سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعشهادات

عن بلد كان اسمه سوريا… الخيبة مرة أخرى/ خليل النعيمي

خمسون عاماً مرتْ وأنا أعرف ذلك. أعرف ما لا أعرف كيف أصفه. وأي قيمة لوصف ستمحوه الرؤية فوراً، وكأنه ضباب الوجود العابر. لماذا يغادر الكائن مكانه الأول إنْ كان سيظل مسكوناً بالرجوع إليه؟ لكأننا نحب الرحيل، لكي نظل نحلم بالعودة، حتى لو كانت «عودة ملعونة»، أي قَدَر أحمق يربطنا بأمكنتنا كالخراف المطيعة؟ لماذا كنتَ مفتوناً بالعودة، إذن؟ ولكن مَنْ أنت؟ وأين أنتَ الآن؟ كان يجب أن نفترق. أن يَتَرَحل أحدنا عن الآخر. أن نتباعد بما فيه الكفاية لكي ننسى. لكيْ نتَجدد. لكيْ نُخلَق مرة أخرى. الموت ليس افتراقاً، إنه العدم. الافتراق هو الرحيل الواعي. الرحيل الذي يؤدي إلى طريق آخر غير الذي كنا نسلكه كل يوم. الطريق هو المعرفة. والمعرفة هي النأي. هي اللاطمأنينة التي يستوجبها الرحيل الإرادي إلى ما لا نهاية. إنها الحركة التي لا تعرف اليقين.

بعد قليل ستقلع الطائرة إلى «بيروت». بيروت، آخر أرض عربية ودعْتها قبل الرحيل، ستكون أول أرض أهبط فيها بعد العودة. ليس ذلك صدفة، حتى إن بدا كذلك. تتذكر؟ أنا البعيد أتذكر، ولا أحكي. الذكرى ليست كلاماً، إنها الوجود. وجود الكائن المختبئ في أعماقه. تعيش معه كل يوم، وكل يوم ينساها لكي يستمتع باستعادتها. والعودة التي تقلقني، الآن، ليست شيئاً آخر، وأمُد يدي إليها: هاتي يدكِ لأسرق منها أفكارك. الأفكار ليست في الرأس، وإنما في راحة اليدين. أنتِ تعرفين ذلك. الرجل الذي سماكِ اسماً سعيداً، رحل. عاد إلى أرضه وتركني وحيداً. في الطريق إليكِ أُحاذر أن أدوس الأعشاب البازغة في أوائل الربيع. أبحث عن الحصى والحُجَيْرات لتسندني. رحل الرجل وبقيتُ أنا. تلك هي طبيعة الوجود؟ ولكن، لماذا يلتصق الكائن بمكان يدفعه، باستمرار، إلى الرحيل عنه؟

ـ خليل؟

ـ نعم.

ـ الأب حمد؟

ـ نعم.

ـ الأم زهرة؟

ـ نعم.

يعيد النظر في جواز السفر. يدقق فيه بشكل سافر. وفي الوقت، نفسه، يقرأ المكتوب على شاشة جهاز المراقبة أمامه. ويعيد النظر إلي متفحصاً. ومن جديد، يدقق في إخراج قيد النفوس الذي أعطيته له، قبل أن يقول:

ـ لكن إخراج القيد قديم

وقبل أن أجيب، يتابع:

ـ منذ أكثر من خمسين سنة!

ـ نعم

ـ مؤرخ سنة 1972؟

ـ نعم

ـ لم تعد إلى البلد أبداً؟

ـ لا

ويصير يهز رأسه، وهو يتملى، مرة أخرى، ما هو مكتوب أمامه على الشاشة التي أحسها ولا أراها. ومن ثم يعود إلى إخراج القيد القديم، ومن بعد إلى وجهي. قبل أن يسأل:

ـ ماذا تعمل؟

ـ طبيب جراح.

ـ درستَ على حساب الدولة؟

ـ لا.

ـ حافظتَ على هذا القيد منذ أكثر من خمسين سنة؟

ـ كما ترى.

وفجأة، يخرج هاتفه المحمول، ويصور إخراج القيد وجهاً وقفا، قبل أن ينادي زملاءه: تعالوا. ويريهم إخراج القيد بحفاوة وعجب، قبل أن أسأله بحذر:

ـ لماذا تصور إخراج قيدي؟

ـ لماذا؟ حافظتَ عليه بمثل هذا الحرص خمسين عاماً لكي تعود، والآن عدتَ. وبتأثر واضح يكتب على جواز السفر الفرنسي: سوري. ويوقع. وهو يرحب بي: أهلاً بك في بلدك.

أمشي بتردد في شوارع دمشق، وأنا أردد، متعجباً: بأي حال ترك الطغاة سوريا؟ وما سيحصل فيها بعد انهيار سد الطغيان اللعين.

لا.. أنا لست في المكان الذي كنت أتمنى أن أكون فيه. أنا في مكان آخر، لا أعرف، بعد، ما هو. فجأة، أتوقف عن المشي، وأنا أجيل النظر حولي، مدققاً: الاهتراء! اهتراء كاسح يطول كل ما، ومَنْ، أصادفه، وأراه. لم أكن أتصور، بعد خمسين عاماً من الغياب، أنني سأرى كل هذا التلاشي والتفتت والتردي والانكسار في دمشق التي أحب. شيء مخيف يحيط بي، أينما مشيت. صرت أخاف من نفْسي، من نظراتي. من تصوري لدمشق التي أراها أمامي معطوبة، تجثو على الرُكَب من وطأة التاريخ: تاريخ الطغيان الذي لا يرحم. كدتُ أبكي. وبكيتُ، فعلاً، في وضح النهار الدمشقي، الذي لم يعد يشبه النهار. خمسون عاماً من الغياب لم تنقذني من… حاولت كثيراً أن أضع كلمة مناسبة بدل النقاط، لكنني لم أجد ما يلائم الحال. سأترك الفراغ يعبّر عما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

أتابع المشي حذراً. أمشي في الأمكنة التي كنت أعرفها، وأحبها، وأشتاق إليها، وأتمنى أن أموت فيها، من قبل. والآن، لا أفكر، إلا بكيفية الانفلات منها. إنها الخيبة، مرة أخرى. الخيبة التي لا يمكن إخفاؤها، ولا تجاهلها، ولا التلاعب بها، أو التخلص منها. كل شيء يبدو في المكان الذي لا يناسبه. لا أنا، ولا الأشياء التي تحيط بي، ولا الكائنات التي تمر أمامي، في وضع يسمح لنا بالتلاقي. سوء التفاهم العميق بيننا لم يعد فرضية، ولا احتمالاً. إنه قائم بالفعل كجدار أسود لا يمكن اختراقه، ولا النفاذ منه، إنه التاريخ الحي بكل أبعاده المأساوية. تاريخ الكائنات التي تمر أمامي، الآن، في شوارع دمشق التي فقدت ألَقها الفاتن الذي سحرني، سابقاً. هذا، كله، ليس بسبب ما هو كائن، اليوم، وإنما بسبب الوضع الذي كان سائداً قبل انهيار سد الطغيان اللعين. الطغيان الذي دمر كل شيء، بما فيه بُنْيته الفاسدة، بحقد لا يمكن تفسيره.

* كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى