سوريا دولة بلا أرشيف/ عمار السمر

2025.05.21
على حد علمي، لا يوجد اليوم دولة في العالم بلا مؤسسة أرشيف وطني أو دار للمحفوظات غير سوريا وقد كانت هكذا دائماً، على الرغم من وجود مديرية فرعية صغيرة تابعة للمديرية العامة للآثار والمتاحف اسمها “مديرية الوثائق التاريخية”، كانت تهتم بالوثائق وحفظها، وبقيت على حالها من دون تطور يذكر لأكثر من نصف قرن شأنها شأن الكثير من المؤسسات السورية، في دولة حكمها حزب ورئيس كانا يدعيان دائماً اهتمامها بالتاريخ.
اشتهرت المديرية المذكورة آنفاً بين الباحثين والمشتغلين في دراسات تاريخ سوريا وبلاد الشام الحديث والمعاصر باسم “مركز الوثائق التاريخية بدمشق”، الذي شغل قسما من بيت خالد العظم رئيس وزراء سوريا الأسبق في حي ساروجة وسط دمشق.
وهو بيت على الطراز الدمشقي البديع، وقد استمر المركز بعمله رغم ضعف الإمكانات حتى تموز 2023، عندما وصل إليه حريق أتى على قسم منه، ومن حسن الحظ أن المجموعات الوثائقية والسجلات المحفوظة في المركز كانت قد نُقلت إلى مكان أكثر أمناً قبل ذلك بسنوات، وقد توقف عمل المركز منذ ذلك الوقت.
حُددت مهمة المركز في قرار تأسيسه عام 1959بجمع الوثائق التي تتعلق بتاريخ سوريا وتنظيمها وفهرستها وحفظها وترميمها، ثم إتاحتها للباحثين والمهتمين.
في السنوات الأولى من حياة المركز قام بمهامه بشكل جيد، خاصةً عمله الرائع حين جمع سجلات المحاكم الشرعية الباقية في مستودعات محاكم (دمشق، وحلب، وحماة، وحمص، واللاذقية).
يحوي المركز عدة أقسام أهمها، القسم العثماني: الذي يضم أقدم مجموعات وثائقية رسمية معروفة في سوريا وتتمثل بسجلات المحاكم الشرعية التي يبلغ عددها نحو 2900 سجل يعود أقدمها إلى النصف الأول من القرن السادس عشر وصولاً إلى العقد الثاني من القرن العشرين. واكتشاف تلك السجلات وضع بين يدي المؤرخين مصدراً جديداً للمرة الأولى، خاصةً لكتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لسوريا. جذب كبار المؤرخين العرب والأجانب. كما يحوي هذا القسم سجلات الأوامر السلطانية وحججاً شرعية متنوعة وأشجار أنساب ومطبوعات تعود للعهد العثماني.
وهناك قسم وثائق الدولة: ويحوي مجموعات متفرقة من وثائق وزارات الدولة السورية الحديثة ابتداء من حكومة الملك فيصل مروراً بفترة الاحتلال الفرنسي وصولاً إلى بداية حكم البعث الذي لا توجد منه أية وثائق رسمية، سوى بعض المطبوعات الحكومية كالجريدة الرسمية. وهناك القسم الخاص: الذي يحوي مجموعات وثائقية لنحو ثلاثين شخصية سورية من ساسة وقادة ثورات كفخري البارودي، والشيخ يوسف السعدون. أما القسم الصحفي فيضم مجموعات غير كاملة من الصحف العثمانية وفترة الانتداب وما بعد الاستقلال، بالإضافة إلى الصحف الرسمية السابقة (تشرين، البعث، الثورة).
أما قسم التصوير فيحوي بضعة آلاف من الصور القديمة. بالإضافة إلى قسم ترميم الوثائق الذي تأسس بمساعدة وكالة جايكا اليابانية. وكان هناك مكتبة صغيرة أتى عليها حريق سنة 2023.
رغم العدد المتواضع لتلك المجموعات الوثائقية في المركز إلا أنها شديدة الأهمية كونها المصدر الأرشيفي المحلي الوحيد لنحو أربعة قرون ونصف من تاريخ سوريا تحت الحكم العثماني، وفترة الاحتلال الفرنسي، وما بعد الاستقلال. وهذه المجموعات فريدة ليس لها نسخ أخرى.
نظام الأسد والبعث، و تاريخ سوريا ومصادره
عثرت في الأرشيف الإداري لمركز الوثائق قبل سنوات على كتاب رسمي (طلب) يعود إلى حزيران 1963 أي بعد انقلاب البعث، والكتاب موجه من مدير مركز الوثائق آنذاك الدكتور نادر العطار إلى “المديرية العامة للأنباء” التي كانت تنوي إتلاف مطبوعات تعود للفترة التي سبقت البعث، ويطلب العطار الحصول على نسخ منها للحفظ في المركز، ويبدو أنه كان يفهم عقلية من استولوا على السلطة فبرر طلبه بالقول أن “تلك المطبوعات مهما بلغت تفاهتها، فهي تدل على العهد الذي وضعت فيه” وتعهد بأن يضع ما هو سري منها في القسم السري في المركز، ويبدو أنه قد تمت الموافقة على طلبه بجلب تلك المطبوعات التي تبين أنها كما وصفها، ولكن من استولوا على السلطة كانوا يريدون محو أي أثر لمن قبلهم. ولكن بعد ذلك اليوم لم ترد أية وثائق إلى المركز الذي لا يوجد فيه أية مجموعات وثائقية تعود لحقبة ما بعد سنة 1963.
نصف قرن ونيف من الإهمال
سنوات طويلة مضت والركود مخيم على المؤسسات السورية، حكم حافظ الأسد ثلاثين عاماً، ووزيرته المزمنة للثقافة نجاح العطار جثمت على صدر الوزارة لربع قرن (1976 – 2000)، تركت فيه صديقتها مديرةً لمركز الوثائق، التي لم يكن لطفها ودماثتها كافيين لإدارة مؤسسة تحتاج إلى المبادرة وتطوير ذاتها وكوادرها.
فخلال هذه الفترة كلها على سبيل المثال لم يتمَّ إرسال أي موظف أو طالب إلى الخارج لدراسة الأرشفة أو الترميم أو ما يتعلق بالعمل بالمركز. ورغم الكثير من الزيارات الخارجية والمؤتمرات التي شارك فيها القائمون على إدارة المركز إلا أن طريقة عملهم كانت توحي وكأنهم لم يطلعوا على تجارب الآخرين ولم يستفيدوا منها بشيء سوى صورهم في معالم المدن التي زاروها.
وفي هذا السياق، ومن النوادر المضحكة المبكية المكررة في زمن الأسدين. أنه في بداية حكم الأسد الابن وردت رسالة من الأرشيف الفرنسي يطلبون تجديد التعاون مع مركز الوثائق، ويسألون عن موظفين بالاسم تلقوا تدريباً في فرنسا على أعمال الأرشيف ما بين نهاية الستينيات وبداية الثمانينيات وماذا استفاد المركز منهم. ليتبين أن جميع تلك الأسماء لم يعملوا في مركز الوثائق سوى شخص واحد وحسب، والباقون كانوا من الإداريين في وزارة الثقافة ذهبوا للفسحة في باريس.
وتكرر الأمر نفسه قبل الثورة عند توقيع المركز اتفاق تعاون مع الأرشيف العثماني في تركيا فكانت بعض مساعدات المدير العام للآثار والمتاحف وبعض الأداريين ممن لا علاقة لهم بالمركز في مقدمة من ذهبوا للفسحة في إسطنبول.
في العقد الأخير ما قبل الثورة السورية 2011 كان هناك محاولات حثيثة من بعض العاملين في المركز لتطويره وتحويله إلى مؤسسة أرشيف وطني كباقي دول العالم، أثمر جهدهم بتشكيل لجنة خاصة في وزارة الثقافة كان كاتب هذه السطور عضواً فيها، وبعد الاطلاع على تجارب الدول الأخرى وضعت اللجنة “مشــــروع قــانــون حمايـة الأرشيــف الـوطنـــي وإحداث الهيئة العامة للأرشيف الوطني” على أن تكون هيئة مستقلة تتبع لجهة سيادية في الدولة. ورُفع المشروع إلى الجهات العليا ولكنه لم ير النور، على الرغم من أخذ حساسيات النظام بعين الاعتبار والابتعاد عن الأرشيفات العسكرية والمخابرات.
أما محاولة الانتقال إلى بناء جديد فتلك حكاية أخرى أيضاً فيها المضحك المبكي من طريقة تعامل مسؤولي الإدارة مع القضايا العامة. ففي كل سنة تقريباً كان هناك مراسلات رسمية على ضرورة انتقال المركز لأن مقره غير مناسب لحفظ الوثائق، والمنطقة التي حوله تعرضه للخطر حيث يوجد خرائب مهملة وورش صناعية. ولكن لم تجدي تلك المراسلات نفعاً رغم وقوع عدة حوادث خطيرة. قُدمت للجهات المسؤولة تقارير فيها شروحات وصور عن الأرشيفات الوطنية في الدول الأخرى لنفعل مثلها، لكن مقترحاتها لحل مشكلة البناء كانت مثيرة للسخرية والتندر، فمرة اقترحت محافظة دمشق بناءً قديماً كان للشركة العامة لدباغة الجلود في منطقة الإحدعشرية وما أدراك ما هذه المنطقة. أما محافظة ريف دمشق فقد اقترحت أرضاً لإنشاء بناء جديد عليها في أحد الجبال المحيطة ببلدة تل منين، ولكن كان يجب تسلق طريق وعر للوصول إليها. أما مديرية الزراعة في ريف دمشق فقد اقترحت قطعة أرض على طريق حمص تبعد عن دمشق 50 كم.
ماذا يجري هذه الأيام؟
اليوم وقد سقط نظام الأسد الفاشل وسوريا تنفض عن نفسها غبار نصف قرن من الإهمال والفساد. ما تزال التحديات السابقة موجودة، فحتى الآن لا يوجد أرشيف وطني ولا يوجد قانون لحفظه، ومركز الوثائق ما زال مغلقاً. لذا لا بد من إيجاد مؤسسة أرشيف تليق بسوريا الجديدة، والحاجة إليها اليوم أكثر إلحاحاً، فعدا عن الوثائق التي كانت محفوظة في مركز الوثائق التاريخية يوجد مئات الأطنان من الوثائق بحاجة للحفظ والترتيب كتلك التي في قيادات فروع حزب البعث والأفرع الأمنية والجهات الحكومية الأخرى.
فهذه مكانها الأرشيف لأنها أصبحت جزءاً من تاريخ سوريا بالإضافة إلى أهميتها في مسيرة تحقيق العدالة الانتقالية، وحفظ حقوق السوريين المعنوية والمادية والعقارية.
ويزيد الأمر إلحاحاً ورود العديد من التقارير وإعلان العديد من الجهات الأجنبية نقلها كميات كبيرة من الوثائق السورية إلى خارج سوريا، وهذه غير مئات آلاف الوثائق السورية الرسمية التي أعلنت جهة حقوقية دولية نقلها خارج سوريا خلال حكم النظام الأسد في سياق جمع الأدلة على جرائمه.
ربما الفرصة سانحة الآن لخلق واقع جديد في ظل الدولة السورية الجديدة، ووجود إدارة جديدة لوزارة الثقافة والآثار تبدي رغبتها القوية بتغيير الواقع الحالي والنهوض به، إضافة إلى وجود العديد من المؤرخين والأكاديميين السوريين والأجانب العاملين في العديد من الجامعات والمركز العلمية المرموقة الراغبين بتقديم جميع أشكال الدعم لحفظ الأرشيف السوري وعودة مركز الوثائق إلى عمله وتطويره.
تلفزيون سوريا