ما مصير العائلات السوريّة التي خرجت من مخيم الهول؟/ شفان ابراهيم

16.05.2025
خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي، غادرت 76 عائلة من المقيمين في مخيّم الهول في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، نحو قراهم في دير الزور وريفها، وذلك ضمن قافلة واحدة مؤلّفة من باصات وعربات نقل للأغراض المنزلية، برفقة قوى الأمن الداخلي و”قسد”. خرجت العائلات من المخيّم في رحلة لم تكن بالسهلة، ناهيك بأنهم قوبلوا حيث حلّوا بالرفض والتمييز في المعاملة، كونهم من سكّان مخيّم التصقت به وصمة “الإرهاب”.
منى، واحدة من اللاتي غادرن مخيم الهول نحو قرية الباغوز حيث كانت تسكن، تقول منى لـ”درج”: “أنا مطلقة ولدي 3 أبناء من ذوي الإعاقة…الخيمة في الهول لم تحمِنا من البرد والحر والحشرات والأمراض الجلدية وغيرها، لكن قرية الباغوز الآن، أشبه بمدينة أشباح، لا خدمات فيها ولا مساعدات، ودمار شبه كامل، لا فرص عمل، ولا أعلم أين ذهب منزلي، مكانه صحراء وأرضُ بور”.
شهدت قرية الباغوز في ريف دير الزور عام 2019 المعارك الأخيرة بين قوات سوريا الديموقراطية وقوات التحالف بمواجهة “آخر جيوب داعش” حسبما وصفت وكالات الأنباء المعركة، حينها تم إخلاء الكثير من المدنيين نحو مخيّم الهول الخاضع لـ”قسد”. منى التي عادت إلى قريتها تقول:”هنا في الباغوز الأمر أصعب؛ أين سيذهب أبنائي ومع من سيلعبون، هم انعزاليون ويبتعد الأطفال عنهم”.
وفقاً لمصدر إداري ضمن المخيم، فإن “الدفعة الجديدة غادرت باتجاه مناطق سكناهم، حيث تم تجهيز البيانات العائلية والشخصية، واستكمال الدراسات والإجراءات الأمنية كافة”، ويضيف المصدر أن الدفعة مقتصرة على الأهالي من دير الزور وريفها فقط، ولم تشمل النازحين من الرقة والحسكة، والعائلات غادرت إلى بيوتها بإشراف منظمات محلية وبرامج دعم مثل “الفرات” و”الرشاد”الممولة من وزارة الخارجية الأميركية، إذ يغطي الدعم فقط تكاليف الرحلة.
أضاف المصدر أن عملية المغادرة تمت “بالتعاون بين إدارة المخيم ومجلس دير الزور المدني وبعض المنظمات المحلية. اصطحب من غادروا أغراضهم المنزلية كافة، وتعود أصول بعض العائلات المغادرة الى منتسبين سابقين لتنظيم داعش، كما أن غالبية المغادرين من النساء والأطفال وهناك بعض الرجال”.
خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي، غادرت 76 عائلة من النازحين إلى مخيم الهول في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، نحو قراهم في دير الزور، ضمن قافلة موحدة مؤلفة من باصات وعربات نقل للأعراض المنزلية، برفقة قوى الأمن الداخلي وقسد.
“منفيون” خارج المخيّم
خرجت العائلات من المخيّم في رحلة لم تكن بالسهلة، شيماء من أهالي البوكمال أمضت مع أطفالها في مخيم الهول 4 سنوات، تقول لـ”درج” عن رحلة العودة: “جلبوا شاحنات كبيرة، كُدسنا فوق بعضنا البعض، مع أغراضنا وأمتعتنا، ولمدة يومين ونحن نجول في الصحراء. وفي المساء اضطررنا للمبيت في تلك الصحراء، في ظلام دامس حيث من الصعب أن تُشاهد أصبعك، عدا عن الخوف والرعب اللذين عشناهما، فلا أحد يعرف ماذا سيصادفك، ضبع أو قاطع طريق أو عصابة، ثم وصلنا للباغوز، لا أستطيع العودة الى البوكمال، فلا أهلي سيستقبلونني، ولا أهل زوجي سيعترفون بأبنائهم”.
تضيف شيماء التي بقيت في قرية الباغوز : “المشهد مهول، دمار شامل، بضعة بيوت استقبلت البعض والبعض الآخر رفض إدخال من أسموهم ببقايا الإرهاب، الذين غادروا إلى أماكن أخرى غير معروفة… أنا وأطفالي نتعرض للتنمر المستمر، وتحولت إلى مُنفّذة لأوامر وطلبات أصحاب المنزل مع وصم العار ووسمنا بسكان المخيمات، علماً أن الوضع أسوأ من المخيم. ما أتمناه غرفة صغيرة ليّ ولأبنائي وفرصة عمل، لكننا نحتاج الى بناء القدرات المهارات، أشعر بأنني أعيش في منفى”.
علياء محمد التي غادرت أيضاً الهول نحو الباغوز تتحسر على وضع أبنائها وتقول لـ”درج”: “كان يجب أن يكون ولداي في الصف الثالث وابنتي في الصف الثاني، خرجنا من المخيم وزوجي لا يستطيع العمل بسبب الإعاقة التي يعاني منها، حالياً أبنائي معتكفين في المنزل، وكأنهم مُصابون بالتوحد، المدرسة بعيدة جداً عن الخرابة التي نُقيم فيها، والأطفال في الحي يستهزئون بهم ويتنمرون عليهم ولا ينخرطون معهم، الجيران لا يُلقون التحية علينا ولا يزوروننا، أتمنى أن تأتي المنظمات وأن تؤمن لنا جلسات دعم نفسي واجتماعي وفرص عمل” .
تختم علياء حديثها مع “درج” قائلة: “نعيش على بعض المساعدات من ذوي الغيرة، لكن وصمة المخيم تُلاحقنا”.
ماذا عمن خرجوا من المخيّم سابقاً؟
ليست هذه المرة الأولى التي تخرج فيها دفعات من مخيم الهول نحو مناطق دير الزور والرقة والطبقة، إذ سبق أن بادر شيوخ العشائر ووجهاء المنطقة بدعوة العائلات السورية الراغبة في الخروج من المخيم الى العودة لمسقط رأسها منذ عام 2021، وأشارت توثيقات (لجان حل النزاع) و (منظمة الرقة بين الجسرين) الى وجود أكثر من أربعة آلاف طفل سوري خارج مقاعد الدراسة، وهم محرومون من حقهم في التعليم المدرسي، وتمكن /300/ طالب فقط من الالتحاق بالتعليم سواء لدى المنظمات المعنية بالطفولة أو المدارس ممن امتلكوا أوراقاً ثبوتية ولم يتقدموا في العمر، أو لم ينخرطوا في سوق العمل منذ طفولتهم.
رُفيدة الجزاع من أهالي دير الزور، وموظفة في منظمة مدنية تُعنى بشؤون المهجريّن واللاجئين، تقول لـ”درج”:”لا يختلف واقع الخارجين حديثاً عن معيشة ووضع من خرج منذ عام 2021، فنظرة الناس لم تتغير بالشكل المطلوب، ولم تنجح المنظمات في تغيير فكرة الإرهاب ونمطية الخوف منهم، ولم يصل المجتمع بعد الى مرحلة تقبلهم، وهي الحالة السائدة لدى كل من خرج سابقاً وخلال شهر نيسان من العام الحالي”. ووفقاً لرُفيدة ، “فإن قسماً كبيراً من الأهالي يرفضون استقبال نسائهم خوفاً من العار، والغالبية العظمى منهم لا يعترفون بأحفادهم ولا بكنائنهم، مع قلة قليلة تستوعب القصة”.
هذه المفارقة تتضح بين الخارجين الجدد والقدامى، وتتجسّد في حكاية حُصة التي خرجت من مخيم الهول عام 2021 بطلب من شيوخ العشائر، وربيعة التي خرجت من المخيم حديثاً، والتقت الاثنتان مُجدداً في الباغوز. تقول حُصة لـ”درج”: “قبل أعوام كُنا نعيش في الحيّ نفسه في الميادين، خرجنا مع اشتداد المعارك، ولم نعرف شيئاً عن بعضنا البعض، ألزمنا ذوونا بالزواج من المقاتلين الأجانب، والتقينا في الباغوز، كنت أرملة وزوجي مُصاب، ثم نُقلنا الى مخيم الهول”. أما ربيعة فتقول: “خرجت حُصة بدعم من شيوخ العشائر وبقيت أنا، ومع خروجي ووصولي إلى الباغوز شاهدت حُصة برفقة أطفالها، تعانقنا مطولاً، ونعيش حالياً في منزل شبه مُهدم، لكن لا خيّار لنّا سوى ذلك، أهلنا الذين أجبرونا على ذلك النوع من الزواج، لا يعترفون بنا اليوم”.
تتفق السيدتان على أن خارج المخيم أسوأ من المخيم نفسه، وتؤكدان: “الغالبية تتجنب إلقاء التحية، أو رد السلام، نواجه متاعب الحياة بمفردنا وهي صعبة للغاية، لا عمل ولا رزق ولا مصادر تمويل ولا حتّى بيت نحتمي فيه”.
مبادرات عشائرية تحتاج الى الدعم المستمر
شكلت مجموعة من عشائر الرقة ودير الزور (لجنة حل النزاع) أواخر 2021، للبحث في مصير العوائل العالقين في المخيم والراغبين في العودة. في حديثه لـ”درج”، قال أمير الخابور من شيوخ عشائر الرقة وعضو في لجنة حل النزاع، إن عملهم يقوم على “تحديد الاحتياجات غير المادية، وحل القضايا الاجتماعية والإشكاليات التي تواجه النساء والأطفال العائدين الى مسقط رأسهم ودمجهم مع المجتمع المحلي، ومواجهة مشاكل التنمر وكيفية العمل على استقرار هذه العائلات، والمساهمة في تخفيف الصورة النمطية حولهم، ومساعدتهم لطي الماضي ونسيان أهوال الحرب”.
شرح الخابور اقتصار الدعم والمساندة على “مشاركة النساء في برامج التدريب المهني وغيرها من برامج التمكين الاقتصادي التي تساعد في دمجهن في سوق العمل، والمساهمة في عودة الأطفال الى المدارس واندماجهم في المجتمع”.
ومن الصعوبات التي واجهت عملهم، ذكر الخابور: “الحصول على الوثائق و الأوراق الثبوتية الشخصية، وصعوبة الوصول الى الخدمات المتاحة مثل الخبز والمحروقات وخارطة الخدمات الصحية المقدمة بالمنطقة”.
فواز العلي من أهالي الريف الشرقي لدير الزور، لفت الى أن “تلك اللجان لا تزال ترغب بالعمل في الرتم السابق نفسه، لكنها تواجه صعوبات كثيرة لتقديم الدعم اللازم سواء للدفعات السابقة أو التي خرجت منذ أيام”، مضيفاً أن أكثر المشاكل والعراقيل هي “تهمة الانتساب أو محاباة أو الولاء للتنظيم، التي ظلت تواجه معظم العائدين، الذين لم يتم تقبّلهم وإعادة دمجهم وانخراطهم في الأعمال اليومية الاعتيادية، لتبدأ معها فصولاً جديدة من المعاناة ومرارة العيش”.
يضيف العلي في حديثه مع “درج”: “أنا محتار ومشتّت الذهن، فمن جهة الزوج المقاتل ورفاقه تسببوا بترمل الآلاف وتيتّمهم، وغالباً ما كانت الزوجة برفقة زوجها مع أبنائهما، ومن جهة أخرى ما علاقة الزوجة التي ربما أُجبرت على الزواج، أو أن الضائقة المالية دفعت الأهل الى تزويجها، وما ذنب الأبناء إن جاؤوا الى هذه الحياة من أبٍ مجرم؟ ومن جهة ثالثة كيف يُمكنني الاطمئنان على أبنائي مع طفل تشرب الفكر الداعشي، حقيقة رفضهم صعب، وتقبلهم أصعب فما العمل إذاً، وهذا الأمر ينسحب على الدفعات السابقة والحالية”.
أثر وصمة “الإرهاب”
قبل 4 أعوام، أطلقت منظمات وجمعيات مدنية، هي (أمل أفضل للطبقة) و(شباب أوكسجين) و(إنصاف للتنمية) و(فراتنا للتنمية)، العاملة في مدينة الرقة وريف دير الزور الشرقي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 حملة “بين أهلكم” لمساعدة العائلات العائدة من مخيم الهول.
وقال بشار الكراف، المدير التنفيذي لمنظمة (شباب أوكسجين) في حديثه لــ”درج” :”تقطن معظم النساء والأطفال العائدين في منازل مستأجرة ومنازل ممنوحة من الأهالي، منها منازل غير مكتملة البناء، ويعانون من غياب أبسط مقومات الحياة، خصوصاً أنهم عائلات تقودها النساء ولايملكون اي مصدر ثابت للدخل، وينعكس ذلك على اندماجهم في المجتمعات الأصلية والتعليم والخدمات الأساسية، في ظل رفض المجتمع الأصلي لهم على خلفية ارتباط أقربائهم بتنظيم داعش”.
لكن وفقاً لفواز العلي، فإن حال الخارجين حديثاً “لا يختلف عن حال الخارجين سابقاً ووضعهم، بل ربما يصل لحد التطابق بينهم”.
وعرض الكراف ما قدمته تلك المنظمات من خدمات وأهدافها، قائلاً: “سعينا الى حل النزاعات، وهدفنا من المبادرة تغيير الصورة النمطية تجاه هؤلاء العوائل وتسهيل اندماجهم في مجتمعاتهم الأصلية وتعزيز تقبل المجتمع لهم، وتوفير مراكز الدمج المجتمعي بما فيه التمكين الاقتصادي والمهني لدمجهم في سوق العمل والحماية والدعم النفسي الاجتماعي، على أمل تخفيف مخاطر الحماية التي يواجهونها، والتمكين القانوني في ظل فقدان الأوراق الثبوتية والرسمية، مع مشهد معقد للسوريات المتزوجات من أجانب، ومحو الأمية القرائية والحسابية لانتشار الأمية بينهم بشكل ملحوظ جداً، خصوصا أطفالهم”.
في حين قال فواز العلي لـ”درج”: “حالياً لا مساعدات، ولا بناء قدرات، ولا توفير فرص عمل، البنية التحتية مدمرة ومسحوقة في الباغوز وغيرها من المناطق الريفية، وقد أدى توقف الدعم وتعليقه من الداعمين، ألى تراجع دور منظمات المجتمع المدني في دعم المجتمع المضيف، الذي يعتبر أساساً غير مؤهل، ويعاني من تراجع الخدمات الأساسية، وانخفاض المستوى المعيشي وتدهور الزراعة، وضعف التعليم”.
ودعا السيد لورنس البورسان من شيوخ عشيرة الولدة في الرقة في حديثه لـ”درج”، إلى تغيير النظرة المجتمعية للعائدين من المخيم، قائلاً: “سابقاً وحالياً من عادوا من مخيم الهول ساقتهم الظروف ليكونوا أدوات للحرب، ولا بد من مراعاة حالتهم النفسية، لأنهم أُجبروا على التأقلم مع التنظيم وزرعوا أفكارهم في عقول الأطفال الذين لا بد من إعادة تأهيلهم وإيجاد حلّ لمشاكلهم”.
يضيف البورسان: “الرجال الخارجون من الهول تأقلموا واندمجوا بشكل طبيعي، لكن النقطة الأساسية المعيقة أمام النساء هي سبل العيش وغياب الوظائف، بخاصة لمن لا معيل لهن، لذلك لجأوا الى النبش في القمامة، أو العمل كعاملات نظافة لتأمين قوتهم اليومي، وعلى رغم الجلسات الكثيرة من المنظمات المدنية لإعادة الاندماج والمساعدة، لكنها لا تقود الى النتائج المأمولة، وقد فشلت هذه المنظمات في تأمين سبل العيش لهن”.
درج