منوعات

معلولا: في تعاقب الحضارات منذ فجر التاريخ/ أوس يعقوب

10 مايو 2025

تقع بلدة معلولا العريقة بتاريخها، التي لا تزال محتفظة بهويتها السريانية الآرامية، والتي تستمدّ خصوصيتها وشهرتها من موقعها الجغرافي الفريد الذي جعلها تُعتبر حصنًا طبيعيًا، على بعد خمسة وخمسين كيلومترًا تقريبًا، إلى الشمال الشرقي من مدينة دمشق، بين السلسلتين الجبليتين الثانية والثالثة من منطقة القلمون، في لحف جبل معلولا الذي ترتفع قمته إلى 1913م، وهو من أجمل الجبال الجرداء في سورية في حصن جبلي وادع.

تنتشر في المنطقة من الجهة السورية مدن وقرى وبلدات شهيرة، مثل: الزبداني، ووادي بردى، ويبرود، والتل، ومعرونة، وعين منين، وعين التينة، وتلفيتا، ورأس المعرّة، والدريج، وبخعة، وجبعدين، ومعلولا، المجاورة لبلدة صيدنايا، التي خصصنا لها مقالنا السابق (صيدنايا: أعرق حواضر المشرق المسيحية، المنشور بـ “ضفة ثالثة”، بتاريخ 30 نيسان/ أبريل الماضي)، والتي تعدُّ إلى جانب معلولا من أقدم القرى المسيحية في المشرق العربي، والتي لا يزال سكانها يتحدثون اللغة الآرامية القديمة، التي يعتقد أنّ السيّد المسيح كان يتكلم بها، وبها كتب متّى إنجيله.

ووجدت هذه اللغة لها مأوى بين أهالي معلولا وجبعدين وبخعة (أي الصرخة)، الذين تمسكوا بها وحافظوا عليها، فصاروا لهذا السبب مثار انتباه المستشرقين واللغويين والمؤرّخين واهتماماتهم، منذ القرن السابع عشر وما زالوا…

في مقالتنا هذه، نتعرّف أكثر على بلدة معلولا، التي تحتفظ بالكثير من آثار الحضارات التي تعاقبت عليها، بما فيها الآرامية واليونانية والرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية، والتي أكسبتها تلك الشهرة المحلية والعالمية، وأهمهما المعلمان الأثريان، دير مار تقلا، ودير مار سركيس، اللذان صنّفتهما منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) على أنّهما من أهم الآثار المسيحية في العالم المسيحي الشرقي وأقدمها.

اسم آرامي رافق البلدة منذ فجر التاريخ

رغم تعدّد أسماء هذه القرية القديمة العريقة في المصادر التاريخية، إلّا أنّ صاحب كتاب “لسان معلولا”، الأب باريزو Parisot [1]، ذكر أنّ هذا الاسم (معلولا) ورد بهذا اللفظ عينه في كتابة كنسية قديمة وفسره بمعنى: “المدينة الغنيـة الجميلة”. وذكرها الفلكي والجغرافي اليوناني بطلميوس الكلودي (90 – 168م) في جغرافيته، ودعاها باليونانية “كليما ماغلوللون” – فلمّا لم يكن في اللغة اليونانية حرف العين (ع) استخدم في لغته حرف الغمّة-، ولهذا فهي تلفظ بالعربية “معْلولٌ” [2].

وفي عهد اليونانيين والرومانيين أطلق على معلولا اسم “سكوبولوسا”، وهو يعني الموعرة المحجرة لوعورة مسالكها، ووفرة الصخور فيها، وهذا الاسم كان يطلق على كل المقاطعة شمال شرق دمشق “الشام الوعرة”.

وسمّاها العرب “النَشِطَة” أو “النشيطة” لجفاف مناخها واعتداله، وعذوبة مائها. وأطلق عليها كذلك “سلوكية الشام” أو “سلوقية قلمون”.

أما الأب العلامة باسيليوس نصر الله، فقد رأى أنّ “معلولا اسم آرامي رافق هذه القرية منذ فجر التاريخ”، وهو يعني “المدخل”، تمامًا كما يعني “المرتفعة”. ومما يؤيد هذين الاشتقاقين، بحسب ما يذكر إلياس نصر الله، في الموسوعة العربية، هو موقع هذه البلدة القائم في محل مرتفع عما سواه من البلدات المجاورة من الجهة الشرقية والجنوبية والغربية، ومدخلها الضيّق الذي لا يمكن الولوج إليها إلّا من خلاله.

ووفقًا لمصادر تاريخية، فإنّ تاريخ معلولا يرجع إلى 50 أو 60 سنة قبل الميلاد، بعد أن استولى الإسكندر الأكبر على بلاد الشام سنة 333 ق. م، وقد تأثرت البلدة بحضارة اليونان ولغتهم، وصارت تُعرف باسم “بنكرابوليس”.

وفي ظل الحكم الآرامي، كانت معلولا مركزًا لعبادة بعض الآلهة السوريين، وفي العهد الهيليني اليوناني تحوّلت إلى عبادة الشمس، وفي العهد المسيحي، وجدت المسيحية واللغة الآرامية مأوى لها بين أهالي معلولا وجبعدين وبخعة في أعالي جبال القلمون الغربي.

ووفقًا لباحثين لغويين فإنّ اللغة الآرامية المتداولة في هذه البلدات الثلاث (معلولا وجبعدين وبخعة) تعود إلى أصول لغوية تطوّرت إليها اللغة الآرامية منذ القرن الأول ق. م حتى القرن السابع الميلادي. ومن المعروف أنّ الآرامية مرّت بعدّة مراحل كانت أقدمها الآرامية القديمة التي استمرّت من القرن الحادي عشر ق. م حتى منتصف الألف الأول الميلادي. وأعقبتها “الآرامية الإمبراطورية” التي عاصرت زمن الإمبراطورية الفارسية الأخمينية (530 – 330 ق. م). ودخلت اللغة الآرامية في مرحلة جديدة من مراحل تطوّرها من عهد المكابيين (عام 195 أو 164 ق. م)، وإلى هذه المرحلة المتأخرة تعود اللغة الآرامية التي يتعامل بها أهالي معلولا وجبعدين وبخعة إلى يومنا هذا. ولكي تعمّق معرفة أهالي المنطقة باللغة أنشئ في معلولا أول معهد في العالم لتعلّم الآرامية كتابةً ونطقًا.

في حديثه عن جوانب ومفردات متعدّدة للآرامية، يقول الأكاديمي السوري جورج رزق الله: “ولما كانت اللغة الآرامية هي اللغة التي سادت هذا الشرق بعد أن تغلبت على جميع اللغات التي سبقتها أو عاصرتها مثل الآكادية والفارسية والفينيقية…، بسبب سهولة أبجديتها وعدم تعقيد نحوها وصرفها وقدرتها على استيعاب جميع مستجدات العصر آنذاك، فقد تبنتها أو أخذت عنها كثير من الشعوب، وبسبب انتشارها الواسع فقد تعرّضت لتطوّرات كثيرة وتفرعات عديدة، فالإمبراطورية الفارسية ومنذ أيام داريوس الأول 520 – 485 ق. م، تبنت اللغة الآرامية كلغة رسمية، واعتمدت أبجديتها في المراسلات والعلاقات السياسية والتجارية بسبب المستوى الرفيع الذي بلغته من النضج والقوة وبلاغة التعبير” [3].

متحفٌ نادر عن طريقة حياة الإنسان القديم

تحرس معلولا من الشرق والغرب أكمتان عظيمتان من صخور طباشيرية، تُحيطان بها كجدارين شاهقين يقومان بحمايتها، ومن تحتها يمتدّ منحدران يسمّى كل واحد منهما فجًّا، يقسمانها إلى قسم سفلي هو معلولا الحالية، وعلوي يُعرف باسم “بلوتا علو” ويعني “البلاد الفوقا”، وهي معلولا القديمة المنقورة في الصخور على هيئة كهوفٍ سكنها إنسانها قبل أن يهبط ليسكن معلولا الحالية، ويستقرّ فيها.

يذكر ابن معلولا، الباحث والكاتب إلياس نصر الله، في كتابه “معلولا: حكاية الإنسان وقدسية الأرض”، أنّ “الدراسات التي قامت في جبل معلولا وجروفه الصخرية أثبتت أنّ الإنسان قد سكن هذه المنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ، بدءًا من إنسان نياندرتال الذي عـاش في الفترة من 200 – 400 ألف سنة ق. م، حتى الإنسان العاقل الأكثر تطوّرًا الذي عاش خلال الفترة ما بين سبع وعشرة آلاف سنة ق. م”. مبيّنًا أنّ “هذا الإنسان الذي لم يعد يكتفي بسكنى الكهوف الطبيعية المنتشرة في معلولا، قام بحفر كهوفه ومغاوره في صخورها، وعليها أشاد معابده ومنازله، وحفر تماثيل آلهته، ومثّل لبعض معتقداته. كل ذلك وفق تصوّر مسبق لها. الأمر الذي جعل بعضهم يرى في معلولا تاريخًا وأوابد، اختزالًا وتلخيصًا للتاريخ الإنساني برمّته، بوصفها تعدُّ متحفًا حيًا نادرًا عن طريقة حياة الإنسان القديم، إنسان الكهوف وسكنه، حتى الوقت الحاضر”.

شكّلت عمارة معلولا في عب الصخر صعودًا مع السفوح، بسبب الانحدار الشديد لجانبي الوادي الذي تقع فيه، حالة مدهشة من الانسجام والتآلف والوحدة، جعلت من هذه العمارة تبدو وكأنّها قُدّت من الصخور، بفعل الطبيعة وليس بفعل الإنسان.

وتبدو بيوتها المبرقشة بما في ألوان قوس قزح وخليطها، والمحفورة في قلب الجبل الصخري، والتي كانت سكن الإنسان القديم، متراكبة فوق بعضها البعض، ويتراوح عرض البيت الواحد ما بين خمسة وثمانية أمتار، وتغور في الصخر إلى عمق يتراوح ما بين ثلاثة وأربعة أمتار.

ويعتبر الفجّ أو كما يعرف محليًا “فجّ مار تقلا”، أحد أبرز المعالم السياحية في البلدة وأكثرها جذبًا لزائريها، وهو عبارة عن شق صخري شاهق يشكّل ممرًّا ضيقًا من طرف الجبل الذي تتربع عليه البلدة، إلى طرفه المقابل، ويقسمها إلى شطرين.

ويمتدّ الممرّ على طول خمسمائة متر، وبارتفاع يتراوح بين خمسين ومائة متر، وعرض بين مترين وعشرة أمتار.

والفجّ، الذي يسمّى أيضًا بـ “الفجّ الشرقي”، يشكّل بوابة الدخول الوحيدة إلى الأعماق التاريخية لمعلولا الأثرية، يحاذيه دير القديسة تقلا الأرثوذكسي، أقدم الدور الرهبانية في منطقة غرب آسيا وبلاد الشام، فيما تحيط به من الجهة الشرقية كنيسة أثرية قديمة، وقريبًا منها يقع مقام القديسة تقلا، الأقدم في العالم، والذي يحتوي على ضريح أولى شهيدات المسيحية.

وبحسب الرواية الشعبية، فقد نشأ الفجّ حين هربت القديسة تقلا من حكم الموت الذي صدر بحقّها في الأيام الأولى لفجر المسيحية، فكانت العجيبة أن انشق الجبل الصخري فأبقى الفتاة الهاربة مار تقلا في شطر، والجنود الرومان في الشطر الآخر.

ويتميّز هذا الفجّ من بدايته حتى أعلى الجبل بوجود الغرف والخلوات المحفورة بالصخر وعلى مستويات مختلفة، بما يشكّل إحدى العجائب الطبيعية التي يمكن أن يراها الزائر في هذا المكان.

حاضنة أقدم أديرة وكنائس وأوابد في العالم

تتفرد معلولا بمعالمها التاريخية الأثرية والطبيعية، وتميّزها آثارها المسيحية التي يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وأهمها:

– دير مار تقلا: مشهور بكهفه التاريخي، الذي يعتقد بعضهم بأنّ القديسة تقلا – تلميذة القديس بولس- عاشت وماتت فيه. ويتم الوصول إليه عبر سلسلة من الأدراج والمصاطب الصخرية، وأمام الدير يقوم (الفجّ الصخري الجميل). الفجّ الشرقي وهو الممرّ القديم الوحيد الذي كان يربط بين دير مار تقلا ودير مار سركيس في الأعلى، وليس هناك من دليل على أنّ هذا الدير يعود إلى الفترة البيزنطية وربما يعود إلى القرن 18 ميلادي.

– دير مار سركيس وباخوس: شيّد في القرن الرابع الميلادي على بقايا معبد قديم يعود إلى العصر الروماني، ويمكن مشاهدة بعض هذه البقايا في جزء من الدير. وبجانب الدير توجد كنيسة مار سركيس وهي عبارة عن مصلى صغير فيه عناصر معمارية قد تعود إلى العصر البيزنطي، وتعدُّ من أقدم الكنائس ليس في معلولا فحسب، بل في سورية والعالم. حافظت هذه الكنيسة على ما كانت عليه منذ إنشائها في الفترة من 312 – 325 للميلاد، بعد صدور المرسوم القسطنطيني الذي سمح بالحرية الدينية، وحرية المعتقد. وهي تقع في أعلى الجرف الصخري الذي يخص البلدة. ويذكر أنّ سركيس (أو سرجيوس) وباخوس كانا قائدين عسكريين أصلهما من مدينة سرجيو بوليس “الرصافة” رفضا العودة إلى العقيدة الوثنية، بعد أن اعتنقا المسيحية واستشهدا من أجلها في عهد ماكسيمانوس في سنة 297م. وتحتفظ هذه الكنيسة ببعض الأيقونات العائدة إلى القرن الثالث عشر الميلادي. ويلاحظ وجود بقايا أضرحة قديمة منحوتة في الصخر خلف الكنيسة.

ومن معالم معلولا التاريخية الأثرية المسيحية، كنيستا مار إلياس ومار لاونديوس اللتان تعودان إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي. وقد عُثر في كنيسة مار إلياس على موزاييك يعود إلى القرن الرابع الميلادي، إضافة إلى الكنائس المغاور، وهي نفسها معابد إله الشمس التي تحوّلت مع انتشار النصرانية إلى معابد للمسيحيين.

ويصادف زوار معلولا عشرات الأوابد متعدّدة الأغراض والمقاصد، المنتشرة بكثرة على معظم أراضي البلدة، ومنها: أوابد تعود إلى عهود ما قبل التاريخ، وهي في معظمها كهوف طبيعية كبيرة سكنها إنسان ما قبل التاريخ، مع ما أدخله عليها من تعديلات. وأوابد من العهد الوثني، وهي عديدة ومتنوّعة، منها: معبدا إله الشمس وحمام الملكة أو الحمام الإمبراطوري. وصخرة الآلهة في الجهة الشرقية من البلدة، وهي صخرة مرتفعة في أعلاها ثلاثة قبور، وفي جهتها الشرقية نحت نافر يمثّل إلهين متقابلين، الأول ذو لحية وفوق رأسه إكليل وعلى عاتقه الأيمن عبارة يونانية، والثاني يُعتقد أنّه تمثال للربة أثينا، وفوق رأسيهما قوس من الكتابة اليونانية. والنصب التذكاري الجنائزي. والمدافن.

ويذكر المؤرّخون أنّه كان للبلدة سور يلتف حول بيوتها القديمة لحمايتها من أي عدوان. وفيها معاصر العنب والزبيب والزيتون، التي ما زال بعضها قائمًا حتى اليوم.

وفي معلولا جامع قديم أُعيد بناؤه وترميمه في الخمسينيات من القرن الماضي، له منارة مربعة، وهو دليل التسامح الديني الذي عُرفت به المنطقة على مرّ العصور.

معلولا الملهمة، المثقلة بالتاريخ والفنّ

تعدُّ معلولا المثقلة بالتاريخ والفنّ، قبلة الرسامين والفنانين التشكيليين والمعماريين والمصورين الضوئيين السوريين على مدى عقود طويلة، وما زالت حتى اليوم، محطّ اهتمامهم واستلهامهم، رغم ما لحقها من حداثة معماريّة وتنظيميّة هجينة، أساءت إلى جمالها الطبيعي والتاريخي.

من التشكيليين السوريين الذين غذّت هذه البلدة الآرامية مخيلاتهم بموقعها السحري وجاءت إبداعاتهم في غاية الجمال، المبدع الكبير الراحل فاتح المدرس، والفنان الراحل لؤي كيالي، والتشكيلي نزار صابور وغيرهم.

ولدير مار سركيس وباخوس مجموعة مهمة جدًا من الأيقونات التي رسمها فنانون سوريون وعالميون مشهورون جدًا، وأعطوا التقليد البيزنطي طابعًا محليًا.

يقول الفنان والناقد التشكيلي السوري الدكتور محمود شاهين: “يشكّل النسيج العمراني لبلدة معلولا ومحيطها الطبيعي النادر والفريد، مادة غنية وشهية، للفنانين التشكيليين السوريين الذين يعتبرونها ملهمة الفنانين، على اختلاف الأدوات والوسائل التعبيرية التي يشتغلون عليها، ولا تزال حاضرة، بهذا الشكل أو ذاك، في نتاجاتهم الإبداعية، رغم ما لحق بعمارتها من تلفيق وتشويه أساء إلى عمارتها القديمة الشديدة الوقع في الروح والإحساس، لبساطتها وعفويتها وتآلفها المدهش مع محيطها الطبيعي، لا سيما التشكيلات الصخرية العجيبة المحيطة ببيوتها كما تحيط الأم الحنون بطفلها. لم يقتصر الاهتمام بهذه البلدة على الفنانين التشكيليين، وإنّما شمل أيضًا المصورين الضوئيين الهواة الباحثين عن مادة مناسبة لعدساتهم، فكانت معلولا أو نسيجها العمراني والطبيعي والاجتماعي إضافة إلى تاريخها الموغل في القدم هذه المادة، حيث أشبعوها رصدًا وتصويرًا، وأقيمت لها، معارض عديدة داخل سورية وخارجها” [4].

الفنان الضوئي فرج شماس، الذي أقام في الشهر الرابع من عام 2009م، معرضًا بعنوان “معلولا ذاكرة الصخر والإنسان”، تضمن لوحات تجسد الأماكن الأثرية في معلولا وأزقتها وأهلها، يقول عن معلولا كما عرفها وشاهدها إنّها “قطعة من السماء، وهي منطقة تاريخية مهمة يزيد عمرها عن 35 ألف سنة عبر التاريخ، ويضاف إلى هذا أنّها لا زالت تتكلم لغة المسيح، ومجمل التراث المسيحي محفوظ فيها، لذا استقطبتني للعمل عليها كموضوع لمعرضي. معلولا ليست مجرّد بلدة بل هي تاريخ كامل بحد ذاتها”.

تاريخٌ من التعايش والتسامح الديني

على مرّ العصور، تعرّضت معلولا التي تعاقبت عليها معظم الحضارات، للعديد من الهجمات من قبل الغزاة، لكنّ الهجوم الذي وقع في عام 2013م كان الأكثر دموية ودمارًا. في تلك الفترة، اجتاح مسلحون من تنظيم “داعش” الإرهابي البلدة، في سعي منهم لتدمير معالمها المسيحية، وتغيير هويتها الثقافية والدينية بشكل نهائي. وقد حاولوا، أثناء هجومهم هذا، تدمير الكنائس القديمة، مثل كنيسة القديسة تقلا ودير مار سركيس، وكافة الرموز المسيحية التي تمثّل إرثًا دينيًا وثقافيًا. كما قاموا بإجبار السكان المسيحيين على مغادرة منازلهم أو اعتناق الإسلام. غير أنّ المقاتلين المحليين وأبناء المنطقة تمكنوا من طرد عناصر التنظيم المتطرّف بعد عدّة أشهر من القتال العنيف. ورغم الدمار الذي خلفه الهجوم، إلّا أنّ البلدة استطاعت أن تستعيد قوتها وتتعافى، وشهدت عودة تدريجية لعائلاتها السريانية المسيحية التي كانت قد فرّت منها بسبب المعارك.

الإعلامي السوري حسان موازيني أنجز، في عام 2014م، فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن معلولا، قدّم من خلاله رؤيته بتفاصيل دقيقة عن معلولا وما تعرّضت له من دمار وخراب طاول بيوت البلدة وأديرتها وكنائسها ونهب كنوزها، جراء اجتياح “داعش” للبلدة، حيث أقدم عناصر التنظيم الإرهابي على حرق دير مار سركيس، ومزار وضريح القديسة تقلا، وكنيسة مار لاونديوس، وفي إحدى الكنائس جمعوا المقاعد وأحرقوها، ونبشوا قبور القديسين بحثًا عن الذهب والنفائس، وقذفوا بالرفات والعظام بعيدًا عن المدفن، كما تعرّضت الرسوم الجدارية لأذى كبير، وتم تدمير التماثيل المنحوتة في الصخور على طريقة طالبان.

يقول موازيني عن فكرة فيلمه: “معلولا رمز للبشرية وتقتصر الكثير من المسافات، ينتمي ناسها إلى الأصل، كنا نشاهد في معلولا حيث يأتيها الناس من جميع أنحاء العالم ليشهدوا هذا الصرح الإنساني الكبير، هو رمز صوفي وثقافي واجتماعي، صحيح هناك أمكنة تديرها الكنيسة ولكنّها تستضيف جميع العالم ومن كل الأديان وتقدّم لهم المسكن والمأكل، عندما تذهب إلى معلولا تنسى أنّك إنسان من دين معين، لا يبقَى لديك إلّا الروحانية التي تغزو جميع خلايا جسمك”. وأضاف: “منذ صغري كانت معلولا رمزًا لي وبقيت كذلك إلى اليوم، وكم تألمت عندما أحسست بأنّ بعض الهمجيين يريدون تشويه هذه الصورة الجميلة، هذا الشيء الذي اعتبره أكثر من حقيقي، يعني هناك صبغة في هذه البلدة فوق تفكيرنا”. وأنهى موازيني حديثه قائلًا: “بعد أن عرضنا معلولا كما هي، كما يجب أن تكون، نعرض صور بعض ما أصابها من الدمار، وأكتب على الصورة ’هكذا يريدها الغزاة’”.

بعد سقوط نظام الديكتاتور بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وبداية عهد سياسي جديد، تشهد معلولا حالة من الاستقرار بعد دخول قوات الأمن العام إليها، بحسب شهود عيان من الأهالي، الذين يرون أنّ التحدّي الأكبر حاليًا هو حماية الإرث الديني والثقافي الفريد للبلدة، وضمان أن تظل معلولا، كما كانت عبر العصور، موطنًا للسريان الآراميين وحصنًا لهويتهم السريانية المسيحية.

وتعمل المديرية العامة للآثار والمتاحف في الحكومة الجديدة حاليًا، على إعداد الملف التحضيري اللازم لترشيح موقع معلولا لإدراجه على لائحة التراث العالمي، بالتعاون مع الجهات المختصة والمجتمع المحلي، وبإشراف خبراء من المجلس العالمي للمعالم والمواقع “إيكوموس”، ما يُعزّز مكانة سورية كواحدة من أهم الوجهات التراثية على المستوى العالمي. وتحتوي سورية على سبعة مواقع مسجلة على لائحة التراث العالمي، كان آخرها “المدن المنسية” في إدلب وحلب التي سجلت سنة 2011م.

هوامش:

[1] الأب باريزو “Parisot”: من علماء الرهبنة البندكتيين، انتدبته الحكومة الفرنسية عام 1896م إلى سورية، وقام بنشر أخبار جولاته في المدن السورية ومن ضمنها معلولا، في “المجلة الآسيوية” في باريس.

[2] إلياس نصر الله، “معلولا”، الموسوعة العربية، المجلد التاسع عشر، طبعة 2007م، دمشق، صفحة (115).

[3] جورج رزق الله، محاضرة بعنوان “المدخل إلى اللغة الآرامية بلهجة معلولا المحلية”، ألقيت بـ “دار الأسد للثقافة والفنون” بدمشق، ونشرت بموقع “اكتشف سورية” في 25/02/2014م.

[4] د. محمود شاهين، مقال بعنوان “معلولا: ذاكرة الصخر والإنسان”، جريدة “البيان” الإماراتية، نشر بتاريخ 01/08/2009م.

مراجع:

إلياس نصر الله، كتاب “معلولا: حكاية الإنسان وقدسية الأرض”، دمشق، 2004م.

فرج شماس، كتاب “معلولا ذاكرة الصخر والإنسان”، دمشق، 2009م.

ماريو سابا ورئيف ناصيف، كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي”، منشورات جامعة البلمند، لبنان، 2007م.

دراسات ومقالات نشرت في المواقع التالية: الموسوعة العربية، موقع موسوعة الآثار السورية، اكتشف سورية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى