المثقف المُمتَثِل: لماذا يصر المثقفون السوريون على التطبيع مع الواقع؟/ عروة محمد

13 – مايو – 2025
في الأشهر القليلة التي تلت سقوط نظام الأسد وصعود هيئة تحرير الشام إلى واجهة السلطة في دمشق، شهدنا تحولات لافتة في الخطاب الثقافي والسياسي، على حد سواء. لم تعد مفاهيم مثل «الحرية» أو «العدالة»، تتصدر الحديث العام في الكثير من الأوساط، ومنها الثقافية، بل حلت مكانها مصطلحات مثل «الواقعية» و»البراغماتية» و»العمل ضمن الممكن». وقد يكون من المتوقع أن يتحدث السياسيون عن «الواقعية» و»البراغماتية»، إما بصدق أو في محاولة للتنصل من المسؤولية والوعود، إلا أن الأمر اللافت أن هذه المصطلحات واللغة المرافقة لها لم تعد حكرا على السياسيين، بل يكررها المثقفون والنخب الذين من المفترض أن يعملوا خارج إطار السلطة.
يستدعي ذلك بعض الأسئلة في تلك المصطلحات، واستخدامها في السياق السوري اليوم، ما الذي تعنيه «الواقعية» و»البراغماتية» حين يستخدمهما المثقف؟ ما هو الأثر الخطابي لاستخدام هذه المصطلحات في الشأن العام اليوم؟ وهل يساهم هذا الخطاب في خلق حالة من التطبيع مع سلطات الأمر الواقع التي تحمل طابعا أصوليا قمعيا؟
الواقعية كمدخل للتطبيع
قد لا يعد استخدام مفاهيم مثل «الواقعية» أو «البراغماتية» بحد ذاته إشكاليا، لاسيما في السياقات السياسية المعقَّدة كالسياق السوري، فيمكن استخدام تلك المصطلحات كأدوات تحليلية تهدف إلى فهم الواقع القائم، وتقدير ممكنات الفعل، إلا أن الإشكال يكون حينما تُزَاح هذه المفاهيم من وظيفتها التحليلية لتقوم بوظيفة تبريرية، حيث تستخدم لتجميل الواقع والتشجيع على القبول به، وبالتحديد الواقع القمعي السلطوي الأصولي في الحالة السورية، بوصفه «الممكن الوحيد». هذه حيلة لطالما استخدمها السياسيون لتبرير التخلف عن الوعود، أو لتبرير قرارات وسياسات أيديولوجية وإعادة تأطيرها في إطار «موضوعي» و»ضروري». في تلك الأحيان، تكون وظيفة المثقف أن يكشف نفاق السياسيين، لكن اللافت اليوم أن هذا الانزياح يتسرب في سوريا إلى الخطاب الثقافي نفسه، حيث نرى مثقفين وكتابا وصحافيين يتبنون هذه المصطلحات كإطار ناظم لقولهم ومواقفهم، بطريقة توحي بأن النقد حظَرٌ، والحلم نوع من الوهم، والموقف المبدئي مجرد «ترفٍ نُخبَوي». هذا النوع من الخطاب يحوّل «الواقعية» من أداة لفهم الواقع إلى قيد يفرض على الوعي، ويُعاد من خلالها ترسيم حدود ما يمكن التفكير به وقوله، وليس فقط فعله.
يمكن فهم التسرب الثقافي لهذه المصطلحات من خلال نقد «العقل الأداتي» (Instrumental Reason) الذي طوّره أدورنو وهوركهايمر، رواد مدرسة فرانكفورت الفلسفية، حيث يصف المفهوم التحول الاجتماعي والسياسي في الأولوية من الغايات إلى الوسائل، ومن الاهتمام بالمعنى والقيم والغايات الأكبر، وراء الأهداف إلى الاهتمام فقط بالكفاءة التي يتم بها تحقيق الأهداف. يُختزل العقل ضمن هذا التحول في كفاءته على «التحكم» و»الإدارة»، أي في ما هو «نافع» و»ممكن تنفيذه»، بدل الاهتمام بما «يجب» تحقيقه. المثقف حين يتبنى هذا الشكل من التفكير، يفقد موقعه كناقد للنظام القائم، ويغدو مجرّد «منسق للوعي»، يعيد إنتاج مقولات السلطة بلغة مختلفة وأكثر سلاسة. في السياق السوري، حين تُقدَّم هيئة تحرير الشام وعلى رأسها الجولاني بوصفها «أمرا واقعا» لا بدّ من «العمل معه»، تصبح الواقعية هنا مدخلا للتطبيع، وليس الفهم. ويتم اختزال الخطاب السياسي والثقافي في خانة الإدارة بدلا من المقاومة. هناك أسئلة يتم تجاهلها عند الإصرار على «الواقعية» و»الممكن»، فمَن يحدّد ما هو «ممكن»؟ ولماذا نعتبر الممكن نهاية المطاف؟ أوليس دور المثقف توسيع آفاق الممكن بدل تقليصها؟
المثقف والامتثال
تدعو المواقف التي يتخذها المثقفون هنا إلى مساءلة المثقف ودوره، فهل هو شاهد حرّ، أم لسان ناطق باسم القوة الغالبة؟ هل يسائل السلطة، أم يبرر لها؟ وهل من الممكن أن ينحاز المثقف إلى «الواقعية» دون أن يقع في فخ التبرير؟ تبرز هذه الأسئلة بإلحاح خاص حين نرى مثقفين يتحولون إلى ناطقين بلغة «الضرورات» و»إكراهات الواقع» بدل أن يكونوا شهودا على فساده. لا يكمن دور المثقف فقط في إنتاج المعرفة، بل في مقاومة «الامتثال الثقافي»، وبالتالي مقاومة الخطاب الذي يخدم أي نظام قمعي قائم بحجة «الحياد» أو «الموضوعية» أو غيرهما. المثقف الذي يتخلى عن مهمته النقدية لصالح «التكيف مع الظروف» ما هو إلا جزء من ماكينة الهيمنة، حتى لو كان يظن أنه «محايد» أو «موضوعي». وبذلك تفقد الثقافة وظيفتها التحررية. الثقافة، حين تخضَع لمنطق «ما هو ممكن»، لا تكون أداة للكشف والمقاومة، بل تتحول إلى غطاء ناعم للقبول والتطبيع، فحين يجب على المثقف أن يكون صوت الضمير العام، يصبح جزءا من الضجيج العام، يُعيد قول ما يُراد له أن يُقال، ولكن بلغة أنيقة، محمّلة بمصطلحات مثل «الاستقرار»، «التوازن»، و»البراغماتية»، والتي لا تعني شيئا دقيقا في هذا السياق، بل تتحول إلى مجرد تبريرات صماء، تكرر بطريقة آلية. الخطورة هنا لا تكمن فقط في خيانة الدور الرمزي، بل في أن هذا «الامتثال الثقافي» يمنح السلطة شرعية مضاعفة: فهو لا يسكت عنها فقط، بل يعطيها غطاء نخبويا ومثقّفا، يجعل قمعها يبدو وكأنه ضرورة عقلانية، بدل فضحه على حقيقته على أنه خيار أيديولوجي.
يمكن النظر إلى نزعة المثقف السوري للامتثال الخطابي من منظور التحليل النفسي، حيث قدّم سيغموند فرويد مفهوم «التماهي مع المعتدي» (Identification with the aggressor)، كمحاولة لاواعية للدفاع عن الذات في وجه التهديد. حين يشعر الفرد بأنه ضعيف أو عاجز عن مقاومة قوة قمعية، قد يسلك طريقا نفسيا يعكس منطق «إذا لم أستطع أن أغلبهم، فسأنضم إليهم». فيتحوّل الخوف إلى إعجاب، والغضب إلى خضوع داخلي، يتجلى أحيانا بمظاهر تعبيرية دفاعية تشبه التبرير أو التماهي أو حتى الإعجاب بـ»حكمة» المعتدي وقوته «الواقعية». في السياق السوري، يبدو أن «التماهي مع المعتدي» ليس فقط آلية فردية للهروب من الإحباط، بل أصبح خطابا ثقافيا شبه جماعي. نرى مثقفين وكتّابا تبنّوا خطابا يقترب من سردية السلطة الجديدة، التي كانوا منذ زمن قصير يدعون «عدم تمثيلها للثورة»، تحت حجج «الواقع» و»الضرورات»، و»عدم وجود بدائل»، وكأن الدفاع عن القامع أصبح نوعا من الحيلة النفسية لتجنب مواجهة حقيقة الانكسار.
التماهي لا يجري فقط مع شخص المعتدي، بل أيضا مع «موقعه الرمزي»، أي مع السلطة التي يمثلها. فيصبح المثقف، وهو في موقع الهامش سابقا، راغبا بالدخول إلى مركز الخطاب، حتى لو كان هذا المركز يمثل كل ما كان يرفضه من قبل. ما يتمناه اللاوعي هنا ليس فقط النجاة، بل الانتماء إلى المعنى، إلى سلطة تنتج «نظاما» ولو كان قهريا. التحول نحو خطاب الواقعية والبراغماتية، بهذا المعنى، ليس مجرد قناعة فكرية، بل عملية نفسية ـ دفاعية في الأساس ـ تتم عبر إنكار الانهيار أو نزع الطابع الإجرامي عن السلطة الجديدة، وإلباسها لباس الضرورة أو الحتمية، تحت مقولات مثل «ليس هناك بدائل»، أو «أحمد الشرع صمام الأمان». وكأن المثقف، المنكسر، يحاول عبر هذا الإنكار استعادة شعور بالتحكم أو التوازن، ولو عبر استعارة منطق السلطة نفسها. الخطورة هنا مزدوجة، فمن جهة، يفقد المثقف استقلاليته الرمزية وقدرته على النقد، ومن جهة أخرى، يتحول إلى أداة في إنتاج خطاب الطاعة، لا عن قمع مباشر، بل عن قناعة داخلية مصنّعة نفسيا. وبهذا، تصبح الكلمة، لا أداة تحرر، بل أداة تطويع والضمير، بدلا من أن يكون سلطة على السلطة، يغدو شاهد زورٍ على «الضرورة».
«العمل ضمن الممكن» أم تقييده؟
تطرح أيضا فكرة «العمل ضمن الممكن» في الخطابات السياسية والثقافية، بوصفها ذروة العقلانية، ونقطة التقاء النضج مع المسؤولية، وربما أحد أشهر متبني هذا التفكير تاريخيا هو المستشار البروسي بسمارك الذي قال «السياسة هي فن الممكن». من الممكن تفهم عمل السياسيين «ضمن الممكن»، فلديهم في نهاية الأمر برامج سياسية يريدون تحقيقها وهم مسؤولون بطريقة، أو بأخرى أمام مواطني وسكان بلدانهم، مع العلم أن مقولات كهذه، يمكن أيضا أن تستخدم بطريقة تبريرية عند العجز عن تحقيق تلك البرامج السياسية. غير أنه عندما يتم استخدام مقُولات كهذه من قبل مثقفين ونخب عوض استخدامها من قبل سياسيين (مثل بسمارك)، تتحول إلى آلية خطابية تُستخدم لإعادة تعريف الممكن نفسه، وتحديد سقفه وفق معايير معينة (واقعية)، وليس وفق طموحات الناس أو قيم العدالة. أصبح «العمل ضمن الممكن» شعارا فضفاضا يُوظّف لتبرير كل أشكال الانحدار: من القبول بسلطة أصولية قمعية كسلطة هيئة تحرير الشام، إلى السكوت عن مجازر ممنهجة بحق العلويين، إلى التعامل مع الهيئة بوصفهم «شركاء أمر واقع». بهذه الطريقة يتحول «العمل ضمن الممكن» من دعوة للتعقل، إلى قيد على الممكن ذاته، وقيد على حق الآخرين في الخيال والنقد، ومن محاولة لفهم الظروف، إلى أداة لإخضاع الخطاب إلى حدود القوة.
يعرف هذا التوظيف لـ»الواقعية» قراءة الواقع من خلال ما هو موجود فقط، بدل أن تتضمن أيضا ما ينبغي أن يكون، فتصبح كل أشكال المقاومة نوعا من «الطوباوية»، وكل حلم بالحرية يوصم بالسذاجة، أما الصوت الذي يرفض التسوية فيتهم بـ»خلخلة السلم الأهلي» وعدم المسؤولية أو حتى بالجنون. بهذا الشكل، يعاد إنتاج «الممكن» لا بوصفه مساحة للفعل، بل كحد لما يمكن قوله والتفكير به ونقده. هنا يدخل المثقف في محاولة ترويض الذات والآخر، فوفق هذا التفكير، عليه وعلى غيره ألا يطالبوا إلا بما تسمح به موازين القوة، وأن لا يقولوا إلا ما يمكن تصوره ضمن الواقع الحالي، فيتحول بذلك المثقف من فاعل إلى مُتَلقٍّ، ومن خارج عن المألوف والمقبول، إلى مترجم لما هو مسموح. إن خطاب «العمل ضمن الممكن» يخلط بين «ما يمكن فعله» و»ما يجب قوله». فحتى إن كانت موازين القوى تمنع التغيير، أو تفرض واقعا استبداديا، لا يعني ذلك أن المثقف مجبر على تبني هذا الواقع أو تبريره. دوره الرئيسي هو أن يُفكك هذا الواقع ويكشف عن عنفه البنيوي، لا أن يُسوّقه بوصفه «ضرورة».
المطلوب اليوم، في مواجهة صعود سلطات أمر واقع قمعية وممارسات تفرض خطابا قهريا باسم «الواقعية»، هو استعادة الفعل الثقافي بوصفه كشفا، لا تسوية. لا يعني هذا التمترس خلف شعارات مجردة، بل يعني رفض الانخراط في خطاب تبرير الاستبداد والقمع والمجازر، عن طريق مفاهيم مضللة مثل «الاستقرار» أو «المصلحة الوطنية». المثقف ليس وزيرا أو مفاوضا، ولا موظفا أمميا، وليس مطلوب منه «حلولا» أو «إجراءات». وظيفته الأساسية، إعادة مساءلة المسلّمات والبديهيات، وزعزعة العادات، وأنماط التفكير والسلوك. لا بد اليوم في الخطاب الثقافي من التأكيد على ما «يجب» قوله، وما «يجب» أن يكون، بدلا مما هو «ممكن». المطلوب ليس بطولة رمزية، بل هو وفاء بسيط للحقيقة.
كاتب سوري