الممثلة السورية قمر مرتضى: يريدونني ميتة

راشد عيسى
«كل ما بدهن وحدة تتوفّى بيجيبوني». عبارة مقتطعة من فيديو مقابلة مع الممثلة السورية قمر مرتضى، راحت العبارة تمرّ، تعود، وتتكرر أمامنا على صفحات الفضاء الفيسبوكي الأزرق منذ أيام، ولم يكن ممكناً إلا أن تَعْلَق في البال. قد تكون العبارة اقتُطعت في الأساس للتنكيت، إلا أنها لا تخلو، في العمق، من مأساوية مفزعة. كما لو أنها جاءت من فم مهرج شكسبيري لسان حاله: «أهذا هو الإنسان كلّه!».
أعرف جيداً وجه الممثلة السورية (85 عاماً)، ومع ذلك وجدت نفسي مضطراً للبحث عن اسمها المقصي من الذاكرة: قمر مرتضى. تحت هذا الاسم سجّلتْ موسوعة ويكيبديا عشرات الأدوار الهامشية في أعمال تلفزيونية وسينمائية.
الممثلة اشتكت من أن مخرجي التلفزيون لا يستدعونها إلى العمل إلا لتتوفّى، ربما في مشهد، أو في بضعة مشاهد.
تعتمد مهنة التمثيل على الجسد وإمكاناته، كجُزء أساسي من عدّة الشغل، لا يستطيع مخرج أن يعطي دور جولييت (في مسرحية شكسبير الشهيرة) لسيدة في الثمانين، إلا في إطار رؤية استثنائية مبتكرة خارجة عن الأصل الشكسبيري (كأنْ تترك العاشقين روميو وجولييت يعيشان معاً حتى الشيخوخة، لتثبت أن البطلين لو لم يتجرّعا السم سيعيشان في مناكدة مستمرة، وفي مكابدات مرهقة لآلام الروتين والإهمال والشيخوخة)، تماماً كما لا تستطيع أن تعطي دور محمود درويش للممثل فراس إبراهيم، إلا إذا كان هو المنتِج والمموِّل، وانتزع الدور بفلوسه، فمن بديهيات الإقناع اختيار إمكانيات جسمانية وصوتية قريبة من الشخصية الأصل، إلا إذا تعمدتَ تحويل الممثل لأضحوكة، أو أردت التنكيل بالشخصية المراد تمثيلها.
لكن، وعلى ما تقول صفحة قمر مرتضى في ويكبيديا، فقد «شاركتْ بالأدوار الثانوية بالعديد من الأعمال التلفزيونية والمسرحية»، فالممثلة السورية كانت على الدوام على الهامش، ربما تكون بالفعل بإمكانات تمثيلية قليلة، ولكن هل هذا هو حقاً المعيار الأساس (الموهبة) في اختيار النجوم والصعود بهم إلى قمة المجد والأضواء؟
الكل يعرف أن الدراما السورية، وقد بلغت شهرتها أرجاء العالم العربي، قائمة على المحسوبيات والشللية، وقبل أي شيء على أوامر السلطات بمختلف أجهزتها من مخابرات وحزب حاكم وماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع.
في بداية التسعينات تأسست في دمشق شركة إنتاج تلفزيوني تعود ملكيتها لأبناء نائب الرئيس السوري، حينذاك عبد الحليم خدام، وأدار الشركة الممثل أيمن زيدان، فبات منذ ذلك الحين، وحتى أفول الشركة بانشقاق خدام ومغادرته البلاد واستيلاء السلطات على الشركة، فتى الشاشة السورية الأول، البطل المطلق لكل الأعمال، التاريخي منها، والفانتازي، والشامي، بل وحتى التهريجي، وفي طريقه صَنَعَ ممن فضّل العيش في ظلاله نجماً تحت السيطرة. ومن مفارقات الزمن أن «فتى الشاشة الأول» حالما سُحِب بساط إدارة الإنتاج من تحته، بدا هرماً على نحو استثنائي، ظهر للجميع أنه كبر أكثر من اللازم بوقت قياسي.
زيدان لم يكتف بالاستئثار بأدوار البطولة المطلقة، فقد شاعت قصص عن أنه من غير المسموح لممثل أن يلمع في حضرته، وتظل أشياء كهذه غير مثبتة، يحكيها الممثلون همساً بعيداً عن موقع تصوير يديره منتجو زيدان.
هذا عن الاستبعاد الهامس، أما المعلن فقد كان معروفاً للجميع من هم الممثلون والمخرجون غير المسموح لهم بأن يدوسوا بساط الشركة. ومن أبرزهم الممثل بسام كوسا.
الأدوار والنجومية تستند إلى نسيج من العلاقات المتشابكة، تبدأ من نيل رضا ماهر الأسد، وقد لا تنتهي بالمرحوم عبد الله حصوة، والأخير كان ريجيسير، أي الشخص المسؤول عن ترتيب المواعيد والتنسيق بين الفنانين والفنيين، وكان يكفي أحياناً أن يضع الفنان/ الممثل رقم تلفونه عند هذا الرجل، وأن يكسب رضاه بالطبع، كي يضمن له دوراً في مسلسل.
إذا كانت مرتضى تأنف من هذا الدور المكرر، فإن هناك من يختار بنفسه مهنة الكومبارس وهو يعرف أنه لا يمكن أن يحظى بأكثر، وغالباً ما يكون ممتناً لذلك. فقد لا يكون في خططك أن تظهر على الشاشات مطلقاً، وتجد أن دور سياف، أو حاجب، أو حتى جثة، سيمنحك شهرة معقولة، تجعل صاحب محل السمانة في الحي أكثر لطفاً معك، وقد يسعى إلى كسب رضاك، على الأقل قد تصبح بفضل دور الجثة هذا نافذاً في عائلتك، تحلّ وتربط، ولك الصدر دون العالمين.
الكومبارس وظيفة مستقلة، إنها تماماً الوظيفةُ الظلُّ للنجوم، نيغاتيف الصورة، البطل الحقيقي الذي يضع نفسه في عين الخطر، ولكن أجره أقل بكثير من النجم الذي يتصدّر الصورة. هو من دون صوت، ولا وجه، بل من شروط تشغيله أن يذوب كلياً وراء الممثل الأصلي. هذا إذا تحدثنا عن «دوبلير»، أي بديل النجم، ولكن قد يكون الكومبارس مجرد حشد عابر، جيشين يتقاتلان، جمهور الهاتفين، أو المارة في الطريق، منتظرين في عيادة طبيب، وقد لا يحصل هؤلاء إلا على أجر يومي زهيد، إلى جانب سندويشة تُلتَهم على عجل في عجقة وغبار التصوير.
مهنة لا إنسانية حقاً، صنّاعها أقرب إلى فرانكنشتاين، العالِم الشاب الذي صَنَعَ كائناً من بقايا جثث. نعرف ممثلاً شاباً تخرّج من معهد التمثيل اختير في بداياته، بفضل مواصفاته الجسمانية، للعب دور الخليفة عمر بن الخطاب، دور هو حلم الأحلام بالنسبة لممثل، ولكن يبدو أن قوامه فقط قد راق للمخرج، فيما لم يرق له الصوت، فركّبوا صوتاً آخر على صوت الممثل، فكانت إهانة مباشرة لجزء أساسي من أدوات الممثل.
مهنة متوحشة، والمخرجون، الذين من المفترض أنهم يعملون في مهنة ملؤها الأدب والفن والصور والإحساس بعذابات الناس، متوحّشون أيضاً، بعضُهم لا جميعهم بالطبع، ليسوا معنيين بالعدل، وإعطاء الفرص، وربما ليس بإمكانهم على الإطلاق تخيّل أي عذاب تعانيه ممثلة جادة تعيش صراعاً رهيباً لتحظى بدور حياتها، بناء على موهبتها وحسب، مقدرتها في أداء شخصية، فيما أولئك اللاهون العابثون يوزعون الفرص بحسب الأهواء والأوامر وخلافه. يدهشك حقاً عندما تسمعهم يتحدثون، في مقابلاتهم، حول أدق المشاعر وأكثرها نبلاً.
عندما كتبتُ عن عبارة قمر مرتضى الموجعة على صفحتي في فيسبوك علّقت ممثلة شابة، أستاذة تمثيل، بأنهم، أي صنّاع الدراما، يأتون بهم فقط عندما يتطلب الأمر نحتاً بالصخر. هي تعرف أكثر من سواها أن الزملاء الذين بلغوا الشهرة إنما وصلوها بقوة توصيات أب ووساطاته، أو لصداقة شخصية مع وزير الداخلية، أو لأنه ابن أحد رجال الأسد المخلصين النافذين، وهذا لا يعني أنهم بلا موهبة بالمرة، ولكن الزملاء القادمين من أقاصي البلاد، من منبج، ودرعا، والسويداء، والحسكة، لديهم مواهبهم أيضاً، واستطاع البعض منهم أن يحفر ببطء حضوراً متأخراً، ولكن من المعلوم أن هؤلاء «لن يبلغوا الجنة أبداً»، على ما يقول الماغوط، فالجنة لمن حَمَلَ، إلى جانب شبكة العلاقات الأساسية والرضا الأمني، مفتاح نبيذ، رمز دبلوماسية الولائم والهدايا و»البراطيل»، رسمية كانت أم غير رسمية.
ليس على قمر مرتضى أن تزعل إذن، فهي في قلب صناعة ازدهرت في كنف «سوريا الأسد»، حيث كل شيء استثنائي، وحيث كل المسارات والدروب تودي بالمرء (ممثلاً أو سواه) إلى طاحون الإهمال والتجاهل والموت البطيء، على الأقل.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي