حفلات التيوس المتشابهة… يوسا كتب عنّا أيضاً/ غسان شما

13 مايو 2025
“لن أكون شهماً ورحيماً مثلك مع الأعداء يا بابا!”… ذلك الوعد القاسي يقطعه رامفيس، ابن الحاكم تروخييو، على نفسه إثر اغتيال مجموعة معارضة للطاغية.
الطاغية الذي حفر بعظام معارضيه ودمهم، اسمه على جدران التاريخ الحديث واحداً من أعتى الطغاة، وبنى على هياكلهم مملكة الرعب التي استمرت ما ينوف على الثلاثين عاماً بقليل.
الروائي ماريو فارغاس يوسا يجول في ذلك السجن الكبير، وما تفرع عنه من سجون صغيرة، عبر روايته الشهيرة “حفلة التيس” رافعاً التوثيق إلى جدارة اللغة الروائية النابضة في التقاطها لواقعية لا تخلو من الخيال، لكنه خيال ينحني بتواضع “المهزوم” أمام واقع يفوق هذيانات أكثر العقول القادرة على الإبحار فوق عواصف الخيال بكل ما فيها من جموح محتمل.. وأمامها يطفو السؤال: هل يعقل أن يكون هناك ما هو أكثر؟
يقول الجنرال تروخييو عن ابنه: “أه لو أن رامفيس، الابن المحب، قادر على إكمال مسيرته، ولكن ليس لديه أي اهتمام بالسياسة أو البلاد، لا يهمه سوى الخمر والبولو والنساء”.. لكن الطاغية لم يكن يعرف ابنه جيداً، فقد أظهر هذا، بعد اغتيال والده، من المهارات والفنون الدموية ما كان سيجعل الأب أكثر فخراً بابنه الرخو. الابن المدلل الذي منحه الأب بعاطفته الملتهبة رتبة جنرال، وهو في السابعة من عمره، لتبدأ الرقاب بالانحناء أمامه مبكراً.
أقام تروخييو نظاماً لا يمكن لأحد النجاة منه. يقول أحد المشاركين بعملية الاغتيال: “فكر بالنظام الشيطاني الذي تمكن تروخييو من خلقه، والذي يضطر الدومينيكانيين جميعهم إلى المشاركة فيه كمتواطئين. نظام لا يمكن أن ينجو منه إلا المنفيون، وهم لا ينجون دائماً، والموتى، فالجميع في البلاد كانوا أو سيكونون بطريقة أو بأخرى، جزءاً من النظام”.
لكن أسوأ ما يمكن أن يبتلى به المرء في هذه البلاد أن يكون ذكياً أو كفوءاً “لأن تروخييو، عاجلاً أو آجلاً، سيستدعيه لخدمة النظام، أو لخدمة شخصه، وعندما يستدعي أحداً، ليس من المسموح له أن يقول لا”.
وهكذا إذا أراد الأغنياء أن يبقوا أغنياء “عليهم أن يتحالفوا مع الزعيم، أن يبيعوه حصة من شركاتهم، وأن يشتروا حصة من شركاته الخاسرة ويساهموا بذلك في عظمته وسلطته”.
لكن مهلاً فالزعيم يجود، وبكرم بالغ، “يعرف كيف يكافئ الولاء. “خلق لهم أعمالاً تجارية لكي يكسبوا مبالغ محترمة ولا ينهبوا الدولة”. ومع ذلك هناك ما هو مدهش حقاً، إذ كان ثمة قليل من اللصوص، وشيء من “الآمان” تتباهى به سلطة تروخييو المرتدية طاقية إخفاء شديدة الحضور والسطوة: “لم يكن هناك لصوص كثيرون يدخلون البيوت، ولم يكن ثمة نشالون كثيرون ينقضون في الشارع لانتزاع حقائب وساعات وعقود المارة، ولكن كان الناس يُقتلون، ويُضربون، ويُعذبون ويختفون، بمن في ذلك أكثر الناس قرباً من النظام”
يصرخ أحد المشاركين في عملية اغتيال الطاغية: “لقد انتزع التيس من البشر الخاصية المقدسة التي منحهم إياها الرب: الاختيار الحر”.. لكن قلب ذلك المعارض ليس مجرداً من الشفقة “أحسُ بالشفقة على هؤلاء الأتباع المجتهدين، الذين جعلهم يعيشون في قلق مؤبد”.
الزعيم تروخييو، المنعم، أبو الوطن.. لو كان يوسا أكثر حذاقة من ذلك بقليل لقال: سيد الوطن. كان يسعى، بكل ما يمتلك من طاقة، لبناء البلاد، وكانت تلك المهمة موكلة للخالق سابقاً لكنه ومنذ توليه السلطة، بعد انقلاب دموي، استلم، وبكل تواضع ورضى، هذه المهمة الشاقة. وبعد سنوات مديدة، يسأل القائد المفدى تروخييو “الدمية” التي وضعها على كرسي الرئاسة: أما زلتَ تؤمن بأن الرب قد سلمني المهمة؟ وبأنه حملني مسؤولية انقاذ هذه البلاد؟ فترد الدمية: “أكثر من أي وقت سابق يا صاحب الفخامة. ما كان بمقدور تروخييو أن ينجز هذه المهمة التي تفوق طاقة البشر دون دعم متعال. لقد كنتَ سيادتك بالنسبة لهذه البلاد أداة من الكائن الأعلى”.
وهكذا أيضاً كان موت معارضيه المفاجئ، ورمي جثثهم، أحياء وأمواتاً، لتلتهمها التماسيح قرب هاوية جبل مطل على النهر، سرعان ما يضعه مساعدو الطاغية في السياق القدري الذي يحافظ على صورة تروخييو كأداة متعالية “أحكام الذات الإلهية حتمية ولا مفر منها”..
بعد اغتيال الطاغية تروخييو كان لا بد من وقفة “وفاء” أخيرة من أبناء الشعب الذين عاشوا في ظل المنعم “أبو الوطن” لوداع أخير لجلالة جسده المبجل “الرتل الطويل لآلاف وآلاف الدومينيكانيين من كل الأعمار والمهن، ومن كل الأجناس والطبقات الاجتماعية، ينتظرون لساعات وساعات تحت شمس محرقة، لكي يصعدوا درجات القصر، وسط صرخات الألم الهستيرية والدوار، والعويل، والقرابين، وطقوس الحمد ليقدموا فروض التوقير الأخير إلى الزعيم”.
في الوقت نفسه، كان الابن رامفيس، رفقة رجل المخابرات الأكثر دموية، يشرف بنفسه على حفلات التعذيب الأسطورية التي ينحني الشيطان “لعبقرية” تفاصيلها وحداثة أساليبها التي يتعرض لها المشاركون في المؤامرة الدنيئة، قد تجعلك تتقيأ وأنت تلتهم سطورها السوداء: “..وبدلاً من طبق الذرة المعفن المعهود، أحضروا لهما قدراً فيها قطع لحم. فأختنقا وهما يأكلان بأيديهما حتى شبعا. فعاد السجان للدخول بعد قليل، وواجه بايث مباشرة قائلاً له إن الجنرال رامفيس تروخييو يريد أن يعرف إذا كان لا يشعر بالقرف وهو يأكل لحم ابنه؟ فشتمه ميغيل انخل بايث وهو جالس على الأرض: قل للقذر ابن العاهرة هذا أن يبتلع لسانه المسموم لعله يتسمم. فانفجر السجان في الضحك ثم غادر ورجع ليعرض عليه من الباب رأساً فتياً يحمله من شعره. وقد مات ميغيل انخل دياث بعد ساعات من ذلك بين ذراعي موديستو بسكتة قلبية”.
عندما تيقن رامفيس، وأخوته وأعمامه، أن إمبراطورية تروخييو قد انهارت تماماً، وأنه لا عودة إلى الوراء، سارعوا إلى عقد اتفاقيات تضمن لهم هروباً آمناً حاملين ملايين الدولارات التي ستضاف إلى أرصدتهم الخارجية الكبيرة من أموال منهوبة ومهربة خلال سنوات طويلة، ومخلفين حشوداً وأرتالاً لا تنتهي من الفقراء والجائعين والخائفين، لكن ليس من دون أمل.
ترى هل كان فارغاس يوسا يدون وقائع وأحداثاً جرت هناك، أم هنا، أم في بقعة ما من مستشفى أمراض عقلية بحجم كوكب، في عماء كون متلاطم؟
العربي الجديد