سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمنوعات

“اضبط عدستك وكن هناك” ميرا وقوة الصورة الصحفية/ مالك داغستاني

2025.05.15

في الصورة، شاب بلحيةٍ خفيفة يسحب سيدة من يدها وهي متأخرة عنه بخطوة. السيدة ترتدي جلباباً غريباً عن الزي السوري المحافظ. هو أقرب للزي الذي تفرضه طالبان على النساء في أفغانستان من حيث اللون والشكل، مع نقاب يغطي الوجه.

على مسافة أبعد بدا في الخلفية رجل بزي عسكري وآخران مدنيان، قرب سيارتين تحملان وسوماً رسمية. في منتصف الصورة الأقرب إلى العدسة، يغطي المشهد ظهر رجل مسلح بزيٍّ رسمي يحمل تعريفاً مطبوعاً “الشرطة”.

وأنا أحاول قراء الصورة الأولى التي انتشرت للشابين السوريين ميرا وأحمد، لم أكن متيقناً إن كانت الصورة ثابتة أم مقتطعة من مقطع مصوَّر. مع ذلك هناك قولٌ إنكليزي شائع بأن “الصورة أبلغ من ألف كلمة”.

وهنا يجب القول، بعيداً عن صورتنا تلك، إن قوة الصورة الصحفية عموماً، حظيت في التاريخ الحديث، باهتمام واسع لدى المفكرين والإعلاميين، نظراً لقدرتها الفريدة على نقل الواقع والتأثير في الرأي العام.

والقول الإنكليزي السابق يختصر الفكرة الجوهرية بأن الصورة يمكن أن تنقل أحداث ومواقف وأحياناً مشاعر دون حاجة لأي شرح مكتوب. وعلمياً الدماغ يُعالج الصور أسرع من النصوص. “الصورة تذهب مباشرة إلى القلب، بينما تمر الكلمة عبر العقل” يقول مصور رويترز اليوناني الشهير يانيس بيراكيس.

لا شكَّ بأن أية صورة صحفية مهما كانت قوتها وبلاغتها فإنها عموماً تبقى حيادية بذاتها، لكن تتوزع القراءات لها حسب المتلقي. أما المسؤولية الأخلاقية فتقع على عاتق من يستثمر بها، فيما لو أراد استخدامها لأغراض مضللة وأخرجها عن سياقها. يقول الكاتب والصحفي المصري المعروف صلاح عيسى “الصور لا تكذب، لكنها قد تُستخدم لتكذب”.

بالعودة إلى صورة الزوجين ميرا وأحمد. كان سيقع على المصوّر عبئ أخلاقي كبير، لولا أنه وُجد في اليوم التالي من سيقدم الرواية على لسان أبطالها في ظروف مختلفة، ونجح إلى حدٍّ كبير في إقناع معظم الرأي العام بأن الحقيقة ليست كما بدت عليها في الصورة، ومع ذلك بقي هناك من يشكك وله كامل الحق بالتأكيد، فالصورة احتوت كل العناصر التي تبعث على القلق بأن الفتاة كانت مخطوفة من جهة متطرّفة، وعائدة ،مسحوبة من يدها، بثياب غريبة عنها، بحماية جهة أمنية وكاميرا، بهدف تثبيت رواية مخالفة للواقع. ولولا أنني تحرّيت بدقّة، من أكثر من طرف عن أن القصة ليست “سبي” ولا خطف، إنما لها بعد عاطفي، لما كتبت هذه المادة على هذا النحو، بل كنت بالتأكيد سأكتب بطريقة معاكسة.

على الرغم من نصيحته الشهيرة “اضبط الكاميرا على 1/500، وفتحة عدسة f11، وكن هناك”. فإن آدامز عاش حزيناً لأجل صورة التقطها، حيث كان هناك ضابطاً عدسته. أثناء تغطيته حرب فيتنام لوكالة أسوشيتد برس، التقط المصور الأميركي إيدي آدامزEdward Thomas Adams أشهر صورهِ على الإطلاق. إنها صورة قائد شرطة سايغون في فيتنام الجنرال “نغوين نغوك لون”، لحظة إطلاقه الرصاصة على رأس “نجوين فان ليم” أسير الحرب من قوات الفيتكونغ بلباسه المدني. هكذا، في الشارع ودون محاكمة. حدث هذا في الأول من شباط/فبراير عام 1968،خلال الفترة الأولى من هجوم “تيت” الشهير الذي أنتصرت خلاله قوات الفيتكونغ الشمالية.

عام 1969، عن صورته الأشهر تلك، فاز آدامز بجائزة بوليتزر للتصوير. يقول الكاتب والناقد ديفيد بيرلماتر: “لم تُحدث أي لقطة فيلمية أثراً يُضاهي أثر لقطة 35 ملم التي التقطها إيدي آدامز في أحد شوارع سايغون. فكلما تمت الكتابة عن “هجوم تيت”، تُخصص جملة على الأقل، غالبًا مع رسم توضيحي، لصورة إيدي آدامز”. كانت الولايات المتحدة تدعم الفيتناميين الجنوبيين وتخوض الحرب إلى جانبهم، وجاءت الصورة لتقول إن قائداً من أولئك الحلفاء هو مجرم حرب.

على يسار الإطار في صورة آدامز التي ستعرف باسم “إعدام سايغون”، بدا جندي يراقب المشهد وعلى وجهه شعور بالاشمئزاز والصدمة. فالصورة بحسب خبراء المقذوفات تظهِر اللحظة التي اخترقت فيها الرصاصة رأس الرجل. في ذلك الوقت، انتشرت الصورة حول العالم وملأت الشاشات وأغلفة المجلات. أصبحت رمزاً لوحشية الحرب وفوضويتها. بعدها سيقول آدامز إن انطباعه الأولي أن الجنرال كان “قاتلًا باردًا وقاسي القلب”. لكن بعد سفره معه في أنحاء البلاد، عدّل رأيه وبدأ يصفه ساخراً على أنه “بطلٌ ملعون، أما أنا فقد دمرت حياته، وكنت أتقاضى أجراً على ذلك. فأصبحت بطلاً”. طبعاً هذا لا يلغي أن الجنرال قتل الرجل الأسير خارج قوانين الحرب.

آسفاً على تأثير صورته تلك، كتب آدامز في مجلة تايم الأميركية عام 1998: “مات شخصان في تلك الصورة. من تلقى الرصاصة والجنرال لون. الجنرال قتل الفيتكونغ، وأنا قتلت الجنرال بكاميرتي”. ويضيف “الصور الثابتة من أقوى الأسلحة. الناس يصدقونها، لكن الصور تكذب حتى دون تلاعب. إنها نصف الحقيقة. ما لم تقله تلك الصورة أن المقتول كان يلقّب بالرجل الشرير، وهو قائد “فصيلة الانتقام الفيتكونغي”، وكان قتل عشرات المدنيين الأبرياء. أفسدت صورتي حياة جنرال محترم في وسطه الاجتماعي، ومع ذلك لم يلُمني. حين قابلته واعتذرت له ولعائلته قال لي: لو لم تلتقط الصورة، لكان شخص آخر قد التقطها. لكنني أشعر بالأسف عليه منذ زمن طويل. عندما علمت بوفاته أرسلتُ الزهور وكتبتُ: أنا آسف. الدموع تملأ عينيّ”.

ينقل هال بويل، محرر صور آدامز في وكالة أسوشيتد برس، عن آدامز قوله : “التصوير الفوتوغرافي بطبيعته انتقائي. إنه يعزل لحظة واحدة، ويفصلها عن لحظاتٍ سبقتها والتي قد تؤدي إلى تعديل المعنى”. نعم، الصورة تعزل ما قبلها وما بعدها فتؤثر على رؤيتنا للحدث وحتى على أفكارنا. هي تقول نفسها للمتلقي، ولن ينفع كثيراً بعدها أي تبرير لشرح ملابساتها وخلفيتها، حتى لو كانت تلك التبريرات صحيحة. صورة آدامز خرّبت كامل حياة الجنرال وعائلته، حتى أن طلب لجوئه مع عائلته إلى الولايات المتحدة كان سيُرفض، لولا تدخل آدامز شخصياً.

في سوريا، هناك صور لأمهات يطالبن بأبنائهن وبناتهن، ممن اختفوا في آذار الماضي وما بعده. وهناك شكايات مسجلة رسمياً، ومسؤولية السلطات اعتبار حتى تلك المناشدات المُصوَّرة بلاغات رسمية ومتابعة تلك القضايا والتحقيق بها، والوصول إلى نتائج وإعلانها للجمهور رسمياً. ليطمئن السوريون أنهم في دولة مسؤولة عن جميع مواطنيها، ولا يعفيها من هذا كثرة الملفات على الطاولة السورية. وإلا فإنه لن ينتهي هذا التشوش الذي يتداول به السوريون تلك القصص بين منكر ومؤكد لها.

صورة ميرا وأحمد الأولى التي قضّت مضاجع وسائل التواصل قبل أيام، ستبقى لوقت طويل مثاراً للجدل، حتى بعد ظهور صور تلتها، وشروحات مصورة عن القصة في أكثر من فضائية عربية، وسيبقى هناك من لن يصدق سوى تلك الصورة، حفاظاً على سرديّةٍ هي محقّة، لكن في مكان آخر وليس في تلك الصورة. على سبيل المزاح، ولو أن الموضوع لا يحتمل لدى البعض، لو جاءت لجنة محايدة يقودها ملاك، فإن نتائج تحقيقها في حقيقة قصة ميرا وأحمد، مهما كانت، فهي سترضي أحد الطرفين، بينما سيتهم الطرف الآخر الملاك بأنه شيطان يتزيّا بجناحين أبيضين. الصورة كانت بالغة القوّة والتأثير، ونحن معذورن، فجميعنا سوريون ومرضى نحتاج إلى التعافي.

تلفزيون سوريا،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى