تشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمنوعات

منهج موحد في سوريا: مدخل لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي/ جوان عجك

13 مايو 2025

أخذ التعليم أحد أبعاد الصراع خلال سنوات الحرب، إلى جانب التأثيرات المختلفة للحرب السورية على المجالات الاجتماعية والسياسية في البلاد بشكل كبير، مما ألحق تغييرات جوهرية بمفهوم الهوية الوطنية السورية. وفي ظل وضع معقد، يسود تساؤل محوري: هل يمكن بناء هوية وطنية جامعة عبر توحيد المناهج التعليمية؟ وما هي التحديات التي قد تعترض هذا المشروع؟

يعد التعليم أحد أبرز مظاهر الانقسام الاجتماعي في سوريا، حيث تختلف المناهج الدراسية بشكل جذري بين المناطق المختلفة، مما يعكس الانقسامات السياسية والأيديولوجية التي تعيشها البلاد. ففي إدلب، تعتمد المناهج التي تروج لها الحكومة السورية المؤقتة على تعزيز الهوية الثقافية المحلية والتركيز على القيم الدينية، مع إجراء تعديلات كبيرة على المنهج السوري السابق.

أما في شمال وشرق سوريا، الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، فتركز المناهج على تعزيز التعددية الثقافية من خلال تدريس اللغات الأم، مثل الكردية والسريانية، إضافةً إلى طرح مفاهيم مثل “الأمة الديمقراطية” و”اللامركزية”. في المقابل، لا تزال المناهج في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، ما يُعرف بـ”المحافظات الجديدة”، متأثرة بالنمط التعليمي القديم.

يؤدي هذا التباين في المناهج إلى تفاوتات كبيرة في جودة التعليم والفرص المتاحة للطلاب، حيث يصبح التعليم أداة لصياغة الهويات السياسية والاجتماعية وفقًا للأجندات المسيطرة في كل منطقة، بدلًا من أن يكون وسيلة لتوحيد المجتمع السوري. كما أن اختلاف المضامين التعليمية يخلق فجوات في المعرفة بين الأجيال، حيث يتلقى الطلاب تصورات متباينة عن التاريخ، الوطنية، والانتماء، مما يهدد مستقبل التعايش الاجتماعي في البلاد.

المشكلة لا تكمن فقط في تعدد الأيديولوجيات داخل المناهج، بل في الطريقة التي تُستخدم بها كمحرك للصراعات. فبدلًا من تقديم التعليم كأداة للتنوير والتفاهم، يوظّف لترسيخ الانقسامات وزعزعة الثقة بين مكونات المجتمع. إن تكريس السرديات الخاصة بكل جهة مسيطرة يصعّب بناء أرضية مشتركة للحوار الوطني في المستقبل، حيث ينشأ جيل جديد محمّل بتصورات مشوهة عن الآخر، ما يعمق حالة العداء والانقسام.

من هنا، فإن الحديث عن بناء هوية وطنية سورية موحدة لا يمكن دون تناول دور التعليم في هذا السياق، الذي يخرج من عباءة السرديات الخاصة، ويقدم نموذجًا تعليميًا يعكس التنوع ويعززه في سبيل خلق إطار وطني شامل، بحيث تكون المناهج التعليمية أداة لخلق قواسم مشتركة بين الأجيال القادمة، من خلال تعزيز قيم المواطنة والمساواة بين جميع المكونات، مع احترام الهويات الثقافية الخاصة. فبدلًا من فرض سردية موحدة، من الممكن تبني منهج يعكس التعددية لكنه يبني في الوقت ذاته إحساسًا مشتركًا بالانتماء للوطن.

إن تبني منهج يعكس التعددية سيساهم في الحد من تجاهل أو تقليص التنوع الثقافي، الإثني، والديني الذي تتميز به سوريا، وسيكون محاولة للاحتفاظ بهذا التنوع ضمن إطار يعزز من فكرة “الوطن الواحد” ويجمع الجميع حول هدف مشترك: بناء دولة متماسكة ومستقرة قائمة على قيم المواطنة المتساوية. إذ لا يخفى على أحد أن سوريا، عبر تاريخها، كانت موطنًا لمجموعة متنوعة من المكونات الثقافية والعرقية، مثل العرب، الكرد، السريان، والآشوريين، وغيرهم.

ولذلك، عندما تعكس المناهج التعليمية هذا التنوع بشكل طبيعي، ولا تسعى إلى تقليصه أو تجاهله، يمكن أن تلعب دورًا فاعلًا في البحث عن قواسم مشتركة تجمع الجميع. على سبيل المثال، يمكن التركيز في المناهج على مبادئ الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص التي هي أساس المواطنة المتساوية. مع إمكانية دمج مفاهيم من ثقافات متعددة ولكن بطريقة تشجع التفاهم والتعايش السلمي بين جميع مكونات المجتمع السوري.

إحدى النقاط المهمة هنا هي أن المناهج التعليمية يمكن أن تكون قناة قوية لبناء الجسور بين هذه المكونات. فعلى سبيل المثال، يمكن تدريس التاريخ السوري ليس من منظور إيديولوجي واحد، بل من خلال تسليط الضوء على الأحداث التي أثرت في كل مكون سوري، مع التأكيد على أن جميع هذه الأحداث تشكل تاريخًا مشتركًا للجميع. كما يمكن تعليم الأطفال القيم الإنسانية العامة مثل احترام الآخر، والتسامح، والعدالة، وبالتالي تنمية جيل يتقاسم القيم الوطنية المشتركة دون أن يتجاهل خصوصياته الثقافية أو الإثنية.

إضافةً إلى ذلك، يمكن للمنهج أن يكون قادرًا على تضمين العديد من اللغات المحلية التي يتحدث بها السوريون في مختلف المناطق، مثل العربية، الكردية، والسريانية، لكن في إطار تعليم مشترك يتيح للطلاب من مختلف الخلفيات الثقافية التواصل بشكل فعال، مما يعزز من شعورهم بأنهم جزء من الوطن، وليس مجرد مجموعة عرقية أو دينية منفصلة.

الهدف النهائي هو أن تكون المناهج أداة لخلق هوية وطنية سورية قادرة على التعامل مع التنوع بشكل إيجابي، تعزز من الوحدة والتماسك الاجتماعي، وتبني إحساسًا قويًا بالانتماء المشترك بين جميع السوريين، عبر إيجاد طرق تعليمية تسهم في تعزيز الفهم المتبادل، التقدير المتبادل، والشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه الوطن.

وفي هذا السياق، أي “توحيد المناهج”، لا بد من الحديث عن مبادرة وإرادة سياسية وشعبية ضرورية لدعم هذا المشروع وتموضعه ضمن خطة عمل إنقاذ وطني للأجيال الجديدة (مبادرة تتضمن دعم القوى السياسية والمدنية من مختلف الأطياف، إضافة إلى إشراك المواطنين من جميع الفئات الاجتماعية والثقافية في الحوار، لضمان تبني منهج موحد يعكس التعددية الثقافية والمواطنة المتساوية بين جميع مكونات المجتمع السوري).

وعلى الرغم من التحديات التي قد يواجهها هذا المشروع، مثل مقاومة بعض الأطراف التنازل عن سردياتها الخاصة، فإن الحل يكمن في تشكيل لجنة وطنية مستقلة تمثل جميع أطياف المجتمع السوري. تضم هذه اللجنة خبراء تربويين من جميع المناطق السورية، مع ضمان أن لا تكون محكومة بأي أجندة سياسية أو طائفية. تتبنى اللجنة منهج تعليمي شامل يحترم التعددية الثقافية في البلاد ويعزز قيم المواطنة المتساوية والتسامح بين الجميع.

تتعدى التحديات التي قد تواجه توحيد المناهج السورية العقبات السياسية والاجتماعية إلى التحديات القانونية، والتي تتمثل في عدم اعتراف العديد من الدول الخارجية بشهادات التعليم الصادرة عن الأطراف التي تبنت مناهج خاصة نتيجة الوضع السوري. وهذا يؤدي إلى انعدام القدرة على الاعتراف الدولي بالشهادات التي يتم الحصول عليها من المناطق التي تتبنى مناهج مختلفة، مما يحرم العديد من الطلاب من فرص التعليم العالي أو فرص العمل خارج البلاد.

هذه التحديات القانونية قد تزيد من تفاقم الانقسامات بين المناطق، حيث يصبح التعليم ليس فقط أداة لتشكيل الهوية الوطنية، بل أيضًا عائقًا أمام الوصول إلى الفرص الاقتصادية العالمية. وللتغلب على هذا التحدي، يجب أن تراعي عملية توحيد المناهج في سوريا شروطًا قانونية تضمن الاعتراف بشهادات التعليم على مستوى دولي، مما يعزز من فرص الطلاب السوريين في سوق العمل العالمية.

لضمان نجاح هذا المشروع، يمكن أن تبدأ عملية التوحيد في المواد الدراسية التي لا تحمل بعدًا إيديولوجيًا كبيرًا، مثل العلوم، الرياضيات، واللغات الأجنبية. هذا من شأنه تحسين مستوى التعليم وتقليص الفجوات بين الطلاب. وبعد ذلك، يمكن توسيع نطاق التوحيد ليشمل المواد الحساسة مثل التاريخ والتربية الوطنية، على أن يتم الاتفاق عليها بشكل تشاوري بين جميع الأطراف. الهدف هنا هو ألا يتم فرض سردية تاريخية واحدة، بل إيجاد مناهج تنظر إلى التاريخ السوري من منظور شامل وعادل.

أهمية توحيد المناهج تتجاوز الجانب التعليمي لتشمل البعد السياسي والاجتماعي. من خلال توحيد المناهج، يمكن أن تتأسس هوية وطنية شاملة تقرّب بين السوريين وتساعد في توحيدهم حول قيم مشتركة. هذه الهوية ستسهم في تعزيز الاستقرار السياسي وتحقيق المصالحة الوطنية في المستقبل. في حال تحقيق هذا التوحيد، يمكن أن يؤدي إلى استقرار سياسي أكبر، حيث سيتعلم الأفراد من مختلف المناطق في إطار تكافؤ الفرص، ما سيعزز من عملية إعادة بناء سوريا بعد سنوات من الحرب.

اقتصاديًا، سيكون لتوحيد المناهج تأثيرات قصيرة وطويلة المدى على سوق العمل السوري. على المدى القصير، يمكن أن يؤدي تحسين جودة التعليم إلى خلق فرص عمل أكثر استقرارًا، حيث يصبح الطلاب مجهزين بالمهارات الأساسية المطلوبة في مختلف القطاعات. أما على المدى الطويل، فإن تأسيس نظام تعليمي موحد يمكن أن يسهم في تعزيز الابتكار، وزيادة الإنتاجية، وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة. كما أن الاستثمار في التعليم المهني والتقني يمكن أن يكون مدخلًا رئيسيًا لدعم الاقتصاد الوطني، حيث يتم إعداد الطلاب لسوق العمل بشكل عملي وفعال، مما يعزز من قدرة البلاد على إعادة البناء والتنمية.

رغم التحديات الكبيرة التي قد تواجه توحيد المناهج، إلا أن هذه الخطوة تمثل إحدى الركائز الأساسية لبناء هوية وطنية سورية موحدة، ستساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد، وتساهم في معالجة الانقسامات التي تشهدها. إذا تم تنفيذ هذا المشروع بشكل مدروس، سيكون التعليم في سوريا المستقبلية أحد الأدوات الأساسية لإعادة بناء الأمل في الوحدة، ويساعد في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المستدام.

الترا سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى