اليمامة التي تدمشقت/ آلاء عامر

13 مايو 2025
زرتُ، في بداية الثورة، مرسم الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي في دمشق، وعندها انهارت إحدى مسلماتي التي تربّيت عليها، وكان من المستحيل بالنسبة لي التشكيك فيها.
من تلك المسلمات التي توارثناها أباً عن جد، وكانت تقول بحزمٍ لا يقبل الجدل أو النقاش: “تربية الحمام سوسة الزعران”.
عبارة تردّدت في بيتنا تحذيراً مقدّساً، كناية عن انحراف مربي الحمام المحتوم. كانت أشبه بإشارة خطر حمراء: من يربِّ الحمام يُصنَّف تلقائياً في خانة “المشبوهين”، أو على الأقل “غير الجديرين بالثقة”. ومن المدهش أن هذا الحكم لم يكن بحاجة لأدلة، لم يكن يُبنى على سلوك أو مواقف، فمجرد ذكر أن فلاناً “يربّي الحمام” كان كافياً لتغيب صورته في ضباب الشك. لكني في ذلك المرسم الغائر في حارات الشام القديمة، وفي تلك اللحظة العابرة، شاهدتُ ما لم يكن ممكناً حسب منطق تلك المسلّمة:
يوسف عبدلكي، الفنان المثقف، المُحترم، الهادئ، الذي ترسم أنامله موتى الوطن بشفافية موجعة، يربّي الحمام. بل إن اليمامة “الستيتية” نفسها، ذلك الطائر الذي كنا نربطه بعوالم الزعران والسرسرية، كانت تتمختر أمامي، حرّة طليقة في باحة المرسم، وكأنها جزء عضوي من تكوينه الفني، من روحه الهادئة، من الحنين الذي ينسكب في لوحاته من دون كلام.
كانت الصدمة شديدة لدرجة أنني لم أصدق نفسي. حين عدتُ إلى البيت، رويتُ الحكاية لأبي، انفلتت من فمه العبارة بسرعة خاطفة، وكأنه واجه نوعاً من الكفر السلوكي: “بيربّي حمام؟! يا لطيف… الله يجيرنا من هالسوسة”. ضحكت في داخلي، لا سخرية من والدي، بل من هشاشة الصور التي تُبنى عبر الأجيال، كيف يمكن لعادة بسيطة، مثل تربية الحمام، أن تتحوّل في وعينا الجمعي إلى تهمة اجتماعية؟
في أماكن كثيرة من العالم، تُعتبر تربية الحمام هواية إنسانية وراقية، ترتبط بالصبر والملاحظة والتفاعل الحميمي مع كائن هشٍ يحتاج التعامل معه إلى اللطف والحذر، في كتب الأطفال، الحمام رمز للسلام، في السينما يرمز للحب والحنين والعودة.
ولكن في سورية، أو على الأقل في الشريحة الاجتماعية التي أنتمي إليها، ارتبط الحمام بعالمٍ مريب: عالم السطوح والغموض والسرّية.
المربي هو “العوايني” الذي يُقال إنه يراقب الجيران ويكتب التقارير، أو هو “الهارب” الذي يقفز من سطحٍ إلى سطح، أو ربما هو المراهق عديم المسؤولية. نذر حياته لمطاردة الطيور، وتحريرها، وترويضها، وكأنه يهرُب من الحياة نفسها.
عبدلكي، بهدوئه الذي يشبه هديل الحمام، بنظراته العميقة التي تستخرج الضوء من الظلام، بفنّه الذي لا يصرخ لكنه يوجع، فكّك هذا الارتباط في لحظة واحدة، أثبت أن مربي الحمام ليسوا زعراناً، بل أحياناً يكونون فنانين، أو عشّاقاً، أو أطفالاً كبُروا من دون أن يتخلّوا عن أجنحتهم.
لم يكن الحمام في مرسم عبدلكي مجرد طيور ترفرف، بل كان استعارة حيّة عن الحرية، عن الترويض الحميمي، عن الصداقة الهادئة مع شيء لا يُروّض ولا يُربى إلا بالحب.
