العناية بسورية، البلد غير المحبوب من أهله/ ياسين الحاج صالح

بحثاً عن حبٍّ للبلد يفوق كراهية حُكّامه أو قطاعات منه
19-05-2025
يكره سوريون مختلفون حُكَّامهم أو قطاعات من مجتمعهم أكثر مما يحبون بلدهم، بينما تبدو فرص سورية في البقاء اليوم رهناً بأن يزيد عددُ وأثرُ من يحبون البلد ويعتنون به على من يكرهون الحاكمين أو هذه الفئة أو تلك من السوريين. نتقدم هناك بادعاء غريب: سورية بلد غير محبوب من قبل سكانه لأسباب مختلفة. لبنان ليس كذلك، ومصر ليست كذلك، وتونس ليست كذلك، ولا يبدو أن أياً من دول الخليج كذلك، ولا الأردن الذي يُجايل الكيانَ السوري عمراً، ويشبهه من حيث آليات النشوء. ربما العراق يشبه سورية، وربما ليبيا.
وهنا محاولة للنظر في بعض جذور هذا الوضع المؤسف.
سورية استقرت على شكلها الحالي عام 1943 بعد عدة تجارب من الفرنسيين في تشكيل عدد من الدول منها. كانت قبل الانتداب الفرنسي جزءاً من السلطنة العثمانية، تتفاعل أقسامه المختلفة مع أجزاء واقعة اليوم في بلدان أخرى. كانت حلب على طريق الحرير، ميناؤها هو اسكندرون الواقعة اليوم في تركيا، وغير قليل من تبادلاتها التجارية مع الموصل الواقعة في العراق. هذا بينما كان ميناء دمشق الواقعة على طريق الحج هو حيفا الواقعة اليوم في إسرائيل، وكانت المدينة تُتاجر مع الحجاز وتقصدها قوافل التجارة البعيدة من الهند وفارس عبر العراق.
خاض السوريين كفاحهم ضد الفرنسيين كعرب، وكان إبراهيم هنانو الكردي الأصل وسلطان باشا الأطرش، الدرزي، يخاطبان السوريون بعبارات من نوع: أيها العرب! كان مُدرَك العرب استيعابياً يُتيح تجاوز انقسامات الدين والمذهب في بلد خرج لتوه من تحت الحكم العثماني، ويحاول الفرنسيون التلاعب بتنوعه الأهلي. لكن كان ذلك ينطوي سلفاً على عدم تطابق بين وعي الكيان وواقعه. وبعد استقلالها لم تستقرّ سورية على حال فكري نفسي يتوافق مع كيانها الناشئ، بل اتّسعَ التفارُقُ وبلغَ حدَّ الانفصال مع الوحدة مع مصر ثم الحكم البعثي. الوحدة كانت انفصالاً للسوريين عن سورية، وفناءً للبلد في دولة أكبر. وهي تدل على مَنزَع متطرف في تكوين سورية، لم نواجهه نحن السوريون يوماً ولم نُقرّ به، بل وأَوهمَ كثيرون بيننا أنفسهم أن سورية معتدلة ووسطية (في بالهم دمشق ربما، وهذا الاختزال نفسه مؤشرُ تَطرُّف وليس مؤشرَ اعتدال). القوميون العرب كرهوا الاستعمار وأحبوا الأمة العربية، لكنهم لم يحبوا «القطر العربي السوري»، بل وأنكروا شرعية وجوده وأقاموا شرعية حكمهم له على هذا الإنكار الذي شاركهم فيه غير قليل من «الشعب العربي في سورية». الحكم الأسدي أحبَّ نفسه ودوامَ سلطته، وكره خصومه السياسيين، وبخاصة الإسلاميين، كُرهاً استئصالياً. وعاقبَ حافظ الأسد مدناً بحالها مثل حلب وحماه وإدلب لأنها لم تحبه أو تمردت عليه، وكان هو مَعقِدَ حُبِّ السوريين المُفترَض، لا البلد ولا مدنه ولا ثقافته ولا مجتمعه المتنوع. وبالمقابل، كره كثيرون حافظ وبشار الأسد ونظاميهما أكثر مما أحبوا البلد، وهو ما يثير أسئلة بشأن دوافع كرهٍ للأسدَيْن قد لا تُحيل إلى العناية البلد والارتباط به. ومنذ الآن نرصد في النبرات وفي الأقوال الصريحة كُرهاً للفريق الحاكم اليوم، لا يبدو أنه تحفزه غيرة على سورية أو حرصٌ عليها.
وأحبَّ الشيوعيون السوريون الطبقة العاملة والاتحاد السوفييتي والعقيدة الشيوعية، وليس سورية. وحتى حين ظهرت شيوعيات سورية أقلُّ سوفييتية، فإنها إما وقعت في كُره النظام أكثر أو في عشق نفسها أكثر، ولا نجد في سجلّاتها ما ينظر في تكون سورية باحترام وحرص. وأحبَّ الإسلاميون الإسلام والأمة الإسلامية وماضي المسلمين، وليس سورية أو هذا البلد أو ذاك من بلدانهم، وليس الزمن الحاضر. وهم كرهوا الحكم البعثي والأسدي من كل قلوبهم، لكنهم لم يَعرِضوا حِرصاً على إطار سوري جامع، ولا احتراماً أو حسّاً بالإخوة مع أي من السوريين غير المسلمين، وغير الإسلاميين. وحتى القوميون السوريون الذين وحدهم يحملون اسم سورية في اسمهم، كانوا يحبون أنطون سعادة وبشار الأسد، ويكرهون «يهود الداخل»، أكثر مما يحبون سوريتهم الكبرى ومجتمعها وتَنوُّعها.
ولا يكاد يكون لسورية نصيبٌ من التقدير عند النخب الثقافية، وقليلة هي الكتب التي كُتبت عن سورية بروح إيجابية، حتى وإن انتقدت الكثير من أوجه حياة السوريين. المثقفون نقديون، هذا تعريفهم وواجبهم، لكن يَفترِضُ المرء أننا ننتقد من أجل وجود وحياة أفضل في الإطار السياسي الذي نعرفه أكثر من غيره وننشط فيه، ونتعرض فيه لأشكال من التمييز والعقاب والكره. هذا الإطار هو سورية لا غيرها، لأنه يحضن من أوجه حياتنا أكثر من أي رابطة أخرى من روابطنا. وخلافاً لدمشق أو للشام التي تبدو موضعاً مناسباً للقصائد والأغاني، تبدو سورية مضادة للشعر، وهو فن قريب إلى الحب؛ ولم تدخل الأغاني، وهي فن الحب أكثر من غيره، إلا في عهد حافظ الأسد، لكن حصراً بوصفها «سورية الأسد». وبين النخب الاجتماعية هناك من يحبون مدينتهم دمشق أو يحبون مدينتهم حلب، أو حمص أو دير الزور، لكن سورية لا تبدو موضوعَ استثمارٍ عاطفي وانفعالي. وهناك بعد ذلك من يحبون عشيرتهم، ومن يحبون طائفتهم، ومن يحبون دينهم، ويكرهون غيرها من العشائر والطوائف والأديان، مما يُبقي سورية إطاراً مُجرَّداً لجماعات متنوعة، ليس مُنافِساً على الحب أو جديراً به.
ولم تعرف سورية خلال ما يزيد على قرن من قيام كيانها الحديث مؤسسة عامة تتجسد فيها الوطنية السورية، شيء يشبه الجيش في مصر، أو السلالات الملكية في الخليج، أو الصيغة الميثاقية في لبنان (على علّات هذه المؤسسات الجامعة كلها). بأثر ذلك ظلت سورية كلمة مُعلَّقة في الفراغ، وظلت صفةُ الواحد منا كسوري لا تقول شيئاً مهماً عنه أو عنها. ما يقول شيئاً مهماً يغلبُ أن يكون العائلة أو الطائفة أو المَحلَّة. وهذا بذاته عائدٌ إلى ضعف الكيانية السورية ووهن التماهي بها. نتماهى بمن وما نحب، وليس بما لا نبالي به. وغير المؤسسات، ليس هناك رموز سورية جامعة، وفي سنوات صراعنا الطويلة بعد الثورة، تداعت الإجماعات المفروضة حول العلم والنشيد، وتكفَّلَ الواقع بتداعي الليرة السورية كلغة تبادل مادي جامعة.
وفي المحصلة تبدو سورية إطاراً عارضاً لوجود السوريين، بلداً يصادف أنهم ولدوا فيه دون أن يُسبِغوا قيمة إيجابية على هذه المصادفة، أو يَنسبوا لها معنىً يتعارفون عليه. وحتى في بلدان المهجر السورية خلال السنوات العشر الماضية، ليس شائعاً أن تكون سورية هي عنوان التلاقي بين سوريين لم يكونوا على معرفة ببعضهم. تتقدم على الصفة السورية صفات دينية ومحلية، أو شبكات صحبة ضيقة.
ولا يفوتنا أن الكلام على حُبّ الوطن خطير لأنه اقترن في التاريخ الحديث بالشوفينية أو التعصُّب الوطني وكره الأجانب، ولأنه يمكن أن يسلم نفسه بسهولة لسلطة الدولة، تراقب مُسلَّحةً به الأصوات المنشقة والنقدية وغير المتوائمة. لكن سورية أقرب إلى حالة متطرفة من غياب التوظيفات العاطفية والفكرية الإيجابية في كيانها ومجتمعها وتنوعها، مع بقاء كراهيات متنوعة، مُوجَّهة نحو الداخل والخارج، مُعتمِلة في نفوس أكثرنا. التطرف السوري قاد السوريين للهرب في كل اتجاه بعيداً عن مساحتهم الجامعة، نحو ما فوق هذه المساحة من أمة عربية أو إسلامية، وهو ما تجسَّدَ مرة في انفصال السوريين عن سورية وانحلالها في مصر كما تَقدَّم، مثلما تجسَّدَ لوقت طويل في إنكار لشرعية وجود البلد بوصفه كياناً مصطنعاً، مما أضعفه أمام نخب سلطة جعلت منه إقطاعة حزبية، ثم عائلية. كما تجسَّدَ أيضاً في أشكال من التطرف الديني لم تجد ما يُعدِّلها أو يحد من إطلاقها من كيان يحظى بقدر من إجماع سُكّانه. ثم إنه يحاول أن يتجسد اليوم في مَنازِعِ انفصال، تعبر عن نفسها علناً بلغات مشحونة بالكُره، وتستدرج ببسالة عروض حمايات أجنبية. هذا الهروب المتكرر من الجسد السوري يعطي الانطباع بأن قليلين منا يشعرون بالارتياح فيه.
ويبدو في الواقع أن في تكوين بلدنا شيء وعرٌ ونازعٌ إلى الذهاب بعيداً مثل ولد نشأ يتيم الأبوين، وعانى كثيراً في طفولته، فصار برّياً، جانحاً، صعبَ القياد. وهو ما لم يَجرِ تَدارُكُه في أي وقت بالتعامل اللطيف والودود مع البلد في تنوعه، أي مع سياسة تنوعه على نحوٍ يصون وحدته وفُرَصه في البقاء. وفاقمَ من ذلك أن السوريين قلما يعرفون بعضهم، وقد تكون نسب من زاروا مدناً وبلدات أخرى، بخاصة في الأطراف. من الأدنى عالمياً (أين الدراسات الإحصائية في هذا الشأن؟). هذا ليس للقول إن التطرف السوري نتاج الجهل، فهو وليد النشأة الوعرة للكيان، وفرط مركزيته، ثم مزايدات أبنائه على بعضهم حتى الموت، لكن الجهل فاقمَ التطرُّفَ الكياني ورسَّخه. ولعل فرط المركزية السورية ناشئٌ عن افتقار البلد إلى مركز طبيعي جاذب يتماسك حوله.
صعوبةُ قيادِ سورية تعني بالضبط صعوبة قيادتها وسياستها. يكاد بلدنا العسير يكون مستحيلَ الحكم. حافظ الأسد جاء من هذه الاستحالة، وليس من تكوين شرير فاسد، مُتأصِّلٍ في منبته العائلي والطائفي، هذا وإن يكن حبه لنفسه وعائلته أكثر من حبه للبلد الذي يحكمه قد آلَ بسورية أن تصير أشدَّ استعصاء على الحكم. ولذلك فإن من شأن استمرار قلة العناية بالبلد ومجتمعه وناسه المتنوعين أن يُديم عُسرَ القيادِ والقيادة، وأن يُنتج حافظ أسد جديد، أو يتسبَّبَ في انفراط البلد نهائياً.
كانت الثورة السورية أكبر حدث في تاريخ البلد مُوجَّه سورياً، تَطابقَ في جذعها الأصلي البلدُ كإطار لحياة السوريين مع وعيهم الذاتي لأنفسهم كسوريين. وهي واقعة تستحق إبرازاً أكبر، ويمكن أن تكون تجربة مؤسسة لسورية جديدة جامعة، تُخرِجُ الكيان السوري الجامع من التنازع السياسي الخاص، الديني والإثني والطائفي، لتجري المنازعات المحتملة في سورية وليس عليها.
ولا بد من الإلحاح على أن أهم التوظيفات العاطفية هي ما يأتي من الحاكمين والأقوياء. هؤلاء من يتعيّنُ عليهم أن يُبرهنوا على حب غير مشروط لبلدهم وشعبهم (وليس تَوقُّع الحب من مَحكوميهم أو فرضه عليهم مثلما فعل الأسدان)، هُم من ينعكس حبهم للبلد واحترامهم لأهله وعنايتهم بهم أجواءً إيجابيةً عامة. أظهر عموم السوريين إيجابية حيال بلدهم في أوقات الانتقال، بما فيها وقتَ ورثَ بشار أبيه، ثم وقت سقوط النظام، لكنهم لم يَلقوا إيجابية مُقابلة من الوريث قبل ربع قرن، والإيجابية الأولية التالية لسقوط النظام شهدت انحساراً منذ آذار الماضي، وهي إن كانت تشهد صعوداً بعد وعود رفع العقوبات، فإنه يُحتمَل أن تبقى متموجة لوقت أطول. هذا بينما شهدنا «ثورة» في الانفعالات والكراهيات في بضع الشهور الأخيرة، على نحو يُوحي باستبطانِ عدم استحقاق السوريين المتساوي للاحترام، وعدم استحقاق حيواتهم لاهتمام متساوٍ، ودوماً قلة عناية بالإطار السوري الجامع. لكن يبقى الأساس الصحيح للحد من الضغائن الفئوية والميول النابذة هو السلوك الجاذب والاستيعابي من قبل من هُم في السلطة.
المشكلات الاجتماعية والوطنية لا تُعالَج بالحب والدعوة إلى الحب؛ تُعالَج بالتصدي لجذورها على أسس من المساواة والاحترام. وليس في المسالك اليومية الأكثر لطفاً، والأقل عدوانية، ما يتعارضُ مع المعالجات الجذرية، بل العكس. الخشونة والعنف اللفظي ودعوات القطيعة يغلب أن تكمن وراءها تطلعات فئوية أو فردية خاصة.
في مفصل تاريخي اليوم، حيث كثير من النفوس غضّة وحيث الوقائع غضّة بعض الشيء، الوقت ملائم للكلام على العناية بالبلد وإيجابية السوريين المبدئية حيال بعضهم والتقليل من منسوبات الكُره العالية. المسألة ليست أن نحب سورية حباً غير مشروطٍ بحقوقٍ أو كرامةٍ أو عدالة، بل فقط أن نحبها أكثر مما نكره حاكميها أو قطاعات من شعبها، بحيث يكون مُسوِّغُ أي كره خاص هو إعاقة المكروهين للتحسّن العام.
موقع الجمهورية