تحقيقان تناولا أزمة الطلاب الدروز

تعليم أبناء وبنات الطائفة الدرزية المُهدَّد/ خيرات عطالله
«هل يعقل أن يصبح الذهاب إلى الجامعة قراراً قد يُنهي حياتك؟»
14-05-2025
هل نعود الآن؟ هل نثق بالضمانات؟ وهل علينا أن نعود جميعاً أم أن نترك الخيار للأفراد؟ وما هو التصرف الأمثل في حال حدث شيء ما؟ هل يعقل أن يصبح الذهاب إلى الجامعة قراراً قد يُنهي حياتك؟
جاء السؤال الأخير في مناشدة تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، ونوقش مع الأسئلة الأخرى في جلسة في منتدى جذور الثقافي في السويداء بعد الاستماع لشهادات الطلاب الدروز في جامعات دمشق وحمص وحلب حول ما جرى. وبهدف رسم خط زمني لتطور الأحداث منذ 28 نيسان (أبريل) وحتى اليوم، تواصلت الجمهورية.نت مع مجموعة من الطلاب والطالبات، للاستماع إلى شهاداتهم-ن ونقلها إلى الرأي العام.
البداية من حمص
فجر يوم الإثنين 28 نيسان (أبريل،) تجمَّعَ بعض طلاب السكن الجامعي في حمص في مظاهرة غاضية نتيجة انتشار تسجيل صوتي لما أُشيع أنه لأحد مشايخ الطائفة الدرزية، يسيء فيه للنبي محمد. ورغم إعلان وزارة الداخلية السورية في تصريح صحفي فجر يوم الثلاثاء عن عدم صحة التسجيل، وأن الصوت لا يتطابق مع صوت الشيخ المذكور، لم يُلقِ الانفجار الطائفي الذي تتالى بسرعة بالاً لهذه التصريحات، إذ تزامن مع اشتباكات في مدينة جرمانا في ريف دمشق، التي تضم أكبر التجمعات السكنية الدرزية في سوريا خارج محافظة السويداء.
في الساعات الأولى لصباح يوم الإثنين، تحولت المظاهرة الطلابية الهاتفة بشعارات طائفية إبادية إلى تجمع غاضب داخل وحدات السكن الطلابي التي تتضمن طلاباً من أبناء الطائفة الدرزية، والذي تطوَّرَ إلى هجوم بالسلاح الأبيض على الوحدة الثانية، ومنها غرفة الطالب مجد الشيباني الذي تعرض لضربة على الرأس أدت لإسعافه إلى المشفى، ما استدعى تدخل الأمن العام الذي انتشر في المكان وأطلق رصاصاً في الهواء لتفريق المُجتمعين.
استمرت المناوشات أقل من ساعة بحسب أحد الطلاب، الذي طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من تهديدات قد تطال سلامة وأمن الطلاب الدروز بشكل عام، وكان لها أثرٌ سريعٌ في ارتفاع حدة الخوف بين جميع الطلاب، خاصة بعد انتشار فيديوهات المظاهرة في ساحة السكن وما رافق ذلك من توتر متصاعد أيضاً على صفحات السوشال ميديا.
ورغم تداول خبر إعلان إدارة السكن الجامعي عن توقيف خمسة طلاب على خلفية الحادثة، تجمّعَ الطلاب الدروز سريعاً وقرروا الخروج من السكن الجامعي والعودة إلى السويداء ريثما تهدأ الأوضاع؛ «في صباح يوم الإثنين تم التواصل مع باص لنقل الطلاب وتم إجلاء السواد الأعظم منهم، خصوصاً طلاب السكن، في حين بقي عدد قليل من الطلاب في السكن الجامعي وعدد من الطلاب الذين يعيشون خارج السكن»، يقول طالب ميكاترونك في السنة الخامسة.
ومع حلول المساء، وتصاعد الغضب العام بسبب التسجيل المزعوم، بدأت مظاهرات النصرة للرسول بالتوسع، وتخللها دعوة صريحة للعنف ضد الدروز، حيث شعر الطلاب المتبقون في حمص بالخوف، وتواصلوا مع المشرفين في مجموعة الطلاب على واتس آب، وأحصوا 33 طالباً وطالبة من السويداء تم تأمين عودتهم يوم الثلاثاء صباحاً بالتنسيق مع الشيخ أبو ربيع الفاعوري إلى جرمانا، التي كانت قد بدأت فيها اشتباكات منذ ليل الإثنين- الثلاثاء، وأوضح مجد الشيباني في مقابلة مصورة أن بعضاً من المهاجمين أنفسهم أسعفوه بعد رؤية النزيف الناتج عن الضربة، وبعد إجراء الإسعافات حرصَ مهند التركاوي، وهو مواطن من مدينة حمص ومن سكان مدينة جرمانا، على نقل مجد وأصدقاءه بسيارته الخاصة إلى مدينة جرمانا.
في حلب
بالتزامن مع التوترات في حمص، خرجت مظاهرة واسعة في المدينة الجامعية في حلب نصرة للنبي محمد، وخشي الطلاب على إثرها من اقتحام سكنهم بشكل مماثل لما حدث في حمص، فسافر بعضهم سريعاً إلى السويداء لتجنب أي صدام صباح يوم الإثنين، إلا أن الغالبية حاولوا التريث في المغادرة، خاصة مع التطمينات التي خرجت من المسؤول الأمني الجامعي في حلب تميم أبو عمر، والذي حاول احتواء الغضب الطلابي ضد التسجيل الصوتي لضمان عدم تطوره إلى تهجُّم واضح على أبناء الطائفة. لكن تَوسُّعَ رقعة الاشتباكات نحو أشرفية صحنايا صاعد التوتر والاحتقان والخوف، خاصة أن الأمن العام، مثل ما حدث في حمص، لم يقدم حلاً سوى تأمين باصات لنقل طلاب السويداء، ومرافقتها من حلب نحو كراج حرستا، ثم التواصل مع فصائل رجال الكرامة لتأمين بقية الطريق من حرستا إلى السويداء.
تقول والدة أحد الطلاب في السنة الأولى في كلية التمريض في حلب، التقت بها الجمهورية.نت للسؤال عن تأخُّر وصول طلاب جامعة حلب إلى السويداء: «خرجَتْ صباحَ يوم الأربعاء 30 نيسان (أبريل) حوالي 6 باصات تضم بحدود 300 طالب وطالب، الباصات كانت بحماية الأمن العام، وبعد أن قطعت استراحة حمص بقليل وصلت الأنباء عن حدوث كمين براق، وبالتالي تمت إعادة الطلاب إلى حلب». في منطقة براق، على طريق دمشق السويداء، اشتبكَ مسلحون مع رتل من فصائل السويداء المسلحة التي كانت متّجهة «فزعة» إلى أشرفية صحنايا، وذلك ما أدى إلى قطع الطريق بشكل كامل، وتعثَّر استكمال الترتيبات الخاصة بتوصيل طلاب الجامعة إلى دمشق بحماية الأمن العام، فتمت إعادة الطلاب إلى السكن الجامعي في حلب. مع عودة الطلاب، تعرض الطالب أدهم غنام إلى محاولة قتل بسكين، واتضح أن المهاجم فقد أحد أخوته في الاشتباكات الدائرة على طريق السويداء، وقرَّرَ الانتقام من الطالب أدهم أمام الوحدة 13 في السكن الجامعي في حلب بسبب طائفته، وطعنه مرتين مع كيل الشتائم الطائفية له.
حاول عناصر الأمن العام الذين أسعفوا الطالب أدهم احتواء الموقف، وتأمين طلاب السويداء الذكور بنقلهم جميعاً من وحداتهم إلى الوحدة الأولى «وحدة العرب والأجانب» تحت حماية مستمرة، في حين تم إبقاء الطالبات في وحداتهنّ مع تشديد الحراسة.
استمرت محاولة تطمين الطلاب بشكل حثيث، وزار رئيس الجامعة ووفدٌ من مكتب محافظة حلب الطلابَ، وزاروا الطالب أدهم في المشفى، إلا أن التوترات والمشادات الكلامية والغضب المشتعل أبقوا الأمور في وضع قلق، حيث أن الطلاب والطالبات الدروز كانوا محاصرين في غرفهم-ن دون قدرة على متابعة الدروس والمحاضرات رغم أن دوام الجامعة لم يُعلَّق. مع أول فرصة لعودة آمنة يوم الخميس 8 أيار (مايو)، تحركت باصات تقلّ الطلاب إلى السويداء.
في دمشق
خرجت مظاهرات نصرة رسول الله في دمشق أيضاً، وتم التهديد العلني باجتياح السويداء من ساحة الأمويين ما وضعَ الطلاب من أبناء الطائفة الدرزية، في سياق مشابه يدعو للقلق والخوف على سلامتهم-ن، في حين قدَّم الأمن العام حله الوحيد بمرافقة باصات الطلاب للخروج نحو جرمانا. ومع صباح يوم الإثنين وصل إلى جرمانا 28 باصاً من دمشق، يحملون حوالي 3000 طالب وطالبة حسب ما تم تداوله بين الطالبات اللواتي تواصلنا معهنّ، وانتشرت فيديوهات لخروج الطلاب من وحدات السكن الجامعي توضح العدد الكبير.
استضاف أهالي مدينة جرمانا الطلاب في بيوتهم، رغم أن المدينة نفسها كانت قد خرجت للتو من ليلة اشتباكات عصيبة ومخيفة، وكانت ما تزال تتعرض لتهديدات مستمرة، ولكن قطع طريق السويداء وارتفاع وتيرة الاشتباكات حال دون وصول الباصات إلى السويداء، ما جعل من جرمانا وجهة الباصات المحملة بالطلاب من دمشق وحمص واللاذقية، قبل أن يتم لاحقاً تأمينهم-ن بمرافقة فصائل السويداء المسلحة إلى السويداء.
مع وصول الطلاب إلى السويداء واستقرارهم-ن النسبي، بدأت تنتشر فيديوهات خروج الطلاب من وحدات السكن الجامعي في دمشق على وسائل التواصل الاجتماعي، ومناشدة وزير التعليم العالي الدكتور مروان الحلبي لإيجاد حل لاستمرار دوام الجامعات دون أي اهتمام بوضع الطلاب وعدم قدرتهم-ن على العودة لمقاعد الدراسة، وهو ما أثار حنق الطلاب الدروز وأهاليهم الذين باتوا قلقين على مستقبلهم-ن التعليمي وضياع السنة الدراسية عليهم.
الآن
مع هدوء الوضع الأمني في جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء، بقي مصير الطلاب معلّقاً أمام الخوف من العودة، وقد وجه جميع الطلاب الذين واللواتي تواصلنا معهم-ن النداءات لفهم تعقيدات الفصل الدراسي اليوم، خاصة في الكليات التي تتطلب امتحانات عملية، إذ يخشون خسارة السنة الدراسية، أو الرسوب في مواد كثيرة، في حين لا يبدو أن العودة للجامعات الآن أمر مطروح على الأرض.
التأثير الأسوأ سيُصيب طلاب السنوات الأخيرة في كلية الطب، الذين يمارسون مهنة الطب بصفة طبيب مقيم في مشافي دمشق، أو يخضعون لفترة تدريبية (استاج). يقول طالب طب سنة سادسة في مشفى دمشق للجمهورية.نت: «نحنا كطلاب استاجات ضمن المشفى، أو كطلاب مقيمين بعد التخرج، نعيش حالة من الخوف يسبق الحوادث الأخيرة، حيث حدثت سابقاً للأسف عدة اعتداءات على أطباء ضمن المشافي في دمشق، وكنا قد خرجنا ضمن وقفة احتجاجية ضد تواجد أي مظهر مسلح ضمن المشفى، ولكنني الآن ومع التجييش الطائفي أصبحت أشعر بالخوف المضاعف لأنني درزي».
في حين تقول طالبة في سنة التخرُّج من كلية السياحة في دمشق: «أنا طالبة سنة تخرج، حُرمت من العودة إلى الجامعة رغم أن هذا الفصل هو الأخير لي، ولم تنتظرنا الجامعة ولم تضع حلولاً حتى تقف معنا، والآن نحن لدينا امتحانات عملية لم نقدمها، ما يعني أننا راسبون، وأن كل أحلامنا مؤجلة للفصل القادم». بينما يحاول طالب طب سنة ثالثة في جامعة حمص أن ينقل دوامه إلى جامعة دمشق لكن جامعته في حمص ترفض التعاون؛ «لقد قدمت طلب استضافة في جامعة دمشق حتى أستطيع أن أستمر في دوامي، ولكن كان لا بد أن أوقّع الطلب من جامعة حمص وأعود به لدمشق، لكنني لم أستطع بسبب ما حدث، لذا حاول زملائي مساعدتي. وفي حين كانت الدكتورة عبير قدسي بدمشق متفهمة لوضعي، طلبت مني أن أقوم بتقديم ورقة لا مانع من جامعة حمص، حتى وإن كانت عبر الوتساب، إلا أن جامعة حمص رفضت بتاتاً أن تساعدني في هذا الأمر».
وفي الوقت الذي تتسارع فيه تصريحات محافظ السويداء ووزير الداخلية ووزير التعليم العالي حول وضع طلاب السويداء، لا يزال الطلاب والطالبات في بيوتهم-ن في السويداء محرومين ومحرومات من تعليمهم، ولا تزال العملية التعليمية سارية في كافة المحافظات السورية وفي الجامعات العامة والخاصة على حد سواء.
التصريحات الرسمية وشبه الرسمية
لم يصدر أي تصريح رسمي حول وضع الطلاب الدروز، لا حين تأججت الأوضاع الأمنية، ولا عندما استمر التعليم من دونهم، وبقيت القصة خارج اهتمامات الدولة حتى ظهور وانتشار فيديوهات الخروج من جامعة دمشق، التي أثارت جدلاً واسعاً وكانت مُناسَبة لتبادل الاتهامات العلنية على السوشال ميديا والإعلام الرسمي وشبه الرسمي. في تلك اللحظة، بدأت أعين الوزارات المعنية والمسؤولين المهتمين بالتفتح على الوضع العام، وانطلقت منذ يوم 8 أيار (مايو) سيولٌ من التصريحات والتحركات والنقاشات لاحتواء الموقف وضمان عودة الطلاب والطالبات إلى جامعاتهم-ن.
قدَّمَ الإعلام السوري الرسمي المتمثل بقناة الإخبارية السورية سردية محبوكة لما حدث لطلاب السويداء، تضمنت أولاً غياب أي صوت للطلاب، حيث لم يتم لقاء أي طالب أو طالبة من السويداء، في حين تم تقديم ريبورتاج من المدينة الجامعية في دمشق مفاده أن الطلاب خرجوا من تلقاء أنفسهم رغم عدم وجود أي مبرر لذلك، ضمن لقاءات مختلفة مع طالبات وطلاب من وحدات السكن الجامعي، ثم تعزيز هذه الخطوة بتصريحات من مدير المدينة الجامعية في دمشق عمار الأيوبي بأن «الادعاءات حول قيام إدارة السكن الجامعي بإجلاء قسري أو طرد طلاب من السكن الجامعي، هي ادعاءات غير صحيحة، وذلك عقب تداول مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاً مصوراً يزعم ‘إجلاءً قسرياً’ لطلاب محافظة السويداء في جامعة دمشق من المدينة الجامعية في منطقة المزة، مرفقة بعبارات تحريضية وادعاءات مضللة».
كما تجنبت الإخبارية السورية الحديث عن التصعيد الطائفي العنيف في حمص وحلب، وركزت على جهود الأمن العام في حفظ الأمن، ومنها الحديث بشكل إيجابي عن دور الأمن العام في تأمين وصول الطلاب إلى السويداء كبادرة إيجابية من الدولة وليس كحل وحيد، ولم تتحدث الإخبارية السورية في أي من تقاريرها المتعلقة بوضع طلاب السويداء عن محاسبات محتملة، أو حتى ضغوط نحو محاسبات وتحقيق عدالة، بينما تركَّزَ جُلُّ اهتمامها على توضيح خطوات الحكومة ومباركتها.
أما بالنسبة لحضور الفاعلين الأساسين في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، فقد ترافقت هذه التغطية الإعلامية الرسمية بالتركيز على أربعة فاعلين أساسيين وهم: وزير التعليم العالي مروان الحلبي الذي صرَّحَ للإخبارية السورية بأن أمن الطلاب أولوية لن يقبل التهاون فيها، بالإضافة لنص قرار يُجرِّمُ فيه التجييش الطائفي من قبل الأساتذة والطلاب في الجامعات السورية، دون أن يكون واضحاً بآليات تطبيقه وعواقب عدم الالتزام بها؛ ووزير الإعلام حمزة المصطفى الذي كثَّفَ تصريحاته منذ نشر فيديوهات الطلاب حتى لحظة كتابة المقالة حول لعب دور إيجابي في موضوع الطلاب والتجييش الطائفي؛ محافظ السويداء مصطفى البكور الذي يستمر في تقديم وجه السلطة المرن والمتفهم في كل الأحداث التي تمسّ محافظة السويداء، وقد أعلن عبر وكالة الأنباء الرسمية سانا عن اهتمامه بشكل خاص بحماية الطلاب والحفاظ على كرامتهم-ن، وذلك في محاولة للملمة قصة الطلاب وعودتهم-ن لجامعاتهم-ن؛ أما وزير الداخلية، الذي اجتمع مع وفد من وجهاء السويداء ووزير التعليم العالي لمناقشة الخطوات العملية لموضوع الطلاب، وأعلن عن العمل مع وزارة التعليم العالي لضمان أمن الطلاب الدروز في جامعاتهم-ن دون أن ندري كيف ينوي القيام بذلك.
تسعى السلطات الرسمية لإنهاء هذا الملف كمشكلة دون الاعتراف بأسبابها بشكل واضح، أي دون الإشارة إليها على أنها نتيجة اقتتال واحتقان طائفي، إلا أن كل المؤشرات تدل على أن الطلاب سيتم تعويضهم-ن عن الفاقد من المحاضرات والدروس التي تغيبوا عنها، وهو ما نأمله لمصلحة الطلاب، وما نقرأه على أنه اعتراف من السلطة بأن الحدث لم يكن حدثاً عابراً، بل ظرف محدد بأثر عميق في وضع السلم الأهلي السوري.
ينتظر الطلاب في السويداء اليوم نتائج عملية لما صرَّحَ به وزير التعليم العالي حول جعل الجامعات مكاناً آمناً للطلاب ومساحة خالية من العنف والكراهية والطائفية، بينما ينتظر السوريون جميعاً تفعيل دور مؤسسات الدولة بشكل رسمي، إذ لا يمكن التهاون في خطورة استخدام حق التعليم كورقة ضغط سياسي تنحاز لأي طرف، وبالتالي يجب أن يكون تحييد الطلاب والمقرات الدراسية كمساحات آمنة مطلباً أساسياً لضمان مرحلة انتقالية وسلم أهلي.
*****
معدة هذا التقرير هي صحفية سورية من مدينة جرمانا، اختارت الكتابة باسم مستعار حرصاً على سلامة أهلها هناك.
موقع الجمهورية
—————————————
اختبئوا هنا ولا تقولوا إنّكم من السويداء”… متى يعود الطلاب الدروز إلى جامعاتهم؟/ رواد بلان
السبت 17 مايو 2025
للأسبوع الثاني على التوالي، تخلو الجامعات السورية من أبناء طائفة المسلمين الموحدين الدروز، المهجّرين من الجامعات السورية، بعد أن خرجت أصوات تكفيرية متشددة مطلقةً شعارات طائفيةً، وداعيةً إلى الجهاد وقتل الدروز، في مشهد ترهيب طائفي غير مسبوق في تاريخ سوريا الحديث.
ما سبق يشكّل صدمةً كبيرةً لآلاف الطلاب وعائلاتهم، إذ لا يزال صدى الهتافات الطائفية والتهديدات بالذبح في آذانهم، بينما ترنو عيونهم إلى المستقبل، وسط جدل متصاعد حول سبل تأمين عودتهم إلى جامعاتهم، بدءاً من توفير الحماية، ووقف التجييش الطائفي بحقّهم، الذي يلقي بظلالٍ قاتمة على النسيج الاجتماعي المتهتّك أصلاً.
بيئة جامعية طاردة وخوف وجودي
لم يمضِ وقت طويل على توديع كريم، الطالب في كلية الهندسة (سنة ثالثة)، والمقيم في المدينة الجامعية في حمص، زملاءه من أبناء الطائفة السنّية، حيث كانوا يتبادلون الأحاديث وتتردد ضحكاتهم في الأرجاء، حتى تجمهر عدد من الطلاب السنّة وهم يرددون التكبيرات التي أصبحت للأسف تُقرَن بصور القتل والذبح الطائفيين، من قِبل مجموعات متشددة بدأت تظهر في الجامعة. لا يكاد يمر يوم دون أن تتجول مجموعة ليلاً مطلقةً شعارات طائفيةً، ثم تنفضّ بعد وقت قصير. لكنها هذه المرة كانت مختلفة.
يقول لرصيف22: “هذه المرة كانت الشعارات الطائفية موجهةً ضد الدروز بشكل مباشر، وتدعو إلى الجهاد ضدهم وذبحهم أينما وُجدوا. فجأةً، سقطت كل القيم المشتركة، وغابت الأخلاق. ما زلت أشعر بالصدمة. هل هؤلاء طلاب جامعات يُفترض أنّ لديهم القدرة على التفكير؟ يبدو أنهم لا يحملون سوى أفكار سيئة تدعو إلى للنيل منّا. ونحن الدروز، نشارك الجميع مناسباتهم، من عيد الفطر والأضحى، إلى عيد الميلاد ورأس السنة”.
لم يكن كريم، خلال حديثه إلى رصيف22، قادراً على التعبير عن مشاعره بوضوح، إذ يختلط لديه الخوف مع الحزن. يقول: “خلال الأشهر الأخيرة، أُجبرنا على مغادرة مقاعدنا الدراسية ثلاث مرات بسبب الأوضاع في البلد. لكن هذه أول مرة نُجبر فيها على المغادرة لأننا دروز. شعرت وكأنني اقتُلِعت من منزلي وسُلبت حقوقي لأسباب طائفية بحتة”.
ويضيف: “بعد مغادرتي، تواصل معي أناس من مختلف الطوائف حتى وصلت إلى منزلي. هناك من لا يزال يصون الكلمة الطيبة والعيش والملح”.
بعد أيام من أحداث جامعة حمص، شعر كريم، بأنّ مستقبله انهار. وفي كل مرة كان يظنّ فيها أنه قادر على الاستمرار، كان يعود إلى نقطة الصفر. يقول: “أنا حزين على أصدقائي. لم أعد أعلم كيف أتعامل معهم أو كيف ينظرون إليّ”، مستبعداً عودته إلى جامعته هذا الفصل، آملاً أن تحمل الأشهر القادمة نوعاً من الاستقرار. “نريد أن نشعر بالأمان، وأن نكرّس مبدأ ‘الدين لله والوطن للجميع’، وألّا يُسأل أحد عن طائفته. نحتاج إلى إعلام وطني يقف معنا، لا ضدنا، وأعتقد أن هذا مطلب غالبية الناس”، يضيف.
يرى كريم، أنّ “هناك فئةً تحتاج اليوم إلى رفع الوعي، وإعلام مهني وصادق، لأن الإعلام ووسائل التواصل ساهما في التجييش الطائفي، وزوّرا الحقائق”.
فقدان الثقة والخوف من الانتقام
يشاطر مضر، ابن محافظة السويداء والطالب في جامعة حمص، زميله كريم الشعور بالصدمة. يقول لرصيف22: “لم أصدّق ما سمعته في تلك الليلة: شخص يصرخ وسط مجموعة طلاب يحملون عصيّاً وأسلحةً بيضاء قائلاً: ‘يجب أن نذبح كل درزي نراه، وكل من يدافع عن سلطان الأطرش’، ويدعو الطلاب الدروز إلى النزول لمواجهتهم”.
لم يخرج أحد لمواجهتهم بالطبع، لكن سرعان ما بدأوا بالتكبير مجدداً وهجموا على الوحدات السكنية، مستهدفين غرف الطلاب الدروز، خاصةً في الوحدات الأولى والثالثة والتاسعة، حيث خلعوا الأبواب واعتدوا عليهم بالضرب، وفق ما يقول مضر، الذي كان مع مجموعة من أبناء السويداء في الطابق الأخير، حيث أغلقوا الباب بإحكام، بينما التكبيرات والشعارات الطائفية تملأ المكان.
طرق بابهم زميل من القلمون لم يكن يعرفهم من قبل، وسألهم إن كانوا من السويداء، ثم دعاهم للاختباء في غرفته، قائلاً: “إن وصلوا إليكم، لا تخبروهم بأنّكم من السويداء، فهؤلاء مجموعة من المتشددين المجانين”. وبقوا هناك حتى جاءت “قوات الهيئة-الأمن العام”، التي حاولت تفريق المهاجمين، واعتقلت شخصاً يُدعى عباس، وهو إمام جامع المدينة والمحرّض الرئيسي.
مضر، الذي رفض ذكر اسمه الصريح خوفاً من الانتقام، لا يعتقد أنه سيعود إلى جامعته هذا العام، بسبب غياب الأمن. يقول: “لا أستطيع التفكير في الأمر، فقد أُستهدَف أو أفقد حياتي في أي لحظة، وسيُقال إنه خطأ فردي”.
سرعان ما انتقلت نيران التحريض الطائفي إلى المدينة الجامعية في حلب، حيث تجمعت نهاية الشهر الماضي، مجموعة من الطلاب المتشددين الذين رفعوا شعارات طائفيةً ضد الدروز، إلى جانب سيل من الشتائم والتهديدات، بحسب ريان، وهو طالب سنة أولى في جامعة حلب. يقول ريان، لرصيف22: “التزمنا بعدم الردّ لتجنب أي صدام، فقد شعرنا بأنّ عددهم يمكن أن يتضاعف فجأةً. وبرغم أن بعض الزملاء من غير طائفتنا ساندونا قدر استطاعتهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من مواجهة المتشددين”.
الحديث اليوم بين طلاب السويداء المهجّرين من جامعاتهم، يتمحور حول العودة أو عدمها، في ظلّ مشاعر مختلطة من الحزن على ضياع عام دراسي، والقلق من مستقبل مجهول، والخوف من التشدد الطائفي.
يأمل مضر، في العودة يوماً ما، خاصةً أن بينهم طلاباً على أبواب التخرج، ما يتطلب تدخلاً من إدارة الجامعة والأمن العام لضبط المتشددين الذين يعتقدون أن قتل الدروز وسيلة لدخول الجنّة.
أحلام تتبخر
روعة، طالبة في السنة الرابعة في جامعة حلب، كانت تنتظر حفل تخرجها بعد الامتحانات النهائية، مثل المئات من طلاب السويداء، لكن تلك الأحلام تلاشت مع اضطرارهم إلى المغادرة بسبب التجييش الطائفي. تقول: “حاولنا دائماً نشر المحبّة بين زملائنا، لنثبت للجميع أننا لسنا طائفيين، ولا نتدخل في عبادة أحد ولا نعتدي على أحد. نريد الاحترام المتبادل فحسب”.
وتضيف لرصيف22: “في 28 نيسان/ أبريل الماضي، علمنا من زملائنا بأنّ مظاهرةً ستخرج في المدينة الجامعية في حلب، احتجاجاً على تسجيل صوتي منسوب إلى شيخ درزي يسيء إلى الرسول الكريم، وقد ثبت لاحقاً أنه مفبرك، لكن مع ذلك، أُطلقت هتافات طائفية وشتائم ضد الدروز”.
تستذكر: “في تلك الليلة، بين التاسعة والعاشرة مساءً، خرجت مظاهرة أمام السكن الجامعي بحضور الأمن، وأُطلقت هتافات من قبيل: ‘قائدنا للأبد سيدنا محمد’، و’طائفية طائفية وصلوها للدرزية’، وشعارات مسيئة إلى الشيخ حكمت الهجري، وهذا كله دون تدخّل أمني. لم يردّ أحد من الطلاب الدروز، لكن الجميع شعر بالخوف. وفي الصباح، انطلقت حافلة نحو السويداء، لكنها توقفت يوماً كاملاً في جرمانا بسبب الأحداث، ووصلنا في اليوم التالي”.
محاولات احتواء وضعف في التنفيذ
في 10 أيار/ مايو الجاري، اجتمع وفد من ناشطي السويداء مع وزيرَي الداخلية والتعليم العالي في دمشق، من بينهم سليمان الكفيري، الذي يقول لرصيف22: “تلقينا وعوداً بتأمين بيئة جامعية آمنة، ومعاقبة كل من يسيء أو يحرّض طائفياً، وتعويض الفاقد التعليمي للطلاب. وتم التأكيد على اتخاذ إجراءات رادعة، وطرح تشكيل لجان طلابية، وتسيير دوريات لحماية الطلاب”.
وبحسب الكفيري: “السلطات باشرت ملاحقة المسؤولين عن الهجمات، حيث تم توقيف بعض المتورطين وطرد آخرين من الجامعة”، مضيفاً: “تم التأكيد على إصدار قوانين تقمع التجييش الطائفي، وعلى العمل على برامج لرفع الوعي والانتماء الوطني، دون أن تنعكس العقوبات على عائلات أو مكونات الطلاب المتورطين”.
من جهتها، أصدرت وزارة التعليم العالي، بداية الشهر الجاري، قراراً يحظر على أعضاء الهيئة التعليمية والطلاب والعاملين في الوزارة والجامعات والمعاهد التابعة للوزارة كافة، نشر أو تداول أو ترويج، بأي وسيلة كانت، أي محتوى يتضمن التحريض على الكراهية أو الطائفية أو العنصرية أو يسيء إلى الوحدة الوطنية أو السلم الأهلي، وتعرّض مرتكبي تلك الأعمال للمساءلة الجزائية والمدنية والمسلكية.
ما حدث من تهجير للطلاب الدروز من الجامعات السورية، ليس حادثاً عابراً، بل مؤشر مهم على هشاشة السلم الأهلي وعمق الشرخ الطائفي، اللذين يهددان مستقبل أجيال من الطلبة، في ظلّ غياب إجراءات حاسمة تضمن بيئةً تعليميةً آمنةً وعادلةً للجميع، الأمر الذي يحتاج إلى إجراءات سريعة وعلى الأرض للمحاسبة وضمان عدم التكرار، وهذا يتطلب إرادةً سياسيةً جدّيةً، يدعمها موقف وطني جامع يحمي أبناء سوريا من أي طغيان طائفي يهدد ما تبقّى من روابط وطنية.
رصيف 22