الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 13 أيار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

—————————–

هل علينا أن نحذر من الحرب الأهلية؟/ حسام جزماتي

2025.05.12

رفض معظم السوريين وصف ما جرى في وطنهم، خلال السنوات اللاهبة الماضية، بأنه «حرب أهلية». عبّر جمهور الثورة عن هذا في مناسبات عدة، كما صرّح بذلك النظام ومؤيدوه حين كانوا يزعمون أن الاحتجاج عليه مؤامرة خارجية لا مطالب داخلية من أهل البلد.

ولم تأت هذه الحساسية من فراغ. فهناك فارق كبير بين أن تكون ثائراً ضد الظلم والطغيان والاستئثار، سلماً أو حرباً، وبين أن تكون «أحد أطراف النزاع» في صراع محلي. وكذلك بين أن تكون ذراع «الدولة» التي زعمت احتكار الشرعية والدفاع عن وحدة البلاد وأمان العباد، وبين أن تكون عنصراً في قوات عسكرية مدججة مهمتها حماية عرش الأسد واستثمار بعض الشعب ضد بعضه الآخر.

انقضى كل ذلك حين هرب الرأس تاركاً النظام تحت وطأة تكسّر مفاجئ، وقواعده البشرية قيد الذهول، وخصومَه المنهكين في خضم فرح غامر أدار رؤوسهم على غير توقع. وإثر الانتصار السهل، وكلفته البشرية القليلة نسبياً بالقياس إلى المخاوف؛ ساد بين السوريين تفاؤل جارف بمستقبل واعد لبلاد محررة ومزدهرة. لم يتوقع أحد أن المسار سيكون يسيراً معبّداً لكن الجميع ظنوا، أو أمِلوا، أن صفحة «الحرب» قد طويت، وأن الباقي مصاعب هائلة لكنها اقتصادية وإعمارية وخدمية وإدارية وسياسية. ولكن ذلك بدا «مقدوراً عليه» طالما أننا «بالحب بدنا نعمّرها».

قد لا يكون الحب شرطاً لازماً لبناء البلدان، أو استعادة عافيتها، لكن حداً أدنى منه لازم لضمان السلم الضروري لأي تحرك. فضلاً عن أن الكره ليس شعوراً فحسب، بل أرضاً خصبة لقيام «حرب أهلية» موصوفة. واليوم، بعد خمسة أشهر على التحرير، نلاحظ شكاً في موجة التفاؤل التي رافقته، بل تراجعاً كبيراً عنها في بعض البيئات.

في الحقيقة لم يكن بشار الأسد عنواناً لمعسكره من الرافضين للثورة فقط، بل رمزاً للتغيير الذي ينشده آخرون وضعوا الإطاحة به في أول مطالبهم. وبهذا المعنى كان وجوده علامة على أن النزاع سياسي مهما خالطته عصبيات أهلية لطالما استند إليها نظام الأسدين، وتكاتفٍ مضاد استقر تدريجياً على أوساط أغلبية من السنّة العرب. ولذلك كسرت الإطاحة به الأسوار السياسية، الآيلة للسقوط وشبه المزيفة، للصراع الذي بدأ يسلك السبيل الأسهل لوجوده، وهو الطائفية السافرة.

ليس مستغرباً أن تبدأ معالم التشقق بالظهور على الحدود العلوية. فللطائفة دور مركزي في دعم الأسد، وإن لم يكن وحيداً، وبينها أعداد أكبر من المتهمين بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. وهم مطلوبون للمحاكم في حال استوى أمر العدالة الانتقالية المنشودة، أو معرّضون، بشكل عشوائي يخلطهم بغيرهم من المدنيين، لأعمال انتقامية لا تتبين فيها حدود العدل عن الثأر الجماعي. لم يحدث هذا في مطلع آذار المنصرم فقط، بمجازر معروفة، بل قبل ذلك وبعده في حوادث بالمفرّق سوى ما تكثف جملة.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن «الحوادث الفردية» لم تطل العلويين فقط، والمرشديين الذين يمازجونهم في الجغرافيا والأصول، بل حصلت في معظم الأراضي السورية وفي بيئات السنّة أنفسهم. فحين عاد الثوار إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم، فاتحين، أطلقت الصدور المنتشية سراح ثارات معتقة حبيسة تجاه من كانوا أعوان النظام، بقواته النظامية أو الرديفة (الدفاع الوطني وسواه) أو المخبرين (العواينية). وفي ذاكرة الأرياف، وحارات المدن، سجلٌ لكل من كان مسؤولاً عن اعتقال ثوار عادوا أو بلعتهم الأجهزة الأمنية والسجون، وحساب طويل على التجبر والإهانات والابتزاز والاستيلاء على المنازل والأراضي. ورغم أن هذا ليس مشتهراً على نطاق واسع فإن أعمال القتل المحلي أو الملاحقة أو الوعيد الصريح حدثت بوفرة في حواضن الثورة.

وإذا كان كل ما سبق قد جرى تفهمه، أو فهمه، في سياق غليان الغضب في عروق «أولياء الدم» كما يسمّون، من الناجين أو من ذوي الضحايا خلال الثورة، فإن انتقال الزمجرة الدامية لتهديد بيئات أخرى صار يطرح سؤالاً عن الكراهية مؤخراً. فمن المعروف أن تسجيلاً صوتياً مجهولاً أساء إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، فجّر أحداثاً أوسع تجاه الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء، وحتى في حق طلاب جامعيين. وقد سبق لطائفة الموحدين أن ابتعدت، إلى حد غالب، عن المشاركة في «الصراع السوري» قبل سنوات، والتزمت، قدر ما تستطيع، بعدم التحاق أبنائها بالخدمة الإلزامية ما عدا بعض الحالات والشرائح الموالية منها.

وإذا كان العقلاء في الدين، وعلى رأسهم المفتي أسامة الرفاعي، والسياسة، ومنهم ممثلو السلطة الحالية، قد اتفقوا على الضبط والتهدئة؛ فإن أنياب «الفصائل غير المنضبطة» على الأرض وفي المجال العام، أثبتت أن الضواري تتعطش بقوة لنهش جسد الآخر، بعد تكفيره دينياً وتخوينه وطنياً بتعميم توجهات معينة على الجميع، والبحث عن العدو لا الصديق. وقالت هذه الأحداث إن متاريس العقل هشة وإنها تهتز بعنف على أياد كثيرة مضرجة بالدم.

ولا يخفى أن جمهور الكارهين هذا يهمُر بالاتجاه الشمالي الشرقي، ملوحاً للكرد بأن ما يحول بينهم وبين التعرض لسيوفه وفؤوسه هو الاتفاقات التي جرى توقيعها والتي يُنتظر تنفيذها، وفق تفسيرات لم تتضح معالمها، على يد لجان ربما لا تصل إلى نتائج تشبع شهوات سطوة جمهور يرى نفسه في صف موحد حتى الآن.

وبالانطلاق من النقطة الأخيرة فإن شعور الاتحاد متماسك فقط في مواجهة آخر. أما حين يسترخي أهل الدار فلا ضمانة ألا تستيقظ خلافات البيت الواحد، الفصائلية والعشائرية والمناطقية، فتكون الساطور الذي يقصم ظهر البلد.

ولذلك، لا إمام سوى العقل مهما بدا هذا الكلام هرماً. ومهما قيل إنه تنظير لا يلبي غرائز جيل لم يعرف غير الحرب، التي لم تكن أهلية.

تلفزيون سوريا

————————————–

علمانية الطوائف السورية/ ابتسام تريسي

12/5/2025

مصطلحان اثنان نالهما الابتذال أكثر من أيّ شيء مبتذل في الواقع السوري اليوم، الأوّل لوضع العصي بالعجلات، والثاني لتعطيل تحقيقه، وهما العلمانية، والعدالة الانتقالية. فأن تطلب العلمانية من حكومة جاءت من منبت ديني متشدد فهذا يعني أنك لا تريد لهذه الحكومة أن تحقّق أيّ هدف وضعته رغم تخليها (خطابيًا) عن هذا التشدد. أمّا عمليًّا فتحتاج لبعض الوقت؛ كي تحوّل أقوالها لأفعال، هذا الوقت الذي لا يريد المعترضون السوريون أن تحصل عليه.

