهو ما يحمل حالاتٍ من الشحن العاطفي والمبالغة، وعدم الدقة.
هذه الذاكرة وإن بدت بعيدة بعض الشيء، إلا أنها ما تزال ملحةً في أذهان المسيحيين، وتشير بأنهم سيكونون ضحيةً سهلة لأي شكل من أشكال التغيير وعدم الاستقرار. فلا يمكن معرفة آثار التغيير وأسلوب تعاطي أي سلطة مستقبلية مع المسيحيين. وهنا نستطيع إيراد أحد الأمثلة خلال الثورة:
في إحدى قرى ريف إدلب المسيحية، قامت قوات من «الجيش الحر» بالسيطرة على القرية، إلا أنها لم تقترب من الكنائس فعلياً أو حسب ما يشاع، لكن الكنيسة توقفت عن قرع الأجراس يوم الفصح، ما دفع قائد القوات الموجودة بالتساؤل حول السبب، فأخبره الكاهن بأنه لا يعلم من الذي يحكم وما هي التوجهات، لذلك كان عليه الحذر لفهم التغيرات الحالية. لكن قوات «الجيش الحر» رحبت بقرع الأجراس وممارسة الشعائر الدينية، إلا أن توجس الكاهن لم يكن خاطئاً فخلال أيام سيطرت جبهة النصرة على المنطقة وغيرت واقع المسيحيين بشكل كلي.
وكثيراً ما تسمع من المسيحيين أنهم ممتنون لمجرد قدرتهم على ممارسة شعائرهم وإبراز هويتهم الدينية بشكل واضح، وقرع أجراسهم والاحتفال بأعيادهم دون أية ضغوطات، بالإضافة إلى وجود القوانين التي تكفل لهم المساواة «سلباً أو إيجاباً» مع مواطنيهم المسلمين في الحقوق والواجبات.
2- التجارب المجاورة في الشرق الأوسط
لم تكن الأحداث الدامية في المحيط الإقليمي لتجعل المسيحيين أكثر جسارة على اتخاذ المواقف الحازمة. فمنذ حرب لبنان الأهلية، وفكرة المؤامرة الغربية لتفريغ المشرق العربي من المسيحيين تجد لها أصداءً كبيرة في الأوساط المسيحية، وهي لم تكن رادعاً لمنعهم من الهجرة الكثيفة. كما أثرت حرب العراق بتبعاتها على المسيحيين بشكلٍ واضح، حيث أنتجت هجرة مسيحية كبيرة بعد استهدافهم من تنظيمات إرهابية نمت في ظل الوجود الأمريكي. إلا أن العامل الأهم كان خلال الربيع العربي، وإن كانت تونس وليبيا واليمن دولاً لا تحمل تواجداً مسيحياً، إلا أن أحوالها المبكرة إبان الثورات لم تكن تدفع إلى التفاؤل، في حين شكلت مصر الثقل الأكبر. ويرى كثيرٌ من المسيحيين السوريين بأن مشاركة الأقباط في ثورة 25 يناير لم تحمهم من الاضطهاد المتكرر والعنيف في كثيرٍ من الأحيان، ولم تمنحهم حقوقاً أوسع، بالإضافة إلى سيطرة الإخوان المسلمين في حينها.
3- الحذر من الإرهاب
ربما يعتقد البعض بأن شبح الإرهاب حديث العهد على سورية، إلا أن المخاوف لم تكن كذلك، فالشائعات التي كانت تتحدث عن وجود خلايا إرهابية ضبطها النظام قبل أن تبدأ بعملياتها كانت شديدة التواتر (وإن صح بعضها بشكلٍ من الأشكال)، بالإضافة لوجود هذه التنظيمات بشكل واضح في دول الجوار، وهو الأمر الذي كان يخلق تردداً دائماً في معادلة الأمن والأمان مقابل الحريات والحقوق. فلم يكن يمر العام دون أن يتبادل المسيحيون في سورية شائعات عن خلية كانت بقصد قتل المسيحيين لولا ضبط النظام لها بوقتٍ مبكر.
4- الخوف من النظام
لم يكن المسيحيون أقل تعرضاً للاضطهاد والاعتقال من قبل النظام قبل الثورة، بل كان نصيبهم من بطش النظام مماثلاً لما ناله باقي السوريين حين ممارسة العمل السياسي. وكالجميع، ابتلوا ببلطجة وتدخل أجهزة الأمن في حياتهم وأعمالهم. وبالتالي كان المسيحيون على دراية كافية بمدى بطش وديكتاتورية النظام، وهذا ما زاد لديهم المخاوف من محاربته، وما سيتأتى عن هذه المحاربة من نتائج دموية ستكون كفيلة بقلب الطاولة على السوريين ومن بينهم المسيحيين.
5- علاقة المسيحيين بالشأن العام
كما ذكرنا سابقاً فقد ابتعد كثيرٌ من المسيحيين بشكل ملحوظ عن الشأن العام، ويبدو الأمر جلياً بشكل أكبر بين شرائح الشباب أو الأجيال التي لم تعرف سوى نظام البعث. فانحصر نشاطهم الاجتماعي بالكنيسة من خلال مجموعاتها الكشفية، ما جعلهم يشكلون دوائر أصغر ينتمون إليها. وصار الحضور على الأصعدة الثقافية والفكرية والسياسية أو حتى التطوعية قليلاً جداً. وكان من شأن هذا الابتعاد أن يؤثر على علاقة المسيحيين الشباب ببقية أطياف الشعب السوري وفهمهم بشكل أكبر، ولعب أي دور في التغيير حتى الاجتماعي البسيط، ما وضع قسماً كبيراً منهم في عزلة طائفية وفئوية، كانت كفيلة بابتلاع أية شائعات دون تردد، وزيادة الشعور الأقلوي على حساب الشعور الوطني الجماعي.
6- الخطاب الديني في الثورة
لم يكن الخروج بالمظاهرات من الجوامع واضحاً بالنسبة للكثير من المسيحيين، بل استُخدِمَ بشدة من قبل النظام لإشعارهم بأن هذه المظاهرات كانت بمطالب فئوية وليست وطنية. وظهر هذا الأثر جلياً في جميع الأحاديث الداخلية أو حتى في الصفحات المسيحية على وسائل التواصل الاجتماعي، فتم تغييب المسبب الرئيسي لاعتماد الجوامع كمراكز للتجمع لصالح التأويل الديني. إضافة لما سبق، عززت بعض أشكال الهتافات وخروج بعض رجال الدين الإسلامي مثل عدنان العرعور على واجهة الأحداث هذا التوجس، فبعض الهتافات كانت تلقى تواتراً كبيراً حتى أنها كانت تأخذ حجماً أضخم عند تناقلها أو يضاف إليها جمل لم تكن في الحقيقة موجودة. فكان أبرز الشعارات التي أثارت المخاوف «المسيحية على بيروت والعلوية على التابوت»، وهو شعار لا يمكننا التبين من صحته ونسبته إلى المعارضة، في حين استخدمت المظاهرات في مراحل متقدمة من الحراك السلمي بعض الشعارات الدينية مثل «قائدنا للأبد سيدنا محمد»، ولاحقاً بعض الشتائم للعلويين. كما ظن كثيرٌ من المسيحيين بأن الأمر هو عبارة عن خلاف إسلامي-إسلامي بين السنة والعلويين وعليهم أن يحيدوا أنفسهم عنه.
7- الشائعات القادمة من أماكن تواجد المسيحيين
تناقل المسيحيون أيام الحراك السلمي كثيراً من الشائعات التي تتحدث عن خروج المظاهرات في أماكن يتواجد فيها المسيحيون بنسب أقل، وكيف قام المتظاهرون بحرق المنازل أو نهبها، أو حتى طرد المسيحيين من المنطقة. وكانت هذه الشائعات تحمل أثراً عميقاً يجعل المسيحيين يعتقدون بأنه أياً كانت مواقفهم، فسيدفعون الثمن بسبب انتمائهم الديني، وهذا ما ازداد بعد اشتداد حدة المعارك، سواءً من خلال دخول بعض الفصائل المسلحة لقرىً مسيحية، أو بما استهدفته القذائف العشوائية في أحياء كل من دمشق وحلب ذات الغالبية المسيحية، وإن ادعت هذه الفصائل أنها لا تتقصد المسيحيين، بل تستهدف المناطق الأقرب إليها والتي تحتوي على مراكز عسكرية أو أمنية للنظام. هذا أمر واقعي بدرجة من الدرجات، حيث ينشر النظام السوري المواقع الأمنية بشكل واضح في أماكن تواجد المسيحيين.
8- التطمين بحجة الذمية
حاولت بعض الفئات السورية المعارضة طمأنة المسيحيين باستخدام خطاب خاطئ، حيث طرحت هذه الفصائل أو الفئات المحافظة رغبتها في عدم المساس بالمسيحيين بإسناد الأمر إلى أنهم «أهل الذمة». لم يعلم هؤلاء بوقع هذه الكلمة على المسيحيين، والتي تجعلهم أكثر بعداً وتوجساً مما سيأتي بعد النظام في حال سقوطه. فمصطلح أهل الذمة يعيد ذاكرة الاضطهاد الذي عاشه المسيحيون طوال قرون حتى نهاية الخلافة العثمانية، والتي ترتبط بالضرورة بدفع الجزية، والتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية، والحد من إمكانيتهم في التعبير عن معتقداتهم وممارستهم للطقوس. كما يمثل مصطلح أهل الذمة في الوعي المسيحي شكلاً واضحاً من أشكال الوصاية، ويلغي مفهوم دولة المواطنة لصالح الدولة الدينية، وهو الشكل الذي لن يحظَ بأي دعم من المسيحيين.
9- دور الكنائس السورية
مالت الكنائس السورية في مواقفها الرسمية لكفة النظام السوري، وذلك لسبب واضح وهو ارتباطها به بشكل قوي، وأثر النظام في التعيينات الكنسية والكهنوتية، بالأخص وأن دمشق تحتضن ثلاث كراسٍ بطريركية هامة، وهي الكرسي البطريركي لأنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس، بالإضافة إلى كرسيي أنطاكية والقدس والإسكندرية للروم الملكيين الكاثوليك.
والملفت في الأمر، أن رجال الدين والكنيسة المسيحية استطاعت استعادة الاستقطاب المسيحي بشكل مفاجئ، وأثرت بشكل ممنهج في الوعي الجمعي للطوائف المختلفة. كما سهلت بعض الكنائس تجنيد جزء من الشبان المسيحيين في الخفاء بالاتفاق مع الأمن، وتعاملت مع المقاتلين في صفوف الدفاع الوطني والشبيحة على أنهم شخصيات وطنية يحمون سورية بشكل عام والمسيحيين بشكل خاص. إلا أن الكنيسة كانت حريصة دوماً على استخدام سورية أو الوطن أكثر من استخدام فكرة المسيحيين وحدها.
كيف تعامل النظام مع مناطق المسيحيين عسكرياً وأمنياً بعد اندلاع الثورة؟
عوّل النظام بشكل كبير على الولاء المسيحي، فركز دعايته في مناطق تواجد المسيحيين الأكثر كثافة، أو من خلال نفوذه في الكنائس لكسب أكبر شكل من أشكال التأييد، والذي لم يكن يكفيه أن يكون ضمنياً، بل عمل النظام على إظهاره وترسيخه. ساهم النظام بتنظيم احتفالاتٍ أسبوعية في دمشق في ساحة باب توما ذات الطابع المسيحي كل جمعة بالتزامن مع المظاهرات، بالرغم من أن رعاة هذه الاحتفالات لم يكونوا مسيحيين إلا أنها كانت ترسخ خطاباً واضحاً ورسالةً جلية.
لكن العسكرة في كثيرٍ من الأحيان كانت ظرفية، ولم تكن حالة دائمة. وكانت تتلقى الدعم بحجة أنها تقصد الدفاع عن الوجود وحماية المناطق، وليس الموالاة أو المعارضة لأحد، كما حصل في الجمعة العظيمة في دمشق، حينما استطاع وبشكل غير مباشر حشد شباب من أحياء دمشق المسيحية عن طريق نشر شائعات بأن المتظاهرين سيدخلون ساحة العباسيين ومنها سيقومون بحرق منازل المسيحيين والاعتداء عليهم، ما جعل الشباب يتطوعون لمقاتلة المتظاهرين. كذلك الأمر في معلولا، أو في بعض قرى ريف حمص، وإن كان بعضها يحتمل أكثر من سيناريو لفهم حالة التسليح. ويعتقد كثيرٌ من المسيحيين أن حقهم الطبيعي يجعلهم يقاتلون أي فئة تريد السيطرة بالقوة على مناطقهم، وهذا لا يندرج تحت خانة التشبيح أو الدفاع عن النظام. في حين تمت الاستفادة من موالي النظام المتنفذين في مناطق أخرى لتجييش الشباب، وربما كان المثال الأكثر وضوحاً في مرمريتا، في وادي النصارى، حيث استخدم النظام عدداً من شباب البلدة لإخماد الثورة في الحصن، وكانت أفعالهم في كثير من الأحيان أشد عنفاً ومباشرة مما يقوم به النظام نفسه.
كما حاول النظام في كثير من الأحيان العفو بشكل واضح عن بعض معارضيه المسيحيين، والتعامل معهم بشكل مختلف، إلا أن هذا لم يكن يعفيهم من الاعتقال، وبالأخص إن لم يكن المعتقلون من أسرٍ كبيرة أو مؤثرة، ولم يكن أحد يعرف عن هذا الاعتقال غالباً، ويتم كتمانه من العائلة كي لا يتعرضوا لشكل من أشكال النبذ الاجتماعي.
وعليه، ربما كان السبيل الذي اتخذه معظم المسيحيين اليوم هو الهجرة، حيث تقول بعض المصادر الكنسية بهجرة أكثر من ثلثي مسيحيي سورية في السنوات الست الأخيرة، وهي هجرة مسيحية لم يشهد التاريخ السوري نظيراً لها فيما سبق.
*****
ملحق رقم 2
دراسة حالة: المسيحيون في يبرود
إعداد: رند صباغ
شكلت يبرود بحكم طبيعتها الجبلية الوعرة وتوافر المغاور فيها ملجأً للمسيحيين الأوائل، قبل اعتبارها حاضرةً مسيحية في القرن الثالث الميلادي، وتميل التقاليد الكنسية إلى اعتبار القديس توما «رسول القلمون» لكثرة الكنائس التي شُيِّدت على شرفه في كلِ من يبرود ومعلولا وجبعدين وعين التينة وصيدنايا والنبك. وليس في هذا الرأي ما يشير إلى استحالة هذه الفكرة كما يقول الباحث «نور الدين عقيل» في كتابه «صفحات من تاريخ يبرود والقلمون»، إذ من المعقول أن يكون القديس توما قد مَّر بالقلمون إبَّان سفره إلى الهند، وهكذا تكون قد سنحت له الفرصة ليبشر بالمسيحية في جبال القلمون حيث انتشرت فيها كثيرٌ من الأديرةنور الدين عقيل، يبرود تاريخ و حضارة، يبرود للنشر والطباعة 1995، ص21-22..
حافظت يبرود، التي بحسب العالم الأثري الألماني ألفرد روست احتضنت حضارة إنسان ما قبل التاريخ، على أغلبية مسيحية طوال العهدين الأموي والعباسي، وبدء التعداد المسيحي في التراجع مع حكم المماليك، ليشكل المسيحيون نصف السكان تقريباً طوال الحكم العثماني. وفي ظل الفرمان العثماني القاضي بمنع ترميم الكنائس تعرضت كنيسة يبرود أقدم أثر مسيحي في سوريا لبعض التهدم في جدارها الشرقي، وجُدد بناؤها حوالي العام 1838 بعد أن سمح بذلك الفاتح المصري إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا عندما مرَّ ببلدة يبرود بعد حملته على بلاد الشام وطرد العثمانيين منها بين عامي 1831-1841 وفتحهاوعن زيارة وإقامة ابراهيم باشا في يبرود يذكر كتاب (مذكرات تاريخة عن حملة ابراهيم باشا على سورية) لمؤلف مجهول وقد حققه أحمد غسان سبانو، ما نصه حرفيا عن حوادث عام 1838م : (…استقام ابراهيم باشا كم يوم في الشام وأمر على لم السلاح من الإسلام والنصارى وصار تقريط كلي، وصار جمع السلاح من القرايا و من كل البلاد، وبعده توجه ابراهيم باشا لناحية شمال، وليلتها بات في منين على العين، وثاني يوم توجه على صيدنايا وطلع إلى دير السيدة العامر واستقام نحو ثلاث ساعات في قصر البطرك وحضرت الرئيسة قبلت اتكه وأخذ وأعطى معها في الكلام بكل بشاشة وسألها على الراهبات وكم عدتهم، وبأثناء الخطاب طلبت منه إنعام أن يتعمر في الدير كم قوضة لأجل سكن الراهبات، فقال لها: حرري عرض وأرسليه إلى يبرود وهناك بعلم عليه، وركب في ساعتها وبات في قرية التواني وثاني يوم توجه إلى يبرود واستقام كم يوم …) انتهى قول المؤلف..
يذكر أنه ومع حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام بدأت أول هجرة مسيحية من يبرود، حيث هاجرت بعض العائلات المسيحية إلى مصر طمعاً بحياةً أفضل، تبعتها موجات من الهجرة أدت إلى تناقص شديد في أعداد المسيحيين لعل أبرزها تلك التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى نحو الأمريكيتين، وكان الدافع لها اقتصادياً.
وعلى الرغم من تناقص عدد المسيحيين في يبرود بشكل درامي على امتداد القرن الماضي، إلا أن المدينة شهدت حالاً استثنائياً من التعايش بين اتباع الديانتين، ولم يسجل أي خرق أو احتكاك، حتى أن العوائل المسيحية كانت منتشرة في جميع أحياء البلدة «القامعية، زقاق المبلط، حي المطاحن، السوق، اسكفتا، الصالحية». وفي عام 1925 إبان الثورة السورية الكبرى حاول عدد من «الموتورين» من إحدى البلدات القريبة، الهجوم على مسيحيي يبرود، فقامت العائلات المسلمة -منهم آل حي- باستقبال مسيحيي يبرود في بيوتهم وحمايتهم.
كما خرّجت مدرسة الراهبات في البلدة جيل المتعلمين والأكاديميين من المسيحيين والمسلمين، وليس بالإمكان حصر أعلام المسيحيين في يبرود الذين نبغ منهم كثيرون كشاعر المهجر زكي قنصل والطبيب أنيس دهبر، ورجل الأعمال موسى كريم الذي قام بحملة تبرعات لبناء المشفى الوطني في المدينة والذي افتتح في رئاسة القوتلي الأخيرة.
ابتداءً بالوحدة مع مصر ومروراً بعهد البعث انهارت أعداد المسيحيين في يبرود، إذ شهدت فترة الستينات هجرة الطبقة الأكثر ثراءً وتهريب أموالها معها، وكانت المرحلة الأولى من الهجرة تلجأ إلى لبنان وفي المرحلة الثانية انطلقت نحو المغترب البعيد.
تبعتها موجة هجرة جديدة كأحد مرتجعات الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، وتحوّلت نوعاً ما إلى اقتتال طائفي بين مكونات البلاد من مسيحيين وسنة وشيعة ودروز. فتحت الحرب الأهلية باب الهجرة للبنانيين عموماً ومسيحيي لبنان خصوصاً، الذين تربطهم بمسيحيي سورية علاقات قرابة وتجاور. لذلك فإن الهجرة اللبنانية دفعت بشكل أو بآخر إلى تشجيع الهجرة السوريّة، فمن يبرود هاجرت عائلتا شيحا وأيوب المسيحيتين بالكامل، ولم يبق سوى منزل قديم مهجور لآل أيوب في المدينة.
