هل علينا أن نحذر من الحرب الأهلية؟/ حسام جزماتي

2025.05.12
رفض معظم السوريين وصف ما جرى في وطنهم، خلال السنوات اللاهبة الماضية، بأنه «حرب أهلية». عبّر جمهور الثورة عن هذا في مناسبات عدة، كما صرّح بذلك النظام ومؤيدوه حين كانوا يزعمون أن الاحتجاج عليه مؤامرة خارجية لا مطالب داخلية من أهل البلد.
ولم تأت هذه الحساسية من فراغ. فهناك فارق كبير بين أن تكون ثائراً ضد الظلم والطغيان والاستئثار، سلماً أو حرباً، وبين أن تكون «أحد أطراف النزاع» في صراع محلي. وكذلك بين أن تكون ذراع «الدولة» التي زعمت احتكار الشرعية والدفاع عن وحدة البلاد وأمان العباد، وبين أن تكون عنصراً في قوات عسكرية مدججة مهمتها حماية عرش الأسد واستثمار بعض الشعب ضد بعضه الآخر.
انقضى كل ذلك حين هرب الرأس تاركاً النظام تحت وطأة تكسّر مفاجئ، وقواعده البشرية قيد الذهول، وخصومَه المنهكين في خضم فرح غامر أدار رؤوسهم على غير توقع. وإثر الانتصار السهل، وكلفته البشرية القليلة نسبياً بالقياس إلى المخاوف؛ ساد بين السوريين تفاؤل جارف بمستقبل واعد لبلاد محررة ومزدهرة. لم يتوقع أحد أن المسار سيكون يسيراً معبّداً لكن الجميع ظنوا، أو أمِلوا، أن صفحة «الحرب» قد طويت، وأن الباقي مصاعب هائلة لكنها اقتصادية وإعمارية وخدمية وإدارية وسياسية. ولكن ذلك بدا «مقدوراً عليه» طالما أننا «بالحب بدنا نعمّرها».
قد لا يكون الحب شرطاً لازماً لبناء البلدان، أو استعادة عافيتها، لكن حداً أدنى منه لازم لضمان السلم الضروري لأي تحرك. فضلاً عن أن الكره ليس شعوراً فحسب، بل أرضاً خصبة لقيام «حرب أهلية» موصوفة. واليوم، بعد خمسة أشهر على التحرير، نلاحظ شكاً في موجة التفاؤل التي رافقته، بل تراجعاً كبيراً عنها في بعض البيئات.
في الحقيقة لم يكن بشار الأسد عنواناً لمعسكره من الرافضين للثورة فقط، بل رمزاً للتغيير الذي ينشده آخرون وضعوا الإطاحة به في أول مطالبهم. وبهذا المعنى كان وجوده علامة على أن النزاع سياسي مهما خالطته عصبيات أهلية لطالما استند إليها نظام الأسدين، وتكاتفٍ مضاد استقر تدريجياً على أوساط أغلبية من السنّة العرب. ولذلك كسرت الإطاحة به الأسوار السياسية، الآيلة للسقوط وشبه المزيفة، للصراع الذي بدأ يسلك السبيل الأسهل لوجوده، وهو الطائفية السافرة.
ليس مستغرباً أن تبدأ معالم التشقق بالظهور على الحدود العلوية. فللطائفة دور مركزي في دعم الأسد، وإن لم يكن وحيداً، وبينها أعداد أكبر من المتهمين بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. وهم مطلوبون للمحاكم في حال استوى أمر العدالة الانتقالية المنشودة، أو معرّضون، بشكل عشوائي يخلطهم بغيرهم من المدنيين، لأعمال انتقامية لا تتبين فيها حدود العدل عن الثأر الجماعي. لم يحدث هذا في مطلع آذار المنصرم فقط، بمجازر معروفة، بل قبل ذلك وبعده في حوادث بالمفرّق سوى ما تكثف جملة.
ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن «الحوادث الفردية» لم تطل العلويين فقط، والمرشديين الذين يمازجونهم في الجغرافيا والأصول، بل حصلت في معظم الأراضي السورية وفي بيئات السنّة أنفسهم. فحين عاد الثوار إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم، فاتحين، أطلقت الصدور المنتشية سراح ثارات معتقة حبيسة تجاه من كانوا أعوان النظام، بقواته النظامية أو الرديفة (الدفاع الوطني وسواه) أو المخبرين (العواينية). وفي ذاكرة الأرياف، وحارات المدن، سجلٌ لكل من كان مسؤولاً عن اعتقال ثوار عادوا أو بلعتهم الأجهزة الأمنية والسجون، وحساب طويل على التجبر والإهانات والابتزاز والاستيلاء على المنازل والأراضي. ورغم أن هذا ليس مشتهراً على نطاق واسع فإن أعمال القتل المحلي أو الملاحقة أو الوعيد الصريح حدثت بوفرة في حواضن الثورة.
وإذا كان كل ما سبق قد جرى تفهمه، أو فهمه، في سياق غليان الغضب في عروق «أولياء الدم» كما يسمّون، من الناجين أو من ذوي الضحايا خلال الثورة، فإن انتقال الزمجرة الدامية لتهديد بيئات أخرى صار يطرح سؤالاً عن الكراهية مؤخراً. فمن المعروف أن تسجيلاً صوتياً مجهولاً أساء إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، فجّر أحداثاً أوسع تجاه الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء، وحتى في حق طلاب جامعيين. وقد سبق لطائفة الموحدين أن ابتعدت، إلى حد غالب، عن المشاركة في «الصراع السوري» قبل سنوات، والتزمت، قدر ما تستطيع، بعدم التحاق أبنائها بالخدمة الإلزامية ما عدا بعض الحالات والشرائح الموالية منها.
وإذا كان العقلاء في الدين، وعلى رأسهم المفتي أسامة الرفاعي، والسياسة، ومنهم ممثلو السلطة الحالية، قد اتفقوا على الضبط والتهدئة؛ فإن أنياب «الفصائل غير المنضبطة» على الأرض وفي المجال العام، أثبتت أن الضواري تتعطش بقوة لنهش جسد الآخر، بعد تكفيره دينياً وتخوينه وطنياً بتعميم توجهات معينة على الجميع، والبحث عن العدو لا الصديق. وقالت هذه الأحداث إن متاريس العقل هشة وإنها تهتز بعنف على أياد كثيرة مضرجة بالدم.
ولا يخفى أن جمهور الكارهين هذا يهمُر بالاتجاه الشمالي الشرقي، ملوحاً للكرد بأن ما يحول بينهم وبين التعرض لسيوفه وفؤوسه هو الاتفاقات التي جرى توقيعها والتي يُنتظر تنفيذها، وفق تفسيرات لم تتضح معالمها، على يد لجان ربما لا تصل إلى نتائج تشبع شهوات سطوة جمهور يرى نفسه في صف موحد حتى الآن.
وبالانطلاق من النقطة الأخيرة فإن شعور الاتحاد متماسك فقط في مواجهة آخر. أما حين يسترخي أهل الدار فلا ضمانة ألا تستيقظ خلافات البيت الواحد، الفصائلية والعشائرية والمناطقية، فتكون الساطور الذي يقصم ظهر البلد.
ولذلك، لا إمام سوى العقل مهما بدا هذا الكلام هرماً. ومهما قيل إنه تنظير لا يلبي غرائز جيل لم يعرف غير الحرب، التي لم تكن أهلية.
تلفزيون سوريا