الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

أوي لي/ يعرب العيسى

13 مايو 2025

نجا السريان والآشوريون من طوفان نوح، وغزوتي المغول، وموجات الطاعون الكبرى في القرن السابع والحادي عشر والرابع عشر، وستة زلازل كبرى، وموجات جفاف امتدّ بعضها خمسين عاماً، وتغير الأديان واللغات، وثلاثة وسبعين خليفة عباسياً وعثمانياً نصفهم نصف مجانين، ومن تبدّل الإمبراطوريات عشرات المرّات في الأراضي التي يسكنونها.

ظلّوا سرياناً وآشوريين، صار أغلبهم مسيحيين، توزّعوا بين الكاثوليك والأرثوذكس. أسلم بعضهم، وذاب في المحيط الواسع ونسي مع الزمن أسماء أسلافه. ظلّوا فلاحين يزرعون القمح حيث زرعه أجدادهم قبل التاريخ. تعلّموا اللغات الجديدة، ولا سيما العربية، وبعض الكردية، لكنهم حافظوا على لغاتهم القديمة، على الأقل في الصلوات والمراسم الدينية وأسماء الأبناء.

لكنهم استسلموا أمام أعداء أقلّ بأساً بكثير، مثل عدم توفر فرص عمل، تردّي الاقتصاد، التضييق على الحريات، حكم البعث في سورية والعراق، العبث بمناهج التعليم، بضع هجمات دموية قام بها تنظيم داعش على قراهم الصغيرة في محافظة الحسكة.

في التحقيق المنشور في الصفحتين، الثانية والثالثة، من هذا العدد من “سورية الجديدة” عن هجرة مسيحيي الجزيرة السورية، يحكي الزميل ريمون القس الفصل الأخير من هذه الهجرة، التي تصاعدت في السنوات الأربع عشرة الماضية، بوتيرةٍ غير مسبوقة في التاريخ، إذ هاجر خلالها اثنان من كل ثلاثة سريان كانوا هنا، في أرض أجدادهم، أجدادهم حتى أول الزمان.

قبل سنوات، تعرّفت برجل اسمه آشور، هرب بعائلته إلى بيروت بعد مجزرةٍ داعشية قتلت أربعين من أقاربه، تجاورْنا في بناء واحد عامين تقريباً، ريثما حصلوا على تأشيرة الهجرة إلى أستراليا. يوم ودعتهم، عانقت ابنه تَغْلَت (طبعاً ابن آشور سيكون تغلت)، وكان في الخامسة عشرة يومها، وقلت له: ارجع، يا بني، ارجع عندما يحين الوقت، يوماً ما سيزول كل هذا السواد، وستعود البلاد إلى أهلها، هذه الأرض لك أكثر مما هي لي.

وعدني تغلت أن يعود فيما يخفي ارتباكه من بكاء أبيه أمامه، ولا أعرف إن كان سيفي بهذا الوعد، ولكني أعرف أن هذه البلاد تفقد ملحها، وتفقد جزءاً أصيلاً وحميماً من روحها بهجرة مسيحيي الجزيرة السورية، التي لم تكن سوى امتداد لهجرة مسيحيي العراق التي سبقتهم ببضع سنوات، ونتيجة طبيعية لكل ما جرى ويجري وسيجري على هذه الأرض التي لم تتوقف عن إنجاب أبناء منذورين للرحيل.

يركّز الاهتمام الإعلامي اليوم بمكوّنات المجتمع السوري على العلويين والدروز والمسلمين السُّنة، بسبب طزاجة مجازر الساحل، والهجمات على السويداء وجرمانا وصحنايا. وربط ذلك بتجييش طائفي يحاول أن يُجهز على ما تبقّى من الهيكل العظمي لهذه البلاد، عبر صفق عظامه ببعضها، وانتظار أن تهشّم نفسها بنفسها.

ولا تقلّ الأرقام التي يذكرها التحقيق عن هجرة المسيحيين فظاعة ورعباً عن أي مجزرة، وتستحقّ توقفاً ونقاشاً جدّياً وعميقاً في معنى هذه البلاد، وفي الحجم الضئيل من المعرفة الذي تمتلكه عن نفسها.

إحدى السرديات الشائعة حالياً تستحضر الدولة الأموية شعاراً، من دون أن تجهد نفسها في معرفة الدولة الأموية الحقيقية، وطريقتها في إدارة هذه البلاد المعقّدة والمتنوّعة، التي يمكن اختصارها بأن مسيحياً واحداً لم يهاجر خلالها.

ثقافياً وإنسانياً ووطنياً: ܐܘܝ ܠܝ (أوي لي)، وهي كلمة سريانية آرامية تعني بالعربية: يا للأسف، يا ويلي.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى