“سوريا الجديدة”: هذيان “الديمقراطيين” وسحر “البراغماتية” الشائن!/ عمّار المأمون

17.05.2025
الحكومة المؤقتة في سوريا لم تُتح مساحة للسياسة، لا قانون لتنظيم الأحزاب، لا نقابات مستقلّة منتخبة، أما الفضاءات العامّة فتُهدَّد ضمن منطق “فائض القوّة”، فالسلطة تمتلك القدرة على تحريك جموع غاضبة، مستعدّة للقتال، بعضها مسلّح، وبعضها يرفع هتافات إبادية.
“الثورة السورية انتهت”، تعويذة نطقها أحمد الشرع قبل تعيينه رئيساً، ثلاث كلمات مسّت بالسحر عقول الكثيرين وأبصارهم بل حتى أعمتهم، واستسلموا لخطّة الشرع بعد نهاية الثورة، التي تُلخَّص بـ”سندخل منطق الدولة”، تتمّة التعويذة اللازمة كي تكتسب قدرتها الأدائية.
هذه “الدولة” تبنّت الميليشيات التي ائتلفت تحت راية وزارة الدفاع، أما “حكومة الإنقاذ” التي كانت واجهة “هيئة تحرير الشام”، فـ”استلمت” على مؤسّساتها، وظهرت معها كلمات كـ “السيادة”، و”الحوكمة”، و”إعادة الإعمار”، والأهم “سلطة القانون”، تلك التي تختار هذه السلطة حسب مزاجها، ما تنفّذه من “قوانين أسدية”! لكن إلى الآن لم تُجب هذه الدولة ومؤسّساتها عن سؤال: أين تمارس السياسة الآن؟
غموض الإجابة عن هذا السؤال سببه أولاً، تاريخ طويل من فقدان المعنى الذي تسبّب به نظام الأسد، أي الكلمات والمفاهيم على مسافة واسعة من التطبيق والتجلّي المادي، البلاغة الفارغة هذه أعدَتْنا جميعاً، الكلمات على مسافة واسعة من معانيها، مسافة كرسّتها “الثورة” نفسها التي صودرت بسلاح الإسلاميين.
الآن هناك إجابة أقلّ نظرية وأكاديمية، الحكومة المؤقتة لم تفتح مساحة للسياسة، لا قانون لتنظيم الأحزاب، لا نقابات مستقلّة منتخبة، فقط صراخ وشتائم وبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي. بصورة ما، لا سياسة الآن في سوريا ولا صوت تمثيلي، طبعاً كلمة سوريا هنا تعني “إقليم بني أميّة”، فلا السويداء، ولا مناطق الإدارة الذاتية محسوبة على دمشق كلياً، أما الساحل فمنطقة شبه محاصرة!
عن بلاغة فائض القوّة
إثر الفراغ البلاغيّ الذي تركه نظام الأسد، تستعير سلطات دمشق من معاجم متعدّدة، معجم الـNGOs (سلم أهلي، عدالة انتقالية، مدنية… إلخ) ومن معجم الميليشيا (خطف، أنفاق، استلام المدن…) وأيضاً تنويعات على معجم الأسد (عناصر غير منضبطة، جماعات خارجة عن القانون وإرهاب… إلخ) ومؤخّراً، أُضيف معجم العداء مع إسرائيل (العدوان الإسرائيلي، وحدة الأراضي السورية، اتفاقيات ابراهام، سلام مباشر…. إلخ) هذه المعاجم التي تلبّي رغبة طيف واسع من السوريين على اختلافهم.
هناك طيف آخر من السوريين لا تحضر الكلمات التي تصفهم، وهم حملُة السلاح، “الفاتحون” على تنوّعهم، بعضهم نظرياً أصبح يخضع لسلطة “الدولة”، والبعض الآخر “عناصر خارجة عن القانون”، وهنا بالضبط تظهر دلالة مصطلح فائض القوّة، فالسلطة (نظرياً) لا تمتلك فقط السطوة على أجهزتها التنفيذية (جيش، أمن عامّ… إلخ) بل أيضاً تمتلك القدرة على تحريك جموع غاضبة، مستعدّة للقتال، بعضها مسلّح، وبعضها يرفع هتافات إبادية.
هؤلاء الذين يمثّلون فائض القوّة، سلطة الدولة عليهم مُلتبسة، هي تمتلك القدرة على تحريكهم بدعوات للنفير العامّ، لا الحدّ من احتشادهم، كلمة واحدة حرّكت فائض القوّة هذا ضدّ العلويين، وضدّ الدروز لاحقاً. هاتان القوّتان، الأولى رسمية تُطالب بالشرعية، والثانية غير رسمية- اعتباطية، تُستخدَم للترهيب الداخلي، تبدأ بجماعة تهاجم كازينو، وصولاً إلى حشود تهاجم مدناً بكاملها، فائض القوّة باختصار هو القدرة على تحريك الجموع المتماهية مع الكلمات السحرية لبلاغة قتل الآخر وإذلاله.
تحريك الجموع، الاحتشاد والهتاف، وأشكال التبجيل والتغنّي، كلّها تُثير الريبة لدى السوريين، لا فقط بسبب إرث الأسد في تحريك المسيرات، بل أيضاً بسبب أشكال المبالغة في الأداء، الذي وصل حدّ دعوات الإبادة في هتافات ما بعد الأسد، الحشد مُريب دوماً، يُثير الشكّ، خصوصاً أن هذه حشود لم تتحرّك خوفاً من المخابرات، بل حماسةً لصدّ الشتيمة المفترضة عن محمد بن عبد الله.
سلطة دمشق تعالج عنف فائض القوّة بـ”تبويس الشوارب”، وأخبار عن اعتقالات للمتّهمين، وتضخيم بلاغة الدولة والقانون، في استعراض للسطوة، على الأقلّ أمامنا نحن السوريين. لكن، أن ينشر المتّهمون بارتكاب جرائم وانتهاكات صورهم وتعليقاتهم على الجريمة! وبعضهم يوثّق جرائمه! إذاً، من تخاطب تلك “الدولة” حين يُناقض “أمرها” الواقع، أي أثر لهذه الكلمات التي نظنّ أن لها قيمة! الشخص الذي قال “كان في قديم الزمان هون مدينة اسمها جبلة… التعن سلافها”، والذي ظُنّ أنه قُتل في اشتباكات مع الدروز، خرج علينا لاحقاً من الماء، كبطل هوليوودي، كحوريَ ماء يقول ساخراً: “فكرتوني متت… بعيدة عن شواربكم!”.
من “نحن الديمقراطيون”؟
منذ سقوط النظام شهدنا واحدة من أكثر الصور الشائنة سياسياً، المعارضة السورية في الخارج (هيئة التفاوض والائتلاف الوطني) هبطت دمشق، وقدّمت الطاعة في القصر أمام أحمد الشرع، لم يعد هناك أي جسد سياسي أو رمزي لمواجهة هذه السلطة، أو يكمّل “ديمقراطيتها” بوصفها تقبل المعارضة، وكأن مفعول الكلمة السحرية “انتهت الثورة”، نجح، وأصبح لـ”أبو محمد” قصر من زُخرف، انتهى الصراع مع الأبد بأمر الجولاني، وسنعود إلى بيوتنا، وسنبني البلد، نحن ديمقراطيون، ومن بقي مسلحون مشبوهون، غير ديمقراطيين، وأحياناً تُلصّق “اللا- ديمقراطية” بـ”قسد” والميليشيات الدرزية!
مشكلة “نحن الديمقراطيون” أن أصحاب هذا الموقف يعيشون وهماً مزعجاً، هذه الفئة التي هُزمت في الثورة، تظنّ أن حسّها المُتعالي بالتفوّق الفكري الذي يُتيح لها “التنازل” و”احتواء” الآخر؛ “الإخوان المسلمين” مثلاً، ومحاورتهم، سيقابله ديموقراطية، أو حسّ وطني، أو تنازل لدى الخصم الذي انتصر، المُحررّ- الجهادي، وهم بأن الخصم سيُشركهم في الحُكم أو السياسة!
لكن من قال إن الهيئة سابقاً، منحت مكرُمَة الحوار و”الديمقراطية” للخصوم؟ ما لاحظناه، أن أشكال المشاركة والمُساسية تُمنَح لأفراد، لا لجماعات، كلّ من حجّ إلى قصر الشعب لأجل صورة مع الشرع، ومن شارك في مؤتمر الحوار الوطني لاحقاً، حضروا فرادى، لا جمعاً ذا ثقل تمثيلي، ومن تمّ تعيينهم ضمن مساحة الحكم، كانوا زخارف، لا قرار لهم في الشؤون السيادية “الداخلية، الخارجية، العدل، والدفاع” عدا الاقتصاد، وربما هنا رهان المتفائلين.
بقيت “الحكومة المؤقتة” صادقة مع نفسها وتاريخها، لم تنطق كلمة ديمقراطية، وأصر “الديمقراطيون” على بناء الدولة، وهذا يُحسَب لهم، وأخذوا مسافة من ماضي الحكّام الجهادي والفصائلي والميليشياوي لـ”بناء الوطن”، ترافقت مع انتقادات على مضض لمهازل مؤتمر النصر ومؤتمر الحوار الوطني، الابتعاد الديموقراطي- البراغماتي، شمل التعامي عن أن السلطة تبيح رفع رايات فصائلية وأحياناً داعشية في الساحات السورية، لكن، “نحن الديمقراطيون” نريد بناء الوطن، ولنأخذ هذه المسافة، وندللّ وهم حُسن النيّة لدى الآخر.
لم تكن المسافة الأولى، أي المسافة من ماضي الحُكّام الجهادي هي الوحيدة، بل خُلقَت مسافة ثانية بعد مجازر الساحل، بوصفها حالة “طبيعية” ضمن مبرر عدميّ يُختصَر بـ”14 عاماً والسوريون يُقتَلون!”، ظهر أيضاً مبرّر آخر لتعميق التعامي، “من يقتل العلويين أجانب” وليسوا سوريين!
تُنزَع الوطنية/ الجنسيّة فوراً عن المتّهم (الذي أوضح الشرع أنه سيجنّسه سورياً) لكن أوضحت الفيديوهات أن المتّهم والمُنتهك سوري، والضحيّة سوري، الأجانب جزء من المشكلة، لا كلّها، البعض وثّقوا جرائمهم بلهجات سورية قحّة! المفارقة، أن هناك وهم مفاده أنه لا يمكن للسوريين أن يقتلوا بعضهم بعضاً بصورة ممنهجة، لكن ألم يعلّمنا نظام الأسد العكس!
المسافة التي أخذها الديمقراطيون، امتدت دماء وخطفاً وقتلاً طائفياً وصل إلى الدروز، لكن لا بدّ من التريّث لبناء الدولة، هكذا هي السياسة ربما، قياس المسافات، وتنازلات مفاهيمية وقيمية و”ثورية” أُخذت من أجل “الدولة”، إلى حدّ التنبيه من ضرورة عدم السخرية من بني أميّة!
وهم البراغماتية والتشابه!
على رغم هذه المسافات من المجازر والجهادية، مساحة عمل “الديمقراطيين” غير واضحة، ولا نتحدّث عن تهديد الحرّيات الخاصّة، لكن صادرت السلطة الفضاء العامّ عبر فائض القوّة والجموع الهاتفة بالإبادة، ومع وضوح سطوة إسرائيل، أُضيف إليهم جموع المتحمّسين لـ”ردع العدو”.
التركيز على وحدة سوريا والسيادة على التراب، والحديث عن شبح التقسيم يُضاف إلى بلاغة بناء الدولة، وهنا السؤال، أي مساحة تُركَت للعب والتنسيق السياسي والتحذلق، منازل دمشق القديمة أم المقاهي؟
السلطة حلّت أحزاباً أقدم من “البعث” نفسه، وتخاطب السوريين الديمقراطيين أفراداً، لكنها تحرّكهم جموعاً! أين مساحة اللعب إذاً؟ صحافة دولية؟ منتدى في منزل؟ بصورة ما، أين يُمارس الديمقراطيون السوريون ديمقراطيتهم؟ النقابات، التي عُيّن نقباؤها تعييناً، ثم اخُتلف على نقيب الفنانين، فأعاد تعيين نفسه بعد حجب الثقة عنه، كونه مُعيّن من “القيادة”؟
انتشر وصف “براغماتي” للإشارة إلى أحمد الشرع، أي أنه قادر على التكيّف مع الظروف وتغيير شكله وخطابه بناء على الوضع القائم، من جهادي عجز عن وضع لغم في العراق فاعتُقل، إلى أمير “داعش” في سوريا، وغيرها من الانقلابات التي انتهت به رئيساً لسوريا يزور فرنسا، ويلتقي بأبناء جلدته في الأنتركونتيننتال في باريس!
لا نعلم إن كانت هذه التحوّلات تسمّى براغماتية، لكن تبنّاها الديمقراطيون أنفسهم، قرّروا أيضاً التنازل والتغيّر لـ”بناء الدولة”، الذي يتطلّب الحضور داخل سوريا، وهذا حقّ وطني، وحلم لا يُنكَر على أحد، لكن إلى أي حدّ يجب أن يقبل الديمقراطيون أنفسهم التنازل والتغيّر؟ أو ما مقدار البراغماتية المطلوبة؟
لا إجابة، لكن تغيّر سلّم أولويات الكثيرين بصورة تُثير الشكّ، إذ نُسيَت حقوق مجتمع الميم، وحقوق المرأة، وتطبيق القانون، والكثير مما طالبت به الثورة نفسها (لا ثورة الجولاني) نُسي الكثير لأجل “بناء الدولة”، التي لم تترك السلطة فيها مساحة للممارسة السياسية بصورة جدّية، استبدل الديمقراطيون الإشارة إلى هذا الغياب، بعاطفة الشوق إلى الوطن، وخطاب مريب: أحمد الشرع يُشبهنا، زوجته تُشبه السوريات! فجأة حلّ تقمّص “القائد” مكان العقل والسياسة!
هذا التشابه مع الشرع ينفيه الغرباء/ المهاجرون، عمر ديابي، الجهادي الفرنسي المقيم في حارم، الذي وصف الشرع بـ”الحرباء”، وبأنه لا يصدّق تحوّلاته، حتى شأن البراغماتية غير واضح أيضاً، إن كان الشرع براغماتياً، فحكومته ليست كذلك، ولو أخذنا قسراً المسافة من ماضيهم الجهادي، والمجازر الطائفية، هناك عجز في إدارة “الدولة”، ونقص خبرة في الحوكمة، فالحكومة المؤقتة أوقفت اليانصيب، المؤسّسة الرابحة دائماً، أي استغنت عن “ضرائب الفقراء”، سلوكيات تهدّد الاستثمار أغضبت أيمن الأصفري نفسه، ناهيك بقرارات مالية وإدارة شركات ونقلها وإعادة تمليكها لشخصيّات مجهولة، والأشد مفارقةً، الاعتماد على ناقلات النفط الروسية والنفط المعاقَب، وفي الوقت ذاته المطالبة برفع العقوبات، التي رُفعَت أخيراً، لكن هل هذا يعني وقف النفط الروسي؟
يبدو أن خلل المعنى الذي ورثناه من الأسد ما زال حاضراً، نتكاذب بحجّة البراغماتية التي تُلحَق بوصف “أبو محمد”، ونبدّل الأوجه، وربما هذا سحر البراغماتية الشائن، السحر الذي انطلى على سوريين كُثر، إلى حدّ الاقتناع أن اللقاءات في المنازل والمقاهي في دمشق هي السياسة!
درج