سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن النقاش المعقّد في وضعية سوريا راهنا…/ ماجد كيالي

التمهيد لتمكين الشرط الداخلي

آخر تحديث 16 مايو 2025

في النقاش الراهن والسائد، بشأن وضعية سوريا وشعبها، غالبا ما يجري الحديث عن معايير نظرية جاهزة، أو عن رغبات وأمنيات مشروعة كاشتراطات مسبقة، وهو أمر جائز نظريا، بيد أنه لا يقدم أو لا يضيف شيئا جديدا أو عمليا، بل ويبعث على الخلط والارتباك والضياع والإحباط.

المشكلة في خوض غمار هذا النقاش أيضا، تتمثل بالقفز مرة واحدة عن مراكمات نصف قرن من منع السياسة والافتقاد للدولة، ولحقوق المواطنة، وشيوع التسلط والاستبداد والفساد، والتقوقع في حيز الهويات الأولية، الطائفية والإثنية، في ظل “نظام الأبد” البائد، علما أن تلك ليست مجرد توصيفات أو حيثيات شكلية، إذ إنها حفرت كثيرا وعميقا في سيكولوجيا السوريين، وروحهم وعقلهم وسلوكياتهم، وأثرت بشكل سلبي على رؤيتهم لذاتهم، وعلاقاتهم إزاء بعضهم وأيضا إزاء السلطة.

فوق كل ما تقدم، يلزم إضافة 14 عاما من العنف المفرط والأعمى، الذي ذهب إليه النظام الفارط في محاولته الحفاظ على سلطته، وبخاصة أنه أخذ السوريين إليه، مع كل ما صاحب ذلك من قتل وتدمير وتشريد ملايين السوريين، الأمر الذي أدى إلى إفقارهم، وتخريب عيشهم في الداخل والخارج، مع تبديد مواردهم وتدمير بناهم التحتية، ووضع الحواجز بينهم.

بالطبع يمكن التسليم بأن نظام الأسد بات من الماضي، وبأنه لا يمكن قياس الحاضر على الماضي، لأن الثورة تعني التجاوز وخلق عالم بديل أفضل، لكن هذا الكلام على أهميته، يفترض أن لا يتناسى الواقع على حقيقته، أو القفز فوق المقدمات السابقة، وضمنها التركة الثقيلة والعميقة والمشوهة التي قد تبقى ربما لعقد أو لعدة سنين.

وكي لا يكون الحديث منفصما عن الواقع، ومحكوما بالرغبات على جري السائد، يفترض البناء على الإدراكات الآتية، أولا حال الفراغ السياسي الذي تعاني منه سوريا منذ عقود، والتي تفتقد لقوى حزبية/سياسية وازنة، تعبر عن مصالح هذا القطاع أو ذاك من الشعب (كمصالح اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وليس هوياتية).

ثانيا، افتقاد سوريا للوحدة الإقليمية، ولسيادة الدولة على أراضيها، مع وجود عدة جيوش أجنبية، ومع وجود حالات ميليشياوية هوياتية (طائفية وإثنية)، وحل هاتين المعضلتين تستوجبان أعلى قدر من الحكمة والمرونة، بما في ذلك تأمين الشرعية الداخلية والخارجية، إذ الداخلية هي الأساس طبعا.

ثالثا، عدم الوقوع في فخ الاستدراج لأي خيار عسكري داخليا وخارجيا، لأن الحل الأمني مضر جدا بالسوريين وبإجماعاتهم الوطنية، ولا تتوفر إمكانياته، مع ملاحظة أن الشعب السوري تعب من هذا الوضع، مع معرفتنا أيضا بأنه في غاية الاستنزاف.

رابعا، إدراك أن تمزّق الجغرافيا والدولة، يتطلبان توفير الشرعية الداخلية، بتأكيد وحدة المجتمع السوري، وبترسيخ المسارات الدستورية اللازمة، التي تجعل من السوريين شعبا حقا، في دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، أحرارا ومتساوين؛ فهذا هو السلاح الأمضى والأنسب الذي يمكن أن يجنب سوريا عديدا من الأفخاخ، ويصد التحديات أو التدخلات الخارجية.

خامسا، ضمن كل تلك الرزمة يفترض الأخذ في الاعتبار أن سوريا تمر بمرحلة انتقالية صعبة ومعقدة، بخاصة مع وجود قوى خارجية يهمها إضعاف سوريا، وتقييد قدرتها على التعافي والنهوض، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بالطريقة الناعمة أو الخشنة.

في طرحنا لكل تلك الحيثيات، يفترض أن نتذكر أيضا أن تجربة “المعارضة السورية”، بقطاعاتها السياسية والعسكرية والخدمية، لم تقم بما عليها، على النحو المناسب ولو نسبيا خلال 14 عاما، رغم تحررها من النظام السابق، ووجودها في دول مثل تركيا وبريطانيا والنرويج والسويد وفرنسا وألمانيا، على سبيل المثال.

ومعلوم أن تلك المعارضة لم تستطع أن تبني “البيت السوري”، أي الكيان السياسي السوري الجامع، ولا توحيد قوى المعارضة أو شخصياتها الأساسية، كما لم تستطع تنظيم منصة سياسية أو إعلامية، رغم كل ما أتيح لها، ورغم أنها احتكرت تمثيل الشعب السوري، ولعل مآل “المجلس الوطني” و”الائتلاف الوطني”، وكل الهيئات التابعة لهما، أكبر دليل على ذلك، إذ لم يعد لهما أي أثر على أي صعيد، عدا أنهما لعبا دورا سلبيا في الحؤول دون توليد حركة سياسية سورية، وحتى دون القدرة على تنظيم الجاليات السورية في البلدان الأجنبية.

تلك الحيثيات لا تفيد بالاعتراض ولا بالتحفظ، على أي نقد سياسي للإدارة الانتقالية الحالية، إذ إن النقد حالة إيجابية وضرورية إزاء أي سلطة مهما كانت، للترشيد والتطوير وفتح الخيارات، وتعزيز فكرة الحرية والديمقراطية.

وبشكل خاص فإن القيادة السورية الحالية تستحق النقد، بقدر مسؤوليتها عن الإنجازات التي تحققت للشعب السوري بإسقاط النظام، وبتعزيز شرعية الدولة الوليدة إزاء الخارج، وبخاصة أن الحديث يتعلق بمرحلة انتقالية، يفترض أن تتحدد فيها ماهية الدولة، وشكل علاقتها بالمجتمع، إذ إن اكتساب الشرعية الداخلية، يسهم بتعزيز شرعيتها الخارجية كدولة، ويقويها وليس العكس، وهذا يتعلق باستعادة الأمن والأمان والاستقرار لكل المواطنين بلا استثناء، عبر إنهاء ظاهرة الفصائل غير المنضبطة، وغير المسؤولية وغير الخاضعة للدولة، وتعزيز السلم الأهلي، بإعادة الثقة لعلاقة المواطنين بعضهم ببعض، وأيضا لعلاقتهم بمؤسسات دولتهم.

الآن، ومع حسم الرئيس ترمب لخيار رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، يفترض أن تكون هذه هي اللحظة التاريخية الثانية، بعد إسقاط نظام الأسد إلى الأبد، للتأسيس لسوريا الجديدة، عبر التمهيد لتمكين الشرط الداخلي كي يصير السوريون شعبا حقا، في دولة مؤسسات وقانون محايدة إزاء مواطنيها الأحرار والمتساوين والشركاء في الوطن، بمعزل عن حيثية الغلبة، و”من يحرّر يقرّر”، ومظلوميات الماضي والحاضر، وحيثية المكونات والأقليات والهويات الأولية، التي من الممكن والأجدى أن تبقى موضع احترام، وككناية عن حيوية شعب سوريا بتنوعه وتعدديته عبر التاريخ.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى