النقد.. والنقد البنّاء/ حسام جزماتي

2025.05.19
يعرف متابعو الأدبيات السياسية العربية الحديثة أن عنوان هذا المقال ليس جديداً في هذا الحقل. بل مكرر إلى حد في وثائق الأحزاب القومية اليسارية على وجه الخصوص، ومنها حزب البعث، قائد الدولة والمجتمع والعقل والمعايير وكل ما في الحياة العامة السورية التي كانت تزداد تصحراً بتناسب طردي مع اهتراء مفاهيمه وفقدانها لأي معنى.
لكن انفجار التعبير في البلاد، منذ سقوط البعث وعلى رأسه بشار الأسد، فتح أبواباً واسعة للنقد وما حوله، أدارت رؤوس المتابعين الذين صاروا يتساءلون عن ترند اليوم، والذي يمس غالباً أحد قرارات الحكومة أو تصريحات مسؤوليها أو مقابلات المشاهير. وقد أتعبت هذه الحيوية المفاجئة الفائقة نفوساً كانت قد نسيت حرية التعبير لعقود في مناطق النظام، وأخرى قد ضجرت منها وتراجعت جدواها عندها من سكان المناطق المحررة المتعَبة سابقاً.
ومن جهته صعد الحكم الجديد على آمال عريضة للغاية، وإمكانات شديدة العسر، وجمهور متحمس ضاق صدره بالشك في احتمال تحقق الأحلام أو الإشارة إلى مصاعب ذلك فبادر، بقواه الذاتية الفائرة وعبر إعلامييه شبه الرسميين والطوعيين، إلى محاولة إسكات كل صوت يفسد البهجة أو يضع العصيّ في عجلة الآمال الفياضة. لكن الجو العام سرعان ما تنبّه إلى أن ذلك غير جائز في عهدٍ عنوانه الحرية، فتراجع دعاة الإسكات خطوة إلى الوراء، واستعادوا، من دون أن يعرف معظمهم التاريخ، هذا التمييز القديم بين النقد والنقد البنّاء.
ومن دون تنظير على نهج البعثيين، انصرف معنى كلمة «النقد» إلى رفض مشروع الحكم القائم من جذوره، أو الإشارة إلى عيوب جوهرية غير قابلة للإصلاح فيه، أو يتطلب العمل عليها تغييرات بنيوية لا يستطيعها أو لا يريدها. في حين عنى تعبير «النقد البنّاء»، المفتوح على مصراعيه تقريباً، تنبيه الأجهزة الخدمية إلى انقطاع الكهرباء، مثلاً، لأسبوع عن هذا الحيّ أو ذاك، أو توعية السلطة إلى تسلل بعض الشبّيحة في دورات التطوّع في الأمن العام أو الشرطة أو الجيش. وصولاً، على الخصوص، إلى حملة استنكار مفتوحة تعمّ صفحات إعلاميين عند تعرّض أحد زملائهم للتعدي من دورية هنا أو هناك. ففي نهاية المطاف يتحدر المسؤولون المتوسطون والموظفون الجدد، والمؤثرون المتألقون الآن، من بيئات الثورة، ولا بد لهم من تلبية بعض متطلباتها والوفاء لمسيرتهم وذاكرتهم التي لم تمحُها الأيام بعد. ومناسبات كهذه فرصة ممتازة للقيام بهذه الأعباء، ومستند للتملص من تهمة «التطبيل» التي شاعت في وصف بعضهم ويحاذر من الوقوع في حماها الآخرون.
غير أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد. ففي مجتمع لم يعتدِ النقد تضيع حدود ما يعرّفه ويضبطه في فضاء سائب يحتمل أشكالاً مختلفة من التطرفات. فمن جهة أولى لا يتورع بعض الإعلام شبه الرسمي والرديف عن التحريض على أشخاص وجماعات، مما ترك آثاراً دامية فعلية بوجود جمهور كبير جزء منه مسلّح أو مؤثر في حاملي السلاح. ومن جهة أخرى يستخدم بعض واضعي المعايير وفق أهوائهم طرفاً من الآداب العامة، كرفع الصوت أو خفضه، لتجريم النقد وتجاهل قضيته المطروحة، بدعوى وبما أننا في دولة حديثة، أو هكذا نأمل على الأقل، فإن الضوابط الأساسية لنقد السياسيين أو المؤسسات يجب ألا تُستمد من أعراف المجالس التي يجب أن تحكم الحياة الاجتماعية فحسب؛ بل من مصدرين هما القوانين التي تضبط حدود التهديد بالعنف أو التحريض عليه أو التشهير، وأيضاً من مواثيق الشرف الإعلامية التي يُفترض أن تكسو الفضاء الصحافي المقروء والمسموع والمرئي بضوابط قانونية أو نصف قانونية أو مهنية تحدد مساحة التعبير المقبولة عن تلك الصفراء، بمعايير عالمية. وفي انتظار تحديث القوانين وتفعيلها، وهو أمر يحتاج إلى كثير من الوقت، لا بد من وضع الحِمل على العامل الثاني ونظائره، بأن تلتزم المؤسسات الإعلامية بأخلاقيات مهنية واضحة شفافة صادقة لا يطغى عليها حماس ولا تخالطها محسوبية ولا يبطّنها تغاض.
وإذا كنا في مرحلة بناء سوريا من جديد، ووضع أسسها من النواحي كلّها، فإنه يجدر أن تتم هذه العمليات بأعلى قدر من ضبط النفس والقوى تجاه الرأي المخالف مهما بلغت جذريته أو نقده سلوكياتنا. وأن نعدّ كل ما لا ينتهك القوانين والمواثيق منه نقداً بنّاء أو، على الأقل، نقداً لا يستحق الإدانة والإخراج من الملة الدينية أو الوطنية. فلا يليق بحامل مشروع قوي منتصر أن يحسب كل صيحة عليه، وأن يبدو ضعيف الثقة بخطواته إلى درجة منع مراقبتها وتقويمها.
لا سيما وأننا ورثنا في هذه البلاد، نتيجة لعقود حكم الأسدين ولأسباب أخرى بعضها أقدم، تيارات شتى تتركّب على أقوام وطوائف وجماعات. ولا ينفع، لترميم النسيج الوطني الهش، أن نكون هشّين نحن أيضاً إلى هذا الحد. فمفاعيل عدم الثقة بالنفس ربما تجلت بردّات فعل شعبية حادة كما شهدنا مؤخراً في أكثر من منطقة. وهو آخر ما تحتاج إليه البلاد في هذه المرحلة، الحساسة فعلاً، من طورها الانتقالي من حالة الخراب إلى دولة مستقرة كما يتمنى الجميع.
تلفزيون سوريا