الهجرة الثالثة تزامنت مع تمرد الإخوان المسلمين في سورية، والذي بدأ عام 1979 على يد «الطليعة المقاتلة»، وهي الجناح العسكري للحركة، واستمرّ حتى 1982 وتمركز في حماة وامتدّ نحو مناطق ومدن سوريّة مختلفة، وأدى إلى رفع وتيرة هجرة المسيحيين رغم ابتعاد يبرود تماماً عن دائرة العنف أو الأحداث، إلا أن الهجرة كانت لعموم المسيحيين في سوريا حتى أن تزايد الهجرة بشكل متسارع، وصل إلى درجة أن الدولة السوريّة قامت في أواسط الثمانينات بمنع إصدار تأشيرات الخروج لمسيحيي البلادهجرة المسيحيين المشرقيين، المحرر، 4 ديسمبر 2011، «المعلومة من المصدر وتعذر التأكد منها»..
ويرجع حنا بطاطو في كتابه، فلاحو سورية: أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، الهجرة المسيحية إلى عامل اقتصادي مرتبط بسوء التخطيط والنظام الحاكم، خاصةً أنه ورغم انتشار التعليم في يبرود بنسبة تفوق التسعين بالمئة إلا أن أغلب الأسر بقيت تعتمد على الزراعة كمصدر جانبي للدخل، يقول بطاطو: «في الثلث الأول من التسعينات. في البحث عن الأسباب سنجد أن السبب الرئيسي هو غياب التخطيط أو عدم الالتزام بالخطط، جراء المحاباة أو الرشاوي أو شراء الولاء وشتى أشكال الفساد الذي يحوز على رضى ومباركة القيادات العليا في دولة البعث، طالما أنه يعزز السيطرة. سحب المياه الجوفية بدون رقابة وبشكل يفوق إعادة امتلاء أحواض المياه الجوفية أدى إلى «ذبح المياه» حسب تعبير فلاح من القلمون. وأدى فرط استعمال نهر بردى للأغراض الصناعية والمنزلية إلى «موت بردى» وتحول مياهه إلى «ماء آسن وملوث يقتل الشجر ويؤدي إلى يباسه» على ما يقول أحد فلاحي الغوطة المسنين».
قبيل الثورة السورية وصلت نسبة المسيحيين لعشرة بالمئة من السكان، إلا أن ملامح العيش المشترك بقيت استثنائية، فلدى زيارة الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم لمسقط رأسه تم استقباله بذات الحفاوة في بيت العائلة وفي كنيسة المدينة، على الرغم من أن منعم ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية عندما أراد الترشح لرئاسة الأرجنتين، لأن دستور البلاد يفرض أن يكون الرئيس مسيحياً، ولم تثر ديانة ابن المدينة أي تساؤل أو رد فعل سلبي في حينه.
التيارات والأحزاب السياسية في يبرود
بدأت علاقة أهل يبرود بالسياسة أو المجال العام باكراً، استناداً إلى المرجعيات والزعامات التقليدية التي انحصرت تقريباً في شخص محمد خير عقيل الزعيم المحليابن صالح عقيل عميد الأسرة، الذي كان من أبرز شخصيات القلمون في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، منحه ابراهيم باشا بن محمد علي باشا حاكم مصر عندما قابله في يبرود عام / ١٨٣٨ /م لقب مختار مخاتير القلمون. ولمحمد خير عقيل قصة يتداولها أبناء المدينة، كما ذكرها الباحث نوري عقيل مراراً، وهي وثيقة الصلة ببحثنا عن مسيحيي يبرود، فبعد قيام الحرب العالمية الأولى ما بين الاعوام /١٩١٤ _ ١٩١٨ / عندما كان جمال باشا السفاح حاكماً لسورية، طلب جمال باشا من محمد خير وهو على طاولة الغداء في منزل محمد خير في يبرود أن يعمل على القضاء على مسيحيي يبرود بقصد اثارة الفتنه وبحجة أن مسيحيي سورية مؤيدون وعملاء لدول الحلفاء فرنسا وبريطانيا، ولكن محمد خير رفض ذلك بقوه ورغماً عن سطوة السفاح وتهديده معتبراً أن لا تمييز بين مسلم ومسيحي، وقد أرسل محمد خير حينذاك شفيق ابن اخيه حسن الى دار المطرانية في يبرود محذراً وطالباً من المسيحيين اللجوء والحماية في منزله الواقعة مقابل مسجد الرويس وكان يتسع لمئات الافراد، وذلك لحمايتهم من أي مكروه يصيبهم، وهكذا نجح في حمايتهم والحفاظ على حياتهم ، محمد خير الذي انضم إلى الكتلة الوطنية لاحقاً انتخب نائباً في المجلس النيابي عن منطقة القلمون عام 1936.، واستمرت الزعامة العائلية في يبرود حتى عام 1958 وانتهت بوفاة صالح عقيل الابن وزير الإعلام في حينه وحافظت الأسرة على خطها السياسي المحافظ، وإن مالت لكتلة خالد بيك العظم كمستقل، وفي الثلاثينات أيضاً تأسس الحزب الشيوعي السوري. وبحسب المؤرخ «عبد الله حنا: المراحل الأولى لظهور الحزب الشيوعي السوري»، فإنه تأسس على يد الدمشقي فوزي الزعيم، وابن مدينة يبرود ناصر حدّة الذي شغل عام 1936 المركز القيادي الأول في الحزب.
وكان للحزب الشيوعي القاعدة الأوسع بين مسيحيي يبرود، على الرغم من أن المؤسس مسلم من المدينة، بينما لم تلق الأفكار الشيوعية رواجاً عند المسلمين، إلا أن مسيحيي يبرود شكلوا استثناءً عن القاعدة العامة بحيث يذكرهم المؤرخ حنا بطاطو بالاسم قائلاً: «كان للجذور الريفية لمعظم الشيوعيين البارزين الأوائل أثرٌ في جعلهم ذوي حساسية تجاه مشكلات الفلاحين، ولكن لم تخدم هذه الحساسية الشيوعيين فهم لم يتقدموا في الريف إلا بين الفلاحين المسيحيين في يبرود، ويمكن تقصي الأسباب في عدم مثابرة الشيوعيين، وفي ضعف المواصلات، وفي سيطرة الصوفية على العدد الأكبر من الفلاحين، إضافة إلى الخلفية الأقلوية لجميع القادة الشيوعيين البارزين، باستثناء ناصر حدة الذي كان العربي السني الوحيد في قيادة الحزب»حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، ص 220..
ومن الممكن هنا رصد انقسام عمودي في مجتمع يبرود على صعيد الانتماء السياسي، حيث انتمى المسيحيون لليسار بكل أطيافه حتى يومنا هذا، في حين التزم المسلمون بالزعامة التقليدية ثم بالتيار العروبي لاحقاً. تجلى هذا الانقسام واضحاً زمن الوحدة مع مصر، حين اتخذ المسيحيون موقفاً سلبياً من الوحدة مع مصر تبعاً لخلفياتهم المسيحية والشيوعية في آنٍ معاً، وعلى ما يؤكد الاستقراء السابق أنه وفي عام 1961 وبعد الانفصال مباشرةً اجتمع خمسون من قيادات الصف الثاني من حزب البعث، وقرروا العمل تحت اسم حركة الوحدويين الاشتراكيين. واعتبر هذا الاجتماع الذي انعقد في أوائل عام 1962 مؤتمراً تأسيسياً لــ «حركة الوحدويين الاشتراكيين»، وانتخب سامي صوفان ابن يبرود أميناً عاماً للحركة.
الحركة التي رفعت شعار الوحدة الفورية مع مصر، والتي جذبت إلى صفوفها خلال فترة قصيرة استثنائية فئات كثيرة من المثقفين، والأوساط الشعبية، فوصل تنظيمها الأفقي إلى ما يقرب الثلاثين ألف عضو*، حتى تموز 1963 لم يكن في تعداد أعضائها من مسيحيي يبرود ما يتجاوز أصابع اليد الواحدةمحمد جمال باروت، حركة القوميين العرب، النشأة – التطور – المصائر، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، دمشق، ط 1، 1997، ص 251..
أما بالنسبة للتيار الإسلامي، فلم تملك التيارات الإسلامية أو «الإسلام السياسي» إن جاز التعبير أي أرضية أو حاضنة في مدينة يبرود عبر تاريخها الحديث، على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين في سورية، والتي أعلن رسمياً عن تأسيسها في 3 شباط 1945 مع تسجيلها في وزارة الداخلية ومن ثم صدور كراس «أهدافنا ومبادئنا»، عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول في يبرود في أيلول عام 1946محمد سيد رصاص، الإخوان المسلمون في سورية: قراءة في التجربة، الحياة، 28 كانون الأول، 2013..
أما بالنسبة لحزب البعث الحاكم، وعلى الرغم من الخلفيات الناصرية لمسلمي يبرود، فإنه لم يحظَ بأي نفوذ أو شعبية في المدينة، وكذا الحال بالنسبة للمسيحين بحيث لم يتبوأ أحد أبناء المدينة منصباً قيادياً في الحزب، وبقي المسيحيون مخلصين لليسار وحتى تياراته المعارضة، وتعرض الكثير منهم للاعتقال والتصفية أثناء حكم الأسد الأب. ففي عام 1990، وبعد إعدام تشاوشيسكو، كتب بعض الشبان المسيحيين على الجدران في المدينة يبرود «اليوم تشاوشيسكو وغداً حافظ الاسد». وفي اليوم التالي شنَّ جهاز المخابرات حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشبان، وأتى الشبيحة يومها وأخذوا من أخذوا ومنهم منير فرنسيس الذي ذهب ولم يعد.
وعن منير فرنسيس كتبت خولة دنيا: «في فضاوة السجن كان التعذيب أقل من المعتاد، عرفنا السبب بعد أيام من اعتقالنا، فهناك من مات تحت التعذيب في الزنزانة السادسة. قالوا لنا كان هناك منير فرنسيس، ابن يبرود، المعتقل بتهمة (المكتب السياسي) والكتابة على الجدران. أصيب بنوبة كلوية جراء الضرب الهمجي في مخفر النبك قبل المجيء به إلى الفرع، وعدم تلقيه العلاج، واستمرار التعذيب. بعد خروجنا من السجن زرنا يبرود وزرنا بيت منير وسمعنا حكاية التابوت المصفح الممنوع فتحه، وكيف أُجبر الأهل على دفن ابنهم من دون وداع يليق به»في تذكر أيام الاعتقال وتجربة السجن السوري… خمسة أشهر على قدم واحدة، مركز الشرق العربي، 27، 1، 2014..
تجدر الإشارة أنه وفي عهد الأسد الابن، وإذا جاز اعتبار التشيع خياراً سياسياً، فقد بدأت بعض الحالات الفردية بإعلان تشيعها، وبات هناك ما يشبه التنظيم الاجتماعي للأفراد الشيعة ترأسه أحد أبناء المدينة المغتربين في الكويت، إلا أنه لم يتعدّ الحالات الفردية رغم دلالته الكبرى.
مسيحيو يبرود والثورة السورية
لا يمكن الحديث عن مشاركة مسيحيي يبرود في الثورة السورية عام 2011 بمعزل عن أبناء المدينة أو عموم الشعب السوري. إلا أن تجربة مسيحيي يبرود تحمل ملامح خاصة لا بدَّ من ذكرها، أولها الطابع المعارض تاريخياً لمسيحيي المدينة، ووقوف كنيسة يبرود ولو على خجل مع رعيتها في مواجهة النظام. ولا يمكن بأي حال وصف سلوك كنيسة يبرود بالداعم للنظام أو الحيادي لجملة وقائع سنوردها تباعاً.
ورغم الضغوط التي مارسها النظام على المسيحيين بشكل خاص لمنعهم من الانخراط بداية الثورة، إلا أن المعارضين من المسيحيين، رغم قلة عددهم نسبة إلى عدد المسيحيين في يبرود بدايةً، كانوا من أوائل المنخرطين في الثورة والمشاركة في تنظيم المظاهرات. حيث التحقت يبرود بكافة مكوناتها بالثورة السورية في وقتٍ مبكر، ففي الجمعة الأخيرة من نيسان 2011 خرجت مظاهرة من جامع العجمي وتعرضت لاجتياح قوات النظام، وتجددت التظاهرات، وفي نهاية الشهر السادس من العام نفسه، وإثر اعتقال إحدى الناشطات من مظاهرة مسائية في ساحة الحرية، اعتصم حوالي 400 متظاهر حول المخفر لإخراج الفتاة، ليقابلوا بإطلاق نار من عناصره، ما دفعهم إلى إلقاء الحجارة عليهم. وسريعاً، تدخل الأمن العسكري الذي فتح عناصره النار على المتظاهرين، مما تسبب في إصابة أربعة متظاهرين، ومقتل الشاب خالد النمر.
حضرَ في جنازة خالد النمر أكثر من 25 ألف مشيّع، من كل قرى وضياع القلمون المجاورة، وكان لاستشهاده الفضل الأكبر في انقلاب المزاج العام، وكسر حاجز الخوف لدى الناس، لتتوالى الأحداث بعدها بسرعة، من اتساع المد الشعبي للثورة، وبدء ظهور السلاح لحماية المظاهرات، ومن ثم تشكيل كتيبة «سباع الجرد»، عبر معارك الاستيلاء على شعبة الحزب والمخفر وبناء الجمارك والبلدية.
مع دخول عام 2012 سيطرت المعارضة المسلحة تماماً على المدينة التي شهدت عملاً مدنياً وإغاثياً مكثفاً للنازحين إليها، وشهدت هدوءً نسبياً طوال سنتين حتى تاريخ استعادة النظام للسيطرة عام 2014. ويرجع البعض الهدوء الذي عاشته المدينة إلى كون مسيحيي يبرود هم من الكاثوليك الملكيين، كتابعية مسيحية للفاتيكان، والتي فرضت على السلطة السورية نوعاً من الترتيب يحيّد المنطقة من الهجوم العسكري لجيش الأسد، مما ساهم في خلق هوامش حرية تشمل كامل مكونات المجتمع اليبرودي. لكن تبقى هذه النظرية في إطار التواتر والافتراض.
المظاهرات شبه اليومية المناهضة للنظام كانت تسلك طريق «شارع المطاحن»، الحي المسيحي التاريخي، وصولاً إلى «ساحة الرويس» قلب المدينة، وكانت تجمع في صفوفها مكوني المدينة مسيحيين ومسلمين، وقد حاولت قوى مسيحية لبنانية التدخل وتقديم الدعم المالي لمسيحي يبرود وحاولت الاتصال بناشطيها المسيحيين، إلا أنهم رفضوا تدخل أي قوة أو جهة غير سورية في ثورتهم، سواء كانت دينية أو سياسية.
يصف الصحافي الفرنسي الذي زار يبرود، ريمي فيليب، واقع المسيحيين في المدينة قائلاً: «شطر لا يستهان به من سكان يبرود من المسيحيين (40 في المئة، وفق المسؤولين المحليين). والنظام يسعى الى استمالة الأقليات الدينية، والتفافها حوله لتناصب العداء للغالبية السنية. ويحاول المسيحيون السوريون النجاة من براثن هذا الفخ، ويلتزم كثيرون منهم الحياد. ورغم الحياد الرسمي، فقد برزت مجموعات مسيحية مؤيدة للثورة والجيش الحر. وانضم ميشيل ويوسف، وهما من السريان الكاثوليك، إلى اللجنة الأمنية في المدينة، لكنهما لا يشاركان في القتال، ولسان حالهما: (نحن كمسيحيين لا نؤيد حمل السلاح، لكن الخيارات أمامنا قليلة في مثل هذه الحال… وعائلاتنا تخشى ما هو آت)». لكن خوف ميشيل ويوسف ضعيف الصلة بالدين، فهنا، يتعايش المسلمون والمسيحيون. لكن «ما يقلق المسيحيين هو وجه سورية الجديدة، في وقت لا يجدون سنداً لهم أو حامياً. وتزعم الحكومتان الأميركية والفرنسية أن مصير المسيحيين يشغلهما، لكنهما لم تحركا ساكناً لحمايتنا. من يحمينا في يبرود هم الجيران المسلمون». ويصوم مسيحيو يبرود في شهر رمضان، وتجمع مراسم العزاء المسلمين إلى المسيحيينالحرب الخفية في يبرود الثائرة والهادئة جان – فيليب ريمي، عن «لوموند» الفرنسية، 31/5/2013..
كما تم تمثيل المسيحيين في مجلس الثورة في المدينة إلى جانب التمثيل في تنسيقية يبرود والمجلس المدني فضلاً عن المجلس المحلي، كما ساهموا بشكل فعال ضمن الحملات الإغاثية، في حين ساهم الأغنياء منهم بتقديم الدعم المالي والمساعدات.
وقد تكون يبرود المدينة السورية الوحيدة التي انطلقت فيها مظاهرات من أبواب كنائس المدينة، كمظاهرة «أحد الأب باولو»، وشارك فيها أكثر من ألفي ثائر في نهاية العام 2011 بعد قرار السلطات السورية بترحيله خارج سوريا لمواقفه الداعمة لثورة، كما شارك أكثر من ثلاثة آلاف متظاهر قداس الشهيد المصور باسل شحادة في صيف 2012، بعد منع تشييعه من قبل الأمن في إحدى كنائس حي باب توما في دمشق. ومن أكثر العبارات الثورية التي رددها ثوار مدينة يبرود «إن هُدم مسجدك تصلي في كنيستي، وإن هُدمت كنيستي أصلي في مسجدك».
شهدت المدينة أيضاً تظاهرات ميلاد الحرية احتفالاً بميلاد السيد المسيح عام 2011، والتي شارك في أعدادها وتنسيقها شباب وشبان من يبرود مسيحيين ومسلمين. كما دعت كنيسة النجاة في المدينة الثوار مسلمين ومسيحيين إلى وجبة افطار في 03/08/2012 للتضامن مع الثورة السورية. وقبل الدعوة، عقد جميع الشباب الثوري المسيحي المشارك في الفعاليات الثورية في يبرود لمناقشة تأسيس كيان ثوري للتعبير عن فعاليتهم في الحراك. وتقرر تشّكيل تجمع «مسيحيون احرار»، وكانت أبرز قرارات التجمع: الحفاظ على سلمية الثورة وعدم التطوع في كتائب الجيش الحر العاملة في المدينة. وكان لانتشار صور الإفطار واتشاح رجال الدين المسيحيين بعلم الثورة أن شكل صفعة قوية ترد على خطاب النظام الإعلامي، لكن النظام سارع في تصعيد ضغطه على مسيحيي يبرود. فكثرت حالات الاعتقال للمواطنين الذين أرادوا الخروج من المدينة، وتم قصف منازل أحياء مسيحية مما أدى لسقوط جرحى، وتعرضت كاتدرائية الروم الكاثوليك في المدينة للقصف بأربع قذائف هاون أدت إلى دمار جزئي في جدارها.
شكلت يبرود أيضاً استثناءً من خلال مشاركة المسيحيين في كتيبة الأمن الداخلي في المدينة، والكتيبة كانت غير مسلحة ولا تدخل في عمليات عسكرية ضد النظام، عناصرها يحملون هراوات خشبية ووضعت إشارة على كتفهم الأيسر كتب عليها «كتيبة الأمن الداخلي في مدينة يبرود»، وتنحصر مهامها في تنظيم شؤون المدينة أمنياً.
ووفقاً لتقرير لوكالة الأناضول للأنباء بتاريخ 3 آذار 2013، فقد بقي في يبرود أكثر من أربعة آلاف مسيحي في المنطقة المحررة الواقعة في ريف دمشق، حيث يشاركون باقي سكان المدينة أفراح الثورة وأتراحها، فهم كعموم السكان شاركوا في بدايات الثورة السورية وساروا في المظاهرات السلمية يطالبون بالحرية، ويعانون اليوم من تبعات الثورة الاقتصادية والمعيشية.
لا تعني الوقائع والأحداث التي ذكرناها سابقاً أن مسيحيي يبرود بالكامل كانوا من مؤيدي الثورة، إلا أن الموقف المسيحي مرَّ بمراحل مختلفة، وبإمكاننا الجزم أن الموقف بات إما معارضاً أو حيادياً بعد قتل المهندس المسيحي بسام غيث تحت التعذيب في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، بالإضافة إلى عدد من الناشطين الآخرين. كما لا يمكن الحديث عن مسيحيي يبرود والثورة السورية دون ذكر اختطاف راهبات معلولا في الشهر الأخير من عام 2013 وصفقة إخراجهم بوساطة قطرية، والتي شكل إتمامها مقدمةً لاقتحام المدينة من قبل جيش النظام وحزب الله اللبناني. لكن بحسب ناشطين، كعامر القلموني الناطق باسم «الهيئة العامة للثورة السورية»، فإن الراهبات لم يتعرضن للخطف، بل أخذن بغرض حمايتهن من قصف النظام، وأنهن أقمن في منزل أسرة مسيحية سورية «جورج الحسواني». يوم الأحد 16 آذار عام 2014 وبعد 33 يوماً من القصف المتواصل، دخل مقاتلو «حزب الله» اللبناني إلى أحياء يبرود، وخلال أقل من 5 ساعات أعلنوا سيطرتهم على المدينة وبدأوا بتمشيط أحيائها، خلال المعارك وقبلها فرغت يبرود من مسيحيها تماماً، حيث انتقل المدرجون على قوائم الاعتقال لدى النظام إلى لبنان، بينما تمكن الآخرون من النزوح إلى دمشق والقرى المجاورة. وبعد سنتين من سيطرة المعارضة المسلحة وملامح العيش المشترك والتنظيم المدني الواضح في المدينة، عمل النظام على ترويج صور للدمار والتخريب الحاصل في «كنيسة السيدة للروم الكاثوليك». هذا التخريب تحول وعبر إعلام النظام ومن يسانده إلى علامة فارقة جعلها النظام مادةً للتداول بين المؤيدين، وكان من بين الصحفيين الذين حضروا إلى يبرود الصحفي البريطاني روبرت فيسك، الذي استسهل استخلاص العبر والمقولات استناداً لما شاهده من تدمير في الكنيسةكتب في الإندبندنت تقريراً تحدث، وبحسب ترجمة الأهرام المصرية له «عن دمار كبير لحق بالكنيسة الكاثوليكية اليونانية، وهي أقدم كنيسة في سوريا، على يد مسلحي جبهة النصرة والجبهة الإسلامية. وتساءل فيسك عن كيفية إصلاح العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في يوم من الأيام بعد هذا القدر الكبير من التخريب. ورد بأنه ربما يستحيل تحقق ذلك، على الرغم من أن المدنيين المسلمين القاطنين في هذه المدينة القديمة تحلوا بشجاعة متناهية ووفروا الحماية لجيرانهم من المسيحيين. واختتم التقرير بالإشارة إلى أن يبرود حالياً تشبه الكثير من أرجاء سوريا، فقد خربت وهوت إلى الحضيض جراء الاقتتال الدائر بين كل الأطراف المتناحرة»..
اليوم وبعد مرور أكثر من سنتين على استعادة النظام للمدينة، عادت بعض الأسر المسيحية لممارسة حياتها بشكلٍ طبيعي، إلا أن عدداً كبيراً من أبنائها فضل عدم العودة، والاستقرار مبدئياً في لبنان بانتظار الهجرة إلى كندا أو أوروبا. كما انخرط قسم من الشباب المسيحي المعارض في مشاريع الإغاثة في مخيمات اللجوء، في الوقت الذي يقوم فيه «حزب الله» اللبناني بإخلاء عدد من المنازل في منطقتي اسكفتا والقاعة، والتي تحوي قيوداً عقارية لمسيحيي يبرود، ليوطّن عائلات مقاتليه فيها، بحجة أنها تلزمه للأمور العسكرية، بحسب «الهيئة العامة للثورة في مدينة يبرود».
موقع الجمهورية
—————————
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الثاني)
الدكتور ميخائيل مشاقة
هو من أفراد القرن التاسع عشر، ونابغة من نوابغه ذكاءً وفطنة وهِمة، وُلد في قرية رشميا من أعمال جبل لبنان، من عائلة ذات نسب جليل يتصل بيوسف بتراكي الذي هو جد جد صاحب الترجمة، وأصله من كورفو ببلاد اليونان، ولُقِّب بمشاقة لاحترافه تجارة مشاقة الحرير، وكان والده جرجس في بلاط الأمير بشير الشهابي الكبير أمير جبل لبنان إذ ذاك، ومن المقربين منه، فنقل بيته إلى دير القمر مركز الإمارة ليكون قريبًا من مكان عمله.
figure
الدكتور ميخائيل مشاقة ١٨٠٠–١٨٨٨م.
وكان ميخائيل نبيهًا ذكيًّا متوقد الذهن، فتمكَّن من القراءة في مدة وجيزة، وكان له ميل طبيعي إلى الرياضيات، فتلقَّن الحساب البسيط عن أبيه، ثم تعلَّم مسك الدفاتر.
وكان على صغر سنِّه يُجالس كبار القوم ويستفيد من أحاديثهم، فسمع من يهود دير القمر أنهم يعرفون أوان الخسوف والكسوف قبل حدوثهما، فمال إلى استطلاع كيفية ذلك فلم يستطع، فازداد قلقه، وكان يعتقد مثل اعتقاد أكثر أهل تلك الأيام من أن علم الفلك ينبئ صاحبه بالغيب.
وفي سنة ١٧١٤م قدم بطرس النحوي خال صاحب الترجمة من دمياط إلى دير القمر، وكان بارعًا في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية والطبيعية، فانتهز ميخائيل تلك الفرصة وطلب إلى خاله أن يدرسه علم الفلك، فسُرَّ بطلبه وأخذ يدرسه باجتهاد، فاكتسب منه جانبًا كبيرًا بمدة قصيرة، فأحبه خاله محبة شديدة، وأعجب بذكائه وفطنه. وفي سنة ١٨١٧م ذهب ميخائيل إلى دمياط وتعيَّن كاتبًا في محل عمه هناك، وكان كبير النفس لا يقنع بأقل من الاستقلال، فما لبث زمنًا حتى تعاطى التجارة بنفسه، واكتسب ثروة صغيرة.
واتفق أنه طالع سنة ١٨١٨م كتاب سياحة الفيلسوف فولني وآراءه، فوقع في حالة التردد من أمر الدين، وصار ذلك شاغلًا لأفكاره.
ومن غريب أخلاقه وحميدها أنه لم يكن يرى شيئًا أو يسمع به إلا أحب استطلاع كنهه، وكانت له ثقة تامة بقواه العقلية؛ ولذلك كان يعتقد أنه يقدر أن يتعلم كل ما يريده.
ويحكى أنه حضر عرسًا في مدينة دمياط كانت تصدح فيه الموسيقى، فسأله أحد الحاضرين عن لحن هل يعرفه، فأظهر البعض الآخر استخفافًا به لأنه لا يعرف الألحان، فثارت في رأسه الحمية، وعزم من تلك الساعة أن يدرس فن الموسيقى، ففعل وتمكَّن منه، حتى ألَّف فيه رسالة بديعة بعد أن أتقن الضرب على سائر آلاته.
وفي سنة ١٨٢٠م ظهر في دمياط وباء الطاعون، فرجع ميخائيل إلى دير القمر وهو لا يفتر عن المطالعة، وكان يطالع الجبر والمقابلة بنفسه.
وبعد ذلك انتدبه الأمير بشير الكبير ليكون مدبرًا عند أمراء حاصبيا، فأكرموا مثواه ووهبوه بقاعًا واسعة في جهات الحولة ونهر اللدان وقرية في قضاء القنيطرة؛ وهذا يدلنا على مقدار ما كان من إعجابهم به وبأعماله، ولكنه أصيب بمرض سنة ١٨٢٨م فاضطُر لأن يعود إلى دير القمر للمعالجة، فتعالج خمسة أشهر كان في أثنائها يلاحظ العلاج الذي كان يتناوله، ويودُّ لو أنه يعرف صناعة الطب جريًا على طبيعته — كما قدمنا. فحالما نقه من مرضه عكف على مطالعة ما وصلت إليه يداه من الكتب الطبية حتى فهم أكثرها، ولكنه عجز عن إدراك كثير من مصطلحاتها، وكان المتقدم ذكره قد عاد إلى دير القمر فأفهمه إياها، واستعان أيضًا بطبيب آخر إيطالي كان هناك.
وفي سنة ١٨٣١م جاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير بجنوده لافتتاح عكا، وكان بينه وبين الأمير بشير تحالف، فجاء الأمير لمعاضدته في ذلك الحصار، وقدم ميخائيل مشاقة برفقة الأمير؛ ومن ثَمَّ انضم إلى الجنود المصرية ورافقها إلى دمشق وحمص يطبِّب جرحاها والمصابين بالكوليرا (الهواء الأصفر)، ثم رجع إلى دير القمر. وقد لحقه بسبب حروب إبراهيم باشا خسائر جسيمة مالية، حتى اضطُر للتطبيب بالأجرة، وكان قبل ذلك يُطبب مجانًا. ونزح إلى دمشق وأقام فيها، واغتنم وجود الدكتور كلوت بك الشهير هناك مع الحملة المصرية، فطالع ما نقصه من الطب عليه، فتمكَّن من تلك المهنة حتى ولته الحكومة رئاسة أطباء دمشق.
ولم يكن يقنع بعلمٍ دون آخر، فلمَّا تمكَّن من الطب طلبت نفسه شيئًا آخر، فدرس المنطق وتوسَّع فيه، وعندما خرجت الجنود المصرية من سوريا تعيَّن مترجمًا للسير وود الذي أُرسل قنصلًا لدولة إنكلترا في دمشق.
وفي سنة ١٨٤٦م قدم الديار المصرية وواظب على ممارسة العمليات الجراحية في مدرسة قصر العيني حتى نال الدبلوما الطبية مع لقب دكتور، ثم عاد إلى دمشق، وتحرَّكت أفكاره في أثناء ذلك حركة دينية، فجعل يتردد بين الديانة المسيحية وما ذهب إليه فولتير حتى وقع على كتاب البينة الجلية، فأخذ يراجع فيه وفي غيره لعله يهتدي إلى ما يريح ضميره من التردد، ثم أخذ يطالع كتبًا جدلية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت، وجرى بينه وبين البطريرك مكسيموس مظلوم إذ ذاك مجادلات طويلة انتهت بانحيازه إلى طائفة البروتستانت، وصار من أكبر المدافعين عنها وعن تعاليمها تكلمًا وكتابة.
وفي سنة ١٨٥٩م تعيَّن فيس قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق، وفي السنة التالية كانت الثورة المشهورة، بل المذبحة المعلومة في دمشق وغيرها من سوريا، فأصاب الدكتور مشاقة جراحٌ كثيرة، ولولا مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري ما نجا من القتل، ولكنه تمكَّن بمساعدته من الالتجاء إلى مكان طبَّب فيه جراحه حتى شُفي.
وبقي هذا الرجل عاملًا في الطب والسياسة والديانة والفقه والحساب وسائر أنواع العلوم حتى كانت سنة ١٨٧٠م، فأصيب بفالج بجانبه الأيمن، فانقطع عن أشغال القنصلية، فأحيلت لولده نصيف بك.
أما هو فلم ينفك عن العمل في بيته، ولم يكن يخلو منزله من الزائرين على اختلاف الأجناس والطبقات لمشاهدته وتحقق ما سمعوه عنه، وقد أتيح لنا الحظ بزيارته سنة ١٨٨٣م في منزله بدمشق، فإذا به رجل ذو هيبة ووقار يُجلِّله الشيب، يلبس العمامة والجبة، طويل القامة، كبير الجثة، لطيف الحديث، واسع الاطِّلاع، كثير الترحيب بزائريه كسائر أهل دمشق، وقد اطَّلعنا على كثير مما كتبه ولم يطبعه من المؤلفات، وفي جملة ذلك رسالة في الألحان الموسيقية العربية، ومطوَّل في الحساب والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين، مذيل بجداول لمدة مائة سنة تحتوي على مطابقة أيام الشهور العربية والرومية والقبطية والعبرانية والهجرية، ومواقع كسوف الشمس والقمر لطول دمشق وعرضها، وغيرها.
أما الكتب التي طُبعت من مؤلفاته فأكثرها ديني جدلي، وفي جملتها كتاب سمَّاه البرهان على ضعف الإنسان، جوابًا لصديق له كان تابعًا لتعاليم فولتير، وقد طبعت مجلة المشرق رسالته في الصناعة الموسيقية. ومن مؤلفاته «الجواب على اقتراح الأحباب»، وفيه ترجمة أسرته وحوادث أيامه، قد طُبع مؤخرًا باسم «مشهد العيان».
وكانت وفاته في السادس من شهر يوليو (تموز) سنة ١٨٨٨م في دمشق الشام، وله من العمر تسع وثمانون سنة، قضاها في العمل والاجتهاد وخدمة بني الإنسان.
——————————–
تناقضات ميخائيل مشاقة/ بيتر هيل
28 أغسطس 2024
ترجمة: أحمد شافعي
يمثل الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر مفارقة. فمن ناحية، أصبحت في ذلك الوقت فكرة المجتمع الحديث العلماني ممكنة. ومن ناحية أخرى، شهد ذلك الزمن معارضة تلك الفكرة بصعود الهويات الدينية الجديدة المثيرة للانقسام. وفي ولايات الإمبراطورية العثمانية العربية جميعا، كان المثقفون ينشئون مجالا عاما حديثا، ذا صحافة دورية نابضة بالحياة، وسلسلة من الجمعيات الثقافية ومدارس من طراز جديد. وصار أتباع الأديان المختلفة ـ من مسلمين ومسيحيين ويهود ـ يتلاقون في تلك المؤسسات، ويتجادلون في المجتمع والعلم والثقافة. وبدأ قلة منهم من أمثال «المادي» شبلي شميل يبشرون بالعلم الحديث بديلا للدين. في الوقت نفسه أعلنت الدولة العثمانية المساواة بين رعاياها جميعا على اختلاف أديانهم في عام 1856. وصدَّق الكثير من المثقفين ذلك فدعوا أبناء أوطانهم إلى تنحية الاختلافات الدينية جانبا باسم «وطن» و«أمة» للناس من كل العقائد.
في الوقت نفسه، كانت هذه الولايات العربية- وبخاصة سوريا ولبنان- تعاني من صراعات كبيرة بين الطوائف الدينية. فقد شهدت أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في لبنان قتالا مريرا بين جماعات مسلحة من الدروز الإبراهيميين والموارنة المسيحيين. وتصاعدت التوترات في سوريا، بدافع من تدخل الدول الأوروبية ومخاوف تنامي سلطتهم داخل الأراضي العثمانية. في عام 1860، بلغت هذه الضغوط ذروتها، ففي دمشق نفسها، وهي عاصمة الولاية، ارتكبت جماعة من المسلمين المسلحين مجزرة في آلاف المسيحيين. في الوقت نفسه، كان القادة والمجددون الدينيون يسعون إلى إقامة طوائف دينية أكثر تجانسا، ومتمايزة بوضوح عن بعضها بعضا. فناصر النشطاء المسلمون المنتمون إلى بواكير الحركة السلفية من أمثال رشيد رضا عودة مثال العصر النبوي المحمدي الخالص. واستهدف رجال الدين الكاثوليك من أمثال البطريك مكسيموس مظلوم تمييز طوائفهم تمييزا واضحا عن غيرهم من الجماعات المسيحية الأخرى وعن المسلمين أيضا. وكانت تلك المشاريع تتماثل ـ بطريقتها ـ مع حداثة العلمانية أو العقلانية العلمية. فقد شرعت في محو أنظمة الممارسات الدينية القديمة من قبيل عبادة القديسين والأضرحة الشائعة أو المواكب المشتركة والأيام المقدسة التي عملت في بعض الأوقات على طمس الحدود بين العقائد.
وبذلك يكون القرن التاسع عشر في العالم العثماني العربي قد خلّف إرثا متناقضا. فقد شهد ظهور ضربين من المشاريع من شأنهما أن يقسما الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، فمنهما ما يرمي إلى مجتمع علماني وعلم وعقلانية، ومنها في المقابل ما يصر على هوية دينية وفصل بين الطوائف الدينية. فكيف تأتى لهاتين النزعتين ـ شديدتي التناقض في ظاهر الأمر ـ أن تأتيا إلى الوجود في اللحظة نفسها، وجنبا إلى جنب؟
من طرق الإجابة على هذا السؤال طريقة التاريخ المصغر [microhistory]، أي بالنظر إلى قصة فرد واحد لعب دورا في نشوء كلا الضربين من المشاريع. وذلك الشخص كان ميخائيل مشاقة، وهو رجل ساعد في صوغ كل من العقلانية العلمية والتجديد الديني، إذ مضى في مساره الخاص الفريد خلال القرن التاسع عشر. وتلقي قصة رحلته الفريدة من الشك إلى الإيمان ضوءا على التحول الذي جرى لمكانة الدين في المجتمع العثماني العربي، ويساعدنا هذا التحول على رؤية كيفية تشابك جذور العلمانية العقلانية والهوية الدينية الانقسامية.
وصل مشاقة إلى ميناء دمياط المصري سنة 1817 وهو في السابعة عشرة من عمره. وكانت تلك المدينة الصاخبة هي المقر الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر، فعثر فيها على عالم شديد الاختلاف عن بلدة دير القمر الجبلية اللبنانية التي نشأ فيها. على طول ضفة النيل كانت البوارج تفرغ القهوة والأرز والعدس مباشرة في مداخل البيوت والخانات المحاذية للنهر. وكان الميناء يشهد مرور الفلاحين من فلسطين والأئمة من إسطنبول واليهود من رودس والمسيحيين الأقباط المصريين في رحلات الحج إلى القدس. وفي القلب من تجارة المدينة كان مجتمع صغير، وثري، من التجار المسيحيين الوافدين من سوريا، وبينهم اتخذ ميخائيل الشاب مكانه، مقيما مع عمه وأخيه الأكبر اللذين سبق أن استقرا في دمياط، وشرع يتعلم التجارة ويجني المال.
لولا شائبة. فمع مقدم الربيع كان الطاعون يظهر في المدينة. وفي ذروته، كان يمكن أن تشهد المدينة مائة موكب جنائزي. وكان دأب المرض أن يستمر في إصابة وقتل أهل دمياط لأشهر عديدة، وصولا إلى يونيو ويوليو. فكانت تلك مشكلة للجميع، ومع ذلك لم يكن من إجماع على سبيل التعامل معها. فكان كثير من المسلمين والمسيحيين يلجأون إلى الدعاء، والبعض يلوذون بالسحر كأن يرسموا مربعات أو المخططات على واجهات البيوت والغرف للحماية. وكان آخرون (أو أولئك أنفسهم) يلجأون إلى السبل الطبية، لكن الأطباء كانوا مختلفين في أسباب الطاعون الحقيقية وعلاجه. فمنهم من كان يعتقد أنه ينتشر باللمس، وغيرهم بتنفس الهواء الفاسد، ومنهم من ظن أن في تدخين التبغ أو الأفيون حماية ونفعا، وآخرون رفضوا كل تلك العلاجات. فكان أثرياء دمياط يقصدون إلى حماية أنفسهم بنوع من «الحظر» إذ يغلقون على أنفسهم أبواب بيوتهم ومساكنهم لأشهر عدة، ويغسلون كل ما يدخلها من سلع بالماء أو الخل.
وقد يفضي هذا الاختلاف في ردود الأفعال إلى مشاحنات، لأن تبني الاحتياطات الطبية المعقدة قد يبدو إنكارا لقدرة الله، وقد يبدو الاعتماد على السحر أو الدعاء دون غيرهما طيشا له خطره. وفي مجتمع ذلك الميناء المصري المزدحم المختلط، كان الاحتكاك دائما بين مختلف الأنظمة الاعتقادية في مواجهتها لذلك التحدي المشترك. وما كاد ميخائيل مشاقة يصل إلى دمياط حتى أصيب شقيقه الأكبر أندراوس بعدوى الطاعون، لكنه تعافى. وعثر ميخائيل أعلى باب غرفته على ورق يحمل شعارا دينيا وضعه القسيس الكاثوليكي المحلي. وكان يفترض بتلك الشعارات مثلما قيل له أن «تصد الطاعون عن المكان» ففشلت في ذلك فشلا مبينا ـ حسبما أشار ميخائيل ـ لأن أخوه أندراوس أصيب فعلا بالطاعون. وقيل له «لا تكن قليل الدين وتبذر الشكوك». لكن الشك ألح عليه، وكانت تلك التناقضات في التعامل مع الطاعون عاملا أفضى بمشاقة إلى الشك في الدين كله.
والعامل الكبير الآخر كانت جذوره تضرب في خليط دمياط الاجتماعي المتنوع تنوعا غير معهود. فعلى مدار أكثر من عقد، كان أغنى تجار المدينة باسيلي فخر ـ وأحد المتصلين برجال الدين والبحارة اليونانيين والرحالة والباحثين الأوروبيين الغربيين ـ يرعى ترجمة أعمال عصر التنوير الأوروبي إلى العربية. فكانت تلك هي المرة الأولى التي يتاح فيها العلم ما بعد النيوتني وفكر المؤلهة الفرنسيين التشكيكي باللغة العربية. وكان مشاقة قد اطلع بالفعل على بعض تلك الكتب في بيته بجبل لبنان بفضل عم له رجع بها من دمياط، ثم تيسر له أن يقرأ المزيد. وأتاح له علم عصر التنوير تفسير نظام «قوانين الطبيعة» لظواهر الطبيعة ـ من قبيل حركة الكواكب والنجوم ـ وتنبؤه بها بدقة رياضية. وعلى النقيض، كانت «القوانين» الموضوعة دينيا تبدو محاطة بالشكوك منافية للعقلانية. واكتمل رفض مشاقة للدين حينما قرأ ترجمة أخرى من ترجمات فخر إلى العربية. وكانت تلك هي «أطلال امبراطورية» للفيلسوف الفرنسي قنسطنطين فرانسوا دي فولني الذي ارتحل في مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.
ذهب فولني إلى أن الأمور الإنسانية ـ شأن العالم الطبيعي ـ خاضعة لأحكام «قوانين الطبيعة، ماضية في مسارها، متسقة في آثارها». غير أن الأديان تضليل لهذه القوانين، ونتاج سوء فهم للكون، وما بقاؤها إلا بقوة النخب الكهنوتية الرامية إلى إدامة سلطتها. ومثلما قالها مشاقة لاحقا: «لقد بت أعتقد أن الأديان كلها أكاذيب، وأن قوانين الأديان أنشأها الحكماء ليلجموا بها الجهلاء». وشأن فولني، لم يرفض مشاقة فكرة الكائن الإلهي الذي خلق عجائب الطبيعة لكنه عزم على أن يعمل «وفقا لهداية نور الطبيعة» الذي «غرسه الله في أنفسنا». وبرغم بقائه على كاثوليكيته في ظاهر الأمر اجتنابا لإلحاق فضيحة بأهله وأبناء دينه، فقد بات «يعد كل ما يقرأ ويسمع في كتب الطوائف زيفا وضلالا لا طائل من ورائه» ولا يقبله «العقل السليم».
وفي حين انجذب مشاقة ـ ومن حوله دائرة صغيرة من شباب السوريين الكاثوليك من أمثال شقيقه أندراوس ـ إلى مذهب المؤلهة القائم على «القانون الطبيعي» والعقل، مضى آخرون في دمياط إلى مقاومته. فكتب القسيس الكاثوليكي المثقف سابا الكاتب مجموعة مقالات في تفنيد «هرطقات» الماديين سواء القدامى منهم (من أمثال ديمقريطوس وإبيقور) أو المحدثين (من أمثال فولتير وهوبز). فطرح في مواجهتهم حجة التصميم الشهيرة: وهي أن الكون العجيب الذي يكشفه العلم لا بد أن يكون له خالق إلهي. ولا تخفى دلالة أن الكاتب قد تبنى أسلوبا في الاحتجاج غير شائع في الدفاعات المسيحية [عن وجود الله]، فبما أن خصومه «لا يؤمنون بأي كتاب مقدس، ولا برسالة رسول» كما كتب «فقد جعلت أساسي في الجدل هو البرهان العقلي وحده». وشأن خصومه من المؤلهة أو الملاحدة، تبنى الكاتب «العقل» ـ لا النصوص الإنجيلية أو التقاليد الكنسية ـ جاعلا منه معيارا له.
***
رجع مشاقة إلى جبل لبنان سنة 1820 وقد ضجر من الطاعون والحظر الذي «كان يحبسني في بيتي قرابة خمسة أشهر» من كل عام. وتأسيسا على دور عائلته بوصفها عائلة تجار ومصرفيين يعملون لحساب أمير جبل لبنان بشير الشهابي، سرعان ما وجد مشاقة نفسه قريبا من مراكز السلطة السياسية المحلية. وكان لا يزال في العشرينيات من عمره حينما تولى وظيفة مستشار أمراء حاصبيا وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية وصارت له إيجارات أراض شاسعة. واصل تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعدما أصابه مرض عابر، وكتب بحثا مبتكرا في الموسيقى العربية، وظل على تشككه في الدين، فيسجل في مذكراته وقائع عديدة سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، من مسيحيين ومسلمين. وكان هذا هو موقفه أيضا حينما صادف للمرة الأولى سنة 1823 شخصية دينية من نوع جديد عليه هي شخصية المبشر البروتستنتي جوناس كينج الذي كان قد وصل حديثا إلى سوريا. فلما سمع الشاب «الوسيم» ابن نيو إنجلند يجادل الكاثوليك في دير القمر، «ضحك [مشاقة] سرا من كلا الطرفين».
جاء المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية بجرعة ثقيلة من الازدراء الغربي إذ كانوا يرون أهلها بصفة عامة «جهلاء» و«غير متحضرين» وأنهم بحاجة إلى ما في جعبتهم من التنوير الديني. لكنهم جاؤوا أيضا مهتمين اهتماما خاصا بالمعتقدات الشخصية لمن يقابلونهم من الناس. وفيما مضوا يتقدمون في شرق المتوسط، كتبوا عن لقائهم ـ فضلا عن المؤمنين من المسلمين واليهود وأبناء المنطقة المسيحيين ـ بمن وصفوهم بـ«الكفار»، أي الأفراد غير المقتنعين في ما يبدو بأي من العقائد المطروحة. وكان من هؤلاء معماريٌّ مالطي يعد فولني مرجعا لاعتقاده بأن «الإنجيل ملفَّق»، والمؤلّه د. مابورجو وهو طبيب يهودي رائد من الإسكندرية، والراهب الأرميني جاكوب جريجوري وورتابت الذي نجحوا في إثنائه عن «آرائه الكفرية المؤلهة» وهدايته إلى البروتستنتية. وفيما انغمس المبشرون الأمريكيون في بلدات سوريا بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، عثروا على جماعات مماثلة، مؤلفة في الغالب من شبان مسيحيين ناقمين على كنائسهم المحلية وسرعان ما يتحولون إلى «التشكك التام في الدين برمته».
وبغية إقناع تلك الجماعات بفضائل الدين والمسيحية البروتستنتية، اعتمد المبشرون البروتستنت على الثيمات العقلانية في تراثهم. فالمسيحية الحقة ـ أي البروتستنتية الإنجيلية طبعا ـ مثلما قال الأمريكي بلايني فيسك سنة 1823 قد تُرى بوصفها «الوسط الذهبي» بين «نقيضي الخرافة والكفر»: أي بين معتقدات المحليين من المسيحيين والمسلمين وغيرهم، والتأليه أو الشك. ومن أجل إقناع المسيحيين المحليين ـ وبخاصة الكاثوليك ـ كانوا كثيرا ما يستهدفون في عظاتهم وكتابتهم ما رأوه جوانب غير عقلانية في معتقداتهم: من قبيل عبادة القديسين والأيقونات، وتحول الخبز والنبيذ إلى لحم المسيح ودمه. ولإقناع «الكفار» المتشككين، كانوا كثيرا ما يبرزون ما يرونه «براهين» على صدق المسيحية. وفي شبه كبير بما كان يفعله الكاثوليكي سابا الكاتب في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، أقاموا دعوتهم لهؤلاء الناس لا على الكتاب المقدس أو التراث وإنما على «العقل».
وحدث في أربعينيات القرن التاسع عشر أن شعر مشاقة بقوة تلك الدعوة. وكان في ذلك الوقت يعيش في دمشق، متزوجا، ومرابيا رائجا، وطبيبا، وتاجرا. وكان قد شهد تغيرات هائلة في سوريا منها احتلالها على يد جيش حاكم مصر القوي محمد علي باشا، وأولى توترات العنف الطائفي الذي أعقب انسحاب جيشه سنة 1841. كان مشاقة قد تعرض بالفعل لجملة من العوامل الاجتماعية والثقافية دفعته إلى البحث من جديد عن الحقيقة الدينية، وصادف في 1842 و1843 كتابا ترجمه المبشرون البروتستنت في مالطا إلى العربية بعنوان «دلائل النبوءة». وفي هذا الكتاب الإنجيلي الرائج شرع القس المشيخي ألكسندر كيث في إثبات أن نبوءات الإنجيل قد تحققت بالفعل، مثبتا بذلك أن الكتاب المقدس لا بد أن يكون مستلهما من السماء. وتحقيقا لهذا الهدف، قارن الكتاب المقدس بالرحالة المحدثين إلى الأرض المقدسة، راصدا «البراهين» على زوال المدن التي قال الرب إنها ستتحطم. بل إنه رجع إلى كتاب رحلة المؤله فولني دعما لمزاعمه. ولتقريب وجهة نظره، أرفق بكتابه رسوما ـ ثم صورا فوتوغرافية في ما بعد ـ مقدما الدليل التجريبي من خرائب البتراء والنمرود وبابل.
بعد تفكير وتردد، تبين لمشاقة أن حجج كيث مقنعة، وذلك بفضل أسلوبه العقلاني بصفة خاصة، وهو أسلوب شديد الاختلاف عن أسلوب «الدكاترة في كنيتسي» بحديثهم في «أمور… تأباها العقول السليمة». وبعد سنوات قليلة، وبعد المزيد من التردد، وبعد ازدياده قربا من المبشرين البروتستنت الأمريكيين في بيروت، ومن سوريين آخرين اعتنقوا البروتستنتية، ومن القنصل البريطاني في دمشق، خطا مشاقة الخطوة التي لا تراجع عنها، إذ أعلن في نوفمبر من عام 1848 اعتناقه المسيحية وفقا للكتاب المقدس وسرعان ما انخرط في جدال مرير مع رئيس الطائفة التي خرج عنها مكسيموس مظلوم بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية. وفي مآخذه على الكاثوليكية ـ التي نشرها له البروتستنت في بيروت ـ نبذ مشاقة «الخرافات» المنافية للعقل و«تلفيقات القساوسة» في العقيدة الكاثوليكية، بمثل الطريقة التي دأب أن يتبعها مع الدين بعامة في مرحلة التأليه في شبابه. ظل «العقل» شعاره، غير أنه لم يعد يؤمن به منفردا بلا عون له. فبات يقبل الوحي الإلهي دليلا موثوقا، ويبرز في الأحكام العقلية أنها متغيرة وغير يقينية في الغالب.
ودعمت هذه المسيحية العقلانية مشاقة فيما بقي من حياته مرورا بمزيد من الاضطرابات. ففي عام 1860 تعرض مع مسيحيين آخرين في دمشق لهجمة من حشد من المسلمين في واقعة دامية من وقائع العنف الطائفي. وهرب في الشوارع برفقة ابنيه الصغيرين وقد تعرضوا للضرب المبرح وأسعده الحظ فنجا بحياته. غير أنه استطاع أن يقيم حياته من جديد في دمشق تاجرا ثريا ونائبا لقنصل الولايات المتحدة، وأورث كلا العملين لابنيه. وحافظ على سمعته كرجل مثقف في نطاق عريض من الرياضيات إلى الموسيقى، وكتبَ سيرة حية وذكية تناول فيها حياته وزمنه، قبل وفاته سنة 1888.
***
لا شك أن مشاقة أسهم في إيجاد مجال عام حديث بالعربية لقضية العقلانية العلمية. فكان عضوا مبكرا في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب في إصداراتها الدورية المتنامية. وكانت كتاباته الدينية، الموجهة لجمهور يعتنق عقائد مختلفة، رائدة في استعمال الكتيبات المطبوعة في الجدل العام. ولعل عقلانيته كانت تتسم أحيانا بالحدة، ومن ذلك نبذه العلني لعقائد وعادات وممارسات دينية باعتبارها «خرافات».
غير أن مشاقة كان أيضا ناشطا دينيا، فبالتوزاي مع البعثات التبشيرية الأمريكية، سعى إلى إقامة شكل عربي من المسيحية الإنجيلية. وأسهمت مجادلاته في الكاثوليكية إسهاما كبيرا في تشكيل الطائفة البروتنسنتية السورية التي قد تكون صغيرة ولكنها مؤثرة، حيث قدّم العقائد الإنجيلية في قالب ملائم للجمهور القارئ بالعربية، وسوف تظل البعثات التبشيرية تعيد طبعاتها حتى القرن العشرين. فباتت جزءا من تراث الجدل بين الأديان إذ التقطها المدافعون عن العقائد من المسلمين والكاثوليك على السواء. ونتيجة لهذا نجد نسخا رقمية من نصوص القرن التاسع عشر تلك متاحة الآن في مواقع مخصصة لنشر الإسلام من قبيل [Quran For All] و[Comprehensive Muslim e-Library].
هناك ثيمة واحدة تسري في هذه الجوانب المنفصلة ظاهريا في عمل مشاقة وإرثه، وهي إصراره على «العقل». فقد كان هذا بالنسبة له هو المعيار الذي يجب تبرير أي معتقد به، سواء أكان المعتقد نظرية علمية يمكن اختبارها بالتجربة، أم عقيدة موحى بها من السماء وتتجاوز الفهم البشري. وكان لهذا عواقب بادية التناقض، فقد كان بوسع مشاقة أن ينعم بإمكانية أن يكون بلا دين نهائيا ـ ولقد قضى في نهاية المطاف خمسا وعشرين سنة من عمره مؤلها ـ ويحاكم مختلف العقائد من الخارج، في ضوء العقل. لكنه، وقد اختار عقيدة بعينها، بات يصر على أوراق اعتمادها العقلية، التي تفصلها فصلا حادا عن «الخرافة» غير العقلانية وتضع لها حدودا مرسومة بدقة.
ولم يكن مشاقة وحده، في سوريا القرن التاسع عشر، في تبني رؤية الدين ما بعد التنويرية باعتباره شيئا يمكن تبريره عقليا، أو رؤية العقيدة الحقة باعتبارها «الوسط الذهبي» بين «الخرافة» وعدم الإيمان. فحتى الإصلاحي الكاثوليكي مكسيموس مظوم كتب دفاعا عن عقيدة الكنيسة في مواجهة باحث مسلم من جامعة [كذا] الأزهر في القاهرة، لم يستند فيه إلى الكتاب المقدس أو التراث بل إلى «البراهين العقلية والفلسفية». وفي العقود التالية لوفاة مشاقة سنة 1888، باتت هذه الطريقة في الجدال في الدين هي المتزايدة الشيوع في المجال العام العربي المتنامي. فبات المسيحيون والمسلمون و«الماديون» العلميون على السواء يتجادلون في العلاقة بين الإيمان والعقل، وكلهم باتوا يفترضون شأن مشاقة أن عليهم أن يضعوا أنفسهم في موضع ما من الطيف الكبير القائم بين الإيمان دونما تفكير والعقل دونما إله.
لكن أولئك المصلحين أنفسهم كانوا يؤكدون أيضا الحدود بين المؤمنين بالدين والممارسات الدينية. إذ ابتدأ الإصلاحيون المسلمون والمسيحيون ـ أي بواكير الحركة السلفية والبعثات التبشيرية البروتستنتية والكاثوليك الإصلاحيين من أمثال مظلوم ـ بنبذ «خرافات» عوام الناس. وكانت بعض تلك الممارسات تطمس الخطوط القائمة بين الطوائف الدينية إذ كان كل من المسلمين والدروز والمسيحيين يزورون أولياء بعضهم بعضا. ومزج آخرون بين الدين والسحر أو أساؤوا ـ في حالة الصوفية الشعبية ـ إلى المعايير الصارمة للأخلاقيات العامة أو «الذائقة» النخبوية. ومن أجل طرح عقائدهم باعتبارها متسقة وقابلة لأن يعتنقها العقلانيون، كان على الإصلاحيين من مختلف العقائد أن يجردوها من أي ممارسات هرطقية أو عامية أو جماعية غالبا ما يسمها اختلاط الأصول. لكنهم وهم يفعلون ذلك، كانوا يفككون نسيج ثقافة دينية مشتركة، قد تكون هيراركية ولكنها نظام عديد العقائد وجد فيه المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم أماكن لهم. وبدلا من ذلك، ساعدوا في إيجاد احتمالات متناقضة للحداثة، فهناك، من ناحية، صورة لمجتمع علماني ومجال عام، وهي صورة للتعايش والمساواة بين العقائد، وهناك، من الناحية المقابلة، مشاريع إحياء عقلاني وهويَّاتي، لطوائف دينية كل منها يسمها الانغلاق والتجانس الداخلي.
تذكرنا شخصية ميخائيل مشاقة الغريبة بأن هذه الاحتمالات المتناقضة جاءت من تحول مشترك، هو التحول إلى تبرير الدين في ضوء العقل، والتشديد على الاعتقاد الفردي في مقابل الممارسة الجماعية. ولا يزال قطبا العلمانية والإحيائية الدينية يثيران الكثير من الخطاب الثقافي في العالم العربي اليوم. وتذكرنا قصة مشاقة بأن هذين هما مظهران لواقع حديث واحد، وأنهما تكونا معا، فكانا حبيسي صراع هو في الوقت نفسه حوار.
—————————————-
كتاب مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان
مخائيل مشاقة; ملحم خليل عبدو; اندراوس حنا شخاشيري
للتحميل
مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان
—————————–
===========================