رحيل الرئيس الأورغواني خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو“أفقر رئيس في العالم”

رحيل “أفقر رئيس في العالم”/ بادية فحص
20.05.2025
ما ميّز موخيكا عن باقي “الثوريين” في العالم، ليس ماضيه النضالي فحسب، بل إيمانه الحقيقي بالقيم الإنسانية الذي انعكس على أسلوب حياته، وتمسّكه بمبادئه ووفاؤه لها، ليس فقط بالأقوال بل بالأفعال أيضاً.
رحل الرئيس الأورغواني خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو عن عالمنا، قبل سبعة أيّام فقط من عيد ميلاده التسعين، شُخِّصت إصابته بورم سرطاني في المريء العامّ الماضي، وأعلن مطلع هذا العامّ أن السرطان انتشر في كامل أنحاء جسده، وأنه لن يتلقّى العلاج بعد الآن.
لم يكن موخيكا مجرّد رئيس دولة، أو زعيم سياسي، أو يساري تقليدي، بل كان مرجعاً أخلاقياً في مهنة ليست الأخلاق من أولوياتها، وشخصية ملهمة ومسيرة حياة ملأى بالدروس ليساريي العالم ويمينييه، وكان مناهضاً صلباً للظلم والاستبداد وللاستهلاك بالدرجة نفسها، قال: “أنا عدوّ الاستهلاك… لقد نسينا نحن البشر الأشياء الأساسية في حياتنا، وبتنا نمضي أوقاتنا في طلب أشياء لا علاقة لها بالسعادة”.
وُلِد موخيكا في عام 1935 لعائلة متواضعة في العاصمة الأورغوانية مونتيفيديو، وربما نشأته في بلد صغير وفقير يتوسط بلدين عملاقين، الأرجنتين والبرازيل، زرعت في نفسه بذور الإحساس بالظلم وعدم المساواة، وجعلته ينخرط في العمل الثوري بداية شبابه، فعارض استغلال المزارعين ومربّي الماشية الصغار وعمّال صناعة الأغذية في بلاده.
وفي ستينات القرن الماضي، بدأ اسمه يبرز كثائر يقود جيشاً من الفقراء لانتزاع حقوقهم الإنسانية، وكمقاتل شرس ضدّ الظلم والاستبداد، وأحد القادة الأكثر إلهاماً في حركة “توباماروس” الثورية الأورغوانية، التي استوحت خطّها نضالها من تجربة تشي جيفارا، فانضمّ إلى “الحزب الوطني”، ثم أسّس حزباً آخر هو “الاتّحاد الشعبي”، محافظاً على مكانه ومكانته في “توباماروس”.
أُلقي القبض عليه في عام 1972، وسُجن كرهينة خلال فترة الدكتاتورية العسكرية (1973-1985)، ونجا خلال حياته المديدة من ستّ محاولات اغتيال، وأمضى 14 عاماً في السجن الانفرادي، تعرّض خلالها لشتّى أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي، ولكنّه “لم يبع روحه”، كما يقول عنه شعبه.
بعد إطلاق سراحه وسقوط النظام، بدأ يميل تدريجياً إلى الاشتغال في السياسة، ويبتعد عن العمل الميداني الثوري، فانضمّ إلى “الجبهة اليسارية الشاملة”، ثم أسّس “حركة المشاركة الشعبية” إلى جانب رفاق مقاتلين، وأصبح عضواً في مجلسي النواب والشيوخ في عامي 1994 و1999، وفي عام 2005 أصبح وزيراً للزراعة، وفاز بالرئاسة في عام 2009 بحصوله على 52 في المئة من الأصوات، ثم غادرها في العام 2015 بشعبية غير مسبوقة.
وانطلاقاً من إيمانه بالصراع الطبقي، حقّقت حكومته الكثير من الإنجازات الاقتصادية المهمّة، مثل الانخفاض التدريجي في معدّلات الفقر من 40 في المئة إلى 12 في المئة، وانخفاض معدّلات الفقر المُدقع بمقدار عشرة أضعاف، وتحقيق نموّ اقتصادي بنسبة 75 في المئة، وزيادة الإنفاق العامّ بنسبة 50 في المئة، وهي أرقام تداولتها الصحف المحلّية والعالمية.
رحل “بيبي” موخيكا؛ كما كان أصدقاؤه ينادونه، عن هذا العالم، سائراً على خطى شخصيات ملهمة من جيله في موجة اليسار في أميركا اللاتينية، بعدما كرّس حياته للدفاع عن سيادة بلاده ووحدة أميركا اللاتينية
ظلّ موخيكا حتى آخر يوم من حياته معلماً روحياً في الثورة والسياسة، ورمزاً للصدق والبساطة والنضال، ليس في بلاده فقط، بل في العالم كلّه، وأكثر الشخصيات تواضعاً وشعبية في عالم السياسة، وعندما وصله أن هناك وسائل الإعلام تصفه بأنه “أفقر رئيس في العالم”، ابتسم وقال: “الشخص الفقير هو الشخص الذي يبحث دائماً عن المزيد، أما أنا فلست فقيراً، أنا أعيش حياة بسيطة، لأنني لا أريد الكثير”.
ما ميّز موخيكا عن باقي “الثوريين” في العالم، ليس ماضيه النضالي فحسب، بل إيمانه الحقيقي بالقيم الإنسانية الذي انعكس على أسلوب حياته، وتمسّكه بمبادئه ووفاؤه لها، ليس فقط بالأقوال بل بالأفعال أيضاً. فحين أصبح رئيساً للأورغواي، رفض السكن في القصر الرئاسي، مفضلاً العيش في منزل ريفي بسيط على مشارف مونتيفيديو مع رفيقة دربه لوسيا توبولينسكي،، وكان يذهب إلى العمل في القصر الرئاسي كلّ صباح بسيارة فولكس فاغن بيتل موديل 1987، تكاد لا تسع جثّته الضخمة، من دون سائق ولا مرافقين، بعدما ألغى المواكب الرئاسية، وكان يتبرّع كلّ شهر بأكثر من 90 في المئة من راتبه الرئاسي، الذي يبلغ 12 ألف دولار للأعمال الخيرية، واستضاف مرّة أكثر من مئة يتيم سوري ممن أجبرتهم الحرب في بلادهم على اللجوء إلى بلاده، وقام مرّة أخرى بإيواء خمسة سجناء أُطلق سراحهم من سجن غوانتانامو، و”ظل يُؤوي التائهين ويُطعم الجائعين من لحمه وصحنه” حتى آخر يوم من حياته، كما تقول عنه الصحافة المحلّية. وخلال فترة رئاسته، تحوّل موخيكا إلى شخصية عالمية شهيرة جدّاً، بعدما شرّع زواج المثليين، وألغى تجريم الإجهاض.
تزوّج موخيكا بالسياسية اليسارية البارزة والرفيقة في حركة “توباماروس” لوسيا توبولينسكي في عام 2005، وليس لديهما أطفال، وافقت لوسيا زوجها في مواقفه الثورية والسياسية كلها، وسارت معه في طريق التقشّف والابتعاد عن المظاهر ومناهضة فكرة الاستهلاك، وكانت نائبة في البرلمان، وعضوة في مجلس الشيوخ، وانتخبت مرّة كأول نائبة لرئيس الأوروغواي.
وفي عام 2022، وبعد 22 عاماً من النشاط البرلماني، قدّم موخيكا استقالته برسالة كتبها بخطّ يده، ولم يحضر جلسة الوداع. وعلى رغم أنه لم يشغل بعدها أي منصب رسمي، ظلّ شخصية شرفية في الأحزاب التي اشتغل فيها، أو التي نسج معها تحالفات.
رحل “بيبي” موخيكا؛ كما كان أصدقاؤه ينادونه، عن هذا العالم، سائراً على خطى شخصيات ملهمة من جيله في موجة اليسار في أميركا اللاتينية، بعدما كرّس حياته للدفاع عن سيادة بلاده ووحدة أميركا اللاتينية، وانتزاع حقوق المحرومين من دون تأسيس “حركة” سياسية تسرق باسمهم وتتحالف مع قتلتهم، أحبّته شعوب العالم، وطالما حلمت شعوب الشرق الأوسط برئيس من قماشته، لا يسكن القصور، ولا يسرق المال العامّ، ولا يحصر السلطة بعائلته، ولا يقرّر لأنه حرّر، وحتى الأيام الأخيرة من حياته، ظلّ صوتاً ناقداً ومعارضاً للعاملين في السياسة بنيّة الكسب والتربّح، وقلباً متعاطفاً مع فقراء العالم ومشرّديه، وجسراً وطيداً لبناء عالم يمكن أن تتحقّق فيه المساواة والعدالة.
درج
———————————–
لِمَ حكّامُ العالم من غير طينة خوسيه موخيكا؟/ جورج كعدي
21 مايو 2025
بنزعةٍ متأصّلة فيهم إلى الخير، أو إلى الشرّ، يوصل الناس حكّامًا إلى الحكم. يكون الحاكم من طينة المحكومين، فإن كانوا صالحين كان مثلهم، وإن كانوا أشرارًا وفاسدين كان نظيرهم. هذا في النظم التي تأتي بالانتخاب لا بالاستبداد أو السطو على الحكم عنوةً. هكذا ينتخب الأميركيون رئيسًا يحاكي نزعات شوفينية فارغة لديهم تحت الشعار الأجوف “ليحم الله أميركا” أو الشعار المتعاظم “لنجعل أميركا عظيمة مجددًا”، أو ينتخب البرازيليون رئيسًا يمثّل أحوال الغالبية من الفقراء أو متوسطي الحال بكونه آتيًا من ماضي عوز وكفاح ومحبوبًا عندهم، أو يكافئ الجنوب أفريقيون زعيمًا تحرّريًا سُجن دهرًا من أجل وطنه وشعبه، أو تُولّي أكثريةٌ من شعب الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين قاتلًا سايكوباتيًا لتماهيها معه وشبهها به نزوعًا إلى العنف والقتل والانتقام … الناس على دين ملوكهم، قال الإمام عليّ ماضيًا في “نهج البلاغة” الإعجازيّ، وقوله جارٍ وصالح حتى اليوم.
مناسبة هذا الكلام وفاة رئيس الأورغواي السابق خوسيه موخيكا المعروف باسم Pepé Mujica لفترة رئاسية من خمس سنوات بين عامي 2010 و2015، الذي كان القدوة والنموذج المشتهى للعالم أجمع بتواضعه الأسطوريّ وعيشه بين فقراء بلده ومثلهم، وتخلّيه التام عن المظاهر وعلامات التنعّم بالسلطة وبذخها ومباذلها. هو الحاكم الفيلسوف والزاهد الذي رسمت فلسفة أفلاطون وأرسطو وسقراط ملامحه، رجل الحكمة والعدل والتقشّف والعيش بين الناس، بل بين الفلاحين والمزارعين، ليؤكد لهم أنّ السلطة لم تبدّله ولم تحرفه قيد أنملة عن مبادئه الجوهرية وقناعاته. وُصف بأنه “أفقر رئيس في العالم”، والأكثر تواضعًا أيضًا، بل الأكثر إثارةً للدهشة بحياة الزهد التي اختارها وتبدّت في سكنه بعد فترة الرئاسة في بيت صغير جدرانه غير مطليّة وأثاثه خشبيّ عتيق، محتفظًا بسيارته الـ”فولكسفاغن” القديمة الزرقاء.
يرسم له الصحافيّ الإسبانيّ إغليسيا كارونشو بورتريه بعد وفاته من خلال لقاء سابق معه، ومما جاء في وصفه للقاء: “كان Pepé موخيكا ينتظرنا في الحديقة المهجورة لبيته على مشارف مونتيفيديو. هناك جلس الزوّار على زوج من المقاعد الخشبية على جانبي طاولة ريفية قدّمها له زملاؤه المنفيون في باراغواي (…) ومن الواضح لنا أن البذخ والثروة ليسا من اهتمامات موخيكا (…) يطلّ علينا مرتديًا قميصًا أزرق مفتوح الأزرار جزئيًا، بمزاج هادئ ومريح، فهو ينضح بالهدوء التأمّلي، الخالي من القلق. إنه على مسافة أسبوع واحد من إنهاء ولايته وتسليم وشاح الرئاسة إلى تاباري فاسكيز، سلفه وخليفته (…) ترتفع نظرة موخيكا فوق الأشجار، نحو السماء. يبدو أن Pepé يمضي بعيدًا في الزمن. هل يرى نفسه مرة أخرى في ساحة السجن حيث قضى ثلاثة عشر عامًا من حياته؟ يروي لنا أنه عندما كان ورفاقه شبّانًا أرادوا إحداث ثورة بضربة واحدة، ثم أدركوا أن الأمر لم يكن بهذه البساطة (…) ويتذكر أنه التقى رجلًا بنى مصنعًا وهو في عمر الثالثة والتسعين: 93 عامًا! ما الذي يدفع شخصًا في هذه المرحلة العمرية لبدء مشروع جديد؟ والدخول في فوضى إنشاء مصنع والصراع مع البنك والعمال والمديرين! ما الفائدة التي قد تكون لدى هؤلاء؟ حين علم هذا الرجل أنه سيموت اتصل بأبنائه قائلًا إنه لا ينبغي لهم بعد موته أن يغلقوا المصنع. هذا الرجل يملك قيمًا مختلفة عن قيمنا، ولكنها ضرورية لبناء مجتمع (…) أولئك الذين لا يملكون قيمًا هم أصحاب المصارف وأصحاب رأس المال. إنهم لا ينتجون شيئًا ويستولون على الثروة. ماذا يقدمون للمجتمع؟ لا شيء! ولكن أولئك الذين يعملون وينتجون، حتى وإن كانوا يهدفون إلى الربح فإنهم يقومون بوظيفة (…). مع اقتراب نهاية ولايته – يتابع الصحافي الإسباني – أعرب موخيكو عن أسفه إذ كانت لا تزال أمامه بعض الأمور، أن يضع يديه في جيوب الأغنياء، بحسب تعبيره، لجعلهم يدفعون الضرائب المستحقة عليهم. يقول: لكني لم أستطع ذلك وبقي الأمر عالقًا في ذهني (…). في تلك اللحظة تظهر زوجته لوسيا توبولانسكي، أكثر أناقة من المعتاد. إنها تخوض حملة انتخابية لمنصب عمدة مونتيفيديو. تقترب وتحيينا بلطف. يقول موخيكا إنّه لم يكن يريدها مرشحة، لكنّ زملاءها أصرّوا واضطرت إلى القبول (…) يتابع Pepé: إننا نعيش بالقليل، لكننا لا نحتاج إلى المزيد. يسألونني لماذا أعيش في هذا المنزل فهو صغير وغير مريح؟ بينما أستطيع أن أعيش في القصر الرئاسي حيث يوجد موظفون! لكنني لن أغيّره. دعوني هنا (…). يصبح الضوء أكثر انتشارًا بين الأشجار المحيطة. يواصل Pepé تأملاته (…) يتذكر لقاءه مع البابا فرنسيس (المتوفى قبله بأسابيع قليلة). أخبره Pepé بأنه ليس محظوظًا بما يكفي ليؤمن بالله، فردّ البابا: غير مهمّ، إني في حاجة إلى العديد من أمثالك هنا في الفاتيكان (…). يكمل الصحافي: “اقترب وقت الظهيرة وعلى الضيوف المغادرة. يودّعنا موخيكا بعاطفة جمّة، أو على الأقل هذا ما نشعر به. لقد بدا لنا أكثر من مجرّد سياسيّ. كنا مع فيلسوف سقراطيّ، مثل سقراط نفسه، وضع الحكمة قبل الثروة وعاش في النور، سائلًا الآخرين إن كانوا يفضلون أن يكونوا أحرارًا أم مرتبطين بالراحة المادية. يزعم البعض أنّ الفلسفة لا تتوافق مع السياسة، فإرادة الموارد العامة تستلزم إداريًا جيدًا وليس شخصًا يطرح الكثير من الأسئلة. ولكن نظرًا إلى ما حصل لنا مع Pepé، مَنْ لا يرغب في أن يكون رجلٌ مثله رئيسًا؟”.
لخوسيه موخيكا أقوال وأفكار عميقة وبليغة، هنا بعضها:
– “إلى الشباب، لو أردتم أن تعيشوا بسعادة، اغرسوا فكرة تؤمنون بها وعيشوا لخدمة هذه الفكرة، ولا تدعوا أنفسكم عبيدًا للسوق. العالم الذي سنعيشه هو العالم الذي نستطيع صنعه، فنحن في أميركا اللاتينية يجب أن نكون مستودعًا لأفضل ما في الحضارة الإنسانية، قارة سلام، قارة عدالة، قارة تضامن، قارة فيها جمال الولادة والموت، قارة تقول نعم للعدالة، قارة بلا كراهية، بلا انتقام، قارة تكرّم وجود الإنسان فوق الأرض (…). امنحوا الوجود مضمونًا، فإن لم تفعلوا ذلك بوعي سيكون المضمون هو راتبكم الذي ستدفعونه في نهاية كل شهر مقابل الجهاز الجديد الذي عليكم شراؤه، وهكذا دواليك حتى آخر أيامكم، حتى يأتي يوم لا تقوم فيه عظامكم، ولا يكون لكم وجود فيه، لا ذاكرةً ولا نَفْسًا، وداعًا (…). هناك أمور أخرى إلى جانب الشباب ووقاحة النظر في المرآة (…). يمكنكَ أن تكون شابًا، أو عجوزًا، أو في منتصف العمر، فلا داعي لتقسيم العالم إلى رجال ونساء، وسود وصفر، بل يجب تقسيمه إلى قطاعين: قطاع ملتزم، وقطاع غير ملتزم، والالتزام هو تبني قضية (…). لقد اخترعنا جبلًا من الاستهلاك غير الضروريّ، ونضطر إلى الإسراف في الشراء والاستهلاك، فما ننفقه هو حياتنا”.
– “أنا لست فقيرًا، أنا رزين، خفيف الظل، أعيش بما يكفيني حتى لا تسلبني الأشياء حريتي. الفقراء ليسوا مَنْ يملكون القليل، بل هم مَنْ يحبّون كثيرًا. أنا لا أعيش في فقر، بل في تقشّف، في نكران الذات. أحتاج القليل لأعيش”.
– “يتعيّن علينا نحن السياسيين أن نعيش كما تعيش الأغلبية وليس كما تعيش الأقلية. السلطة لا تغيّر الأشخاص، بل تكشف فقط عن حقيقتهم”.
– “السياسة ليست هواية، وليست مهنة تعاش، بل هي شغف يرافقه حلم ببناء مستقبل اجتماعيّ أفضل. مَنْ يحبّ المال فليفعل بعيدًا عن السياسة. السياسة هي النضال من أجل سعادة الجميع”.
– “أمضيتُ أربعة عشر عامًا في السجن (…) ليلة وضعوا لي فراشًا شعرت بالراحة وتعلّمت أنّني إذا لم أكن سعيدًا ببعض الأشياء لن أكون سعيدًا بالكثير منها. جعلتني عزلة السجن أقدّر أشياءً كثيرة”.
– “أريد معرفة الحقيقة، لكنني لا أؤمن بالعدالة على الإطلاق”.
– “أنا مواطن عنيد. لا أتعامل مع الأمور من منظار اقتصادي. لكنني على خلاف مع الحضارة التي أعيش فيها. إذا كنا نطمح في هذه الإنسانية إلى الاستهلاك على طريقة المواطن الأميركي العادي فإننا نحتاج إلى ثلاثة كواكب للعيش (…). نحن نعد بحياة مليئة بالإسراف والتبذير، ما يشكل في نهاية المطاف عدًّا تنازليًا ضد الطبيعة وضد مستقبل الإنسانية”.
– “قد يكون شخص متعلّم أكثر وحشية من آخر غير متعلّم. لا بدّ من وجود قيم وراء التعليم”.
– “ما الذي يلفت انتباه العالم؟ أعيشُ في منزل بسيط وأقود سيارة قديمة. هل هذا هو الجديد؟ إذًا العالم مجنون لأنّه يفاجأ بما هو طبيعيّ”.
– “بلى أنا متعب، لكن لن يتوقف تعبي حتى يأخذونني في نعش، أو عندما أصبح عجوزًا غبيًا”.
– “يجدر أن تعيش بكثافة، قد تسقط مرة، مرتين، ثلاثًا، لكن تذكّر أنك تستطيع النهوض والبدء من جديد. مهزومون الذين توقفوا عن القتال، وموتى هم الذين لا يقاتلون من أجل الحياة”.
في نيسان / أبريل 2021 كان لخوسيه موخيكا خطابٌ بليغ على منبر الأمم المتحدة، وممّا جاء فيه: “إنني آتي من الجنوب إلى هذه الجمعية العامة. أحمل بلا لبس ملايين المواطنين الفقراء في المدن، في البراري، في الأدغال، وفي سهول بامبا ومستنقعات أميركا اللاتينية. أحمل وطنًا مشتركًا يستحوذ على ثقافات السكان الأصليين المهزومة، وبقايا الاستعمار (…) أحمل دَيْنًا اجتماعيًا هائلًا، مع ضرورة الدفاع عن الأمازون، والبحار، وأنهارنا العظيمة. إني مكلّف بواجب النضال من أجل وطن الجميع (…) لقد ضحّينا بالآلهة القديمة غير المادية ونحتلّ المعبد مع إله السوق، فهو ينظم الاقتصاد والسياسة والعادات والحياة، بل يموّلنا بالقروض والبطاقات، مظهرًا من مظاهر السعادة. يبدو أننا خلقنا فقط للاستهلاك، وعندما لا نستطيع يصيبنا الإحباط والفقر والعزلة (…) إنّ الحضارة الحالية هي ضد البساطة، ضد الرصانة، وضد جميع الدورات الطبيعية، والأسوأ أنها ضدّ الحرية والعلاقات الإنسانية والحب والصداقة والتضامن والأسرة (…) لقد هدمنا الغابات الحقيقية وزرعنا غابات من الإسمنت غريبة. نعيش الأرق مع تناول الحبوب، والوحدة مع الإلكترونيات (…) يتجوّل الإنسان البسيط في عصرنا بين المؤسسات المالية وسأم المكاتب المكيفة، يحلم دومًا بالعطلات والحرية وتسديد ديونه، حتى يتوقف قلبه ذات يوم ويودّعنا (…) لا يتجه الاقتصاد المعولم إلّا نحو المصالح الخاصة لقلّة قليلة، والرأسمالية الإنتاجية حبيسة أموال المصارف وتمثل قمة القوة العالمية (…) لا ينبغي للدول القومية الكبرى، ولا للشركات العابرة للحدود، ولا حتى للنظام المالي، أن تحكم المجتمع البشري (…) إن القوة التي تحرّر الضعفاء أصبحت قمعية في أحضان الأقوياء (…) تتلاشى المؤسسات العالمية في ظل معارضات الدول الكبرى. تضعف الأمم المتحدة وتتحول إلى بيروقراطية بسبب افتقارها إلى السلطة والاستقلالية”.
تحوّلت سيرة الرئيس الأورغواينيّ الراحل في جانبي النضال وأسلوب الحياة الزاهد والمتقشّف مادة لأفلام وأعمال فنية وغير ذلك، ولعلّ أبرزها فيلم المخرج الصربيّ الشهير أمير كوستوريتسا الذي عرض على “نتفلكس” بعنوان ” El Pepé – A Supreme Life” ويتضمن مقابلة مع الرئيس موخيكا وزوجته ورفيقته في النضال لوسيا، فضلًا عن مشاهد من الأرشيف والشهادات الحية لرفقي Pepé منذ أيام الثورة ماوريسيو روزنكوف وإليوتيريو فرنانديز هويدوبرو اللذين يستعيدان ذكريات الحبس الانفرادي، مع التركيز على حياة الرئيس السابق الزاهدة والبسيطة جدًا وسط الفقراء والمزارعين. فيلم طريف ومؤثّر يختصر سيرته. وثمة فيلم سينمائي يستلهم سيرته للمخرج ألفارو بريشنر تحت عنوان “ليلة الإثني عشر عامًا” المرتكز على كتاب “ذكريات الزنزانة” والذي يستعيد أحلك سنوات Pepé في السجن تحت الحكم العسكري الديكتاتوريّ وكيفية مصارعته ورفاقه البقاء. وفي الموسيقى والأغاني ألهمت حياة موخيكا فنانين كثرًا حول العالم، مثل المغنية الإسبانية روزالين وأغنيتها Girasoles المستوحاة من مقطع في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أنشدت له الفرقة الفرنسية Lemon Furia أغنية تحمل اسمه، وأنجز الفنانان التشكيليان، اليابانيّ مانابو ناكاجو والفرنسيّ مارتان ساستر، لوحات من وحي سيرته ومواقفه. ووصل الأمر إلى عالم العطور، إذ صُنع عطر يحمل اسمه مستخرج من الأزهار التي كان يزرعها في فناء بيته القديم المتواضع. عن تسعة وثمانين عامًا رحل الرئيس الزاهد والفيلسوف ليبقى عبق أزهاره يذكّر به رئيسًا ليس كباقي الرؤساء، أقرب إلى الأسطورة.
* ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
ضفة ثالثة