أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياالعدالة الانتقاليةالعقوبات الأميركية على سورياتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوععن أشتباكات صحنايا وجرمانا

“سوريا الجديدة”: جمهورية موز ونظام أوتو- ثيوقراطي؟/ نجيب جورج عوض

سوريا

12.05.2025

 أعتقد شخصياً أن ما ينقذ سوريا ويفتح أمامها مستقبلاً من نوع ما، لم يعد سوى نظام “الجمهورية الاتّحادية”، من دونه، سوريا ستصبح حتماً “جمهورية موز”، ومن دون نظام الحوكمة التعدّدي والديمقراطي الاتحّادي، سوريا ستكون حتماً “لا- دولة أوتو- ثيوقراطية” (شيء يشبه المزرعة الشرعية) من دون أي أمل في مستقبل مدني أو دولتي أو جمهوري من أي نوع.   

اليوم، وبعد مرور أربعة أشهر على رحيل نظام الأسد، وتسلّم “هيئة تحرير الشام” الإدارة والسلطة، باتت معالم وسمات ومنطق ما تريده إسرائيل وأميركا لسوريا المستقبلية، مكتملة وواضحة ومطبّقة بلا مواربة أو تحفّظات. يمكن للمراقب أن يتحدّث عن تلك المواصفات من خلال ماهيّة الجمهورية المزعومة، من جهة، وطبيعة منظومة السلطة والحوكمة المطلوبة من جهة أخرى.

في ما يتعلّق بماهيّة الجمهورية، تكشف المؤشّرات الموضوعية التي يستقيها المراقب من الممارسات الدولتية، والأحداث، والتطوّرات الميدانية، وما أفرزته من استراتيجيات، ومعطيات وتوزيعات وتنويعات على الأرض، أن سوريا تتّجه إلى ما نسمّيه في عالم الفكر السياسي نموذج “جمهوريات الموز”.

سوريا الحالية هي أولاً، حالة “اللا- دولة”، وكلّ ما نراه من سمات الدولة هو كيان أحادي محدّد، يمارس “الإدارة” من دون الاكتراث لأي بُعد آخر من أبعاد الممارسات التي تكوِّن ماهيّة “الدولة”. يغيب عن المشهد السوري للدولة ما يمكن أن نسمّيه “سيادة القانون”، إذ تُترك أدوار القوانين المعتمدة في كلّ دولة، لأطراف مهيمنة إما عسكرياً أو أمنياً أو تعبوياً أو جماعاتياً أو طوائفياً أو دينياً أو عرقياً، على مناطق ومساحات جغرافية بعينها ضمن الجغرافيا السورية.

وفي ظلّ غياب دولة القانون، يتفشّى عدم الاستقرار السياسي والتهاوي العميق الاقتصادي والمالي، بحيث يتحكّم بالموارد والحركة الاقتصادية مجموعة معينة من المتموّلين والتجّار القادمين من منطقة جغرافية معيّنة، بميزة تعاملهم مع السوق التركية، وقدرتهم على إدخال كـافّة منتجات السوق التركية إلى الداخل السوري من دون حسيب أو رقيب، في نوعٍ من الهيمنة التأسيسية الميركنتيلية المناطقية.

 تتمثّل “جمهورية الموز” أيضاً في مظاهر التفاهمات والارتزاق السياسي، باسم تسوية أوضاع أتباع النظام السابق وحلفائه، والتكّسب من عمليات التسوية المذكورة، وتوزيع المناصب والمكاسب على الأقرباء والحلفاء والشركاء، بحيث بتنا نلاحظ بدء هيمنة شريحة اقتصادية ومالية قادمة من جغرافيا محدّدة، تتمتّع بثراء فاسد المصادر، باتت تقرّر مصائر الحياة اليومية للمواطنين المعدومي الموارد والإمكانيات. وإذا ما قرأنا الباحث الأميركي أوليفر هنري، الذي استخدم مصطلح “جمهورية موز” لأوّل مرّة في القرن التاسع عشر، سنجد أن ما يصفه ينطبق على سوريا الحالية التي تُديرها سلطة المرحلة الانتقالية.

أما فيما يتعلّق بطبيعة منظومة السلطة والحوكمة ضمن جمهورية الموز المذكورة، فإنها منظومة سلطة يصلح بشكل علمي صائب أن نسميها “سلطة أوتو- ثيوقراطية”. هي منظومة سلطة وحوكمة تجمع ما بين نموذج الحكم “الأوتوقراطي” من جهة، ونموذج الحكم “الثيوقراطي” من جهة أخرى.

الأنظمة الأوتوقراطية هي أنظمة تدور حول تجميع كافّة خيوط القرار والسلطة، والتقرير التنفيذي والتشريعي والإجرائي والتمثيلي في يد شخص واحد. وفي حالة جمهورية الموز السورية، تمّ الإعلان عن السيّد أحمد الشرع لا بصفته مدير المرحلة الانتقالية فقط، بل “رئيس الجمهورية العربية السورية”، من دون انتخاب، أو استفتاء، أو استشارة، أو إشراك لأي من أطراف الشعب السوري في مسألة التنصيب تلك. واليوم، وبعد تدشين مؤتمر تنصيبي حضرته وقرّرت فيه فصائل وكتائب مقاتلة غير مدنية، وأعلنت فيه على مبدأ “من يحرّر يقرّر” أن السيّد أحمد الشرع هو “رئيس الجمهورية”، وبعد أن تمّ إصدار إعلان دستوري كـارثي استبداداي بامتياز، يُعطي الرئيس المذكور كافّة السلطات في الجمهورية، ويكرّسه قائداً حاكماً معصوماً من الخطأ والمحاسبة والتقييم والمراجعة والرقابة (فهو يقوم بها جميعاً وحده لا شريك له) وبعد أن أسّس حكومة لا تحكم ولا تقرّر، بل تدير وتنفّذ أوامره وأوامر أجهزته الفقهية والرقابية، التي وضعها للإشراف على عمل الوزارات وتقرير صلاحية قراراتها، بات واضحاً للمراقب أننا أمام نموذج حكم أوتوقراطي بامتياز وبلا مواربة، وهو منسجم مع إطار “جمهورية الموز”.

أما الجانب الثاني الثيوقراطي، فهو يعبّر عن حوكمة قوامها ومرجعيّتها والوصي عليها والمقرّر فيها، هو الخطاب الديني الدوغمائي الفقهي الشرعي الذي تقرّره المراجع الفقهية الكهنوتية، بحيث تكون هي المعيار الرقابي والتقريري والتقييمي، الذي يمنح المشروعية لأي عمل تقوم به أجهزة الجمهورية الحوكمية والدولتية والرئاسية.

يتمثّل الجانب الثيوقراطي في تعيين الرئيس لمجلس شرعي ذي صلاحيات، للرقابة على قرارات الوزارات وتقرير صلاحيتها من عدمها، وكذلك في فرض المنطق الطائفي المريض على كـافّة أشكال الوجود المجتمعي والأهلي ومظاهره، بحيث لا تتخاطب الدولة إلا مع ممثلي الجماعات ذوي الحيثيات والأدوار الدينية واللاهوتية والكهنوتية، وكذلك في ترك الشارع السوري تحت رحمة فوضى تبشيرية ودعوية وترهيبية دينية، من دون رقيب أو حسيب، أو وضع معايير قانونية للحفاظ على الحضور التعدّدي والتنوّعي الأهلي، ناهيك بفرض الهوّية الإسلاموية على كافّة الهوّيات الأخرى، بما فيها الهوّيات الإسلامية غير السلفية. 

هناك كما يبدو، رغبة عند صنّاع قرار هذا النموذج لسوريا، بأن يجمع الحكم السوري وجهاً أتوقراطياً يُرضي الممارسة الأوتوقراطية لتركيا الأردوغانية الإخوانية (يمثّله الشرع وحلقته الضيّقة) من جهة، ووجهاً ثيوقراطياً يُرضي الممارسة الثيوقراطية لإيران ودول عربية بعينها (تمثّله جهات هيئة تحرير الشام) من جهة أخرى.

 برأيي أن مثل هذا النموذج الإشكالي جدّاً والمدمر للمشهد السوري، هو نموذج مطلوب جيواستراتيجياً لأنه يضمن تحقيق “جمهورية موز”، ويقود بالتدريج إلى جعل الخيار الوحيد الذي ينقذ سوريا من كوارث هذه الحوكمة الخطيرة والكارثية، هو فقط نظام “الجمهورية الاتّحادية”، كما نراه، مثلاً، في ألمانيا والولايات المتّحدة والإمارات العربية.

 أعتقد شخصياً أن ما ينقذ سوريا ويفتح أمامها مستقبلاً من نوع ما، لم يعد سوى نظام “الجمهورية الاتّحادية”، من دونه، سوريا ستصبح حتماً “جمهورية موز”، ومن دون نظام الحوكمة التعدّدي والديمقراطي الاتحّادي، سوريا ستكون حتماً “لا- دولة أوتو- ثيوقراطية” (شيء يشبه المزرعة الشرعية) من دون أي أمل في مستقبل مدني أو دولتي أو جمهوري من أي نوع.   

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى