مدريد.. مدينة تمشي خارج إيقاع الزمن ولا تنافس إلّا ذاتها/ عبدالكريم البليخ

مدينة لا تكشف ملامحها إلا للذين يقررون أن يمشوا ببطء.
الأحد 2025/05/18
تخفي جمالها العميق في كل زقاق
لكل مدينة كبيرة سحرها الخاص، هناك من تبوح لك بأسرارها سريعا وهناك من تتطلب منك الجهد والتأمل والصبر لتكتشف خفاياها، ومن هذا النوع الأخير العاصمة الإسبانية مدريد، التي تخفي الكثير من السحر الذي تكتشفه كلما توغلت في تناقضاتها.
إذا أردت أن تعرف مدريد حقاً، لا تسأل عنها بوصفها العاصمة الإدارية لمملكة إسبانيا، ولا تقارنها بالمدن التي تتباهى بأبراجها وواجهاتها الزجاجية. لا تنظر إليها كاسم في جداول الرحلات أو كوجهة سياحية تزورها مرة وحيدة. مدريد، لمن يعرف كيف يصغي، ليست عاصمة جغرافية ولا مركزاً بيروقراطياً، بل هي كائن حيّ يتنفس الضوء ببطء، يروي نفسه بالماء الخفيّ في باطن الأرض، ويعيد صياغة الزمن كما يشاء. إنها المدينة التي تعيش في طبقة زمنية مغايرة. مدينة لا تكشف ملامحها إلا للذين يقررون أن يمشوا ببطء.
لعل ذلك الإرث الأندلسي العميق الذي يسري في عروق مدريد هو الذي منحها هذا الطبع. فحين أسسها الأمير محمد الأول بن عبدالرحمن الثاني عام 855 م، لم يكن يقصد بناء عاصمة، بل حصناً على تخوم الشمال. كان يرسم لها مصيراً طويل الأمد دون أن يدري.
مدريد لم تولد لتكون باريس بواجهاتها الباروكية، ولا برشلونة بأبراجها المتأنقة. إنها مدينة من طراز آخر، مدينة تعترف بتواضعها الجغرافي، لكنها تعيد تشكيل عظمتها من نسيج التفاصيل الصغيرة. مدينة تتنفس في الأزقة، في ظل الأشجار، في مقاهي الحواري، في حجارة بلاط الأرصفة التي تصرّ أن تكون خشنة المَلمس كيد فلاح أندلسي، وليست ناعمة مصقولة كواجهات مدن الشمال.
سحر خلف الواجهة
في شوارع مدريد لا يستوقفك شيء فخم بمعناه الظاهري. بل تستوقفك طريقة المدينة في إخفاء جمالها، في تقديم نفسها بهدوء، دون مبالغة. الضوء هنا لا يندفع بقسوة كما في مدن البحر المتوسط. بل هو ضوء خافت يتسلل بتؤدة، كما لو كان الزمن نفسه يختبر صبر العابرين. مدريد تعلمك الصبر دون أن تقولها. تمضي بك في زواياها القديمة، حيث الجدران تهمس لك: هنا مرّ العرب، هنا لم تمت الأندلس، بل انصهرت في الحجر.
ولا غرابة أن يكون هذا الانصهار في جينات المدينة. فمنذ القرون الوسطى، شكلت مدريد فضاءً للتلاقي الثقافي. العربية لم تخرج من لسان مدريد تماماً، بل انزاحت إلى طبقات خفية: في أسماء الشوارع، في طريقة نطق الكلمات، في الزخارف التي لا تزال تزيّن النوافذ والمآذن المهجّنة. وبينما يتسابق العالم لطمس ذاكرته، تمضي مدريد في طريقها الخاص، تدمج التناقضات بلا صخب، وتُبقي على موروثها الأندلسي كظلّ دائم خلف وجهها الإسباني.
وسط إسبانيا، حيث تمتد الغابات وتتناثر الحدائق العامة، تتجلى مدريد كواحةٍ مترفةٍ بالحياة، يكسوها الماء والخضرة وتكللها لمسات الجمال. رغم كونها ثالثة أكبر المدن الأوروبية بعد لندن وبرلين، ومركزاً تعليمياً يضمّ ست جامعات حكومية ومعاهد علمية مرموقة، إلا أن لها سحراً خاصاً ينبض في مقاهيها، يهمس في ساحاتها، ويتجلى في شوارعها التي تعانق الأرصفة المتراصفة. في أروقة المدينة، تنصهر الرومانسية في تفاصيل العمران، حيث يخفف نسيمٌ شماليٌّ هادئٌ من وطأة الصيف القائظ، ويتراقص الضوء على الواجهات العريقة التي تروي حكاياتٍ من الزمن.
في حيٍّ متواضع، يبتلع صخب الحياة وهج الحر، ليصنع مزيجاً من الهدوء والجمال، حيث تمتد ظلال الأشجار كأذرعٍ وادعةٍ تعانق الأبنية المتناثرة. وبينما تنساب إيقاعات مدريد اليومية، يفاجئك التباين الحاد في مستوى المعيشة، فتتراءى أمامك تناقضات اقتصادية واجتماعية تتشابك في نسيج المدينة.
بمجرد أن تطأ قدماك أرض مدريد، تشعر أن بطاقة سفرك قد اتقدت بالحياة. تفتح لك الشوارع ذراعيها، تهمس الأحياء بأسرارها، ويمتزج الحنين بنشوة الاكتشاف، فتخال نفسك على أعتاب تجربة لا تُنسى. هنا، لا يقتصر السحر على المعالم الأثرية أو الشوارع العتيقة، بل يسري في روح المدينة التي تأسر الزائر بوهجها. تلمس في وجوه شبابها على أرصفة المقاهي لمحاتِ ابتسامةٍ متواريةٍ خلف حكاياتٍ قديمةٍ وحديثة. وما إن تبدأ مغامرتك الأولى، حتى تكتشف أن وسائل النقل ليست مجرد وسيلة انتقال، بل بواباتٍ تفتح أمامك أزقةً وأحياءً تتجاور فيها الأصالة والمعاصرة، حيث يتماهى الماضي مع إيقاع الحاضر في تناغمٍ مذهل.
هنا، في مدريد، تخطو خطوة تملؤك بالحماسة، وأخرى تغمرك بالدهشة. تتراقص الأسواق والمقاهي والحدائق في مشهدٍ واحد، وتنبض الشوارع بالحياة التي لا تهدأ، إلا لتتيح لك لحظاتٍ خاطفة من السكينة، مشبعةً بعبق التاريخ الأندلسي الذي ما زالت أصداؤه تتردد في أرجاء المدينة. حتى لو قضيت عشرة أيام في أحضان مدريد، ستظلّ تشعر أن ثمّة أسراراً لم تكتشفها بعد، وأن هذه المدينة، الرحبة كالأفق، لا تُفصح عن مكنوناتها لزائرٍ عابر.
عند إطلالتك الأولى على مطار مدريد، تدرك أنّ هذا المرفق الحديث ليس مجرد نقطة عبور للمسافرين، بل تحفةٌ معماريةٌ تعكس جوهر المدينة، تمزج بين الحداثة والأصالة. مبانٍ مترامية وصالاتٌ فسيحة صُممت بعنايةٍ لتكون واحدةً من أبرز المحطات الجوية في أوروبا من حيث الطاقة الاستيعابية والامتداد. ومنذ لحظاتك الأولى هنا، يلفت انتباهك السقف الخشبي المائل لمبنى الركاب رقم 4، حيث تمتزج الأضواء الطبيعية بخطوط التصميم المبتكرة، في مشهدٍ يعبّر عن شخصية مدريد المتفردة.
على مقربةٍ من هذه التحفة الهندسية، تنبعث أصداء الأندلس، حيث لا تزال بصمات التاريخ الإسلامي ماثلةً في زوايا المدينة. منذ عام 711م، حين عبر المسلمون البحر إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، انطبعت ثقافتهم على جدران مدريد وشوارعها وأحيائها. وأنت تسير في دروبها، تلمح ومضاتٍ من ذلك الموروث العريق، فتتردد في ذاكرتك قصص الجيوش التي عبرت البحر من شمال أفريقيا، والتاريخ الذي نسج خيوط حضارةٍ امتدت لعصورٍ طويلة، قبل أن تنصهر في النسيج الإسباني المتعدد.
عاصمة بلا أقنعة
يستشعر الزائر في تفاصيل المدينة هذا التداخل الفريد، حيث تلتقي العربية بالإسبانية، ويتجلى الإرث الأندلسي في النقوش والزخارف والأقواس التي لا تزال تحكي قصة التمازج العريق. ورغم تعاقب القرون، بقيت أسماء الأحياء والشوارع شاهدةً على تلك الحقبة، فيما تتردد في الألسن مفردات عربية اندمجت في اللغة الإسبانية. هكذا، تبدو مدريد لمن يتأملها بعينٍ فاحصةٍ؛ مدينةٌ تنبض بالحاضر، لكنها لا تتخلى عن ظلال الماضي التي تُلقي بوهجها على حاضرها.
ليس مطار “أدولفو سواريث مدريد باراخاس” إلا انعكاساً لحيوية المدينة وثرائها الثقافي. ففي رحاب صالاته المكتظة بالحركة، وبين حناجر المسافرين التي تتمازج مع النداءات المتتالية لإقلاع الرحلات، تلتقي حضاراتٌ شتى، وتتشابك الأقدار، كما لو أن مدريد تختصر العالم بين جنباتها. في هذا الامتزاج الفريد، يدرك المرء أن مدريد ليست مجرد عاصمة أوروبية أخرى؛ إنها نقطة التقاء الأزمنة والوجوه، مدينة تنسج قصصاً لا تُروى دفعةً واحدة، بل تُكتشف رويداً رويداً، كما لو أن روحها تظل عصيّةً على الإفصاح إلا لمن يُغرم بها حقاً.
في الاقتصاد، كما في الاجتماع، مدريد مدينة التناقضات المتصالحة. أحياء مثل سالامانكا أو شامارتين تستعرض ثراءها الفاحش في متاجر الموضة الراقية، في حين يضجّ لافاتبييس ومالاسانيا بالحياة الشعبية البسيطة. لكن هذه الفروقات الطبقية ليست جراحاً مفتوحة. بل تبدو كأنها جزء من طبيعة المدينة، لا عيباً فيها بل من عناصر توازنها. مدريد لا تدّعي الكمال. بل تحتفي بتنوعها. في المقهى ذاته قد تجلس بجوار عامل بناء وبجانبك مدير شركة متعددة الجنسيات، ويتشاركون كأس “كايا” أو طبق “تاباس” دون تكلّف.
ومدريد ليست مدينة عواصم النخبة فقط. في جامعاتها، مثل “كومبلوتنسا” و”لا أوتونوما”، تتنقل المعرفة بين الطلاب والأساتذة بروح مدينة لا تعرف التعالي. هذه الجامعات، التي تأسست جذورها منذ قرون، لا تزال تستقطب أجيالاً من الباحثين، ليس فقط من إسبانيا، بل من العالم كله. الحرم الجامعي ليس انعزالاً أكاديمياً، بل امتداد طبيعي لروح مدريد: مزيج من الفكر والممارسة، من الأصالة والتجريب.
وفي شمال العاصمة الإسبانية مدريد، ينتصب سانتياغو برنابيو، فلا يمكن أن يُختزل في ملعب لكرة القدم. إنه مَعبد مدريديّ حقيقي. هناك، يقع الملعب في قلب حي تشامارتين، وهو ليس مجرد ميدان للكرة المستديرة، بل معبدٌ للشغف، حيث تمتزج أصوات الجماهير مع صدى التاريخ. منذ افتتاحه عام 1947، وأصبح مشروع تطوير البرنابيو الأخير ليس فقط تجديداً معمارياً، بل استمرار لفلسفة مدريد في أن تكون بين الماضي والمستقبل دون أن تختار الانتماء النهائي لأي منهما، وهو إضافة لذلك مركز جذب ليس فقط لعشاق كرة القدم، بل لكل من يريد أن يستشعر نبض العاصمة الإسبانية في أقوى تجلياته.
تختزل مدريد نفسها في مشهد واحد: جماهير غفيرة تنبض بإيقاع موحد، نادي ريال مدريد يُعيد تعريف النصر لا كمسألة رياضية فقط، بل كهوية مدنية. كل لقب أوروبي يرفعه هذا النادي هو إعادة تأكيد على قدرة المدينة على تجديد ذاتها، على المزج بين ماضيها الملكي وحاضرها الاقتصادي العالمي.
ريال مدريد ليس مجرد نادٍ من أندية الدوري الإسباني بل هو أحد أعمدته الراسخة. يُلقَّب بالنادي “الملكي” منذ عام 1920 حين منحه الملك ألفونسو الثالث عشر لقب “Real” (أي ملكي). وعلى مدار تاريخه، كان ريال مدريد لاعباً رئيسياً في رسم ملامح المنافسة الإسبانية، سواء عبر غريمه التقليدي برشلونة أو من خلال تفوقه المستمر في تحقيق البطولات المحلية. ويُعدّ من أكثر الأندية تتويجاً بلقب الدوري الإسباني، وغالباً ما يُوصف بأنه معيار النجاح الذي تُقاس به طموحات بقية الأندية.
ريال مدريد ليس مجرد فريق كرة قدم؛ إنه مؤسسة رياضية عملاقة تؤثر ثقافياً واقتصادياً على المستوى العالمي. شعاره الأبيض، الشهير بلقب “لوس بلانكوس”، يمثل رمزية النقاء والعراقة، بينما تُعد قاعدته الجماهيرية الأضخم في العالم، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط وآسيا.
مشروع “ريال مدريد سويداد”، المدينة الرياضية، وعمليات تجديد ملعب البرنابيو لتحويله إلى مجمع رياضي وتجاري حديث، يعكسان رؤية النادي في المزج بين التاريخ والمستقبل.
مدريد تهمس ببطء
سحر مدريد الحقيقي لا يقف عند هذا المشهد الجماعي. في حديقة ريتيرو، تكشف المدينة عن وجهها الآخر: وجه التأمّل. هناك، بين الأشجار العتيقة والبحيرة الصغيرة، تصبح مدريد ككتاب مفتوح: تفاصيل صغيرة، منحوتات صامتة، قصر زجاجي تنساب عبره أشعة الشمس كما لو كانت تُدرّب العين على قراءة الضوء من جديد. لا عجب أن يقول البعض إن مدريد ليست مدينة يمكن مشاهدتها بعيون السياح العابرين، بل مدينة تُقرأ بالبصيرة، تُستشعر بكل الحواس، وتُفهم ببطء. وفي كاتدرائية ألمودينا في مدريد فإن بناء الكاتدرائية لم يبدأ فعلياً إلا في عام 1870، بعد أن تم جمع الأموال اللازمة لذلك. ومع ذلك، لم تَسِر الأمور بسلاسة، إذ لم يُستكمل بناؤها إلا في عام 1993. وبذلك، استغرق تشييد الكاتدرائية أكثر من مئة عام، وهو ما ينعكس جزئياً في تنوع طُرزها المعمارية.
مدريد لا تنافس أحداً في الصخب، لكنها تتفوق في العمق. مدن أخرى قد تبهر لحظة، لكنها تفرغ من محتواها سريعاً. أما مدريد، فهي مدينة تملأك شيئاً فشيئًا. كلما مكثت فيها أكثر، كلما اكتشفت طبقة جديدة من ملامحها. هي لا تُقال، بل تُعاش.
حتى في تفاصيل الحياة اليومية، تمضي مدريد في نسقها الخاص. في الأسواق التقليدية مثل “إل راسترو”، حيث الباعة ينادون على بضائعهم بلهجة لا تزال تحتفظ بأصداء عربية بعيدة. في الأزقة الضيّقة حيث تتجاور البيوت العتيقة مع جدران مغطاة برسوم الغرافيتي. في عربات المترو التي لا تنقل الناس فقط، بل تنقل حكاياتهم، حياتهم اليومية، تفاصيلهم الصغيرة. مدريد تعلّمك أن الجمال ليس في المعالم الكبرى فحسب، بل في التفاصيل المهملة.
ولهذا، فإن مدريد ليست مدينة للزيارة السريعة. إنها مدينة تحتاج وقتاً. تحتاج منك أن تمشي ببطء، أن تتوقف كثيراً، أن تتأمّل. تحتاج أن تصغي لصوت الحجارة تحت قدميك، لصدى الأزمنة التي لم تنتهِ بعد. مدريد هي درس في كيفية التلاقي بين القديم والجديد، بين الشرق والغرب، بين الماضي كحقيقة والحاضر كاستمرارية.
بقي أن أشير إلى أن مدريد لا تعطيك كل شيء دفعة واحدة. هي مدينة تظل تحتفظ بجزء من أسرارها. مدينة، كلما ظننت أنك عرفتها، باغتتك بوجه آخر. وكأنها تقول لك، بلغة لا تحتاج إلى ترجمة: “لا تحاول أن تسرع. في البطء تكمن معجزتي. في الصبر يكمن سري.”
صحافي سوري
العرب