شهادة غير مقبولة
حين سألتُ مؤرّخ التراث الشفهي الراحل سمير الطحان عن سبب قول الناس إن “شهادة الحميماتي غير مقبولة”. روى لي قصتين: تقول الأولى إن “حميماتياً” طُلب منه الشهادة في قضيةٍ ضد قريبٍ له، فإن شهد بالحق سُجن قريبه، وإن كذب خان ضميره، فقرّر أن يهرُب من الموقف، بأن أحضر معه طائر حمام وخبأه في صدره، وعندما وقف أمام القاضي للقَسم، أطلق الطائر في قاعة المحكمة، فعمّت الفوضى، وبدأ الحضور يركضون لالتقاط الطائر، ما أغضب القاضي الذي طرده، وأعلن عدم قبول شهادة الحميماتي.
التفسير الثاني الذي ذكره الطحّان، وربما يكون الأقرب إلى الواقع، أن هؤلاء يحبّون الحمام إلى درجة الجنون، فبمجرّد أن يقع بين أيديهم طائر حمام مميز، فإنهم قد يقسمون ويُلحّون في القسم أنه ملكهم، ليس لأنهم يتعمّدون الكذب، بل لأن حبّهم المفرط يجعلهم يصدّقون ما يتمنّون. ولذلك يُقال إن قَسَم الحميماتي لا يمكن الوثوق به، وبالتالي، لا تُقبل شهادته.
الستيتية طائر الست عشتار
تقول الأسطورة إن “الستيتية” ذلك الطائر الذي يحرّم الدمشقيون صيده أو إيذاءه أو حتى تحريك عشّه، لم تكن مجرد طائر حمام بنيّ يختال على الأسطح ويقضم حبات القمح بطمأنينة، الستيتية كان، في أصل الحكاية، من نسل الطائر الأسطوري الأعظم: العنقاء. ذاك الكائن الناريّ، الجامح، الذي يعبر السماوات والصحارى والبحار من دون أن تلجمه جهة أو تسجنه حدود. طائرٌ يتغذّى على النار، ويولد من رماده، لا يعرف الهدوء، ولا يساكن الأرض.
لكن وبينما كان العنقاء يحلّق لمح دمشق، فأسره سحر المدينة وجمالها، حتى توقف قلبه عند معبد عشتار؛ “الستّ” ربة الجمال والحياة، فانجذب إلى معبدها، وشرب من نبعها المقدّس، فبدأ ريشه القوي بالتساقط، وسكنت روحه الجامحة، وتحول من طائرٍ أسطوريٍّ جبار، إلى كائن مسالم يعيش بين الناس، ويشاركهم شوارعهم وأحاديثهم وأسقف بيوتهم، تخلى الطائر عن طبيعته المتوحشة وصار طائراً متمدناً تعلم العيش في المدينة، بعد أن خالط أهلها الذين توالت على مدينتهم الحضارات، حتى صار التمدن والتحضر جزءاً من جيناتهم.
ومنذ ذلك اليوم، أطلق الدمشقيون عليه اسم “الستيتية”، تصغيراً لكلمة “ستّ”، تيمّناً بالست عشتار، فدمشق، وكما هو الحال في قلة من العواصم العريقة، لا تترك من يمرّ بها كما كان، بل تُهذّبه، وتمنحه اسماً جديداً، وقلباً جديداً، وروحاً تليق بها، كأنها تمنحه فرصةً أخرى للحياة على طريقتها الخاصة، وتعيد تشكيله بما يتناسب مع عظمة هذا المكان الذي لا يُشبه سواه.
بعد أن تدمشقت “الستيتية”، أصبح صوتها الخافت الحنون جزءاً من هوية الشام وصباحاتها، وهو صوتٌ محبّبٌ لدى الدمشقيين، الذين يقولون إنها توحّد ربها كلما صدح صوتها.
أما عن خوفنا، نحن السوريين، من مهنة تربية الحمام، فهو ليس خوفاً بريئاً ولا عفوياً، بل هو خوفٌ دُسَّ فينا بدهاء، حتى صار جزءاً من نسيج وعينا الجمعي؛ خوفٌ اخترعه نظام قمعي طالما أخافته الأجنحة والحرية، فالأسطح كما أرض ديار كما السماء السطح، حيث ترفرف الطيور، مساحة لا يمكن ضبطها أمنياً، لا توجد له أبواب ولا حواجز تفتيش في المساحات التي تفلت من الخرائط الرسمية، ومن جغرافيا القمع.
العربي الجديد