أمّا العدالة الانتقالية -إن تحققت- فستطول رؤوسًا كثيرة جدًا لا يرغب المعترضون بأن تُحاسب، وكثير منها يُشكّل قوام القوة العسكرية التي حاولت الانقلاب على السلطة الجديدة، بدايةً في الساحل السوري، ثمّ في الجنوب السوري، وهذا يُفسِّر حالة التعنت الشديد الذي يتمسك به “حكمت الهجري” القائد الروحي لجزء من الدروز، والمتبني للمجلس العسكري الذي يريد تحرير دمشق من سلطة الأمر الواقع.

    شعارات المعارضة الحديثة

“نريد سوريا علمانية مدنية يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، ويكون للمرأة دورٌ بارز في إعادة بناء الدولة”. شعار سمعناه آلاف المرات من نخب ثقافية بارزة حينًا، ومتواضعة أحيانًا، نادى به مثقفون سنّة يساريون، ومثقفون علويون، ودروز، وأكراد، وامتلأت به مساحات السوشيال ميديا المقروءة، والمسموعة، والمرئية.

لن أتطرق بالشرح لمفهوم العلمانية فهو متاح لكلّ باحث، لكنّي سأذكر أحد الآراء التي رجعت للعصر الأندلسي واستخرجت بذرة الفكرة من ذلك العهد، إذ لما رأى المسيحيون في الأندلس المسلمين وعلاقتهم بربهم -حيث لا واسطة بين المسلم وربه- طالبوا بأن يكونوا مثلهم، وأن يجدوا طريقة يتخلصوا بها من الوسيط بين المسيحي وربه، هذا الوسيط الذي يبيعهم صكوك الغفران، ويفرض عليهم الأتاوات، ويتواطأ مع الملوك لإخضاعهم لسلطة الكنيسة، نمت هذه البذرة، وتكاثرت أغصانها لتغدو في زمن الثورة الفرنسية شعارًا يردده الفرنسيون جميعًا (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قس).

    مأزق اليساريين السوريين

لقد مرّ زمن طويل جدًا ليقتنع عامة الناس بفكرة العلمانية التي فرضها الشعب عبر ثورة عظيمة بعد أن هضم الفكرة جيدًا. أمّا في سوريا وفي بلادنا العربية عمومًا، فغالبًا لا نجيد إنتاج الأفكار، ونستسهل استيرادها، ونبرّر ذلك بحجة الاستفادة من تجارب الشعوب بغض النظر عن مكونات الخلطة الكيميائية المتباينة بين هذه الشعوب، ونتوقع دائمًا الحصول على النتيجة ذاتها. فاليساري السوري الدرزي ينضوي تحت لواء شيخ العقل، ويمتثل لأوامره، ومن ناحية ثانية يمنع الميراث عن أخته، وإذا تزوجت من غير الطائفة يقتلها، وفي الوقت نفسه يُطالب بدولة علمانية، حتى أنّ الابتذال وصل حدَّ مطالبة شيخ العقل ذاته بدولة علمانية وفي الوقت نفسه يضع على بدلة رجل الأمن الذي عيّنه شعار (يا سلمان) فكيف يطالب الشيخ بفصل الدين عن الدولة، أليس من الأولى أن يعزل نفسه أولاً، ثمّ يتقدم بمثل هذا الطلب؟

    العدالة الانتقالية القشة التي يتعلّق بها المجرمون

أمّا عن العدالة الانتقالية فلا ذكر لها عند الشيخ حكمت ومجلسه العسكري وقد وصل به الأمر حد المطالبة بإعادة عناصر الجيش، ودفع رواتب للمجرمين المختبئين في مجلسه العسكري، رغم أنّ بعضهم من كبار المجرمين في العهد البائد.

في الجانب الآخر، وكي لا يبدو الأمر دفاعًا عن طائفة بعينها نجد بعض اليسار السنّي يقع في الحفرة ذاتها إذ نراه يتلعثم عند ميراث أخوته البنات، وقد يستعيد إيمانه بالله إن اقتضت المصلحة ذلك.

أما الجماعة الكردية التي تأوي عصابة قنديل (pkk ) فالأمر لا يتوقف عند هذه التناقضات، بل يتعداه إلى ما هو أخطر من ذلك فاختطاف القاصرات والأطفال وتجنيدهم عسكريًا في خدمة حزب العمال الكردستاني يُعد جريمة الجرائم التي لا يقبل بها دين أو نظام علماني على وجه الأرض، ومع ذلك يريدون سوريا علمانية.

    الأسد فكرة والفكرة لا تموت!

هذا الواقع الأسود الذي تعيشه سوريا اليوم، هو نتاج طبيعي لما أفرزه الاستبداد الأسدي الذي جعل من السهولة بمكان ارتباط بعض المكونات بأجندات خارجية تلعب في الملف السوري كما تشاء مصالحها، يُساعد في ذلك مجمل الأخطاء التي وقعت فيها السلطة الجديدة والتي تحاول جاهدة تسوية النزاعات بطرق سلمية قد تضطرها لتنازلات هي بغنى عنها، خاصة وأنّها تعلم جيدًا أنها مرحلة انتقالية يجب أن تنتهي بدستور يرضى عنه العالم (المتحضر) قبل الشعب السوري الذي ما زال ينتظر العدالة الانتقالية، ورفع العقوبات الأمريكية عنه؛ كي تبرأ جراحه.

وعلى هذا الأساس ينظر السوريون المعتدلون إلى النشاط الخارجي للرئيس الشرع نظرة أمل لإيجاد حلّ للوضع السوري في أقرب وقت، بينما يحاول الطائفيون العلمانيون التغطية عليه بنشر قصص الخطف والاضطهاد من قبل الدولة الإرهابية.

فقد طلب مشايخ الدروز من العائلات الدرزية إعادة أبنائهم من جميع الجامعات السورية إلى السويداء، وانتشرت الفيديوهات التي علّق عليها الإعلامي الدرزي المعروف بمواقفه المُشرّفة من الثورة السورية منذ انطلاق شرارتها الأولى، قائلًا: “الرحيل الجماعي لطلاب السويداء من جامعاتهم في المحافظات السورية -بسبب الاعتداءات المتكررة عليهم على خلفية انتمائهم الديني-خبرٌ لن تجد له أثرًا في الإعلام المسمّى وطنيًّا! يا لعارنا!”. وللأسف لم يكن ماهر شرف الدين وحده الذي تبنّى التحريض الطائفي علنًا، بل كثر من مثقفي وإعلامي الطائفة.

وعلى الطرف الآخر ارتفعت نسبة شيطنة السنة من قبل العلويين الذين ركبوا ترند “السبي” فراحوا ينشرون صورًا لفتيات مخطوفات على أنّهنّ سبايا “الأمن العام” وأنّ إدلب صارت سوقًا للسبايا. ويتبين بعد أيام أنّ الخبر كاذب، وتظهر الفتيات في فيديوهات مسجلة ينفين تعرضهنّ للخطف، لكنّ المحرضين لا يتوقفون، ويستمرون في تسويق أوهامهم التي يتمنّون لو كانت حقيقة؛ كي يستطيعوا الطعن في الحكومة وتكريس صفة الإرهاب عليها.

المصدر : الجزيرة مباشر

———————————

التحريض الطائفي وخطاب الكراهية.. هل نحن المدانون؟/ جمال الشوفي

2025.05.13

تشهد الساحة الكلامية والخطابية السورية اليوم تزايداً في مؤشرات خطرها على النسيج الوطني. إذ لا يكاد يمضي يوم إلا وعديد الأحداث التي نتابعها ويتفاعل معها رصيد كبير من السوريين بطريقة تنحرف بعيداً عن تضحيات الثورة وعمرها الطويل. فانتشار خطابات التحريض الطائفية المتبادلة واتساع دائرة نفي ولجم المختلف رأياً او قولاً، وازدياد وتكرار معدلات الرفض المطلق والتي تتساوى مع خطاب الكراهية باتت لا تبشر بالخير أبداً، ولربما بكوارث كبرى. فإن كنت أفترض أن انفتاح الفضاء العام أم السوريين بعد قمع متراكم لعقود هو الرائز والمحرك لاستعار حمى الفوضى الثقافية والفكرية والسياسية الذي تعيشها سوريا اليوم كمرحلة أشبه ما تكون بالطبيعية في مراحل ما بعد تغير وسقوط الأنظمة الدكتاتورية كما شهدناها تاريخياً، لكنها بذات الوقت تضعنا جميعاً أمام مسؤوليات واستحقاقات المرحلة الحالية وأخطارها وسبل الإشارة لها وتداركها قبل فوات الأوان.

التحريض الطائفي وخطاب الكراهية هي الوجه الأخطر على النسيج السوري اليوم، وتتجلى أبرز سماته بـ:

– تقسيم الشعب السوري لموال وخائن، خائن وليس معارض! ومن أي الأطراف عامة.

– التعميم الجزافي وتجريم طائفة بأكملها: سنة متطرفون، دروز انفصاليون، علويون فلول….

– تزايد الإشاعات والتضليل الإعلامي خاصة المتداولة على السوشيال ميديا. فإن كانت كثير من الفيديوهات المنشورة صحيحة لكن يقابلها فبركات عديدة غير صحيحة، وهذا مجال للاختلاط والشك بالحقائق.

– تبادل التهم والتكذيب والشتائم واستسهال الإساءة.

– تكفير المختلف سياسياً ودينياً.

– زيادة مؤشرات التقوقع الطائفي.

– انخفاض صوت العقلاء وتهميش أقوالهم، فرغم كل ما يتكلمون به بتهدئة النفوس وتخفيف حدة الغلواء السائدة، لكن مطحنة التحريض والتجريم لا تتح لهذه الأصوات بالسماع…

قد يقول أحدهم وكأنك لا ترى من الكوب إلا نصفه ولا تشير إلا للسلبيات، لأكرر القول إن رؤية الواقع ومعاينته جزء أساسي من الحقيقة أولاً، ومن ثم العلاج ثانياً، فالتشخيص الصحيح جزء من العلاج الصحيح حتى وإن كان صادماً والعكس صحيح أيضاً. فالاكتفاء بالتوصيف السياسي هام لكنه غير كاف اليوم إذ باتت الواقع تتجاوزه للمحتوى والمضمون الثقافي. ما يجعل الوجدان السوري وقيمه الوطنية وتنوعه العام وارتباطه القوي تاريخياً ومصيراً في أهم درجات اختباره اليوم. هو موجود ويحاول جهده نبذ خطاب الكراهية والتحريض الطائفي المقيت، لكن موجة الأخير عالية وجب الوقوف عندها. وقد يقول قائل إنها موجة وإن علت لكنها زائلة ولن تدوم. رغم أني أتمنى ذلك، لكن ما بات يُرقب على مساحة الساحة السورية هو انكشاف لساحة ثقافية دفينة تتجاوز

الفعل السياسي الإجرائي، وهذا الاختبار والتحدي الأكبر. إضافة لذلك، أجد نفسي وأنا أدون هذه الجمل مدان في نفسي وفي ثقافتي، إذ لطالما كنا ولازلنا نحتكم لثقافة المحبة والخير والسلام، وندعو للحوار والانفتاح وتقريب المسافات فكيف وصلنا لهنا؟ ومدان لأنني أكتب عن الكراهية كثقافة وخطاب وهذا خطر كبير أرجو أن أكون مخطئ بتقديره.

أجل، ثمة ثقافة تنتشر كالنار في الحطب، حطب الذات السورية التي لم تستفق بعد من حجم مظلومياتها الثقيلة. فحجم التركة السورية من قتل وعنف وصراع دامي طال البشر والحجر والأطفال وكل صنوف الحياة ليس بالسهولة تجاوزه بنصر سياسي وتغيير سلطة وإسقاط نظام. بل تبدأ النفس البشرية البحث عما يؤمن لها طاقتها من الاستقرار وعنونة الوجود. وما نلاحظه اليوم هو استعار حمى إثبات الوجود بالأحقية المطلقة سواء ممن كانوا مسحوقين من أبناء الثورة وباتوا اليوم منتصرون، ما يجعلهم يستميتون لعدم تقبل أي رأي أو نقد مختلف، أو من الجهات الأخرى التي كانت مسالمة وتعيش في ظل النظام السابق موالية كانت له أو معارضة بصمت، إذ باتت تدافع عن وجودها حين تؤخذ بغرة غيرها بوصفها فلول! في حين المستفيد من هذه المشاهد المتكررة والمتوالية هم الساعون بكل جهودهم التقنية والإعلامية لهدم الاستقرار الممكن في سوريا وهدم تجربة الخلاص من نظام القهر والقمع البائد مولد كل ما نحيا من كوارث. وتقرير الوكالة البريطانية للأخبار (BBC) الذي يكشف أن التحريض الطائفي وبث خطاب الكراهية تقوم به أيادٍ خارجية تسعى لتأزيم الوضع السوري وتفتيته. والمشكلة التي يجب علاجها قبل تفاقهما هو استجابة الشارع الشعبي خلفها سواء بالموافقة الكلية أو الرفض الكلي، ما يجعل غياب العقل والتعقل والتدقيق فيما يقال أو يشاع هو المهيمن على الساحة السورية وسعرات الكراهية وثقافتها بتزايد.

الإشكال البارز في خضم هذه التواترات وما يرافقها من عنف محلي باستخدام السلاج هو تغييب وإدانة صوت العقل وثقافة السلام والبناء. أجل بتنا مدانون من ضفتي خطاب التحريض والكراهية المتبادل، مدانون لكون العاقل منا أراد ويريد مغايرة الواقع والخروج من ثقافة القهر والاعتقال والاضطهاد السياسي ونتائجها الكارثية لثقافة الحوار والعدالة بعيداً عن الانتقام، لثقافة الكلمة بعيداً عن السلاح.

اليوم مواجهة خطاب الكراهية والتحريض الطائفي مسؤولية سورية ثقافية، مسؤولية العقلانية والنخب السورية من جهة، ومسؤولية السلطة واعلامها في الابتعاد عن التحييز والتجيير وكشف الحقائق للعلن بوضوح، ومسؤولية الحكومة بتعدد وظائفها العمل على السلم الأهلي وفتح بوابات الجوار المحلية الأهلية والاجتماعية بين المختلفين في الآراء توصيفاً أو تشكيكاً، وصولاً لحوار الأديان والطوائف على اختلاف عديدها بالجهة المقابلة. وليس فقط بل أيضاً إصدار القوانين لصارمة بمحاسبة كل من يبث خطاب الكراهية والتفرقة الدينية والإساءة للرموز الدينية والتعايش السلمي وفقاً للقانون وبمرجعية القضاء والعدالة، تقليصاً لفكرة الانتقام وتهويناً على الأنفس والحد من الغلو السياسي والديني المتمظهر ثقافياً بسموم الكراهية والتحريض الطائفي.

حملت ثورة السوريين شتى صنوف التغيرات في الواقع المجتمعي والفكري والسياسي، شتى صنوف التناقضات والاختلافات والتباينات! وحتى لا نمارس ذات حكم القيمة السلبية ومحمولها السيء، أدرك أن مسيرة السوريين قد تداخلت في مساراتهم شتى صنوف الجريمة والتي لا يمكن تحميلها لجهة من دون غيرها؛ لكن من حق الجيل الذي عاصر الثورة، جيل القرن الواحد والعشرين وقد بلغ سن الشباب، جيل الانفتاح والتحولات الكبرى من حقه أن نكاشفه بما نحن عليه، بما كنا وكيف صرنا وكيف علينا أن نعمل معاً لتجاوز تحديات الواقع الحالي سياسياً وثقافياً. ولنوصف حينها بجيل الإدانة، لأننا ونحن نعاند مسار الانحدار هذا، علينا تحمل تركات الواقع النفسي والقهري الذي عاشه السوريين ولازال مستمراً لليوم وإن تغيرت المعادلة بين ظالم ومظلوم. ولنكن مدانون حين نقول أن كل السوريون مظلومون ما لم تتحقق العدالة والمساواة وما لم ينصف القضاء جماع المظالم السورية بأهلية القانون واحترام الاختلاف والدفاع عن السلم والسلام والأمان كأساس لبناء دولة الحق والقانون. وهذه مسؤولية جماعية متبادلة بين الحكومة وسلطاتها العامة وبين الشعب وتنويعاتها النفسية والثقافية.

نحن جيل الإدانة وجيل الحرب الذي يخسر به الجميع حتى المنتصر، ووجب علينا المكاشفة، النقد، البحث مرة أخرى في أحقية الوجود واهميته كقيمة جمعية يشارك فيها الجميع في تحقيق قيمة الذات الكلية. والذات الكلية هوية عامة وتعاقد على فعل الوجوب والوجود، أهم ميزاته تحقيق وتقدير الذوات للجميع من دون محاصصة أو خيلاء أو واسطة. ولن نكون ملامون إذا ما تمكنا من تدارك الانحدار الذي نعيشه وعلاج تركة الخيبات والآلام والحسرات وعدم تكرارها مرة أخرى.

لم أرغب بالدخول بتحليل سياسي في هذا الصدد إلا لأنني أتلمس ضعفه أمام الإشارة للواقع الثقافي السائد وأخطاره الجسام، ولأكن مدان بهذا أيضاً، فسوريا التي نريد وإن كانت بوابة ولوجها سياسية لكن افتراش واقعها وحياتها ثقافية واسعة تحتاج العناية والاشارة والدلالة.

تلفزيون سوريا

—————————

 فلول في ثياب الأمن العام.. من يفكك الألغام الاجتماعية من مخلفات الأسد؟/ عبد القادر المنلا

2025.05.13

بعد هروب بشار الأسد، اعتقد السوريون أن تلك الصفحة السوداء في تاريخ سوريا قد طويت إلى الأبد، وأن سوريا الجديدة قد بدأت تلملم جراحها وتكنس تاريخ تلك العائلة التي دمرت سوريا وشوهت نسيجها الوطني، تلك المرحلة الطويلة التي ابتدأت مع تسلط الأب على السلطة، ولم تنته إلا بعد أن أكمل الابن تدمير سوريا وتمزيقها..

وبعد أقل من شهر على التحرير، اكتشف السوريون مخلفات الأسد التي اتضح أن تنظيفها يحتاج  لفترة أطول مما كان متوقعاً، فبالإضافة إلى كميات الدمار والخراب والانتهاكات الجسيمة والمجازر الجماعية والمعوقين والمعتقلات وما كان يحدث فيها وملايين المهجرين وسرقة مقدرات البلد وحجم الفقر والحاجة الذي وضع فيه النظام السابق السوريين قبل وبعد رحيله، فلقد تم اكتشاف كمية كبيرة جداً من الألغام المنتشرة في كل مكان في سوريا، ولكن تلك الألغام لا تتوقف عند الألغام الأرضية المادية المتعارف عليها، فثمة نوع آخر أشد خطراً وفتكاً بالمجتمع السوري وهو الألغام الفكرية والاجتماعية والمتمثلة في الزراعة المتعمدة للطائفية وهي الألغام التي بدأت تنفجر تباعاً وتضع السوريين في مواجهة خطر قد يقضي على حلمهم في بناء دولتهم الجديدة.

بدأت أول تلك الألغام تتفجر بظهور الفلول التي قامت بعمليات لم تستهدف الأمن العام فقط ولا حلم السوريين وحسب، بل استهدفت بالدرجة الأولى الطائفة العلوية التي كان معظم أبنائها متوافقين مع سوريا الجديدة وفرحين بالتخلص من الأسد مثلهم مثل باقي المكونات السورية، راهن الفلول على رد فعل الدولة الطبيعي والذي تمثل في حملة عسكرية مضادة انفلتت في بعض الأحيان لتتحول إلى حالة انتقام من أبناء الطائفة، وهو بالضبط ما كان هدف الفلول للتأسيس لمرحلة من الفوضى وإثبات الاتهامات على الدولة الجديدة على أنها تستهدف طائفة محددة، الأمر الذي أنهى شهر العسل الذي عاشه الساحل السوري، وأدى إلى تهديد السلم الأهلي والذي يكاد اليوم أن يتبدد إن لم يتم التعامل معه بشكل احترافي وموضوعي ونزع تلك الألغام سريعاً..

ورغم أن الجرائم التي ارتكبت ضد الأبرياء والانتهاكات التي حدثت في الساحل تم نسبها إلى فصائل متشددة، وأفراد خارجين على القانون، إلا أن ذلك لا ينفي مشاركة الفلول فيها سواء بالمشاركة الفعلية أو من خلال التسبب فيها، غير أن كثير من الروايات التي تواردت -وهذه لا يمكن إثباتها أو نفيها حتى الآن- تؤكد مساهمة الفلول في قتل أبرياء من الطائفة العلوية ونسبها إلى تلك الفصائل للمساهمة في زيادة صب الزيت على النار، ثم تطورت آليات عمل الفلول حيث راحوا يرتدون ملابس الأمن العام ويرتكبون المجازر، وهو ما يؤكده قتل شخصيات علوية كانت معروفة بمعارضتها لنظام الأسد حيث تضرب الفلول عصفورين بحجر من خلال ارتكاب تلك الجرائم، أولها الانتقام من معارضي الأسد من الطائفة العلوية، وثانيها اتهام الدولة بهم، لأن تلك الطريقة وحدها هي ما يضمن تأليب السوريين ضد القيادة الجديدة ولا سيما أن الطابع الديني والمتطرف أحياناً الذي أبدته بعض الفصائل سيسهم بشكل كبير في إقناع الرأي العام المحلي والدولي بصحة نسبة تلك الانتهاكات إلى الدولة..

هذا لا ينفي بالتأكيد الجرائم التي ارتكبها أفراد وفصائل محسوبون على الحكومة الجديدة وعلى الأمن العام ووزارة الدفاع، ولكن الفلول اتبعت أيضاً  ذات طريقة النظام البائد وأساليبه الشيطانية في معالجة أزماته، ففي بداية الثورة السورية وقبل أن يحمل أحد من السوريين السلاح لم يتردد نظام الأسد بقتل كثير من عناصره وجنوده وحتى بعض ضباطه، ليثبت أن ما كان يحدث ليس ثورة وإنما عمليات إجرامية تقوم بها مجموعات مسلحة إرهابية تقتل الأبرياء، وتبدو الفلول اليوم بحاجة لذات الذرائع التي اعتمدها النظام لتشويه الثورة حينها لكي تتمكن من تشويه صورة الحكومة الجديدة اليوم، فعقلية الفلول لا تختلف عن عقلية نظامهم وقدراتهم الإجرامية لا تقل عن قدراته ومستوى الانحطاط الأخلاقي لديهم لا يقل عن مستوى الانحطاط الأخلاقي لنظامهم البائد، بل ربما تفوقوا عليه في الانحطاط بعد أن فقدوا السلطة وفقدوا أيضاً بوصلتهم الإجرامية التي كانت تستهدف المعارضين للأسد بشكل رئيسي وأضحت اليوم ترتكب الجرائم بشكل عشوائي ولا تتردد في قتل أفراد من الطائفة العلوية، فبهذه الطريقة وحدها تضمن إزعاج الحكومة الحالية وقضّ مضاجعها واستدراجها إلى موقع الدفاع عن النفس..

ومع الإقرار باحتمالات قابلية كل ما سبق ليكون حقيقة، إلا أنه ليس الحقيقة الوحيدة، فثمة اليوم فئات عديدة من الفلول الذين يعملون لصالح الأسد الفارّ من دون قصد، وربما يعتقدون أنهم يعملون لصالح الحكومة السورية ولصالح الدولة، وأول هؤلاء هم العناصر المحسوبة على الدولة الجديدة والتي ترتكب جرائم قتل بحق الأبرياء من الطوائف الأخرى ظناً منها أنها تسهم في بناء الدولة من خلال التخلص من أفراد لا ينتمون لذات العقيدة التي ينتمون هم لها، وهي أكبر خدمة تقدم للفلول وللمتربصين من الحريصين على عرقلة مسار الدولة السورية وإفشالها، أو أولئك الذين يجرّمون طائفة كاملة فقط لكون الأسد ينتسب إليها وهؤلاء يقومون بالقتل وكأنه فعل وطني، وهذا سلوك لا يختلف عن سلوك الفلول في شيء لا من حيث الفعل نفسه ولا من حيث النتائج المترتبة عليه..

في ذات السياق، يلعب كثيرون من مؤيدي الحكومة الجديدة دوراً لا يقل عن دور الفلول في تنزيههم للفصائل التي ترتكب الانتهاكات وإنكارهم لأي خطأ ترتكبه الحكومة بل وتحويله إلى فضائل، سواء كان ذلك بسبب الانتماء الطائفي أو بسبب الحماس الزائد للدولة الجديدة وحكومتها أو بسبب الجهل والتشدد، وهي ذات طريقة أتباع النظام السابق في تقديسهم للأسد وإنكار جرائمه، في حين إن مساعدة الحكومة الجديدة والوقوف إلى جانبها في سعيها لبناء الدولة يتطلب الاعتراف بأخطائها والحرص على نقدها وعدم تبرير أي خطأ يتم ارتكابه لأن ذلك سيؤدي إلى تراكم الغش والخديعة وتوسيع الهوة بين مكونات الشعب السوري والتي تحاول الحكومة أن ترممها، على الأقل في حين يتعلق بالموقف الرسمي والتصريحات العلنية..

النوع الآخر من الفلول يتمثل في أولئك الداعمين للإشاعات والذين تهمهم الشائعة أكثر مما تهمهم الحقائق، وهؤلاء موجودون في كل المكونات، حيث تلتقي الشائعة مع رغباتهم فيسعون بكل طاقتهم إلى نفي الحقائق وإحلال الشائعات مكانها حتى لو تم دحض الشائعة، وهؤلاء يدعمون مشروع الفلول بقوة بل ويتحولون إلى جزء منه في حين هم يعتقدون أنهم يحاربون ذلك المشروع..

منذ أيام أصدر مفتي سوريا فتوى بتحريم الدم السوري، وبالأمس صدر قرار هام للغاية من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يقضي بتجريم كل الأصوات التي تحرض على الكراهية ومساءلة أصحابها مدنياً وجزائياً وتحويلهم إلى القضاء لاتخاذ العقوبات الرادعة بحقهم، وهي خطوات على طريق لجم الطائفية المستشرية والحد منها، ولكن المعركة لا تزال طويلة ومعقدة لأن الدمار النفسي والاجتماعي الذي خلفه نظام الأسد لا يزال يتحكم بكثيرين من أبناء الشعب السوري من كافة الطوائف والمكونات، وهنا تبدو المراهنة على نشر الوعي هي الطريق الأمثل لحماية الشعب السوري من سرطان الكراهية وأمراض الطائفية الخبيثة..

لقد آن الأوان لتفعيل القوة الناعمة، وهي قوة الثقافة والتي لا تزال حتى الآن شبه معطلة نظراً للمخاض العسير الذي تمر به البلاد، غير أن الالتفات إلى قوة الفعل الثقافي وقدرته على المساهمة في ترميم المرحلة يبدو اليوم من أهم الأسلحة وأكثرها فاعلية، وهنا يمكن استغلال المسارح والمراكز الثقافية لإقامة نشاطات وفعاليات أدبية وفنية وفكرية تنشر مفهوم المواطنة وتضعه فوق كل الاعتبارات الأخرى، وهو طريق أساسي ممهد ويساعد بشكل استثنائي في الخروج من دوامة العنف والعنف المضاد، والخروج من دوامة الإشاعات أيضاً، كما أنه الضامن لمشروع السلم الأهلي وأحد مرتكزاته الأساسية والذي لا يمكن أن يتحقق من خلال لجان تحقيق في الجرائم فقط، ولا في قوانين معينة، بل في نشر الوعي الذي يحتاجه المجتمع السوري ليتمكن من استئصال الأمراض المزمنة، ونزع الألغام الاجتماعية التي تركها الأسد على امتداد الأرض السورية، وبغير ذلك سيبقى من السهل على الفلول من كل الأنواع السابقة التي تم ذكرها ارتداء ملابس الأمن العام، وستبقى قدرات الشائعات أكبر من قدرات الحقائق..

——————————–

درّاجات الموت وجرائم القتل في حمص السورية/ وداد سلوم

13 مايو 2025

في عصر كل يوم وقبل أن ترخي الظلمة ستارها كاملاً على المكان تنشط حركة الدرّاجات النارية في عدة أحياء في مدينة حمص، باتت مسكونة بالأشباح والخطر، إذ يدخل الناس عصراً ولا يعودون للخروج، تقفل الأبواب، وتوصد جيداً حتى الصباح، انتهى عهد الزيارات والسهرات بين الأقارب والجيران والأصدقاء، حتى الشرفات في البيوت، يترصدها القتل كما الشوارع ذاتها.

تتحرّك الدراجات في كل الاتجاهات من دون خوف، بينما ينشر صوتها الخوف في قلوب الناس المترقبة. إنه مؤشّر لتحرّك الموت وتجواله العلني، بعد حين قد تسمع طلقات متفرّقة ثم يتم إعلان الخبر عبر مجموعات واتس أب وصفحات فيسبوك عن أخبار القتل، الذي تناول عائلات كاملة بينها الأطفال والنساء. إنه التسلسل المعتاد، الذي تجري وفقه الأحداث، ما خطف الأبصار عن حوادث الخطف التي تنتهي أيضاً بالقتل من دون معرفة الجاني.

لم تتوقّف الجرائم عند طائفة محدّدة، فهذه الأحياء ذات طابع مختلط لكن الغالبية من الطائفة العلوية. إذ كان هناك ضحايا من الطائفة المرشدية ومن السنة، ولكن الأغلبية كانت بشكل طبيعي من الطائفة العلوية.

في 3 إبريل/ نيسان الماضي، كانت الأم تسير مع طفليها في الشارع عائدة إلى المنزل في حي كرم اللوز، والعائلة أصلاً جرى تهجيرها من حي النازحين، مرّت قربهم درّاجة نارية عليها شابان، رمى أحدهما قنبلة (قيل أنها صوتية) على العائلة، ما أسفر عن قتل الطفل حيدر سليمان (12 عاما) واصيبت الأم والأخ الأصغر بجروح. كان استخدام قنبلة أمراً مثيراً ليس فقط للرعب والاعلام بل أيضاً مثيرا للاستفزاز لحجم الاستهتار بالوضع الأمني، وهذا بالذات ربما سبب تخفيض عتبة التصعيد زمنياً او بوسيلة القتل، فالجريمة الثانية وقعت بعد أسبوعين وفي الحي نفسه ولكن استبدلت القنبلة بإطلاق الرصاص. إذ أطلق شخصان على درّاجة نارّية في 19 إبريل/ نيسان النار على أم وابنتيها التوأمين (19 عاماً) في وقت عودتهن من بيت الجد توفيت الأم وابنتاها أمام نظر الأب.

لم يتوقف ذلك على وقتٍ معين، ففي حين أن الجريمتين المذكورتين كانتا في نهاية النهار وبدء الظلام، إلا أن بعض الجرائم كانت تتم أيضاً في وضح النهار؛ مثلاً في حي السبيل أقدم شخصان يستقلان درّاجة نارّية على إطلاق النار وقتل الشاب سليمان عيسى الحوراني في محله بتاريخ 25/4/2025. وكانت قد حدثت حادثة شبيهة بذلك  في وقت سابق باستهداف شابين أمام أحد المحال التجارية أسفر عن وفاة أحدهما في حي المهاجرين بحمص.

وأمام الأصوات المتصاعدة التي تتهم الجهات الرسمية بإغماض العين عما تفعله هذه الدرّاجات، التي تنوعت أعمالها بين القتل ورمي القنابل الصوتية في بعض الشوارع من دون هدف سوى إحداث الرعب من حين إلى آخر. أمام هذا، صدرت عدة توجيهات وقرارات بمنع مرور هذه الدرّاجات بعد الخامسة مساء في الأحياء السكنية، وتمّت مصادرة العديد منها غير المرخصة. وللأسف، يبدو أن آلية تطبيق القرارات كانت غير فعالة، وربما غير دقيقة، حتى أن بعض هذه الدرّاجات هاجمت الأمن العام في أحد الحواجز على خلفيةٍ بقيت غامضة وغير مفهومة. فكثيراً ما كان الأشخاص على هذه الدراجات ملثمين ويرتدون اللباس المموه حتى اختلطت صورتهم لدى الناس ولم يعد أحد قادراً على التمييز بين المجرم والمنتقم بشكل شخصي وبين أفراد تنتمي لقوى تابعة للحكومة. إلى درجة أن ما حدث في 22 إبريل/ نيسان كان لافتاً، إذ كانت الجريمة، حسب ما تداولته المواقع عن شهود عيان، أن الدرّاجة النارّية توقفت وترجل أحد الراكبين عليها ومشى باتجاه الضحية فواز رجب مع ابنة أخيه ( من تدمر يقطن في ضاحية الوليد)، اقترب القاتل منهما، ثم أطلق النار ببرود وعاد إلى الدرّاجة، حيث ينتظره شريكه، صعد وانطلقا.

تعدّى الاعتداء على المواطنين في الشوارع، وانتقل إلى البيوت، ففي الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) أطلق أحدهم النار على مفيد سليمان وأخيه معين سليمان وزوجته لينا ديوب وذلك من شباك المنزل المفتوح في حي كرم الزيتون.  وفي الـ4 من الشهر الحالي (مايو/ أيار) أطلق ملثمان يستقلان دراجة نارية، الرصاص على سحر إبراهيم وزوجها في شرفة منزلهما الأرضي، تعمل سحر(35 عاماً) مدرّسة لغة فرنسية ولديها طفلان، توفيت إثر إصابتها البليغة.

ومن استخدام البارودة الروسية إلى استخدام المسدسات وأحياناً بكاتم صوت. إذ قتل في اليوم نفسه شاب وهو عائد إلى منزله في جانب آخر من الحي. وبعد يوم، جرى اطلاق النار على عائلة في شارع الأهرام، الأم توفيت مباشرة وإحدى ابنتيها لحقت بها في اليوم الثاني بعد إصابة في الرأس. ذكر أن الجريمة كانت على خلفية تهديد العائلة للخروج من منزلها بغرض الاستيلاء عليه.

تعيش حمص أياماً صعبة على الصعيد الأمني، الذي يشكل تهديداً مباشراً لحياة الناس وللسلم الأهلي. إذ يجري اقتناص الأشخاص والعائلات وكأنهم العصافير من دون أدنى خوف من الإمساك بهم او المحاسبة، رغم السعي الحثيث إلى إعادة هذه الأحياء إلى الحياة. تشكل الجرائم المتتالية حاجزاً بين هذه الأحياء والانخراط في الحياة العامة أو النشاطات الثقافية والاجتماعية التي تقوم في مركز المدينة. ولا يخفى على أحد أن الخطف مسألة تشكل المانع الأكبر لدى الشباب والشابات، وهكذا تعود هذه الاحياء المستهدفة إلى التقوقع والانعزال.

بدأت الحوادث متباعدة، ثم صارت متقاربة إلى درجة أن تقع حادثتا قتل في ليلة واحدة أو في ليلتين متتاليتين، ويبقى السؤال مشرعاً من أين تأتي هذه الدراجات، وما السر في ظهورها واختفائها ناشرة الموت والرعب في الطرقات والبيوت من دون القبض على أحد الجناة؟ وماذا وراء اصطياد الناس العزّل، أهو القصاص الفردي والثأر والانتقام؟  أم هي رغبة في تهجير سكان هذه الأحياء عبر إثارة الرعب والخوف والإذلال؟ أم أنه إحراج للحكومة ومحاولة إظهارها بمظهر غير القادر على إدارة الحياة اليومية لمواطنيها؟ أما عن السلاح فهو متوفر على صفحات النت للتجارة التي تثير أسئلة كثيرة.

وفي كل الحالات، بين الضحايا أطفال ونساء يقتلون ظلماً ومن دون ذنب. وضحايا تدفع ثمن جريمة آخرين أو ثمن جرائم النظام البائد لمجرد انتمائها لطائفته، فأين القضاء الذي عليه أن يحمي المواطنين على أرض بلدهم، وأن يقف على مسافة واحدة من كل المواطنين، وعدم ترك الأمر للدوافع الشخصية بتحقيق العدالة واسترداد الحقوق وعدم التعدّي على حقوق الأبرياء؟

لم تعد حالات فردية، بل هي جريمة مستمرة. على الحكومة أن تدفع باتجاه إيقافها حتى تستوعب الوضع في حمص التي يقول عنها المراقبون منذ سقوط نظام الأسد المجرم إنها صمام الأمان لسورية كلها.

———————-

نعمة الطوائف ونقمة الطائفية: في العقد الاجتماعي وقلق الهوية السورية/ محمد خالد شاكر

13 مايو 2025

لم يشهد التاريخ السوري فرزاً دوغمائياً نكائياً طائفياً أكثر مما يشهده اليوم؛ فلم تعد الطائفية في سورية خطاباً شعبوياً على وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بقدر ما تحولت إلى حالة مرعبة، أصبحت تتسلّل رويداً رويداً إلى الخطاب السوري، إعلامياً، وثقافياً، وسياسياً.

قبل تأصيل ظاهرة تصاعد الخطاب الطائفي بسبب عدم تبلور الهوية السورية، تاريخياً، في إطار عقد اجتماعي يعكس تعدّدية المجتمع؛ لابد من التعريج على أسبابه المباشرة التي ولدت من رحم صراع دموي ومدمّر، فالتحوّلات القسرية التي طرأت على المجتمع السوري خلال سنوات الحرب 2012- 2024، دفعت بالشخصية السورية المذعورة إلى الانكفاء على خصوصيّتها ردّ فعل للواقع المحتدم؛ فتحول المجتمع السوري المسالم والمتآلف إلى خاصرة رخوة من الخوف والانقسام والتشظي طائفياً، وإثنياً، ومذهبياً، وسياسياً، وعسكرياً.

وكما تفرض التعدّدية السياسية نفسها ميزة لتعزيز قيم العدالة والحكم الرشيد في مواجهة الاستبداد، تشكل المجتمعات المتعددة طائفياً وإثنياً إحدى ميزات المجتمعات المتحضرة اليوم، وذلك من خلال حوكمة مؤسّساتها، التي تضطلع بصهر الهويات الفرعية في بوتقة الدولة الوطنية، فكلما أحسنت السلطات الحاكمة إدارة التنوّع والاختلاف، نجحت في إدارة التنوّع ونقلته من تعدّدية الصراع إلى تعددية التوازن والتكامل.

تواجه المؤسّسة الثقافية السورية اليوم المهمّة الأكثر إلحاحاً في طريق بناء الدولة السورية، وذلك في قدرتها على مواجهة الخطاب الطائفي الشعبوي المنفلت، وانتشال العقلية السورية من إرثها الثقيل المحمّل بعقود من القهر والخوف والموت والاستبداد.

لقد أصبحت الطائفية وجبة شهية مادتها الكراهية والتشفي والانتقام، فطفت على السطح مفردات الضد من الوطنية، كتسفيه الاعتقاد والخصوصية الدينية، والحديث عن تاريخية هذه الطائفة، وغموض تلك، ووصف هذه الطائفة بالغلو والكفر؛ يؤازرها سرديات لي عنق التاريخ من خلال الحديث عن علاقة هذه الطائفة بالمحتل الفرنسي، وربط تلك الطائفة بالنظام البائد، والأخرى بإسرائيل، قابله انكفاء على الخصوصية، أدّى إلى تصاعد حمّى الهويات الفرعية؛ وكأن السوريين يتجهزون لمرحلة ملوك الطوائف، في مرحلة أحوج ما يكونون فيها إلى وضع اللبنات الأولى لبناء الدولة السورية، وبلورة هويتها الوطنية الجامعة.

يرى جان جاك روسو ( 1712- 1778) “أن البشر مسالمون بطبيعتهم، لكن القوانين والمؤسّسات هي التي تفسدهم” في إشارة إلى طبيعة العقد الاجتماعي أو الدستور الذي يحكم الأفراد والجماعات، وبالأدق قدرة السلطة والقوانين على إيجاد آلية للالتزامات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، بوصفها علاقة جدلية تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى تحقيق الإرادة العامة، وتحقيق المصلحة الوطنية العليا للبلاد، فلا دولة بدون سيادة، ولا سيادة بدون إرادة عامة مشتركة، ولا إرادة عامة بدون عقد اجتماعي يعكس تطلعات الجميع.

أدّت التطورات التاريخية لفكرة الدولة بعد مؤتمر وستفاليا (1648) إلى إنهاء الحروب الدينية في أوروبا، وحل المشكلة الطائفية. كما أدّت التطورات التاريخية لمفهوم الديمقراطية والهزات التي عانتها أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الانتقال من فكرة الدولة القومية إلى دولة المواطنة حلّاً لإشكاليات الهويات الفرعية وصراعاتها، فأصبح الفرد وبغض النظر عن خصوصيته مواطناً له الحق في أن يكون له وطنٌ، لا يعيش فيه فحسب، وإنما يشارك في بنائه.

