حرائق الطائفية في سوريا تشتعل من جديد وسط صمت العدالة/ دانيالا ويلسن

12.05.2025
القلق منتشر بشكل خاصّ بين الطلاب الدروز في دمشق، وفي حمص، وحتى في اللاذقية، بعد أن سُجّلت هتافات طائفية وتهديدات ضدّهم داخل الجامعات ومساكن الطلّاب، تقول الطبيبة الشابة:”شاركت في مظاهرة في ساحة الأمويين عندما سقط النظام، يبدو ذلك وكأنه زمن بعيد”.
في بلدة الصورة الكبيرة الدرزية الصغيرة الواقعة على مدخل محافظة السويداء من جهة دمشق، يلوح مقام الخضر الديني متفحّماً. الهواء مُشبع برائحة الحجارة المحترقة والقماش المشتعل. نجمة خماسية؛ رمز الديانة الدرزية، اقتُلعت من سقف المقام.
“دخلوا وهم يصرخون الله أكبر، ثم استخدموا شموع المقام ليُشعلوا فيه النار”، يقول ليث؛ عامل بلدية محلّي يرتدي الآن ملابس قتالية: “ثم أهانونا بهتافات طائفية”، يرفض ليث قول المزيد خجلاً.
يقول رجل يقف بجانب ليث: “أنتم خنازير، خونة، أخواتكم عاهرات. هذا ما كانوا يصرخون به”.
بدأ الهجوم عند الفجر في 30 نيسان/ أبريل، وأمطرت قذائف الهاون على القرية لساعات. قرابة الساعة 6:30 صباحاً، وبعد توقّف وجيز سُمح للعائلات بالفرار، دخل مسلحون القرية، نهبوا البيوت، وأحرقوا المحالّ التجارية، وعبثوا بالمقام. لم ينجُ محلّ واحد، بحسب السكّان.
لم تكن هذه الحادثة معزولة، بل كانت جزءاً من موجة أوسع من العنف الطائفي، الذي استهدف المجتمعات الدرزية في سوريا، اشتعلت بعد تداول مقطع صوتي منسوب إلى شيخ درزي يُقال إنه أساء للنبي محمد.
سارع زعماء في الطائفة إلى نفي الاتّهام، كما أصدرت وزارة الداخلية السورية بياناً يوم الثلاثاء في 29 نيسان/ أبريل، أعلنت فيه فتح تحقيق، لكنّ الضرر كان قد وقع.
بعد واحدة من أشد أحداث العنف الطائفي في تاريخ سوريا الحديث، وثق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” قُتل ما لا يقل عن 134شخصاً بعد أسبوع من الاشتباكات في المناطق ذات الأكثرية الدرزية “السويداء، جرمانا، صحنايا، أشرفية صحنايا”.
شمل القتلى 88مقاتلاً درزياً، 14 مدنياً، 32 جندياً من وزارة الدفاع السورية ووزارة الداخلية، وقوات عسكرية تابعة لهم.
شهود عيان يقولون إن عناصر من إدارة الأمن العامّ، أي شرطة الدولة الداخلية، كانوا حاضرين ومتواطئين، وتؤكّد بعض اللقطات التي انتشرت عبر الأنترنت وجودهم، لكنّ دورهم الكامل لا يزال غير واضح.
في الصورة الكبيرة، قُتل مدنيان، أحدهما كان عمّ ليث الذي: “كان جالساً فقط، أعزل. أطلقوا النار عليه، لم نتمكّن من سحب جثّته حتى اليوم التالي”، رصاصات فارغة على الأرض، وعلى جدار قريب، لطخات الدماء وثقوب أحدثها الرصاص تشهد على ما حدث.
يقول ليث بصوت متهدج: “اقتحموا أيضاً منزل والدي وعمره 82 سنة وضربوه، مزّقوا صورة عمّتي، رفعوها من على الحائط وداسوها، وهي كانت توفّيت قبل شهر”.
امتدّ العنف أيضاً إلى ضواحي العاصمة. في 29 نيسان/ أبريل، اندلعت اشتباكات في جرمانا، المدينة ذات الغالبية الدرزية جنوب دمشق. بعد أسبوع، امتلأت محطّة الحافلات في المدينة بمئات العائلات التي تحاول المغادرة، الطريق إلى السويداء مغلق، ولم يتبقَّ سوى بضع حافلات لنقل الناس.
ساندرا، طبيبة تبلغ من العمر 29 عاماً، تحاول الحصول على مقعد في إحدى الحافلات حيث الجو خانق، والركّاب يحشرون أنفسهم ثلاثة أشخاص في مقاعد مخصّصة لشخصين تقول: “كلّ الدروز يريدون العودة إلى السويداء. من بقي، بقي فقط بسبب عمله”.
العنف، الذي وثّقته مقاطع فيديو منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أثار قلقاً وجودياً في أوساط الطائفة، التي تخشى أن تلقى المصير نفسه الذي لاقاه علويون في مجازر الساحل، التي وقعت قبل أسابيع.
كلّ شخص من الذين التقيناهم يعرف أحداً مات، أو جُرح، أو فُقد، أو شارك في القتال.
القلق منتشر بشكل خاصّ بين الطلاب الدروز في دمشق، وفي حمص، وحتى في اللاذقية، بعد أن سُجّلت هتافات طائفية وتهديدات ضدّهم داخل الجامعات ومساكن الطلّاب، تقول الطبيبة الشابة:”شاركت في مظاهرة في ساحة الأمويين عندما سقط النظام، يبدو ذلك وكأنه زمن بعيد”.
تعمل ساندرا في مستشفى “المجتهد” في دمشق، ولا تعرف إن كانت ستحظى في السويداء بأمان أكثر من دمشق، لكنّها تبرر سفرها”على الأقلّ سأكون مع عائلتي”. “رأيت ذلك بعيني قبل أربعة أيّام”، تواصل بصوت منخفض: “وصل تسعة جرحى من صحنايا إلى قسم الطوارئ، حاولت إحضار طعام لهم، أوقفني الأمن العامّ، وسألوني عن اسمي، قال لي صديق إنهم سخروا من الرجال لأنهم دروز، كما طُلب من الأطباء عدم إجراء تدليك قلبي لرجل مصاب، وتوفّي لاحقاً”.
عند أحد الحواجز تتوقّف الحافلة، تنظر ساندرا بقلق إلى رجال الأمن العامّ الواقفين في الخارج: “لا أثق بهم. لكن ليسوا جميعاً متشابهين، بعضهم طلب من الآخرين أن يتراجعوا عندما سألوا عن اسمي. وليس كلّ السنة متشدّدين، بل العكس، لدي أصدقاء منهم ساعدوني على الحصول على إجازة من المستشفى”.
امرأة أخرى، تقف قريبة تستمع: “أنتِ تعملين في مستشفى المجتهد؟ جدّي أُصيب في صحنايا الخميس الماضي، سمعنا أنه نُقل إلى هناك، لكن عندما جئنا لرؤيته، طردنا الأمن العامّ، ثم قيل لنا إنه نُقل إلى داريا للاستجواب. لا أخبار عنه منذ ذلك الحين، مرّ أربعة أيّام، عمره 75 سنة”.
هذه الموجة من العنف الطائفي ليست مجرّد ردّة فعل، إنها تعكس أحقاداً قديمة، نزاعات على الأراضي، ودوائر انتقام، وتفتّت عميق في سوريا ما بعد الحرب.
سامي وردة، ناشط يبلغ من العمر 27 عاماً من جرمانا، يحاول توثيق العنف مع مجموعة من أصدقائه: “خلال الحرب الأهلية، انضمّ 300 رجل من بلدتنا إلى ميليشيات الشبّيحة، قاتلوا في المليحة في عام 2014″، المهاجمون مؤخّراً جاءوا من هناك: “بعض مقاتلي حزب الله كانوا متمركزين أيضاً في جرمانا، وشاركوا في تلك المجازر آنذاك”.
بعض التحالفات التي تشكّلت خلال الحرب الأهلية والنزاعات المحلّية تشكّل فوضى اليوم
.
رعب صامت في الساحل
في حمص وعلى طول المحافظات الساحلية، موطن الأقلّية العلوية في سوريا، الإحساس بالتهديد واضح، وإن كان أقلّ ظهوراً حالياً. في 6 آذار/ مارس، هاجم موالون سابقون للنظام القوّات الحكومية، مما أشعل مجازر أسفرت عن مقتل 1,334 شخصاً، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، منذ ذلك الحين، استمرّ العنف في الظلّ، أحد الاتّجاهات المقلقة: خطف نساء علويات
سجّلت “مجموعة السلم الأهلي “، وهي منظّمة غير حكومية تأسّست بعد سقوط الأسد، 72 حالة خطف نساء، منذ كانون الثاني/ يناير في شرق سوريا وحده.
علي حسن لم يسمع عن شقيقته منذ 13 نيسان/ أبريل شيئاً: “كانت بتول في حافلة متّجهة إلى صافيتا، كانت تراسل زوجها لتطمئن على ابنهما، ثم ساد صمت بعد الساعة الرابعة عصراً”.
آخر صورة لها تُظهرها مبتسمة، بالكحل حول عينيها، مصيرها مجهول يضيف حسن: “ذهبنا إلى الشرطة، واتّصلنا بمعارفنا في الأمن العامّ لا شيء”.
لا يتّهم حسن السلطات بشكل مباشر، لكنّ تقاعسهم يقول الكثير، يقول : “ليسوا مسيطرين، لا يملكون العدد أو القدرة، لو طُبّقت العدالة منذ البداية، لما حدث هذا كلّه”.
تعلو الأصوات المطالبة بتحقيق عدالة انتقالية. ضحايا، ونشطاء، وشخصيّات من المجتمع المدني يقولون إنها السبيل الوحيد لكسر دوائر الانتقام في سوريا، لكنّ السلطات تلتزم الصمت.
بعد مجازر آذار/ مارس، وعدوا بلجنة تحقيق، كان من المُفترض إصدار تقرير خلال شهر، تأخّر بالفعل لشهرين. هذا يغذّي شعوراً بالظلم، في الوقت الذي تخرج فيه سوريا من 14 عاماً من الحرب الأهلية، مُثخنة ولكنّ من دون دم.
درج