فنجان حرية.. المقاهي السورية مساحة للبوح والانتماء في زمن التحولات/ جولي بيطار

2025.05.10
في قلب شوارع سوريا تبدو المقاهي أكثر من مجرد محلات لاحتساء القهوة أو الشاي. فهذه الأماكن أصبحت، عبر الزمن، جزءًا لا يتجزأ من حياة السوريين اليومية. في حين تتغير الظروف السياسية والاجتماعية، تبقى المقاهي خيطًا ناعمًا يجمع الأرواح المشتاقة للمكان الآمن، فتمثل ميدانًا للبوح ومنبرًا للنقاش. هي فضاءات نابضة بالحياة تدمج بين ملامح الماضي وجمال الحاضر، وتتحول إلى معاقل للحرية الفكرية في زمن التحولات القاسية.
تظل المقاهي في المدن السورية المختلفة نقطة اللقاء بين الماضي والحاضر، حيث يمكن للمرء أن يروي حكاياته وتجاربه التي تشبه نبض المكان. وفي حين تشهد هذه المدن تقلبات اجتماعية وثقافية، تبقى هذه المقاهي مكانًا يستعيد فيه المرء جزءًا من ذاته، وكل فنجان قهوة يقدم فرصة للتنفّس بعيدًا عن ضجيج الحياة اليومية. وسط هذه الفوضى من الزمن، تبقى المقاهي مساحة لتجديد الحياة، وكأنها نوافذ صغيرة تطل على الأمل، رغم الحروب والهموم.
المقهى بديلا عن البيت
في ظل الحروب والضغوط التي تحيط بالجميع، أصبح المقهى أكثر من مجرد مكان لشرب القهوة، فقد تحول إلى ملاذ للعديد من الأشخاص الذين يبحثون عن المساحة الشخصية بعيدا عن الأعين، تلك المساحة التي غابت في منازلهم بسبب ضغوطا الحياة اليومية. “أنا بطبيعتي شخص اجتماعي، غير أنني ألوذ بالصمت في المنزل. لم أعتد التعبير عن رأيي هناك، إذ لم تكن في البيت مساحة للحوار، لا سيما بعد سفر عدد من أفراد أسرتي. وجدت في المقهى بديلا حقيقيا، أو بالأحرى وطنا صغيرا اخترته بإرادتي. أعرف هذا المكان عن قرب، وتربطني بمؤسسيه علاقة مودة وثقة، وكان الهدف من إنشائه أن يكون ملاذًا دافئًا لكل شاب وفتاة يبحثان عن فسحة للتعبير والسكينة”.
“في هذا المكان تعلمت أن أضحك من قلبي، وأن أتكلم دون خوف أو تردد، وأن أعبّر عمّا يجول في خاطري بحرية. تعرفت هنا إلى كثير من الأشخاص، ونسجت صداقات ثمينة، بل إنني عشت في هذا المكان قصة حب عظيمة، كانت من أجمل فصول حياتي. أشعر بانتماءٍ عميق إلى هذا المقهى؛ وكأنه يحمل جزءًا من روحي، ويمنحني ما لا تمنحه الأماكن الأخرى: الأمان، والحنين، وذاكرة لا تنسى.”هكذ يصف فجر قيسيّة، أحد رواد المقاهي الدمشقية علاقته بالمكان.
بين جدران المقاهي، يجد الناس أنفسهم في فضاء يتيح لهم فرصة التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بعيدا عن القيود الأسرية والاجتماعية. هذا الفضاء يجسد العلاقة المعقدة بين الفرد والمجتمع، فيمنح الشخص حرية التجربة والاختيار في محيطه. في بعض الأحيان، يصبح المقهى المكان الذي يتحرر فيه الشخص من عزلته ويكتشف علاقات جديدة تساعده على التأقلم مع الواقع. لذلك، يمكن القول إن المقهى في سوريا بات أكثر من مجرد مكان لارتشاف القهوة، بل هو بمنزلة “ملاذ داخلي” يحمل في ثناياه طابعا عاطفيا وإنسانيًا عميقًا.
هوية اجتماعية تتشكل في المقاهي السورية
المقاهي السورية ليست مجرد مواقع للاسترخاء، بل هي أماكن تنصهر فيها الهويات الاجتماعية لتتلاقى وتتبادل الآراء. هنا يلتقي الأصدقاء، ويبدأ بعضهم قصص حب، في حين يجلس آخرون يتناقشون في الشؤون السياسية أو الثقافية. إن هذه المقاهي أصبحت جزءا من الذاكرة الجماعية للشباب السوري، حيث يجد كل شخص فيه فكرته ومكانه. عروة الصايغ، أحد الزوار الدائمين لإحدى المقاهي الدمشقية، يصف تجربته بالقول: “منذ نحو أربع سنوات، اعتدتُ ارتياد مقهى بعينه بشكل يومي، حتى بات جزءا من روتيني اليومي ومن هويتي. أعتقد أن من أبرز الأسباب التي جعلتني أرتبط بهذا المكان وأشعر بالانتماء العميق إليه، هو أنه منحني بيئة آمنة، لم أجدها في أماكن أخرى، تتيح لي التعبير عن رأيي بحرية، وخوض نقاشات متنوعة في مواضيع شتى، دون أن أشعر بالخوف أو التقييد”.
ما يزيد هذا الشعور بالانتماء هو الجو العام الفريد الذي يسود المكان، حيث يستطيع شخصان لا يعرفان بعضهما، يجلسان على طاولتين مختلفتين، أن يجدا فجأة خيطا مشتركا لحديثٍ عابر، ينشئ بينهما مساحة من التلاقي الإنساني الجميل، بغضّ النظر عن خلفياتهما أو مدى معرفتهما السابقة ببعض.
“وأكثر ما يجعلني أتمسك بهذا المكان هو العلاقة الحميمة التي نشأت بيني وبين الفريق العامل فيه؛ شباب وصبايا يتمتعون بلطافة وراحة في التعامل، حتى شعرت مع الوقت أنني لا أنتمي فقط للمكان، بل لكل تفصيل فيه، من أكبر عناصره إلى أصغر جزئياته. لقد صار هذا المقهى بيتي الثاني بحق”.
المقهى في هذا السياق لا يمثل فقط نقطة تجمع، بل هو يمثل أيضًا مكانًا يتم فيه اختبار الهوية، وتشكيل مفاهيم جديدة تتعلق بالحرية والانتماء. وكأن فنجان القهوة في هذه الأماكن هو رابط غير مرئي بين الناس وأفكارهم، حيث يتناغم الجميع في محيط اجتماعي مشترك لا يشترط الوحدة الفكرية، بل حرية التنوع والاختلاف.
ما بين الشعبي والحداثي: المقاهي مرايا التحولات
من مقاهي الأحياء الشعبية إلى الكافيهات العصرية في المناطق الراقية، يعكس المشهد المقاهي في سوريا تحولًا اجتماعيًا ملحوظًا. فالمقاهي الشعبية في الأحياء القديمة، حيث يشرب كبار السن الشاي وتستمر لعبة الطاولة في الزمان والمكان ذاته، ليست مثل”الكافيهات” الحديثة، التي يغلب عليها الحضور الشبابي، والديكورات العصرية، وارتباطها بتقنيات حديثة مثل الإنترنت. ففي المقاهي الشعبية يذهب الناس للاستمتاع بلعب النرد، أما في المقاهي الحديثة فيجتمع الشباب للنقاش حول التكنولوجيا أو القضايا الاجتماعية المعاصرة أو مشكلاتهم العاطفية والحياتية وحتى السياسية.
وهذا التنوع في نوعية المقاهي يعكس التحولات الثقافية والاجتماعية في سوريا، حيث يعكس كل نوع من المقاهي طبقة اجتماعية معينة أو أيديولوجية مختلفة. وفي كل زاوية، تجد قصصًا تكشف عن فترات من التغيير والانفتاح، سواء عبر التفاعل الاجتماعي أو من خلال المزج بين الثقافات.
في دمشق.. لغة حرة بلا رقابة
أحاديث المقاهي لا تخضع للرقابة أو للحواجز الاجتماعية. يجد الزوار في هذه الأماكن متنفسًا للتعبير عن آرائهم بحرية. قد ترى هنا شخصًا يناقش السياسة بشكل محتدم، وآخر يتحدث عن مشاريعه التجارية المستقبلية، وآخر يقرأ بصوت عالٍ مقالًا عن الذكاء الاصطناعي. هي أمكنة يتنفس فيها الجميع بحرية. “نحن متفقون أن النقاشات السياسية هذه الأيام لم تعد تجدي نفعًا، بل تخلق توترًا. نخرج لنستعيد بعض الهدوء النفسي وسط هذا العنف، نتحدث عن أمور الحياة اليومية، نحاول أن نضحك ونبتعد عن ضغوطات الواقع”، تقول ماريا، شابة تفضل المقاهي كمكان للهدوء.
وتضيف لمنوقع تلفزيون سوريا “لا مكان للرقابة في هذا الفضاء المفتوح. هنا تجد الحوارات أكثر انفتاحًا، حيث يصبح الجميع قادرًا على مشاركة آرائهم بدون خوف من المراقبة لكن أيضًا يختار بعضهم إقصاء بعض المواضيع الشائكة لضمان الراحة المطلقة. وفي هذه البيئة، يمكن للناس أن يتفاعلوا بحرية، مما يعزز الشعور بالانتماء والتواصل الإنساني”.
المقهى كمساحة آمنة للتعبير السياسي
في بيئة مليئة بالقيود الاجتماعية والسياسية، تجد المقاهي ملاذًا للتعبير الحر. “في المقهى، أشعر أنني قادر على الكلام دون خوف، وهذا ليس ممكنًا دائمًا في البيت، لأن الأهل يخشون علينا من العواقب. في هذه البيئة، أعبّر عن رأيي وأعرف أنني مسموع، والأهم أنني محاط بأشخاص يفهمونني وأفهمهم وحتى في حال الاختلاف بالرأي فنحن نحرص على ضبط انفعالاتنا، لأننا نعلم أنه إن لم تُضبط هذه الانفعالات وتحولت إلى خلافات، فلن يعود الجو مريحًا أصلًا، وسنفقد أهم ما يجذبنا إلى هذه اللقاءات”، يقول آدم العكاري، أحد مرتادي المقاهي الذين يشعرون بالأمان في التعبير عن آرائهم السياسية.
المقهى هنا ليس مجرد مكان للترفيه، بل هو بمنزلة “مساحة آمنة” يسمح فيها الناس لأنفسهم بإطلاق العنان لأفكارهم وآرائهم بحرية، بعيدًا عن ضغوط الحياة اليومية.
الطبقات الاجتماعية السورية تحت سقف واحد
المقاهي السورية تجمع بين الطبقات الاجتماعية المختلفة تحت سقف واحد. في مقاهي الأحياء الشعبية، حيث يجلس العمال والفقراء، تجد فنجان القهوة يناسب الجميع، سواء كانوا يشربون القهوة العربية أو الشاي، أما في المقاهي الراقية تجد أسعارًا مرتفعة، حيث يطلب الزبائن مشروبات مختلفة مثل “ميلك شيك شوكولا” مثلًا. ومع ذلك، تبقى المقاهي في سوريا أماكن تشهد تقاطعًا بين مختلف الطبقات الاجتماعية، حيث يجلس الطالب بجانب الموظف، والعاشق بجانب الغريب.
وفي ظل نمط العمل عن بعد الذي اجتاح العالم، أصبحت المقاهي السورية بمنزلة “مكاتب متنقلة” للشباب العامل في مجالات مثل التصميم والبرمجة والترجمة. توفر هذه المقاهي مساحة للهدوء وخدمة الإنترنت، مما يجعلها خيارًا مثاليًا لمن يحتاجون للعمل في بيئة غير تقليدية. تقول ياسمين، 26 سنة: “أعمل على كل مشاريعي من هذا المكان نفسه، لا أشعر بالغربة أو الوحدة بسبب لطف العاملين هنا، أحيانًا عندما أعمل على تصميم معيّن أسألهم عن آرائهم في الألوان وأشاركهم بعض مشاكلي في العمل”.
فنجان من الانتماء في زمن التيه
في ظل التحديات الكبيرة التي يعيشها السوريون، تحولت المقاهي إلى أماكن لا تقتصر على توفير القهوة فقط، بل أصبحت أشبه بمرايا تعكس الروح البشرية للمجتمع السوري. في عالم مليء بالآلام والقلق، يمكن أن يكون فنجان قهوة في مقهى سوري هو آخر معقل للإنسانية. ورغم المجهول الذي يلوح في الأفق، تبقى هذه الأماكن الصغيرة، رغم بساطتها، الأمل الأخير للبحث عن معاني جديدة للانتماء والحرية. ففي هذه الأماكن الصغيرة، بين فنجان قهوة وأحاديث عفوية، نجد الأمل في أن الحياة، رغم قسوتها، تستمر.
تلفزيون سوريا