سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعصفحات الثقافة

ماذا يجب أن أفعل؟ ما العمل؟/ حسام الدين درويش

14 مايو 2025

انتقد الفيلسوف الألماني كارل ماركس اقتصار الفلاسفة “على تأويل/ تصوُّر العالم بطرقٍ متنوّعةٍ”، وشدّد على أن “المهم هو تغيير هذا العالم”. فردّ عليه مواطنه الفيلسوف، الألماني أيضًا، مارتن هايدغر، بالقول: “إن تغيير العالم يفترض تغيير تأويلنا/ تصوُّرنا لهذا العالم، وامتلاك تأويلٍ/ تصوُّرٍ صحيحٍ له. ويستند ماركس إلى تأويل/ تصوُّر خاص جدًّا للعالم، ليقول إنّ المهم هو تغييره: وبالتالي يبدو أنّ قول ماركس هذا عديم الأساس/ متناقض ذاتيًّا؛ إذ يبدو أنّ القسم الأول منها ينتقد الفلسفة، في حين أنّ القسم الثاني يفترض ضرورة وجودها ويتطلبه”.

ما يكشفه هايدغر هو الترابط بين السؤالين الكانطيين: “ماذا يمكن أن أعرف؟”، و”ماذا يجب أن أفعل؟”. فالفعل يقتضي رؤية معرفية تضبطه وتساعده على تشكيل ذاته، والرؤية المعرفية بحاجةٍ إلى بوصلة معيارية تحفّزها وتشكِّل غاياتها وتوجّه تطبيقاتها.

في الإجابة عن سؤال “ماذا يجب أن أفعل”، رأى كانط أنّ الواجب الأخلاقي غايةٌ في حدِّ ذاته، وينبغي لنا ألا نختار معيارًا آخر، كالسعادة أو المنفعة أو المصلحة، لتوجيه أفعالنا. وفي تحديد ما هو الواجب ينبغي لنا ألا ننطلق من وضعياتٍ خاصةٍ أو منظوراتٍ (ثقافيةٍ) جزئيةٍ، بل ينبغي أن يكون الواجب كونيًّا، أي واجب كل إنسانٍ، بوصفه إنسانًا. ومن هنا التمييز الكانطي بين الأوامر الشرطية والأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة التي يفرضها الواجب. ففي حين أنّ الأوامر الشرطية تلتزم بالأخلاق لغاياتٍ (نفعيةٍ) أخرى، لا يستهدف الأمر/ الفعل الأخلاقي غير ذاته، بوصفه خيرًا (في ذاته)، فيكون فعل الخير/ الواجب من أجل الخير/ الواجب، وليس من أجل أيّ غرضٍ آخر. ورأى كانط أنّ هناك ثلاث قواعد أساسية تحدّد ماهية الواجبات الأخلاقية أو الأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة: قاعدة الكلية: “اعمل دائمًا، بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونًا كليًّا وعامًّا”؛ قاعدة الغائية: “اعمل دائمًا، بحيث تعامل الإنسانية، في شخصك، وفي أشخاص الآخرين، بوصفها غاية، لا مجرّد وسيلة”؛ قاعة الإرادة: اعمل دائمًا، بحيث تكون/ تجعل إرادتك إرادةً كليةً مشرعةً للقانون الأخلاقي”. ومن الواضح اتصاف هذه الأوامر أو الواجبات المطلقة بالطابع العقلي المحض والكونية، وارتباطها بالإرادة المستقلة وبقيم الحرية والكرامة والاحترام.

أخلاق كانط إنسانية بالمعنيين الوصفي التحليلي والمعياري؛ لأنّ الإنسان تحديدًا، وليس غيره، وبوصفه صاحب إرادةٍ حرّةٍ، هو مصدر هذه الأخلاق، وهو من يخضع لها، ولأنّ هذه الأخلاق تجعل الإنسان غايةً، وليس (مجرد) وسيلة، ومشرعًا للأخلاق، وليس مجرّد مطبّقٍ أو خاضعٍ لها.

ما أحوجنا إلى مثل هذه المعايير الأخلاقية الإنسانية عند محاولة الحديث عمّا ينبغي للسوريات والسوريين فعله في المجال العام السوري، في الوقت الراهن. وعلى الرغم من أنّ هذه المعايير تخصّ كل إنسانٍ بوصفه إنسانًا، فإنها تخصّ النخبة تحديدًا أو خصوصًا. ولا أستخدم مصطلح النخبة هنا بالمعنى النخبوي، بل أعني به الشخصيات والأطراف الفاعلة والمؤثّرة، بغضّ النظر عن مدى تمتّعها بما يجعلها مستحقة لفاعليتها وتأثيرها، أو جديرة بأن تكون كذلك. فعلى الرغم من انخراط عدد كبير من السوريات والسوريين في الشأن (السياسي) العام، إلى درجة يمكن أن يجرؤ المرء على الاعتقاد بأن “الشعب السوري” هو (أحد) أكثر الشعوب تسيسًا في الوقت الراهن، فإنّ معظم أفراد الشعب مشغولون بالبحث عن لقمة العيش الغائبة والمغيّبة في أوضاعٍ يصعب فيها أن يكون الإنسان حرًّا أو صاحب إرادة حرّةٍ ومستقلةٍ، بالمعنى الكانطي للمفهوم.

فانطلاقًا من قانون الكلية، نحتاج إلى أن تتصرّف النخبة الفاعلة، بطريقةٍ تدمج بين القاعدة الذهبية في الأخلاق “عامل الناس كما تحب أن يعاملوك”، وما أرى أنه يشكِّل القاعدة الماسية في الأخلاق “عامل الناس كما يحبون أن يُعاملوا”. وعلى الرغم من أنّ السمعة السيئة للجهل وارتباطه بسوء الأخلاق، إلى درجةٍ جعلت سقراط/ أفلاطون يطابق بينه وبين المعرفة أو ما يمكن تسميته هنا بالوعي، فإنّ الجهل قد يكون مفيدًا إذا كان مرتبطًا بالحجاب الذي تحدّث عنه الفيلسوف الأميركي جون رولز وفلاسفة آخرون، قبله وبعده. ووفقًا لهؤلاء الفلاسفة، ينبغي لمن يحاول صوغ عقدٍ اجتماعيٍّ ألا يعلم شيئًا عن وضعه داخل المجتمع، لا من حيث القدرات والإمكانية والوضع الطبقي والإثني والديني والمناطقي، ولا من حيث الامتيازات والأعباء التي ترتبط بوضعه. وانطلاقًا من هذا الجهل، يكون لديه الحافز المناسب لصوغ عقدٍ ينصف كلّ شخصٍ، أو يحقّق أكبر قدرٍ ممكن من العدالة والإنصاف لأكبر عددٍ ممكنٍ من أفراد المجتمع. ويتقاطع حجاب الجهل الرولزي مع الأوامر الأخلاقية القطعية الكانطية في المضمون، لكنه يختلف عنها بجعله المصلحة محفّزًا وغايةً للسلوك. فمحاولة فعل الخير، هنا، مع الحرص على إنصاف الناس، تتقاطع مع الحرص على المصلحة الشخصية بأن يُعامل الشخص ذاته بإنصاف.

ما الذي ينبغي للسوريات والسوريين فعله في المجال السوري (السياسي) العام؟ هل ينبغي لهم مواصلة عادة التأييد المطلق أو العداء الجذري للنظام القائم، كما كان الحال مع نظام الأسد الساقط؟ هل يمكن العمل على إنشاء نظامٍ ديمقراطيٍّ، في دولةٍ غير موجودةٍ أصلًا، لا من حيث المؤسسات (الأمنية والخدمية والتربوية … إلخ) القادرة على أداء الحدّ الأدنى من المهام المطلوبة منها، ولا من حيث الأرض الواحدة الموحدة، ولا من حيث السيادة على تلك الأرض وحدودها في مواجهة تدخلاتٍ خارجيةٍ مستبيحة ومتواقحة أكثر فأكثر؟ من الواضح تشابك الجانبين المعرفي والمعياري، في هذين السؤالين، وفي أي إجابةٍ محتملةٍ عنهما.

قالت العرب: “اليأس إحدى الراحتين”، لكن، لحسن الحظ أو لسوئه، يبدو اليأس ترفًا غير متاحٍ لمعظم السوريات والسوريين، وهم يواجهون الموت أو الموات، يوميًّا، وبأشكال متعددةٍ. وفي مثل هذه المواجهة قد يكون البحث عن الخلاص الفردي هو أفضل الخيارات أو أقلّها سوءًا، لكن ذلك الخيار غير متاحٍ لكثيرات وكثيرين، وذلك البحث غير مجدٍ لمعظم من لديه مثل ذلك الخيار. لذا لن يكون الخلاص إلا خلاص الجميع، أو لا خلاص للأغلبية، على الأقل، إلا بخلاصها كلّها. وسنكون كلنا “ثيرانًا بيضًا”، و”سنؤكل” ونُظلَم إن لم نفعل أو نقل شيئًا عندما يؤكل ويُظلم أي “ثورٍ أسود”.

يقول الشاعر الألماني هولدرلن: “ما أسعد الإنسان الذي يستقي فرحه وقوته من ازدهار الحياة في وطنه، لكن تلك السعادة تكون منقوصة أو قد يستحيل وجودها إذا لم يستق ذلك الوطن فرحته وقوته من ازدهار حياة الإنسان فيه”. وبدلًا من أن “نموت جميعًا ليحيا الوطن”، يموت الوطن بموتنا، ويحيا بحياتنا. وينبغي أن يكون الإنسان غايةً، وصاحب إرادةٍ حرّة ومستقلةٍ، ويحظى بالكرامة والاحترام، لكي يكون للوطن، أو حتى للدولة، معنىً، أو حتى وجودٍ.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى