أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعالتدخل الاسرائيلي السافر في سورياسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوععن أشتباكات صحنايا وجرمانا

تطييف ديني أم سياسي.. من يحرك المشهد في سوريا الجديدة؟/ باسل المحمد

 

2025.05.16

بعد نحو ستة أشهر على سقوط النظام المخلوع، تشهد سوريا حالة انكشاف اجتماعي وسياسي غير مسبوقة، حيث تصاعدت الأصوات الطائفية والمذهبية والمناطقية في مشهد يوحي بعودة البلاد إلى ما قبل الدولة، حيث الطائفة هي الوطن، والمذهب هو الهوية، لكن خلف هذا الضجيج الطائفي ثمة حقيقة أكثر تعقيداً؛ معظم تلك الأصوات لا تعبر عن قلق ديني بقدر ما تسعى إلى الحفاظ على مواقع النفوذ أو حجز مقاعد في السلطة المقبلة.

في علم الاجتماع السياسي مقولة “حين تسقط الأنظمة تنكشف المجتمعات”، هذا ما حدث فعلاً في سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر 2024، فمع انهيار القبضة الأمنية الصلبة التي حكمت البلاد لعقود، خرجت إلى السطح خطابات محمّلة بلغة الخوف من الآخر، والدعوات إلى الحماية، والمطالب الطائفية العلنية، غير أن نظرة فاحصة تكشف أن كثيراً من هذه المطالب ليست دينية في جوهرها، بل سياسية في مضمونها، وإن غُلّفت برداء طائفي لاستدرار التعاطف المحلي والدولي. من الجنوب إلى الشمال، ومن الجزيرة إلى الساحل، تتكرر مشاهد الطوائف التي تطالب بـ”حقوقها” أو “ضمانات وجودها”، بينما يتراءى أن الهدف الحقيقي وراء هذه المطالبات هو المحافظة على نسبة معقولة من المكتسبات السياسية التي كانت تتمتع بها بسبب ولائها للنظام المخلوع، أو السعي للتمركز في مراكز القرار الجديدة، والحصول امتيازات خاصة لإدارة مناطقهم تحت صيغة “لامركزية”، فهل المشهد السوري الراهن نتاج وعي طائفي حقيقي؟ أم أن الطائفة باتت أداة لتكريس مصالح سياسية وصراعات على النفوذ؟

العلويون: خطاب الحماية كغطاء لموقع سياسي بعد سقوط النظام

وجدت الطائفة العلوية نفسها أمام لحظة تاريخية فارقة، فالسقوط لم يكن مجرد خسارة سياسية للنظام، بل اهتزاز عميق في موقع الطائفة ضمن البنية الحاكمة التي تشكلت منذ سبعينيات القرن الماضي. في هذا السياق، بدأ يظهر خطاب علوي يتحدث عن “الخشية من التصفية” و”الحاجة إلى الحماية الدولية”، مستخدمًا لغة طائفية تُشير إلى خطر ديني محدق، لكنه في جوهره يعكس قلقًا من خسارة الامتيازات السياسية، لا الخوف من الإبادة الطائفية. لقد غُلف هذا الخطاب بمفردات دينية واستعارات تاريخية، لكنه لم يُخف جوهره التفاوضي. فالدعوة إلى “الضمانات الدولية”، و”حماية الأقليات”، والحديث عن “صعود التطرف” كلها إشارات توحي بأن المطلب الحقيقي هو تثبيت موقع سياسي للطائفة في أي ترتيبات قادمة.

الخوف لدى الطائفة تمثل في تشكيل كيانات سياسية تحت مسميات دينية مثل “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” الذي تم الإعلان عن تشكيله في سوريا بتاريخ 4 من شباط/فبراير الماضي، وهو كيان ديني يهدف إلى تنظيم وتمثيل شؤون الطائفة العلوية داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى ما يسمى “اللقاء التشاوري للسوريين العلويين في المغترب”. وفي هذا السياق كشفت مصادر خاصة لموقع “تلفزيون سوريا” عن نشاطات سياسية وإعلامية تقودها مجموعة تدّعي تمثيل العلويين السوريين في الولايات المتحدة، تحت اسم “رابطة العلويين في الولايات المتحدة”، وتعمل بتنسيق وثيق مع تيار مدني يضم شخصيات كانت على ارتباط مباشر بالأجهزة الأمنية التابعة لنظام المخلوع بشار الأسد. ووفقاً لوثائق وصور حصل عليها موقع “تلفزيون سوريا”، فقد أرسلت الرابطة خلال الأشهر الماضية (قبل الأحداث التي شهدها الساحل في 6 آذار) رسائل إلى الكونغرس الأميركي تزعم فيها أن العلويين يتعرضون لـ “تطهير عرقي”، و”إبادة جماعية” في سوريا، مطالبةً بدعم مؤتمر تنظمه الرابطة في 12 و13 من أيار الجاري في مبنى الكونغرس بواشنطن.

واللافت أن هذه اللغة جاءت من جماعة لم يكن التدين يشكل مركز هويتها العامة خلال العقود الماضية، فالنظام الذي صعد باسم حزب البعث القومي، حرص على إبقاء الهوية الدينية للطائفة في الظل، بل ووضعها في خدمة المشروع السياسي للدولة المركزية، وهذا ما يجعل عودة الطابع الديني في الخطاب العلوي اليوم أقرب إلى “الاستدعاء الوظيفي”، الذي يهدف إلى حماية النفوذ والمكتسبات، وليس دفاعاً عن العقيدة.

السويداء: هوية محاصَرة تبحث عن أمان سياسي

في محافظة السويداء، التي لطالما اعتُبرت واحة للاستقرار الاجتماعي في خضم الفوضى السورية، بات التوتر السياسي فيها يرتدي عباءة الخصوصية الدينية. فعلى وقع الانهيار التدريجي لمؤسسات الدولة المركزية، برزت داخل الجبل دعوات لتشكيل إدارة محلية “درزية الهوية”، لا تُقدَّم كخطوة انفصالية صريحة، بل كمشروع حماية ذاتية لمجتمع يشعر أنه تُرك لمصيره. الخطاب الجديد الذي بدأ يتبلور في خطب الزعامات الدينية، ومداولات النخب المحلية، يطرح فكرة “الخصوصية الدرزية” ليس فقط كتراث ديني واجتماعي، بل كأساس لتصور سياسي جديد قد يُفضي إلى نوع من الحكم الذاتي، أو على الأقل شكل من أشكال اللامركزية المشروطة. هذه التصورات وإن رُوّج لها تحت مظلة الخوف من الفوضى أو من “صعود التطرف السني”، إلا أنها في جوهرها تعبّر عن أزمة تمثيل سياسي أكثر من كونها مسألة خوف ديني. في هذا السياق، يكرر الشيخ حكمت الهجري الزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، دعوته إلى “حماية دولية لسكان جبل العرب”، مؤكدًا أن “طلب الحماية الدولية حق مشروع لشعب قضت عليه المجازر”. ورغم أن التصريح قُدّم في سياق ديني وأخلاقي، إلا أنه جاء بعد أيام فقط من مشاورات بين ممثلين عن الطائفة وبين وفود أوروبية زارت السويداء، في محاولة لفهم مطالب الأقليات في ظل الانهيار السياسي للنظام السابق. هذه المقترحات، رغم زخمها، لا تحظى بإجماع داخل مجتمع السويداء نفسه، فبينما يرى فيها البعض وسيلة واقعية لحماية ما تبقى من الاستقرار، يُحذر آخرون من أنها قد تؤدي إلى عزل السويداء سياسياً واجتماعياً، وتفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية قد تستخدم الطائفة كورقة تفاوض أو ضغط. تمثل حالة السويداء اليوم تجلّياً واضحاً لتطييف السياسة، فالمخاوف المعلنة لا تتعلق بمنع إقامة الشعائر أو تهديد العقيدة، بل بالقلق من خسارة دور سياسي كان مهمشاً لعقود، واليوم حين تفتح نافذة التغيير، يريد البعض في الجبل أن يضمنوا ألا يُعاد إغلاقها دون أن يكون لهم موطئ قدم واضح في مستقبل البلاد.

السنّة أغلبية تبحث عن استعادة القرار

رغم أن الخطاب الطائفي السني ظل أقل حدّة مقارنة بخطابات بعض المكونات السورية، إلا أن التحولات السياسية بعد سقوط النظام أظهرت تحولاً تدريجياً في لهجة بعض الفاعلين السنّة، خصوصاً في الداخل السوري، فقد بدأت مفردات من نوع “الأغلبية السنية” و”حقنا في قيادة البلاد” و”استعادة دورنا الطبيعي” تتكرر في المنتديات السياسية، والخطب الدينية، وحتى في النقاشات المجتمعية اليومية. هذه اللغة رغم أنها تستند إلى واقع ديموغرافي واضح، لا تخلو من دلالات سياسية تتجاوز الشعار الديني. إذ أن الإشارة المستمرة إلى “أغلبية محرومة” و”أكثرية تم إقصاؤها لعقود” ليست فقط وصفاً لحالة دينية أو مذهبية، بل مطالبة ضمنية بتغيير معادلة الحكم في سوريا. فبعد خمسين عاماً من حكم أجهزة الدولة بقبضة أمنية طائفية واضحة، بات جزء من الشارع السني يرى أن الوقت قد حان لإعادة تصحيح الميزان، ليس انتقاماً، بل استرداداً لمكانة سُلبت باسم الاستقرار القومي تارة، وبذريعة حماية الأقليات تارة أخرى. لكن المفارقة أن هذا الخطاب يُجابه فوراً باتهامات بالسعي إلى “حكم سني” أو “إعادة إنتاج الدولة الطائفية”، في الوقت الذي تُقدَّم فيه مطالب الطوائف الأخرى، ولو كانت أكثر فئوية، على أنها “مشروعة” و”منطقية”. من ناحية أخرى، تدرك معظم النخب السنية أن تحويل هذه المظلومية إلى خطاب صدامي سيعيد البلاد إلى مربع الطائفية الدموية، لذلك تسعى أطراف سنية مدنية إلى موازنة المعادلة التالية: المطالبة بحق سياسي صريح، دون إقحام للهوية الدينية كوسيلة احتكار أو نفي للآخر. باختصار، فإن استدعاء السنّة لهويتهم الدينية في لحظة سياسية مفصلية لا يعني بالضرورة تبنّي مشروع ديني طائفي، بل هو أداة تعبير سياسي تستخدم الغلاف الديني لتبرير استحقاق سياسي طال انتظاره.

رواية مغايرة لما يجري في سوريا

على خلاف ما تروجه وسائل الإعلام والسوشيال ميديا لحالة الاحتراب الطائفي في سوريا التقت رئيسة الأمانة الدولية للحرية الدينية، نادين ماينزا، بطاركة وأساقفة وقساوسة مسيحيين أثناء زيارتها لدمشق برفقة وفد رسمي يمثل منظمات دولية في فبراير/شباط الماضي وقدمت صورة مغايرة للسردية الرائجة حول حقيقة الأوضاع في سوريا.

ونقلت ماينزا عن رجال الدين المسيحيين في سوريا قولهم “على الغرب أن يكف عن مناصرة وحماية الأقليات في سوريا، لأن من شأن ذلك أن يعزز الرواية الخطيرة التي استخدمها الأسد، وقسمت سوريا إلى أغلبية وأقلية. مضيفة أن أنها استمعت لأغلب الحضور، وكان من جملة ما أكدوا عليه أن معظم جيرانهم المسلمين السنة يرفضون الطائفية والعنف، وأنه في فترة ما قبل حكم الأسد، عاشت الطوائف الدينية والعرقية المتنوعة في سوريا معًا في سلام نسبي، ويأملون في استعادة هذا التاريخ.

بالنهاية لا بد من التأكيد أن ما يجري في سوريا اليوم ليس صراعاً دينياً بقدر ما هو خلاف سياسي لبس عباءة الطوائف، وصار يُدار تحت يافطات الحماية المجتمعية والخصوصيات الدينية. لكن الحقيقة الأعمق، والتي يجب أن تُقال بوضوح، أن الشعب السوري لم يكن يوماً في حالة احتراب طائفي داخلي؛ بل ما حدث ويحدث هو صراع على السلطة، تُستخدم فيه الهويات الدينية كأدوات للنفوذ أو كخط دفاع أمام المجهول.

ولذلك، فإن الحل لا يمكن أن يأتي من مزيد من التقوقع، ولا من إنشاء كيانات طائفية، بل من العودة إلى الفضاء الوطني العام، عبر حوار وطني صريح، يشارك فيه الجميع دون إقصاء، ويضع على الطاولة كل الهواجس والتطلعات.

وإلى جانب الحوار، لا بد من إطلاق مشروع للسلم الأهلي، يعيد بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، ويؤسس لمرحلة لا يُسأل فيها المواطن عن مذهبه، بل عن كفاءته ومساهمته في إعادة الإعمار السياسي والاجتماعي.

 تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى