فيلم “تدمر” ، بالكاد محتمل لدى جمهور “الفيلم” في برلين ..”خفيف” في دمشق/ سليمان عبدالله

“تدمر” فيلمٌ وثائقيّ من صنع وإخراج الراحل لقمان سليم ومونيكا بورغمان، يحكي ويمثّل فيه معتقَلون لبنانيون سابقون عن تجربتهم في ذلك الجحيم، الذي لا يكاد أحدهم يصدّق أنه خرج منه حيّاً. هذه التغطية عن وقع عرضه في برلين ضمن مهرجان “الفيلم” العربي، وفي دمشق مؤخراً.
09 أيار 2025
(بعض التوصيفات الواردة في النص أدناه قد تكون مزعجة للقارئ/ة.)
مع مضيّ أكثر من ساعةٍ أثناء عرضه في مسرح “هاو” البرليني، ضمن مهرجان “الفيلم” العربي المُنقضي، بدأ بعض المشاهدين/ات بالانسحاب رويداً رويداً من مشاهدة فيلم “تدمر” الوثائقي للثنائي لقمان سليم ومونيكا بورغمان. لم يكن الأمر متعلّقاً بسوية الفيلم السينمائية، كان بوسع المرء تخمينها، بل لأنّ ما يطرحه المشاركون من معتقلي هذا السجن الأسديّ الرهيب، بات بالكاد يحتمل، حتى بالنسبة إلى سوريٍّ سبق وأن قرأ الكثير من الشهادات، فظيعة التفاصيل، ممن سبق ونجوا منه.
الناجي اللبناني علي أبو دهن، صاحب كتاب “عائد من جهنم” (يروي فيه تجربته الرهيبة في سجن تدمر)، يسرد كيف تسلّل عصفورٌ إلى مهجعهم، وأمسك به يتلمّس الحرية المتعلّقة بريشه. وعندما رفض منحه لمعتقلٍ معه، وشى به. في اليوم التالي أجبره السجان على ابتلاع عصفورٍ ميّتٍ بقضمتين. ولأنّ التهام عصفورٍ بريشه سلوكٌ خارج قدرة البشر، أجبره السجان على وضعه في فمه وضربه بالهراوة حتى “يهبط” في معدته.
يضمّ الفيلم مزيجاً من شهاداتٍ شخصيّة لمجموعةٍ من اللبنانيين، الناجين من معتقل تدمر، ومشاهد يعيدون فيها تمثيل أو معايشة واقع المعتقل، وتجارب الإهانة والإذلال، يلعب فيها بعض المعتقلين السابقين أدوارهم فيما يلعب آخرون دور الجلادين. تستحضر مونيكا وشريكها لقمان أجواء المعتقل بمشاهد تظهر الوحدة التي تأكل المُعْتَقَل، بحثه عن ضوءٍ يتسرّب إلى المهاجع، يذكّره بالحياة التي ما زالت تجري هناك في الخارج. كيف يقسم المعتقل، ببراعة جرّاح، بيضةً مسلوقةً بخيطٍ مسحوبٍ من الجوارب إلى ثمان حصص.
تُظهر شهادات المعتقلين كيف يفقد “التنفس”، و”الحمام”، و”الحلاقة” وحتى “النوم”، مغزاه، وكيف يتحوّل كلٌّ منها إلى طقسِ تعذيب، في مكانٍ يصبح فيه أيّ تواصلٍ مع السجّان فرصةً له لقضم جزء من أرواحهم، أو إنهاء حياتهم. يُقدّر أحدهم بأنهم جهّزوا المئات من زملائهم للدفن، حتى بات الموت مألوفاً، شيئاً يمكنك النوم جنبه.
يُخبرنا أحد الشهود، بأنّه لم يكن يُخبر المعتقل إن “علّمه” الحارس من “الطاقة” الموجودة أعلى المهجع، إذ سبق وأن عايش الأمر. يُخبرك زميلك المناوب ليلاً، بأنك بتّ “معلّماً” من الحارس، ما يعني أنّ مئات الكرابيج تنتظرك في اليوم التالي في أفضل الأحوال، فلا يهدأ لك جفنٌ طوال الليل، وأنت تحلم بأنواع العذاب الذي سيذيقونك إياه ما إن يطلّ الصباح برأسه. تعذيبٌ في اليقظة، تعذيبٌ في المنام.
يُخبرنا آخر؛ كيف كان الدم ينهمر من رأسه مع الشعر، وكيف لم يستطع طوال فترة اعتقاله تحمّل قصّ رموشه أيضاً دورياً، إذ كان قصّها يعني عدم قدرته على النوم مدّة أسبوعٍ من الألم، ومعاناته من النوم بعينيين مفتوحتين.
فيما تتوالى مشاهد “التفقّد”، والضرب المُتواصل بعصيٍّ مطاطية رمزية، تنهمر كشأن الشتائم على مجموعةٍ من المعتقلين يخرجون من المهجع (بنى المعتقلون موقع التصوير بأنفسهم في لبنان)، رؤوسهم مطأطئة، يمسكون بأيدي بعضهم بعضاً، وأخرى تظهر المراقبة الليلية من “الطاقة”، وطقوس “ترقيم” المعتقلين، تحضيراً لعقابهم، على “أخطاء” ارتكبوها فيما هم نائمون، بوضعيةٍ غير مسموحٍ بها، يشعر المشاهد/ة بأنّ الحياة تدبّ في نصوصِ رواياتٍ قرأها من أدب السجون، “القوقعة” مثلاً للروائي والمعتقل السابق مصطفى خليفة.
سيعلمنا شهودٌ نجوا مصادفةً بأسماء ابتدعوها لجلادين، حريصين جداً على خصوصيّتهم وإبقاء هوياتهم مجهولة، حريصين في الوقت نفسه على انتهاك خصوصيّات ضحاياهم حتى في المنام. هكذا أسموهم ب “أبو ٥٠٠ كرباج”، و”أبو حديد”، الذي اختصّ نفسه بعقوبة الضرب بالحديد فقط، و”أبو الشوربة”، الذي يغطّس رأس ضحاياه من “السخرة”، المعتقلين، فيما كانت تُسمّى زوراً شوربة.
بعض الشهادات التي يسردها الناجون تضعنا في مكانهم، وهم يقارعون المعضلات الأخلاقية التي يواجهونها يومياً، وقراراتٍ قد تبدو هامشية، لكنها مصيرية قد تودي بأحدهم. هكذا تبدو الشهادات كأفلامٍ قصيرةٍ منفصلةٍ بنفسها، في فيلمٍ وثائقي، يمثّل نصب التعذيب التدمري الذي شكّله حافظ الأسد.
في عيد ثورة البعث المتخيّلة، الثامن من آذار، كان معتقلٌ يراقب، من ثقب، سجّانين ينظران بسخطٍ إلى طناجر مليئة بالرز واللحم والمكّسرات، كيف لها أن تُقدّم للمعتقلين؟ تساءل أحدهم، قبل أن يبدأ خفيةً بالتبوّل في طنجرتين. تمكّن الصمت من المعتقل، كما يروي في الوثائقيّ، فلم تسعفه شجاعته ليخبر أصدقاءه من حوله بما جرى. لا هو قادرٌ على الأكل معهم، ولا هو قادرٌ على تحذيرهم من الطنجرتين الملوّثتين، يعارك معضلةً داخله؛ هل هو جبانٌ لأنه لم يحكِ خشية وجود وشاةٍ بينهم أم شجاعٌ لأنه دفن ذلك في داخله؟
لكن سؤالين كبيرين يظلان ينقران رأس المشاهد؛ لمَ وهل كان على الناجين المرور في هذه التجربة المريعة مجدّداً؟ ومن ثمّ، ما هو سقف العنف المطلوب عرضه على الشاشة، لنعلم بأنّ “تدمر” لم يكن سجناً، ولم يكن معتقلاً فحسب، بل مصنعٌ لتصفيةٍ بطيئةٍ للبشر؟
سؤالان سيظلان حاضرين في الحلقة النقاشية التي حضرتها المخرجة مونيكا والمعتقل السابق علي أبو دهن بعد العرض، وفي حلقةٍ نقاشيةٍ ثانية حول معالجة سرديات السجن، فنياً وسياسياً، بعنوان “طائر السجن: عن السجن والاضطهاد والشعر”، (أدارتها الكاتبة والصحفية رشا عباس، بمشاركة رند أبو فخر، مخرجة سورية ويزن ربيع، مخرج سوريّ).
واظبت المخرجة مونيكا على التأكيد على أنّ صناعة الفيلم بدت “ضرورة”، كلما تحدّثوا كفريق مُنظمة (أمم) للتوثيق والأبحاث، مع مجموعة المعتقلين المحيطين بعلي. وتوضّح أنهم بدأوا بالتفكير في إجراء مقابلاتٍ فقط معهم، ثم أدركوا بأنّ المقابلات ليست كافية، وجاءتهم فكرة إعادة التمثيل عندما وقف أحدهم وهو يدلي بشهادته، وبدأ بتقليد ما كان يجري.
لا يبدو صانعا الفيلم (مونيكا ولقمان) مشغولَين بتقديم الحقائق أو التوثيق، بل يتبعان أسئلةً هادفةً لفهم العنف الجماعي وكيفية النجاة، وأسباب وجود مكانٍ كهذا في المنطقة العربية ككلّ.
توضّح مونيكا لأحد المشاركين في النقاش، أنّ هناك فرقاً بين التوثيق وبين صناعة فيلمٍ وثائقيّ. وأنها، ولقمان، صنعا في البداية فيلم “مجزرة”، عن مرتكبي صبرا وشاتيلا، الذي دفعهما لتأسيس منظمة “أمم”، التي بدورها دفعتهما نحو صناعة فيلم “تدمر”، غير المعتمد على مواد أرشيفية، وإنما أصبحت الكثير من المواد الفيلمية التي صوراها (ثلاثين ساعة، وضعا ٤٠ دقيقة فقط منها في الفيلم)، صالحةً لتصبح أرشيفاً. وتمضي قائلة، إنهما لم يوثّقا هنا، بل أن ما شغلهما كان موضوع الفيلم، والبحث عن اللغة التي يريدان أن يحكي الفيلم عبرها، منوّهةً أنّ المقابلات صُوّرت بطريقةٍ جميلة، فنيّةٍ نوعًا ما، لا بطريقةٍ وثائقيةٍ صافية، كالتي تُصوّر عادة لأجل الأرشيف.
توجّب على مونيكا وعلي توضيح أسباب عدم ضمّهما أيّ سوريٍّ للفيلم، ردّاً على استفسارٍ مُحتج. مونيكا بيّنتْ أنّ الفيلم يمثل تجربةً إنسانيةً تتجاوز الجنسيات، كما أنهم بحثوا حينها، وسألوا سوريين عما إذا كانوا راغبين في المشاركة، فرفضوا لخوفهم من التداعيات عليهم في لبنان، التي قد تبلغها قبضة النظام، أو على عوائلهم في الداخل السوري، معتبرةً علي وأصدقاءه المعتقَلين ممثلين عن كلّ الذين لم يستطيعوا الحديث.
ورأتْ أنّه، وبناءً على تجربتها، لم تكن مجموعة أبو دهن ستقبل وجود أيّ أحدٍ من خارجها يلعب دور الجاني، ويعرّضهم للإهانة تمثيلاً، لذا قرّروا العمل مع مجموعةٍ منسجمة.
يؤكّد أبو دهن بأنه كان فيلماً شجاعاً للغاية حينها، حينما صدر في ٢٠١٦، في وقتٍ كان نظام الأسد قادراً على القبض على أيّ شخصٍ يناهضه، بمساعدة حلفائه كحزب الله وغيره، مشيراً إلى أنّ شريك مونيكا، المخرج لقمان سليم، دفع حياته ثمناً لشجاعته. وقال إنّهم سردوا الكثير من القصص لكنهما لم يضعاها في الفيلم، لأنهما اعتقدا بأن الناس لن يصدقوها. الآن وقد سقط النظام بات من السهل عليه روايتها.
في شباط/ فبراير الماضي ٢٠٢٥، تلقت مونيكا دعوةً لعرض فيلم “تدمر” في دمشق، أمرٌ لم تتخيّل أن يحدث يوماً، تؤكّد. تروي أنّ العرض كان في غرفةٍ عادية، امتلأت بالمشاهدين/ات. بقي بعضهم واقفاً طوال مدّة عرضه التي تقارب الساعتين، آخرون لم يكن باستطاعتهم رؤية الشاشة، ومع ذلك بقوا يستمعون فحسب.
تلاحظ المخرجة مونيكا أن النقاش في دمشق كان مختلفاً تماماً عن الذي اختبرته حتى الآن، حيث يُستقبل الفيلم عادةً على أنه قاسٍ جداً، وترى أنه من الطبيعي أن يخرج بعض المتفرجين/ات، وتعرف حتى ما هي المشاهد التي يخرجون عندها. أما في دمشق، فقد اعتبر أحدهم أنّ محتوى الفيلم “خفيف للغاية”، من جهة مستوى العنف والتعذيب الوارد فيه، وتوجّب عليها أن تشرح له بأنه فيلمٌ وثائقيّ وليس روائياً. وقد سرّها كيف حرّض الفيلم على فتح نقاشٍ حول العدالة، وقد لمسها وجود عددٍ من الناجين بين المشاهدين، شارك بعضهم تجاربه معهم.
المعتقل أبو دهن، يعطي انطباعاً بأنه اتخذ من إيصال ما جرى معه في تدمر هدفاً لحياته، إذ نشر كتاباً عنه، وشارك في عرضٍ مسرحي، وفي صناعة هذا الفيلم. يبدو خلال الندوتين، وعلى هامشهما، مسكوناً بسرد تفاصيل مروّعة عما مرّ به شخصياً. قضى في المعتقل ١٣ عاماً، ٤٧٢٨ يوماً وليلة في السجون السورية، يكرّر. بدا وكأنه في حاجةٍ لإعادة القصص المريرة مراراً وتكراراً، لتكون صدى لوعدٍ ألزم به نفسه وهو في المعتقل، أن يروي ما جرى له ولرفاقه.
يفاخر أبو دهن بقتاله النظام السوري خلال احتلاله لبنان، الذي قبض عليه ونقله إلى معتقلاته داخل سوريا. تهمته كانت التجسّس، أنكرها، لكنهم رفضوا قبولها كإجابة. يصف ظروف سجنه الأوّل، ووضعه في زنزانةٍ مظلمة، ضيّقة للغاية، لا يرى فيها أصبعه. بقي فيها مدّة عشرة شهور. هنا منحه السجانون شاياً حلواً للغاية، شرب الكثير والكثير منه، وبات بحاجةٍ لتلبية نداء الطبيعة. قابلَ رفضَ طلبه بالبكاء والصراخ عليهم وضرب الباب. بعد ثلاث ساعات ونصف، تكلموا معه أخيراً. كانوا قد جرّبوا الطريقة على غيره، وسألوه إن كان سيعترف إن لبّوه، عندما ردّ إيجاباً، أخذوه إلى الجنرال، الذي سأله إن كان قد التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي شامير، فأجاب بنعم!
في تدمر، يتذكّر كيف كانوا يشمّون رائحة زملائهم المقتولين في نسمات الهواء القادمة من المقابر الجماعية القريبة من معتقلهم، وكيف سأله سجّانٌ يوماً فيما إذا كان قد أخذ حماماً ساخناً مؤخّراً، واعداً أن يحقّق له ذلك. فيما بعد وفيما كان السائل الساخن ينهمر على رأسه، تبيّن له أنّ السجّان يتبوّل على رأسه.
يتذكر كيف قفز سجّانٌ على صدر زميلهم مراتٍ أربع، وسمعوا كيف تتكسر عظامه داخل صدره. عندما مات لاحقاً، دُفن قرب معتقلهم، الذين كانوا هم أنفسهم ميتين فيه حتى إشعار آخر.
عندما انتشرت أنباء تفجير تنظيم داعش سجن تدمر في العام ٢٠١٥، هاله النبأ وبكى، يتذكّر علي. لكن مونيكا توضّح أنّ منـظماتٍ شريكةً لهم، تحقّقت من الأمر بعد سقوط النظام وتبيّن أن ما دُمّر هو السجن الجنائي، فيما بقي السجن السياسي إلى حدّ كبير سالماً، مشيرة إلى أنّ تلك المؤسّسات الشريكة صوّرته بكلّ تفاصيله، وتأمّل أن يزوره علي، ويجد ما رسمه على جدرانه خلال اعتقاله.
يعتبر علي نفسه محظوظاً لأنه خرج مع ٤٤ لبنانياً آخرين مع استلام بشار الأسد للسلطة.
عندما سقط النظام كان يرقص، يقفز غير مصدق، يقول. عندما خرج في العام ٢٠٠٠ من المعتقل، ترك ثمانيةً من رفاقه هناك، كانوا يأكلون سويّةً ويجلسون سويّة، لم يخرج منهم أحد. كان ينتظر في الثامن من ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٤ اتصالاً من أحدهم، أو أن يسمع أخبارهم من دون جدوى!
صحافي وناقد سينمائي سوري مقيم في برلين
حكاية ما انحكت