سوريا بلد البدائل في سياق اللّابديل/ هبة محرز

من «الأسد أو نحرق البلد» إلى «من يحرر يقرر»
12-05-2025
سمعتُ جملة «أي… طيب… وشو البديل» لأول مرة في ربيع عام 2011، بعد أن اشتدّت المظاهرات في الغوطة الشرقية. كانت القائلة جدةً في أواخر الستينيات من عمرها، لم تكن ضد الثورة، ولا ضد مطالب الناس في الشوارع، كانت من الجماعة الخائفة من أن بشار الأسد بلا بديل، إذ كيف لنا أن نعيش من دونه أو دون نظامه؟ تتالت بعدها هذه الجملة كلازمة لأي نقاش، لا يهم كيف يبدأ الحديث، لا يهم عدد المجازر ولا عدد المُختفين والمُختفيات، المهم كان أن تُطرَّز كلمة «لا بديل» كنهاية حتمية لأي حراك شعبي، وبالطبع تُوِّجَت تلك اللحظة الزمنية بشعار «الأسد أو نحرق البلد» الذي تم تطبيقه حرفياً على كل بلدات وشوارع سوريا، بما يعني حضورَ بشار الأسد كقَدَرية تلاحق السوريات والسوريين.
مفهوم «اللّابديل» في السياسة
عادت تلك الجملة مُجدداً لتحضُرَ في الفضاء السوري الافتراضي، بدت كأنها محاولات من الناس أنفسهم-ن لتخفيف رعبهم-نّ أو احتوائه، أو ربما هي تجسيدٌ لتعب الناس من الحرب وتبعاتها ومحاولةٌ للسير إلى الأمام حتى مع سلطة مليئة بالأسماء التي كانت حتى وقت قصير ترعب السوريات والسوريين. في كلتا الحالتين، عادت العبارة تتغلغل في حياتنا من جديد، وهي التي ما فارقتنا أبداً. ورغم أن كل معطياتها اليوم مختلفة، إلا أن الخطير في عبارة «ما البديل» أنها نمط تفكير مُتكامل يحضر ككتلة يصعب تفكيكها.
يُنسَب لمارغريت تاتشر شيوع مفهوم اللّابديل في فترة حكمها في بريطانيا. ورغم أن المفكر السياسي هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر اخترع هذا المفهوم ليؤيد نظرية «الداروينية الاجتماعية» أو «البقاء للأصلح» كما قال، إلا أن تاتشر أطلقت المفهوم بشكل حتمي في الدفاع عن المنظومة الاقتصادية الرأسمالية الليبرالية، رغم الاعتراف بالثغرات الهائلة في فكر هذه المنظومة وآليات تطبيقها. وفي حين آمنت تاتشر بأن الليبرالية الاقتصادية يجب أن تتصدى للفوضوية والشيوعية والاشتراكية، أصبحت هذه العبارة «There is no Alternative» بمثابة صرخة احتجاجية لصالح الأسواق الحرة والتجارة الحرة والعولمة الرأسمالية1، ومنها انتقلت إلى ألمانيا وأغلب الدول الأوروبية.
تباعاً تطوَّرَ مفهوم اللّابديل ليصبح قراءة سياسية يمينية لكل مفاصل الحياة. تَحوَّلت العبارة إلى وحش يأكل كل الخيارات، تشبه بشكل رئيس «الآخرية» في تعويم فكرة نحن أو اللاشيء، ومن يعيش منا في بلاد رأسمالية يعرف بوضوح المعاني الخفية لهذه العبارات التي مهدت من بين عوامل كثيرة أخرى لصعود اليمين المتطرف، اليمين الشعبوي الذي يعتمد في أساسه على تقديم أفكاره كـ«حقائق ثابتة» وبالتالي فإنه لا بديل عنها، في الوقت ذاته الذي يُميّعُ فيه الحقائق الأخلاقية لتصبح وجهات نظر تحمل التوافق أو الاختلاف. ورغم كل النقد الذي يطال هذا النمط من التفكير والخطاب، إلا أن الاعتماد الدائم على مساوئ الآخر تجعل منه مفهوماً شعبوياً وسلساً. أما في بلادنا فقد انسجمت أفكار اللّابديل مع الدكتاتورية بشكل عضوي، وبالتالي ومنذ سنين طويلة جداً، لم يعد من المهم تقديم أسباب نجاح منظومة حزب البعث، بل يقتصر الحديث على كوارث غيابها، وإن كان حضورها لا يُنتِجُ أي نجاحات أو تطور، في تسلُّط شبيه بأي دكتاتورية قَدَرية أخرى.
وفي المقابل، ظهر الكثير من النقد الفلسفي والسياسي للغرق في هذا المفهوم، ربما أكثرها مُعاصَرة هو كتاب الشر السائل: العيش مع اللّابديل2، الذي يتضمّنُ حوارات بين الفيلسوف والأستاذ الجامعي الليتواني ليونيداس دونسكيس وعالم الاجتماع البولندي وصاحب نظرية الحداثة السائلة زيغمونت باومان. الكتاب الصادر في 2016 يناقش الحداثة الأوروبية المعاصرة، ويناقش فكرة اللّابديل في مساحات الفردانية الأوروبية الغربية وعلاقتها مع مفهوم أوروبا بشكل عام ومع أوروبا الشرقية وروسيا بشكل خاص، إلّا أن تقريبه للسياق السوري ممكن من عدة زوايا، منها حديثه عن إغلاق الأبواب في وجه الأفكار المختلفة وحصر مفهومَي الخير والشر في طرق بدائية وثنائية، والعمل على فهم التاريخ كحقب زمنية متعاقبة تعيد إنتاج «الإيمان» و«الهوية» و«الجماعة» و«التوق الدائم إلى مفاهيم اقتتالية». 3
الثورة السورية كمواجهة حتمية مع جمود البلاد
الجدة الستينية التي توفيت الآن، قبل أن تعرف أي نظام سوري آخر غير نظام البعث (ومثلها ملايين من السوريين والسوريات الذين واللواتي تجذَّرَ النظام في حياتهم-نّ)، عاشت ضمن حتمية لا تستطيع الخروج منها، مع انعدام مُمأسس للممارسة السياسية السورية الشعبية، وتَخندُق طويل في سياقات قصيرة النظر وضيّقة. لذا خافت مع اهتزاز هذا الاستقرار رغم أنه كان استقراراً على حساب حياتها بشكل شخصي، وحساب حياة بناتها وأبنائها. وفي حين أن الثورة كانت لحظة انفجارية سياسية، إلا أنها فجَّرت معها ثورات متنوعة ومتعددة صغيرة وشخصية، وكبيرة وعقائدية، ثورة على «اللّا بدائل» في حياتنا، على كل الـ«خلصت وفشلت» وعلى هويات فُرِضَت علينا.
قدمت الثورة بأطوارها المختلفة، وأشكالها المتعددة، بدائل مبتكرة لكل حتميات الأسد. تطوَّرَ المجتمع المدني السوري، وشكَّلَ بديلاً موازياً لكل مؤسسات الدولة في مختلف المناطق التي خرجت من سيطرة النظام، وساعد في تنظيم مختلف لاصطفافات السوريات والسوريين، وانفتحت أبوابٌ للنقاشات والتفكير في كل شيء؛ انتفاضة كاملة متكاملة على كل الرواسب.
شجعت الثورة وما تلاها خلال الأربعة عشر عاماً الماضية كل البدائل، ومع انغلاق البلاد الإعلامي تجاه الأصوات المختلفة خُلِقَ الإعلام البديل، إعلامٌ مستقلٌ عن منظومة الأسد وحرٌّ ليشتبكَ مع القضايا السورية باختلاف توجهاته الفكرية، إعلام لم يشكل منظومةً وظلَّ حيوياً ومرناً رغم كل التخبطات التي واجهته، والتي صنعت منه تموجات مُفكَّكة أحياناً وصلبة مرات أخرى.
وضد كل احتكارات الأسد للعلمانية والثقافة، خرج المسرح البديل، مسرح انتصر على سردية الخبز أولاً وقدَّمَ نفسه كفعل ثوري وأخلاقي حتى في أقصى لحظات القصف والدمار في البلاد؛ مسرح رافق خيام اللاجئين واللاجئات، وقدَّمَ سوريا مختلفة تشبه ناسها المختلفين والمختلفات، مسرح تجريبي متعثّر حيناً ومتماسك حيناً آخر، مسرح بديل لسلطة ثقافة السلطة، أي سلطة حتى لو كانت سلطة قواعد المسرح ذاتها.
بالطبع فإن العنف الإجرامي الذي قابل به الأسدُ الثورة، والذي كان عنفاً قَدَرياً للنظام نفسه، بمعنى لا إمكانية العيش المشترك ولا إمكانية التفاوض، رفعَ من أثمان كل ما صنعته الثورة حيث آلاف الشهداء، بالإضافة لمئات آلاف المغيبين والمغيبات قسراً، وملايين ممن عانوا-ينَ النزوح واللجوء، دون أن ننسى تفقير البلاد وجعلها غير قابلة للحياة، وانكسار الأحلام في قلوب الناس جميعاً جرّاء عنف ممنهج ووحشي وبيروقراطي طال كل مفاصل سوريا؛ عنف «الأسد للأبد».
واليوم أيضاً نحن ندافع عن الخيارات
رغم أن سوريا ما زالت تكمل شهرها الخامس فقط من دون نظام الأسد المتجذر فيها منذ ما يقارب خمسة وخمسين عاماً، إلا أن المتابعة المستمرة للتحديات الكبيرة على الأرض، والنقاشات المُطوَّلة في الفضاء الافتراضي، تكشف استمرارية مُمنهجة لمفهوم غياب البدائل، أو كما يصفه ليونيداس دونسكيس «أننا نعيش في مجتمع تستحوذ عليه نزعات الحتمية والقدرية والتشاؤمية والخوف والهلع»4. ولا تقتصر جملة «من يحرر يقرر»، التي ظهرت بين ليلة وضحاها، على التبني الأعمى لأحقية رؤوس السلطة الحالية، بل تنتشر كما النار في الهشيم في تقويضٍ واضح لأي نقاش سياسي مثمر. وكما في السابق، لا تنحصر هذه الحالة على مناصري السلطة الحالية، الذين واللواتي يمكن فهم توجههم-نّ السياسي في قبول السلطة بعجرها وبجرها، بل تسرَّبت بشكل سريع حتى إلى الخائفين والخائفات الجُدد، الناس الذين واللواتي يشعرون ويشعرنَ أن كل ما حدث ويحدث في سوريا هو «حكم القوي على الضعيف». وبالتالي فإن كل الأحداث اليوم تجعل منا من جديد، كمواطنات ومواطنين، خارج معادلة التغيير، فإذا تمت الشكوى من حضور المقاتلين الأجانب، أو من فظائع مجازر الساحل، كانت الإجابات اليومية بين الناس عن أن ما حدث هو «رحمة» أمام البديل المُتخيَّل، وكأنَّ موت مئات الآلاف من السوريين والسوريات على يد نظام الأسد، ثم موت أكثر من ألفَي سورية وسوري ما بعد نظام الأسد، هو قدريةُ اللّابديل، قدريةُ شرٍّ يتحكم بالنفوس ويَعدُنا بنار الفوضى والتقسيم كبديل وحيد له، شرّ يمكننا أن نصفه كما يقول باومان: «الشر يسكن اليوم في بيوت آمنة، ويصعب تحديد موقعه وكشفه وإخراجه وطرده، إنه يظهر فجأة بلا سابق إنذار، ويضرب بعشوائية بلا منطق ولا نظام، والنتيجة هي بيئة اجتماعية تشبه حقل ألغام نعلم أنه زاخر بالمواد المتفجرة، ونعلم يقيناً أن المتفجرات ستنفجر عاجلًا أم أجلًا، لكننا لا نستطيع أن نُخمِّن زمان انفجارها ولا مكانه».5
وبالتالي لا بديل حتى عن انقطاع الكهرباء، تلوث المياه، سوء المواصلات، فما بالنا بغياب العدالة والمحاسبة، والتقاعس في ملف المختفين والمختفيات قسراً. لابديل عن الإعلان الدستوري كما صاغوه، ولا بديل عن طريقتهم في تقديم الحوار الوطني، لا بديل عن الحكومة التي يتواجد فيها مظهر الويس كوزير عدل، ومذيع الجزيرة محمد الصالح كوزير ثقافة. وخطوة تلو الأخرى، نعود للتمترُس خلف هوياتنا ما دون الوطنية، ونخسر ببساطة أربعة عشر عاماً من العمل في المجتمع المدني السوري، لأنه لا بديل عمّا يحدث، ولا بديل عمّا سيحدث، ولكن رغم كل ذلك وبسبب كل ما سبق يبدو أنه علينا أن نُذكِّرَ السلطة الحالية وكل من يشدُّ على يدها بعنف اللّابديل، بأن واقعنا هو في حد ذاته بديلٌ عمّا كان حتى الثامن من كانون الأول الماضي بلا بديل، وأن السوريات والسوريين رفضوا القَدَرية بكل وضوح منذ 2011، ولا يمكن اليوم أن يعودوا-دنَ إلى 1970.
1.Berlinski, Claire. “There Is No Alternative”: Why Margaret Thatcher Matters. Basic Books, 2008.
2.باومان، زيغمونت، دونسكيس، ليونيداس، الشر السائل: العيش مع اللّابديل، ترجمة: حجاج أبو جبر، تقديم: هبة رءوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2018.
3. المرجع السابق، ص 136
4.المرجع السابق، ص27
5.المرجع السابق، ص60
موقع الجمهورية