تاريخ

مراجعة المعاهدات الدولية في سوريا.. الإمكانات القانونية والمسارات المقترحة/ عدي محمد الضاهر

2025.05.15

مع ازدياد الحديث حول المعاهدات والاتفاقيات التي قام النظام السوري البائد بتوقيعها مع دول عديدة وفرضها على السوريين، تبرز إلى الواجهة مسألة شائكة وحاسمة: كيف يمكن لسوريا أن تراجع أو تلغي المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي أُبرمت في حقبة سابقة؟ وخاصة تلك التي أُبرمت خلال سنوات الصراع مع النظام الديكتاتوري، أو وُقّعت في ظل غياب إجماع شعبي ومؤسساتي؟

والسؤال الأعمق: هل تملك الحكومة السورية الجديدة الأدوات القانونية والدبلوماسية لفك الارتباط بمعاهدات قد تُعدّ اليوم عبئًا على السيادة والموارد والقرار الوطني؟

السياق السياسي والحقوقي للمعاهدات الموروثة

خلال العقود الأخيرة، ولا سيما بعد بداية الثورة السورية عام 2011، وقّع النظام السوري البائد مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات الاستراتيجية مع دول حليفة كروسيا وإيران، شملت مجالات حيوية مثل الطاقة والمرافئ، والفوسفات، والأمن، والدفاع.

كثير من هذه الاتفاقيات أُبرمت في ظروف استثنائية، ترافقت مع انهيار مؤسسات الدولة، وانعدام المساءلة البرلمانية أو الشعبية، مما يجعلها محل شك من حيث المشروعية الداخلية والالتزام القانوني الدولي.

    اشتراط إعادة التصويت البرلماني على هذه الاتفاقيات بعد تمكين برلمان جديد، أو اللجوء إلى مبدأ السيادة غير القابلة للتفويض كمبرر قانوني لإبطالها.

القواعد القانونية لإبطال أو تعديل المعاهدات الدولية

وفقًا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (1969)، وهي المرجع القانوني الأعلى في تنظيم المعاهدات الدولية، يمكن للدولة أن تطعن أو تنسحب من معاهدة استنادًا إلى عدة مبررات، منها:

    عيوب في التعبير عن الإرادة: حيث تنص المادة 46 على أنه إذا ثبت أن من وقّع المعاهدة لم يكن مخولًا بذلك وفقًا للدستور الوطني، أو خالف قواعد داخلية جوهرية، يمكن الطعن في شرعية المعاهدة.

    الخطأ أو الإكراه: وفقًا للمادتين 48 و52، إذا وُقّعت المعاهدة تحت ضغط سياسي أو عسكري غير مشروع، أو نتيجة لمعلومات مغلوط فيها، يجوز إبطالها.

    التغيير الجوهري في الظروف: وفقًا للمادة 62، يمكن للدولة الانسحاب من المعاهدة إذا حدث تحول جذري في الظروف التي بُنيت عليها الاتفاقية، وأصبح تنفيذها غير ممكن أو غير عادل.

    خرق الطرف الآخر للمعاهدة: في حال خالفت الدولة الأخرى بنود الاتفاق أو أخلّت بالتزاماتها، يحق للطرف الآخر المطالبة بإنهائها أو مراجعتها.

مقترحات لإلغاء أو مراجعة المعاهدات المضرّة

من خلال الاطّلاع على الاتفاقيات الموقّعة خلال فترة حكم بشار الأسد، يمكن للحكومة السورية الجديدة اتباع عدة آليات لإعادة تقييم المشهد التعاقدي:

    الطعن في شرعية الاتفاقيات الاستراتيجية

        مثال: اتفاق إدارة ميناء طرطوس الموقع مع روسيا لمدة 49 عامًا، والذي يمنح موسكو امتيازًا مفرطًا من دون رقابة وطنية ومن دون معايير الشفافية الدولية.

        الإجراء: تشكيل لجنة قانونية للطعن في دستورية المعاهدة محليًا، ثم إحالتها إلى القضاء الدولي أو محكمة العدل الدولية إذا لزم الأمر.

    مراجعة الاتفاقيات ذات الطابع الاقتصادي الريعي

        مثال: عقود استثمار الفوسفات والنفط الموقّعة مع شركات إيرانية وروسية من دون مناقصات شفافة.

        الإجراء: إعادة التفاوض مع الشركات المعنية بناءً على مبدأ السيادة الاقتصادية والعدالة التعاقدية، أو إعلان بطلان الاتفاق من طرف واحد مع عرض التحكيم الدولي كمسار بديل.

    إعادة النظر في الاتفاقيات الأمنية والعسكرية

        مثال: وجود قواعد عسكرية روسية دائمة من دون موافقة برلمانية.

        الإجراء: اشتراط إعادة التصويت البرلماني على هذه الاتفاقيات بعد تمكين برلمان جديد، أو اللجوء إلى مبدأ السيادة غير القابلة للتفويض كمبرر قانوني لإبطالها، وهذا يرجع تقديره إلى طريقة وشكل العلاقة السياسية التي تريد الحكومة السورية الجديدة رسمها مع روسيا.

    إن لحظة الانتقال السياسي في سوريا لن تكون مكتملة من دون مراجعة جذرية للمسار القانوني والدبلوماسي الذي رُسِم خلال السنوات الماضية.

المسارات السياسية والدبلوماسية الممكنة

    اعتماد سياسة مراجعة شاملة شفافة: عبر تشكيل هيئة وطنية لمراجعة المعاهدات تضم خبراء قانونيين واقتصاديين ودبلوماسيين، يتم تفويضها بمراجعة كل العقود والمعاهدات الموقعة منذ عام 2011.

    طلب وساطة دولية: يمكن للحكومة الجديدة اللجوء إلى الأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية للتوسط في الخلافات القانونية، مع التشديد على أن المعاهدات وُقّعت في سياق حرب داخلية وصراع على الشرعية.

    التدرج في الإلغاء: ليس من الضروري إلغاء كل الاتفاقيات دفعة واحدة، بل يمكن البدء بالمعاهدات ذات الأثر الفوري على الموارد والسيادة، مع التفاوض على الباقي.

توصيات

    تأسيس هيئة وطنية مستقلة لمراجعة المعاهدات الدولية، تتألف من قضاة، وخبراء في القانون الدولي، وممثلين عن البرلمان الذي سيصدر عن الشعب والمجتمع المدني، لضمان الشفافية والشرعية في عملية التقييم.

    الالتزام بالقنوات الدبلوماسية أولًا قبل اللجوء إلى الإلغاء الأحادي، تفاديًا للتوترات الدولية أو التبعات الاقتصادية، واعتماد مبدأ التفاوض كأداة أساسية.

    الاستفادة من الدعم الدولي القانوني والسياسي، خصوصًا من المنظمات الأممية والاتحاد الأوروبي، لتعزيز شرعية المطالب السورية بإعادة النظر في الاتفاقيات التي أُبرمت في ظروف غير مستقرة.

    التمييز بين المعاهدات المفيدة والضارة، بحيث يُحافَظ على الاتفاقات المتوازنة والمفيدة للتنمية الوطنية، ويُلغى أو يُعدَّل ما يضر بالسيادة والمصلحة العامة.

    إدماج هذه المراجعة في عملية الإصلاح الدستوري والسياسي، بوصفها جزءًا من بناء دولة القانون، والمؤسسات، والسيادة الوطنية على الموارد والقرارات.

إن لحظة الانتقال السياسي في سوريا لن تكون مكتملة من دون مراجعة جذرية للمسار القانوني والدبلوماسي الذي رُسِم خلال السنوات الماضية. المعاهدات الموقّعة في ظل الحرب والاضطراب ليست قدَرًا لا يُرَدّ، بل يمكن قانونيًا ودوليًا التعامل معها بشروط جديدة تراعي المصلحة الوطنية. ومن شأن هذا المسار أن يُعيد لسوريا جزءًا من سيادتها، ويفتح الطريق نحو علاقات خارجية أكثر اتّزانًا وعدلًا، قائمة على الشفافية والمصلحة المتبادلة، لا على الضرورة وحسابات القوة والضعف.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى