“الفضيلة” في سوريا : كيف يتمدّد الخطاب المتشدّد والتضييق على الحريات الفرديّة ؟/ مناهل السهوي

16.05.2025
بات استهداف الحريات الفردية سلوكاً شائعاً، وإن لم يكن منظّماً دائماً، إلا أنه يدلّ على توجّه عام آخذ في الترسّخ، سواء تمّ ذلك برضى الحكومة أو بصمتها.
طلب محافظ اللاذقية من ممثلي ثلاث طوائف مسيحية تعميم ارتداء البوركيني في المسابح والشواطئ المختلطة، معتبراً أن بعض الملابس تسيء إلى “الأخلاق العامة”، مستشهداً بما حصل مع ابنه قائلاً: “إن أخلاقه انفسدت بتواجده في اللاذقية” بحسب ما نقل موقع “سناك سوري” المحلي.
هناك سلسلة من الأحداث والشهادات التي تشي بتزايد التدخل في الخيارات الفردية، بخاصة النساء، لجهة اللباس والعيش، من منع “الشورت” إلى التضييق على بيع الكحول. مؤشرات متصاعدة تثير القلق من انزلاق البلاد نحو نمط حكم ديني يُقوّض الحريات الفردية، لا سيما تلك المتعلقة بالنساء.
من يضيّق على الحريات الشخصيّة في سوريا؟
على الأرض، بات استهداف الحريات الفردية سلوكاً شائعاً، وإن لم يكن منظّماً دائماً، إلا أنه يدلّ على توجّه عام آخذ في الترسّخ، سواء تمّ ذلك برضى الحكومة أو بصمتها.
أوقفت سيارة أمنية تقلّ ستة عناصر الناشط عبد الرحمن كحيل في وسط مدينة حمص. وعند رؤيتهم فتاة برفقته، سألوه عنها، فأخبرهم بأنها خطيبته. لكن عناصر الدورية طالبوه بوثائق تثبت ذلك، ولم يكن بحوزته سوى “خاتم الخطبة”. اضطر كحيل للاتصال بأحد أقرباء خطيبته ليأتي ويؤكد العلاقة. وعلى رغم ذلك، تعرّض للضرب والإهانة قبل أن يُطلق سراحه لاحقاً.
كذلك، تمّت مداهمة عدد من المطاعم والبارات بذريعة “الأخلاق”، وفي ملهى “الكروان” أُطلِقَ النار وأُصيبت فتاة، كما تعرّض رواد مطعم “ليالي الشرق” للضرب والطرد بشكل مهين على يد مجموعة مسلحة في وسط دمشق، وتم تكسير محال بيع الكحول في مناطق متفرقة من سوريا أو منع بيعها بالكامل.
لا يمكن تجاهل هذا المناخ المتشدد الذي بات نمطاً في سوريا، سواء من السلطة أو الجماعات المتطرفة، بالتوازي مع تصاعد الخطاب التكفيري، هذا كله يثير مخاوف عامة، ليس فقط بين الأقليات، بل أيضاً بين السنة المعتدلين الذين يخشون أن يُحاصرهم التشدد ذاته.
تتوزع ممارسات التضييق على الحريات الفردية في سوريا بين جهات متعددة: منها ما يصدر مباشرة عن أجهزة أمنية، كما في حالة توقيف الناشط عبد الرحمن كحيل، ومنها ما يأتي من مجتمعات محلية محافظة. وهناك أيضاً انتهاكات غامضة المصدر، مثل حادثة إطلاق النار في ملهى “الكروان”، التي أنكرت السلطة علاقتها بها على رغم دلالات تشير إلى صلة غير مباشرة.
مؤثرو السوشيال ميديا المتطرفون باتوا أشد أثراً، والإعلاميون المنحازون الى السلطة يعمقون الشرخ، ويواجهون خوف الناس بالمزيد من الخطابات التحريضية والروايات التي تكذّب ما يحصل على الأرض.
فهل هذه الممارسات المتناثرة تمثّل طموح بعض أتباع السلطة أم السلطة ذاتها لفرض مناخ إسلامي متشدد يتسلل بهدوء إلى تفاصيل الحياة اليومية للسوريين؟
ميرا التي ارتدت النقاب طوعاً!
بالعودة إلى موضوع اللباس، فإن هذه الإجراءات تعكس توجهاً متزايداً نحو التضييق على حرية اللباس، سواء للرجال أو النساء. وإذا كانت الدعوات إلى “الحشمة” اليوم تُطرح في خطب الجمعة أو على وسائل التواصل، وتُترجم عملياً من خلال قرارات بعض المسابح، فما الذي يمنع الجهات الرسمية وغير الرسمية من فرض قيود أكبر في المستقبل؟
في قصة ميرا، الفتاة العلوية التي اختفت ثم عادت متزوجة وظهرت مرتدية “برقعاً” أزرق، سارع البعض إلى الدفاع عن المشهد باعتباره شكلاً من أشكال حرية النساء في اختيار لباسهن. لكن ماذا لو كان هذا اللباس تحديداً يحمل رمزية دينية متطرفة ولم يكن جزءاً من المشهد السوري قبل عام 2011؟
في هذا السياق، يصعب فصل حرية الاختيار الفردي عن الخلفية السياسية والأيديولوجية التي يمثلها هذا الزي، بخاصة في بلد لا يزال يعاني من آثار الجماعات المتشدّدة التي استخدمته كأداة للهيمنة على النساء والمجتمع بالتوازي مع حالات تضييق على اللباس.
أثارت قصة ميرا ضجة واسعة، ليس فقط بسبب الشكوك حول اختطافها، بل لأنها لامست صدمة حقيقية يعيشها المجتمع السوري، تتعلق بالخوف المزمن على الفتيات من التشدد الذي يستهدف الحريات الشخصية، فالظهور المفاجئ لفتاة ترتدي البرقع الأفغاني بات يُفهم كعلامة على “الخطف” أو حتى “السبي” الذي شهدته سوريا أيام حكم داعش، وسط تصاعد الشكوك حول تورّط جماعات أجنبية ومتطرفة في اختطاف فتيات، بخاصة مع استمرار اختفاء أكثر من خمسين فتاة وسيدة قسراً.
بعيداً عن الجدل حول رواية الأمن العام بشأن اختفاء ميرا وعودتها، تبقى هذه الرواية صادرة عن جهة رسمية في ظل تضييق على الإعلام وعرقلة دخول الصحفيين الأجانب وضبط عمل الصحفيين عبر الموافقات، ما يصعّب الوصول إلى معلومات دقيقة.
اللباس الشرعي الأفغاني، الذي عادت به ميرا، ليس زياً دينياً تقليدياً في سوريا، كما حاول مدافعون عن النظام الحالي القول، بل هو لباس لم يكن معروفاً قبل تمدّد المجموعات المتشدّدة، وتحديداً “داعش” بعد العام 2011.
قبل 2011، كان هناك نمطان أساسيان من اللباس المحافظ في سوريا. الأول، خمار ترتديه النساء، عبارة عن منديل أسود، يغطّين به الرأس والجزء السفلي من الوجه، مع نظّارات سوداء لإخفاء الملامح. أما الثاني، فهو النقاب المعروف، الذي يغطّي الوجه بالكامل مع فتحتين عند العينين فقط.
بعد اندلاع الحرب ووصول المقاتلين الأجانب وزوجاتهم إلى المنطقة، وتحديداً إدلب وريفها، بدأ يظهر لباس جديد، مشابه للباس الذي ارتدته ميرا، لكنّه كان يقتصر على اللونين الأسود أو البني.
ومع دخول تنظيم “داعش” في عام 2013، بدأ هذا اللباس يُوزّع مجاناً على النساء، باللون الأسود حصراً، واستمرّ الوضع على هذا النحو حتى العام 2018، حين أعلنت “هيئة تحرير الشام” السماح بارتداء ألوان أخرى مثل البني والكحلي، مراعاة لحرارة الصيف القاسية.
لاحقاً، وتحديداً بدءاً من العام 2022، بدأ هذا اللباس بالاختفاء تدريجياً، وعادت نساء كثيرات إلى ارتداء النقاب المعروف مع عباءات فضفاضة، لكن بعد سقوط النظام لوحظت عودة انتشاره في معظم المدن السورية، وبات يُصنع بألوان مختلفة.
قمع الحريات والمنظمة السياسيّة
التطمينات التي رافقت صعود السلطة الجديدة في سوريا، لم تُترجم إلى واقع. فبعد خمسة أشهر، تراجعت الحريات العامة بشكل ملحوظ. وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وخلال مقابلة مع صحيفة “التايمز” البريطانية، نفى الرئيس أحمد الشرع وجود نية لفرض الشريعة، متحدثاً عن مسار “طبيعي” يحترم الحريات الشخصية، مع مراعاة العادات الاجتماعية.
ترى الصحافية ميسا صالح أن تصاعد هذه الانتهاكات ليس مجرد انعكاس للفوضى أو تبعات الحرب، بل يشي بوضوح بإعادة إنتاج أنماط السيطرة الذكورية داخل مختلف أشكال السلطة، سواء كانت دولة “رسمية” أو كيانات بديلة، كما في حالة هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ في إدلب، حيث تتجلى معالم الذكورية ضمن بنية الحكم.
تقول ميسا: “في إدلب، كنا نشهد تمثيلاً واضحاً لسلطة شديدة المركزية الذكورية، لم تقف عند حد معين في ملاحقتها للنساء، ابتداءً من نظام “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ومن بعده قانون “سواعد الخير”، ثم محاولاتها في ما سُمّي “قوانين الآداب العامة”، واليوم يُعاد إنتاجها بأدوات جديدة: خطاب ديني، رقابة مجتمعية، فصل جندري، وتطبيع للعنف الرمزي والمباشر ضد النساء باسم “الفضيلة”، “الحشمة” و”الهوية الثقافية””.
تتابع ميسا: “تزايد الانتهاكات ضد الحريات الفردية، وخصوصاً تلك التي تطاول النساء في سوريا، ليس مجرد نتيجة عرضية للفوضى أو انعكاساً لثقافة أبوية متجذّرة فقط، بل هو ممارسة سياسية ممنهجة، تُشكّل فيها “كراهية النساء” أداة رئيسية لإنتاج السلطة وإعادة هندسة المجتمع”.
وتختم بالقول: “إنها تعيد إنتاج المنطق الذكوري الإقصائي نفسه، مع اختلاف في الأدوات والواجهات. ومن هنا، فإن أي دفاع جاد عن الحريات الفردية يجب أن يبدأ بتفكيك هذا التواطؤ العميق بين السلطة والذكورة، والاعتراف بأن عدالة النساء ليست مطلباً ثانوياً، بل معياراً جوهرياً لأي تحوّل ديمقراطي حقيقي في سوريا”.
الخوف يتسلل
تقول حلا (اسم مستعار): “على رغم غياب أي قرار رسمي بفرض زيّ محدد، أصبحنا نتجنب ارتداء الملابس التي تُظهر الأكتاف أو الذراعين، خشية التعرض لمواقف محرجة أو عدائية في الشارع”.
هذا المناخ يشير إلى اتساع نمط من القمع غير الرسمي، تغذيه ثقافة الخوف، ويبدأ بفرض نفسه في الحياة اليومية. وما يحصل لا يمكن فصله عن المشهد الأوسع، الذي تتراجع فيه السلطة الرسمية لصالح فصائل مسلّحة متطرفة، تتبع بمعظمها للسلطة الحالية، ما يؤدي إلى تقليص متسارع لمساحات الحرية، وإعادة إنتاج آليات القمع التي ميّزت مراحل سابقة.
درج