من القصر إلى السوق السوداء: أين اختفى الفن السوري؟/ سامر محمد إسماعيل

18 مايو 2025
“رجاءً: إلى أصحاب المجموعات، وصالات العرض، وميسورينا الأحباء، بلّغوا عن كل من يعرض عليكم عملاً فنياً تجهلون مصدره، أو حتى إذا كنتم تعلمون مصدره وكان مشبوهاً. فعند شرائكم قطعة فنية تعلمون – أو تشتبهون – بأنها مسروقة، سواء كانت من متحف، أو من مؤسّسة رسمية، أو حتى من منازل شخصيات من العهد البائد وغيرهم خلال فوضى الأيام الماضية، فإنكم بذلك تشاركون السارق في جريمته بحقّ تراث البلاد، الذي يُعد ملكاً للدولة”.
بهذه الكلمات عبّر الفنان السوري المقيم في ألمانيا، بطرس المعري، عن مشكلة سرقة الأعمال الفنية في سورية، وهو أحد أعضاء مجموعة “الأعمال الفنية المسروقة في سورية”، التي تشكّلت على هامش انتشار بيع أعمال فنية مسروقة في البلاد عقب سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
تزدحم منصات وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي بصور لأعمال فنية مسروقة من المتاحف والوزارات والقصور الرئاسية في سورية، ما دفع عدداً من الفنانين والباحثين والآثاريين إلى الوقوف في وجه محاولات تهريب هذه الأعمال إلى الخارج. فأسّسوا مجموعتهم وأصدروا بياناً قالوا فيه: “نعمل على توثيق ومتابعة السرقات التي طاولت التراث السوري، وندعو إلى حفظ الأعمال المسروقة وتسليمها إلى الجهات المعنية عند استقرار الأوضاع”.
تسعى مجموعة الفنانين والباحثين، إلى جانب فريق متخصص من علماء الآثار، إلى تكريس جهودهم في هذا السياق، من خلال توثيق ومتابعة السرقات التي طاولت التراث الفني والثقافي السوري. وقد صرّح أعضاء المجموعة بأنهم يمتلكون أرشيفاً شاملاً يوثّق العديد من القطع الفنية والأثرية السورية، سواء تلك المحفوظة في المتاحف، أو ضمن المقتنيات الخاصة والحكومية. وبناءً على هذا الأرشيف، تعمل المجموعة على متابعة الأعمال المفقودة والتأكد من مصيرها، بهدف حماية التراث السوري وإعادته إلى موطنه الأصلي.
وتعيد قضية الأعمال الفنية المسروقة من سورية إلى الأذهان ما حدث عقب الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين عام 2003، إذ فُقدت حينها عشرات الأعمال الفنية من البلاد. ويتجدد اليوم المشهد العراقي في سورية، بحسب الفنان اللبناني غالب صوان، وهو تاجر لوحات وصاحب متحف يختص باقتناء الأعمال الفنية السورية، يقول لـ”العربي الجديد”: “عُرضت عليّ وعلى عدد من زملائي مؤخراً العديد من الأعمال المشبوهة ورفضت اقتناءها، كما حذّرت عبر صفحتي الشخصية في فيسبوك من مغبّة مثل هذه التصرفات. لكن في ظل غياب أي وثائق خاصة بمقتنيات المؤسّسات الثقافية السورية، تصعب عملية البحث والمتابعة. ففي مراكز وقصور صدام حسين، كانت جميع الأعمال الفنية موثّقة في سجلات وأرشيف خاص”.
وما زالت وزارة الثقافة العراقية تطالب حتى اليوم باستعادة أعمال نُهبت عقب سقوط نظام البعث، يضيف صوان: “جرى تشكيل فرق متخصّصة لهذا الشأن، وسُجّلت الأعمال الفنية العراقية المسروقة على القائمة الحمراء لمنظمة يونسكو، ما كلّف الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) بملاحقة لصوص ومهرّبي هذه الممتلكات الثقافية. وقد أُعيد بالفعل عدد من الأعمال لفنانين كبار مثل شاكر حسن آل سعيد، وجواد سليم، وإسماعيل فتّاح الترك، وقاسم حيدر، كانت قد نُهبت من قصور صدام”.
وفي ظلّ محاولات تهريب أعمال فنية سورية إلى الخارج، يقترح صوان: “يجب على وزارة الثقافة السورية إصدار قائمة رسمية بهذه الأعمال ليتسنى إدراجها على القائمة الحمراء ليونسكو، فالأمر بات مُلحاً، كما ينبغي التحقيق في مصير الأعمال التي كانت تقتنيها أسماء الأخرس بملايين الدولارات من مزادات عالمية، ومنها أعمال لبيكاسو وسلفادور دالي ومونيه، التي لا يُعرف اليوم أين انتهى بها المطاف: هل كانت في القصر الرئاسي وسُرقت؟ أم أن عائلة الأسد قامت بتهريبها إلى لندن أو روسيا؟ الأمر يتطلب لجنة مختصة بهذا الشأن”.
مسألة تهريب وتزوير الأعمال الفنية السورية شارك فيها – بحسب الفنان منير الشعراني – بعض الفنانين وأصحاب صالات العرض ممن كانت لهم صِلات بمتنفذين من النظام البائد.
أما المديرة الإقليمية لـ”آرت دبي”، هالة الخياط، فقرعت جرس الإنذار أيضاً، قائلة: “الأعمال السورية المعاصرة والحديثة تُغادر البلاد منذ سنوات، ولا يوجد ما يمنع ذلك، لأنه لم يُقر سابقاً أي قانون يحترم قيمة الفنان، ولا قانون يحدد أسماء فنانين يُعدّ خروج أعمالهم من البلاد ممنوعاً. أما بشأن الأعمال المنهوبة مؤخراً، فقد تلقيت اتصالات كثيرة من مجهولين حولها، وكان جوابي للجميع أن هذه الأعمال تخصّ البلاد، ويجب إعادتها إلى أي جهة رسمية حتى إشعار آخر. اللهم إني بلّغت”.
وفي هذا السياق، قام الكاتب أحمد القصار بحماية ثلاث لوحات فنية من السرقة والتلف بعد اقتحام دار الأوبرا في دمشق، يوم سقوط النظام، إذ أعادها لاحقاً أصولاً إلى السيدة شذى القادري، رئيسة شعبة المعارض في الدار. وقد دفع هذا الموقف جورج كامل، صاحب ومدير صالة عرض في دمشق، إلى اقتراح ما اعتبره حلاً جزئياً: “حبذا لو تعلن المتاحف الوطنية استعدادها لشراء الأعمال من أي شخص حصل عليها بطريقة ما، شرط عرضها على لجنة مختصة تقدّر قيمتها وتحدد مناسبتها”.
ومن بين الأعمال المسروقة المتداولة صورها على وسائل التواصل، لوحات لسعيد تحسين، وتوفيق طارق، وفاتح المدرّس، وأحمد معلا، ونذير نبعة، ولؤي كيالي، وآخرين. وقد دفعت هذه القضية وفاء الشرع، وهي تاجرة لوحات، إلى محاولة استرداد أعمال سعيد تحسين من القصر الجمهوري، تقول: “أشكر كل من ساعد في محاولة استعادة اللوحات المسروقة للفنان سعيد تحسين. غياب المساءلة عن هذه السرقات، ومنها لوحات فاتح المدرّس، التي لم أتمكن من الحصول عليها، يدل على تقاعس حكومي واضح. الكل في دمشق يعلم من سرقها وأين هي الآن، ولكن يا للأسف!”.
وكان الفنان والناقد طلال معلا قد وثّق مع فريق من المتخصّصين جميع الأعمال الموجودة في جناح الفن الحديث في المتحف الوطني بدمشق، ضمن مشروع امتد بين عامي 2015 و2019، شمل أكثر من 1500 لوحة وحوالى 100 تمثال ونُصُب لفناني سورية البارزين. يقول لـ”العربي الجديد”: “قمنا بعملية توثيق شاملة، ورمّمنا العديد من الأعمال، واحتفظنا بها في صناديق خاصة. لكنّنا لاحظنا نقصاً في الموجودات، وعندما استفسرنا عن أعمال مفقودة لفنانين مثل لؤي كيالي وفاتح المدرس وسعيد تحسين، أخبرنا القائمون على المتحف بأنها مُعارة إلى متحفَي أرواد والرقة، لكننا لم نعثر عليها هناك”.
ويتابع معلّا: “ألّفت أربعة مجلدات عن تاريخ الفن السوري بين 1950 و2000، وسلّمتها لوزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية، لكنها لم تُنشر، ولا أعلم مصيرها الآن. تضم المجلدات توثيقاً بالصور والدراسات والسجلات، وكنت قد طالبت، مع زملاء، بتوثيق موجودات مستودعات الفن، خاصة متحف دمر، إلكترونياً، الذي يضم أكثر من 45 ألف عمل، لكن المشروع أُجهض بالتسويف من وزارة الثقافة والأمانة. حتى مقتنيات القصر الرئاسي لم توثَّق، وكان غياث الأخرس (عمّ أسماء الأسد) هو الوسيط بين القصر والفنانين في اقتناء هذه الأعمال”.
العربي الجديد