مخيما النيرب وحندرات: في معنى الأمل بسورية جديدة/ سمر شمة

9 مايو 2025
يحمل المخيم دلالات مؤلمة وقاسية في الذاكرة الفلسطينية، تتراوح بين التشرد والنزوح والغربة والحلم الأبدي بالعودة للوطن، وحتى أيامنا هذه ما زالت المخيمات الفلسطينية في كل مكان تشهد على النكبة التي اقتلعت شعب فلسطين من أرضه على يد العصابات الصهيونية، وعلى الجرائم والمجازر التي ارتُكبت بحقه عبر عقود طويلة.
وفي سورية تحديدًا تعرض الفلسطينيون إلى أوضاع مأساوية وخاصة بعد انطلاق الثورة السورية، وقد كان عددهم حتى آذار/ مارس 2011 يزيد على 570000 فلسطيني مسجلين بحسب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، يعيش قرابة 48 بالمائة منهم في المخيمات والباقي في المجتمعات والمدن والبلدات السورية. وكشفت إحصاءات رسمية عام 2022 عن أن الذين بقوا في الأراضي السورية حتى ذلك العام بلغ 42000 بعد أن دُمرت مخيماتهم بشكل كلي أو جزئي واستشهد واعتُقل منهم الآلاف بينما بقي مصير أعداد كبيرة مجهولًا مما اضطرهم للنزوح واللجوء وذلك بعد انطلاق الثورة السورية.
عاش الفلسطينيون مع السوريين جنبًا إلى جنب وعملوا في القطاعين العام والخاص وسكنوا في منازل حقيقية وتوزعوا على 12 مخيمًا، تسعة منها رسمية وثلاثة غير رسمية في مختلف المحافظات.
وبعد انطلاق الثورة السورية قرر الفلسطينيون في البداية النأي بالنفس وحماية مخيماتهم من القتل والتدمير والخراب الذي سببه النظام الهارب وذلك لأنهم لا يشكلون قوة كبيرة ويفتقدون مرجعية وطنية ويعيشون انقسامًا حادًا على صعيد القوى السياسية الفلسطينية بخصوص الموقف من الثورة، إضافة إلى الآلام والخذلان والتجارب المريرة السابقة في لبنان والأردن والعراق والكويت التي مروا بها. ولكنهم في الوقت نفسه لم يتخلوا عن تقديم الخدمات الإنسانية والإغاثية من مأوى وطعام ودواء للسوريين في نكبتهم المفجعة. وهذا ما رفضه النظام البائد آنذاك رفضًا قاطعًا وبدأ باستخدام الورقة الفلسطينية – كعادته تاريخيًا – لمصلحته ولمصلحة استمراره في السلطة، وحوّل المخيمات إلى نقاط عسكرية لمهاجمة المدن والقرى الثائرة ونشر قوات الأمن والشبيحة والجيش وبعض الفصائل الفلسطينية التي وقفت إلى جواره فيها.
ارتقى أول شهيد فلسطيني في درعا في 21/3/2011 وهو وسام الغول، وذلك في إحدى المظاهرات السلمية، ثم تبعه آلاف الشهداء والمعتقلين الذين شاركوا في الثورة المدنية والعسكرية، وأسس بعض أبناء المخيمات تشكيلات عسكرية عملت إلى جانب الجيش السوري الحر وانضم بعضهم كأفراد إلى صفوفه. وبسبب احتدام الصراع والحل الأمني العسكري الهمجي للنظام لم تستطع المخيمات الفلسطينية أن تبقى معزولة عما حولها ودخلت على خط الثورة، ولكن تفاعلها لم يكن واحدًا وظلت الحركات الثورية الفلسطينية تسير في بعضها ببطء وصعوبة بالغة كما في مخيمي النيرب وحندرات في حلب.
يُعتبر مخيم النيرب أحد أكبر مخيم رسمي للاجئين الفلسطينيين في سورية والأكثر اكتظاظًا بالسكان، وكان واحة ذات تنوع سياسي وفكري واجتماعي وخرج منه سياسيون ومثقفون وأدباء وعلماء وفنانون. يقع على بعد 13 كم إلى الشرق من مدينة حلب، وبالقرب من مطارها. تم تأسيسه بين عامي 1948-1950 في الثكنات العسكرية التي تم بناؤها من قبل قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية من أجل استيعاب اللاجئين القادمين من شمال فلسطين، الذين وجدوا فيها آنذاك ملجأ لهم وقاموا بتعديلها قدر الإمكان لتصبح صالحة للعيش تلبي احتياجاتهم الأساسية اليومية، في الوقت الذي حاولت “الأونروا” إدخال بعض التحسينات الضرورية على هذه الثكنات لكن الوضع بقي سيئًا لأن البناء قديم وبنيته التحتية معدومة.
يحد المخيم من الشمال مطار حلب الدولي، ومن الشرق قرية النيرب، ومن الجنوب والغرب أراضٍ زراعية تابعة للقرية. بلغ عدد سكانه الذين هُجروا من قرى فلسطين بعد النكبة مباشرة وقبل 2011 حوالي 20000 نسمة، ينحدر معظمهم من الجليل الأعلى: صفد – عكا – حيفا – طبريا ومن الطيرة وترشيحا وغيرها. وسكنت فيه إلى جانب الفلسطينيين عائلات سورية من أصحاب الدخل المحدود والفقراء.
وقد حاولت “الأونروا” عام 2000 تنفيذ مشروع فيه وفي مخيم حندرات يشمل بناء منازل لمئات العائلات وتركيب شبكات للمياه والصرف الصحي والطرق، ولكن الأعمال توقفت بعد 2011.
جعله موقعه القريب من المطار العسكري عرضة للخطر والقذائف والقصف المدفعي والصاروخي، وحوصر المخيم بعد اندلاع الثورة بسنتين لمدة سبعة أشهر مما أدى لمنع وصول الغذاء والدواء إليه، وتحول إلى مسرح لعمليات النظام العسكرية على مدى سنوات طوال، كما تعرض للقصف بالصواريخ والأسلحة المحرمة دوليًا في 24 أيار/ مايو 2019 عندما كانت العائلات مجتمعة لتناول وجبات الإفطار، مما أسفر عن استشهاد العشرات وإصابة أكثر من ثلاثين شخصًا بينهم أطفال على يد النظام المجرم وحلفائه.
ظل الوضع في النيرب متوترًا وخطيرًا حتى ربيع 2020 عندما استعاد الأسد سيطرته على ريف حلب المجاور، ومنذ ذلك الحين شهدت حلب عمومًا والمخيمات خصوصًا تحديات كبيرة تجلت في الفقر والبطالة والنزوح وفقدان الحماية والمخاطر الأمنية الكبيرة.
حاول النظام المخلوع وحلفاؤه من الإيرانيين والميليشيات الطائفية نخر النسيج الاجتماعي في هذا المخيم، واعتقل خيرة شبابه الذين انضموا للثورة، وأجبر الباقين على الهجرة والنزوح والهروب من القصف والموت والتعذيب في سجون ومسالخ الأسد، وساعدته بذلك بعض الجهات الفلسطينية ومنها “لواء القدس” الذي تشكل من 6000 مقاتل 500 منهم فقط من مخيم النيرب وحندرات، وأغلبهم من أصحاب السوابق وصغار السن المُغرر بهم والذين قاموا بنشر المخدرات وتوريط بعض من بقي في المخيم مستغلين حالة الفقر والفاقة التي يعيشونها.
أما المخيم الثاني في حلب فهو مخيم عين التل، ويقع فوق تلة تبعد 13 كم شمال شرق حلب، وسُمي “حندرات” نسبة إلى قرية مجاورة، تأسس عام 1962 ومعظم سكانه من بلدات وقرى الجليل وسهل الحولة وجبل الكرمل الذين نزحوا من شمال فلسطين. كان مسكنًا لحوالي 7000 شخص و300 عائلة من مخيم النيرب جاءت إليه عام 2003.
بعد انطلاق الثورة السورية وفي نيسان/ أبريل 2013 دخلت المعارضة المسلحة إليه، وطالبت سكانه بالنزوح خلال 48 ساعة حفاظًا على حياتهم، وأصبح بعد ذلك مباشرة مسرحًا لمعارك ونزاع مسلح بينها وبين النظام وحلفائه، وبقي كذلك حتى عام 2016، الأمر الذي أدى إلى تدميره وإلحاق أضرار جسيمة به، ورغم ذلك كله وبنهاية 2018 عاد إليه حوالي 90 بالمائة من قاطنيه رغم الدمار والخراب وافتقاده أبسط مقومات الحياة، ورغم التحديات الأمنية والاقتصادية والخدمية الكبيرة فيه، وقد استشهد في هذا المخيم خلال سنوات الثورة أعداد كبيرة من الفلسطينيين واعتُقل منهم المئات.
بعد سقوط النظام البائد في نهاية العام الفائت أعادت “الأونروا” افتتاح مراكز صحية فيه، في حين بقي سكانه يواجهون أزمة بيئية متفاقمة ويتعرضون للقنص أحيانًا من قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، ويواجه سكان مخيم النيرب أيضًا ظروفًا مشابهة بعد أن عادوا إليه في محاولات فردية وجماعية لإعادة الإعمار وحل مآسي الفقر والعَوز، وكان هذا المخيم الأول الذي دخلته قوات ردع العدوان بعد تحريرها لحلب بهدوء وسلام وتطمينات لأهاليه وسكانه.
الجدير ذكره أن إعادة الإعمار في هذه المخيمات تتطلب دراسة شاملة قانونية وسياسية وإنسانية واجتماعية، وجهودًا دولية إلى جانب دور “الأونروا” التي تقع على عاتقها تحديات جِسام هي والحكومة الانتقالية السورية والدول المانحة.
تجدر الإشارة إلى أن مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية الحقوقية ومقرها في لندن أكدت استشهاد أكثر من 4294 فلسطينيًا واعتقال 3085 منهم 127 امرأة و45 طفلًا وفقدان 333 لم يُعرف مصيرهم وذلك منذ 2011 حتى سقوط النظام.
ترك الإجرام الأسدي دمارًا هائلًا وكوارث إنسانية لا تُحتمل وراء ظهره المثقل بالمجازر والتعذيب الوحشي والفساد والنهب في المخيمات وسورية عمومًا، وهناك أطراف فلسطينية ارتبطت به أثارت الفتن والإشاعات بين السوريين والفلسطينيين، وشاركت في الحل الأمني العسكري الهمجي. ومع ذلك يعود الكثير من سكان مخيمات حلب وغيرها إليها، يرافقهم الأمل بسورية جديدة تؤمن بحقهم في الحياة الكريمة الآمنة، وبالعودة إلى بلادهم لأن المخيمات في النهاية “منفى، وفلسطين هي الوطن”.
مراجع:
– موسوعة المخيمات الفلسطينية،
– بوابة فلسطين.
ضفة ثالثة