أسّست فكرة المواطنة لتدوين الحقوق الطبيعية، أو ما يسميها بالمفهوم الإيكولوجي عالم العقائد توماس بيري ( 1914- 2009) بـ “شريعة الأرض”، أي الحقوق التي تولد مع الإنسان وفي بيئته، ومنها الحقّ في الحياة والوجود، والحقّ في الحرية، والحق في التعبير، والحقّ في الكرامة، والحق في الملكية، بوصفها حقوقاً متأصلة في النفس البشرية وموجودة في مراحل ما قبل الدولة، ومن ثم، لا يحقّ لأية سلطة مصادرتها أو النيْل منها.

عرفت سورية أولى إرهاصات تشكيل الهوية الوطنية خلال فترة الحكم العثماني، عندما أسّس بطرس البستاني ( 1819- 1883) صحيفة “نفير سورية” أول صحيفة وطنية، كما أسّس “المدرسة الوطنية العليا” التي ضمّت طلاباً من جميع الطوائف.

منذ تأسيس الدولة 1920، لم تشهد سورية أي حراك جماهيري يعكس الممارسة الفعلية لديمقراطية قادرة على بلورة هوية سورية نابعة من فكرة سيادة الشعب. ولهذا، لم تعرف سورية حكومة وطنية بشرعية شعبية بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فقد كانت غالبية الحكومات السورية نتاج تحالفات كولونيالية. على سبيل المثال، ضمّت الوزارة الأولى بعد إعلان الاستقلال في مارس/ آذار 1920 مجموعتين، هما مجموعتا رضا باشا الركابي الموالي للإنكليز وعلاء الدين الدروبي الموالي للفرنسيين، تزامن ذلك مع تشكيل برلمانات بديمقراطية هشّة، أوصلت المتنفذين، والباشوات، والإقطاعيين، والتجار، وشيوخ العشائر من جميع الطوائف والإثنيات.

طوال فترة الاحتلال الفرنسي، استمر استنساخ الأزمة البنيوية للهوية السورية نتاجاً كولونيالياً، فتشكّلت هوية سياسية نخبوية هي الأخرى من تجّار المدن، وكبار ضباط الجيش العثماني السابقين، والإقطاعيين، وشيوخ القبائل، والأشراف، ورجال الدين، والوجهاء، بصفتها تركيبة غير متجانسة هوياتياً بالمعنى الوطني، تجمعها، أفقياً، المصالح وتقاسم السلطة، بينما تغيب، عمودياً، الجماهير السورية؛ في دولةٍ صُممتْ بالأساس بطريقة استعمارية، بحيث يصعب على أية دولة خارجية الانتصار فيها وحدها، كما يصعب على أي طرف سوري الاستئثار بها داخلياً. وهو ما يفسّر بقاءها محكومة بثنائية الانقلابات والاستبداد، كما هشاشتها في مواجهة التحديات الخارجية، بسبب متواليات القضم الجغرافي من أجزائها منذ الاستقلال.

مع انقلاب 1970 الذي أسس للمرحلة الأسدية 1970- 2024 جرى من جديد، وبطريقة ما، استنساخ التحالف الكولونيالي ذاته للهوية السورية، بوصف ذلك تركيبة جاهزة للاستئثار بالسلطة، حيث عقدت السلطة في مرحلة الأسد الأب وابنه تحالفاتها مع كبار التجار في تزاوج خبيث بين المال والسلطة، كما أعادت صياغة المشيخة من داخلها على أسس ولائية، وأفرغت العقيدة العسكرية للجيش واستبدلتها بالأجهزة الأمنية؛ فتحوّلت سورية إلى دولة عسكرتارية شمولية، تئن فيها جميع الطوائف والإثنيات تحت وطأة الولاء للسلطة، الذي نقل الهوية السورية من مرحلة القلق إلى الإلغاء، فعاشت سورية حكماً بوليسياً يخفي تحت رماده، جمر الصراعات البينية سياسياً، وطبقياً، ومناطقياً، وطائفياً، وعشائرياً، وهي التصدّعات التي أسّست في مراحل لاحقة لانفجار مجتمعات المخاطر في مارس/ آذار 2011.

أدّى تحوّل الثورة السورية إلى صراع طائفي مخيف وبدفع خارجي إلى تصاعد الهويات الفرعية السورية، وبالأخص المذهبية منها، ما دفعها إلى الانكفاء على خصوصيتها حالة طبيعية في النفس البشرية خلال الأزمات. وتصاعدت المسألة الطائفية أكثر مع سقوط النظام، خصوصاً مع رفض آليات إدارة المرحلة الانتقالية، التي رأت فيها باقي الطوائف وبعض الكرد، وكثير من النخب السنية، استئثاراً لسلطة دينية سنّية بعينها، تجافي تطلعات السوريين في التشاركية والمواطنة. وهو الموقف الذي يأخذ بالتزايد بين السوريين يوماً بعد، خصوصاً بين قوى المعارضة من السياسيين والعسكريين والمدنيين المنشقين عن النظام، الذين بدؤوا يشعرون بأنهم فئة غير مرغوب فيها في عقلية الحكم الجديد، ما يضع سورية أمام حالة من اتساع دوائر الانقسام السوري طائفياً، وإثنياً، وسياسياً.

يقف السوريون اليوم أمام استحقاقٍ أخير مهم ومفصلي، متمثلاً في الهيئة التشريعية ولجنة صياغة الدستور في مرحلة قلقة وهشّة يقف فيها الجميع أمام خطر وجودي؛ ولحظة تاريخية يجدُر بهم اقتناصها لإعادة صياغة هويتهم السورية من خلال البحث عن مشتركاتهم التاريخية، بدءاً من الأخذ بنعمة التعدّدية في المجتمعات المتحضرة، والتوجه إلى ما هو جامع. فهم عرب من مسيحيين وعلويين ودروز وسنة، وهم مسلمون من كرد وعرب.

سورية اليوم أحوج من أي وقت مضى إلى دستور عصري يؤطّر الهوية السورية، ويصوغ عقدها الاجتماعي في إطار دولة المواطنة، الكفيلة وحدها بإبعاد غول الطائفية الذي يطلّ برأسه على جميع السوريين، وفي أضعف حالاتهم من الجوع، والخوف، والدمار، والانقسام. وهي المهمّة التي تبدأ من ثورة ثقافية بخطاب سوري جامع، يطفئ نار النكايات الطائفية قبل أن يكتوي بها جميع السوريين.

العربي الجديد،

——————————

حرائق الطائفية في سوريا تشتعل من جديد وسط صمت العدالة/ دانيالا ويلسن

12.05.2025

القلق منتشر بشكل خاصّ بين الطلاب الدروز في دمشق، وفي حمص، وحتى في اللاذقية، بعد أن سُجّلت هتافات طائفية وتهديدات ضدّهم داخل الجامعات ومساكن الطلّاب، تقول الطبيبة الشابة:”شاركت في مظاهرة في ساحة الأمويين عندما سقط النظام، يبدو ذلك وكأنه زمن بعيد”.

في بلدة الصورة الكبيرة الدرزية الصغيرة الواقعة على مدخل محافظة السويداء من جهة دمشق، يلوح مقام الخضر الديني متفحّماً. الهواء مُشبع برائحة الحجارة المحترقة والقماش المشتعل. نجمة خماسية؛ رمز الديانة الدرزية، اقتُلعت من سقف المقام.

“دخلوا وهم يصرخون الله أكبر، ثم استخدموا شموع المقام ليُشعلوا فيه النار”، يقول ليث؛ عامل بلدية محلّي يرتدي الآن ملابس قتالية: “ثم أهانونا بهتافات طائفية”، يرفض  ليث قول المزيد خجلاً.

يقول رجل يقف بجانب ليث: “أنتم خنازير، خونة، أخواتكم عاهرات. هذا ما كانوا يصرخون به”.

بدأ الهجوم عند الفجر في 30 نيسان/ أبريل، وأمطرت قذائف الهاون على القرية لساعات. قرابة الساعة 6:30 صباحاً، وبعد توقّف وجيز سُمح للعائلات بالفرار، دخل مسلحون القرية، نهبوا البيوت، وأحرقوا المحالّ التجارية، وعبثوا بالمقام. لم ينجُ محلّ واحد، بحسب السكّان.

لم تكن هذه الحادثة معزولة، بل كانت جزءاً من موجة أوسع من العنف الطائفي، الذي استهدف المجتمعات الدرزية في سوريا، اشتعلت بعد تداول مقطع صوتي منسوب إلى شيخ درزي يُقال إنه أساء للنبي محمد.

سارع زعماء في الطائفة إلى نفي الاتّهام، كما أصدرت وزارة الداخلية السورية بياناً يوم الثلاثاء في 29 نيسان/ أبريل، أعلنت فيه فتح تحقيق، لكنّ الضرر كان قد وقع.

بعد واحدة من أشد أحداث العنف الطائفي في تاريخ سوريا الحديث، وثق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” قُتل ما لا يقل عن 134شخصاً بعد أسبوع من الاشتباكات في المناطق ذات الأكثرية الدرزية “السويداء، جرمانا، صحنايا، أشرفية صحنايا”.

شمل القتلى 88مقاتلاً درزياً، 14 مدنياً، 32 جندياً من وزارة الدفاع السورية ووزارة الداخلية، وقوات عسكرية تابعة لهم.

شهود عيان يقولون إن عناصر من إدارة الأمن العامّ، أي شرطة الدولة الداخلية،  كانوا حاضرين ومتواطئين، وتؤكّد بعض اللقطات التي انتشرت عبر الأنترنت وجودهم، لكنّ دورهم الكامل لا يزال غير واضح.

في الصورة الكبيرة، قُتل مدنيان، أحدهما كان عمّ ليث الذي: “كان جالساً فقط، أعزل. أطلقوا النار عليه، لم نتمكّن من سحب جثّته حتى اليوم التالي”، رصاصات فارغة على الأرض، وعلى جدار قريب، لطخات الدماء وثقوب أحدثها الرصاص تشهد على ما حدث.

يقول ليث بصوت متهدج: “اقتحموا أيضاً منزل والدي وعمره 82 سنة وضربوه، مزّقوا صورة عمّتي، رفعوها من على الحائط وداسوها، وهي كانت توفّيت قبل شهر”.

امتدّ العنف أيضاً إلى ضواحي العاصمة. في 29 نيسان/ أبريل، اندلعت اشتباكات في جرمانا، المدينة ذات الغالبية الدرزية جنوب دمشق. بعد أسبوع، امتلأت محطّة الحافلات في المدينة بمئات العائلات التي تحاول المغادرة، الطريق إلى السويداء مغلق، ولم يتبقَّ سوى بضع حافلات لنقل الناس.

ساندرا، طبيبة تبلغ من العمر 29 عاماً، تحاول الحصول على مقعد في إحدى الحافلات حيث الجو خانق، والركّاب يحشرون أنفسهم ثلاثة أشخاص في مقاعد مخصّصة لشخصين تقول: “كلّ الدروز يريدون العودة إلى السويداء. من بقي، بقي فقط بسبب عمله”.

العنف، الذي وثّقته مقاطع فيديو منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أثار قلقاً وجودياً في أوساط الطائفة، التي تخشى أن تلقى المصير نفسه الذي لاقاه علويون في مجازر الساحل، التي وقعت قبل أسابيع.

كلّ شخص من الذين التقيناهم يعرف أحداً مات، أو جُرح، أو فُقد، أو شارك في القتال.

القلق منتشر بشكل خاصّ بين الطلاب الدروز في دمشق، وفي حمص، وحتى في اللاذقية، بعد أن سُجّلت هتافات طائفية وتهديدات ضدّهم داخل الجامعات ومساكن الطلّاب، تقول الطبيبة الشابة:”شاركت في مظاهرة في ساحة الأمويين عندما سقط النظام، يبدو ذلك وكأنه زمن بعيد”.

تعمل ساندرا في مستشفى “المجتهد” في دمشق، ولا تعرف إن كانت ستحظى في السويداء بأمان أكثر من دمشق، لكنّها تبرر سفرها”على الأقلّ سأكون مع عائلتي”. “رأيت ذلك بعيني قبل أربعة أيّام”، تواصل بصوت منخفض: “وصل تسعة جرحى من صحنايا إلى قسم الطوارئ، حاولت إحضار طعام لهم، أوقفني الأمن العامّ، وسألوني عن اسمي، قال لي صديق إنهم سخروا من الرجال لأنهم دروز، كما طُلب من الأطباء عدم إجراء تدليك قلبي لرجل مصاب، وتوفّي لاحقاً”.

عند أحد الحواجز تتوقّف الحافلة، تنظر ساندرا بقلق إلى رجال الأمن العامّ الواقفين في الخارج: “لا أثق بهم. لكن ليسوا جميعاً متشابهين، بعضهم طلب من الآخرين أن يتراجعوا عندما سألوا عن اسمي. وليس كلّ السنة متشدّدين، بل العكس، لدي أصدقاء منهم ساعدوني على الحصول على إجازة من المستشفى”.

امرأة أخرى، تقف قريبة تستمع: “أنتِ تعملين في مستشفى المجتهد؟ جدّي أُصيب في صحنايا الخميس الماضي، سمعنا أنه نُقل إلى هناك، لكن عندما جئنا لرؤيته، طردنا الأمن العامّ، ثم قيل لنا إنه نُقل إلى داريا للاستجواب. لا أخبار عنه منذ ذلك الحين، مرّ أربعة أيّام، عمره 75 سنة”.

هذه الموجة من العنف الطائفي ليست مجرّد ردّة فعل، إنها تعكس أحقاداً قديمة، نزاعات على الأراضي، ودوائر انتقام، وتفتّت عميق في سوريا ما بعد الحرب.

سامي وردة، ناشط يبلغ من العمر 27 عاماً من جرمانا، يحاول توثيق العنف مع مجموعة من أصدقائه: “خلال الحرب الأهلية، انضمّ 300 رجل من بلدتنا إلى ميليشيات الشبّيحة، قاتلوا في المليحة في عام 2014″، المهاجمون مؤخّراً جاءوا من هناك: “بعض مقاتلي حزب الله كانوا متمركزين أيضاً في جرمانا، وشاركوا في تلك المجازر آنذاك”.

بعض التحالفات التي تشكّلت خلال الحرب الأهلية والنزاعات المحلّية تشكّل فوضى اليوم.

رعب صامت في الساحل

في حمص وعلى طول المحافظات الساحلية، موطن الأقلّية العلوية في سوريا، الإحساس بالتهديد واضح، وإن كان أقلّ ظهوراً حالياً.  في 6 آذار/ مارس، هاجم موالون سابقون للنظام القوّات الحكومية، مما أشعل مجازر أسفرت عن مقتل 1,334 شخصاً، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، منذ ذلك الحين، استمرّ العنف في الظلّ، أحد الاتّجاهات المقلقة: خطف نساء علويات

سجّلت “مجموعة السلم الأهلي “، وهي منظّمة غير حكومية تأسّست بعد سقوط الأسد، 72 حالة خطف نساء، منذ كانون الثاني/ يناير في شرق سوريا وحده.

علي حسن لم يسمع عن شقيقته منذ 13 نيسان/ أبريل شيئاً: “كانت بتول في حافلة متّجهة إلى صافيتا، كانت تراسل زوجها لتطمئن على ابنهما، ثم ساد صمت بعد الساعة الرابعة عصراً”.

آخر صورة لها تُظهرها مبتسمة، بالكحل حول عينيها، مصيرها مجهول يضيف حسن: “ذهبنا إلى الشرطة، واتّصلنا بمعارفنا في الأمن العامّ لا شيء”.

لا يتّهم حسن السلطات بشكل مباشر، لكنّ تقاعسهم يقول الكثير، يقول : “ليسوا مسيطرين، لا يملكون العدد أو القدرة، لو طُبّقت العدالة منذ البداية، لما حدث هذا كلّه”.

تعلو الأصوات المطالبة بتحقيق عدالة انتقالية. ضحايا، ونشطاء، وشخصيّات من المجتمع المدني يقولون إنها السبيل الوحيد لكسر دوائر الانتقام في سوريا، لكنّ السلطات تلتزم الصمت.

بعد مجازر آذار/ مارس، وعدوا بلجنة تحقيق، كان من المُفترض إصدار تقرير خلال شهر، تأخّر بالفعل لشهرين. هذا يغذّي شعوراً بالظلم، في الوقت الذي تخرج فيه سوريا من 14 عاماً من الحرب الأهلية، مُثخنة ولكنّ من دون دم.

درج

————————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى