سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنقد ومقالات

في غربة الثقافة السورية وقيامتها/ راسم المدهون

21 مايو 2025

عاشت الثقافة السورية خلال سنوات الثورة الطويلة حالة غير مسبوقة من فصل إبداعات من غابوا خارج البلاد لعقد ونصف العقد تقريبًا، وكان ما يحققونه من إبداع في مختلف المجالات محظورًا ومغيبًا عن البلاد وأهلها، وهو إن حضر، فحضوره سري وبالغ الخطورة لكل من يتداوله عبر وسائط التواصل الاجتماعي. كان النظام البائد يوظف “جيشه الإلكتروني” في مهمة ملاحقة تلك الإبداعات وملاحقة من يتابعونها، باعتبارها “ممنوعات” تنتمي لـ”الإرهاب”، في بلد كان نظامه يعمل ليل نهار على ملاحقة “أهل الإرهاب” واغتيالهم في السجون والمعتقلات بتلك الكيفية التي ظهرت وانكشفت للعالم بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يوم فرار الطاغية وزحف ملايين السوريين على السجون والمعتقلات والفروع الأمنية لتحرير من تبقى من المعتقلين.

هي إذًا “ثقافة المنفى”، وإبداعاتها تحمل، بصور مختلفة ومتباينة بالطبع، حياة وإبداع أولئك الذين لاحقتهم أيدي القتلة والمجرمين، فركبوا البحار، ووصل من نجا منهم إلى شواطئ بعيدة، عاشوا في مدنها الغريبة، وتعايشوا مع ثقافات أخرى لها ملامحها وتنتمي لتجارب اجتماعية وإنسانية أخرى. وغني عن القول هنا أن “ثقافة المنفى” تلك نمت بوافدين جدد من مبدعين من الأجيال السورية الجديدة الذين كبروا ومارسوا الإبداع الأدبي والفني، ونضجت تجاربهم في بلدان المنفى والاغتراب، فيما هي مجهولة أو شبه مجهولة من السوريين الذين ظلوا في وطنهم خلال سنوات الثورة العجاف.

في اغتراب المبدعين السوريين، خصوصًا في دول أوروبا، حضرت في نتاجهم الأدبي والفني رؤى وتعبيرات وأشكال أدبية وتقنيات إبداع غير مسبوقة، وتنتمي لثقافات مغايرة، ولعل هذه المسألة بالذات لها أثرها العميق على ما أبدعوا، بل وعلى ما سيبدعون في العقود القادمة. لا أعني هنا فكرة تلاقح الثقافات وما يحمله ذلك من غنى وتنوع، ولكن أيضًا حضور أشكال جديدة للتعبير عن الواقع… هي مرحلة الرؤية الأوسع والأعمق، وبالتأكيد الأشمل، للقضايا والموضوعات التي كانت محظورة، يضطر المبدعون للالتفاف على تعبيراتها المباشرة واللجوء إلى “التورية” والترميز، وحتى استخدام “زمن” آخر لا يشير في صورة مباشرة للبلاد بأسمائها وملامح أهلها. إبداعات الشتات والمنفى أتت طليقة من أي قيد، بل هي استفادت إلى حدود بعيدة من حريتها الكاملة في تشكيل حضورها الفني والأدبي في مناخ صحي لم تعرفه من قبل.

في مناخ الشتات هذا، تتأكد “فكرة الحرية” بمعناها الكامل، إذ هي حضور الحياة ذاتها على نحو طليق يكتمل بوسائل تعبير طليقة من أية قيود: هنا بالذات تحضر سورية كوطن وشعب على نحو لا ينتمي لحرية المنفى وحسب، ولكنه يؤسس لحرية الوطن وأهله على نحو غير مسبوق، وسنراه يذهب بكليته في اندفاعة كبرى للتعبير عن كل ما حدث ويحدث بأشكال أخرى، طليقة ومفعمة بالرغبة في تشكيل ملامح حياة اجتماعية تؤسس لقطيعة مع ذلك العالم المجنون الذي عاشته سورية قرابة نصف قرن من القمع والقتل الممنهج والتغييب، فالثقافة في الحالة الجديدة هي وثوب للحاق بما كان محجوبًا ومحظورًا بحراب نظام القمع.

كل شيء في سورية اليوم يبدأ من “الصفر”، أو هو يبدأ من “صفر النظام البائد” ليبدأ العد في سياق مختلف ومنظومة زمنية مختلفة عنوانها الأبرز والعريض الحرية ومآلاتها ومآلات البشر العاديين الذين بات من حقهم أن يحضروا بكامل ملامحهم، بل وأحزانهم وأفراحهم، في الأدب والفن الدرامي والسينمائي والتشكيلي، رواية وفيلمًا ومسلسلًا تلفزيونيًا.

تلك السنوات العجاف من التغييب القسري للثقافة ومبدعيها ورموزها ستؤسس، في اعتقادي، لتلاقح قادم بين ما اغترب وتحقق في الخارج، وبين من ظل في البلاد، ويقف اليوم بدوره في شوارع الحرية وطلاقتها… هي تجربة مختلفة بالتأكيد، وهي في تقديري تنتظرها خطوات جادة لاستعادة “دورة الحياة الإبداعية” من خلال تشجيع حياة سينمائية جديدة، بل واستعادة نهضة الدراما التلفزيونية التي صار من الممكن لها أن تستعيد دورتها الإنتاجية بأفكار جديدة وتقاليد إنتاج متحررة من هيمنة القوانين الجائرة وسيطرة رأس المال الذي كان محتكَرًا في أيدي طغاة النظام البائد ورموزه من محتكري المال المشبوه، الذين وظف بعضهم ماله في الإنتاج الدرامي كنوع من “غسيل الأموال”، ومارس تطويع الفن ورموزه لسيطرة رجال النظام والأجهزة الأمنية البائدة.

هي أفكار تفرض نفسها اليوم، ونستعيد معها آمالًا كبرى لعودة أبرز رموز الثقافة والإبداع، والذين شكلوا خلال العقود الماضية – وحتى في ظروف القمع والاضطهاد – إرثًا ثقافيًا وإبداعيًا تجسد في فورة روائية كبرى، كما في تجربة درامية انتشرت وحققت حضورًا متميزًا في البلاد العربية كلها، وهي مدعوة اليوم إلى تحقيق أعمال تتجسد فيها حكايات سورية الثورة وعذابات أهلها، كما تتجسد فيها رؤاهم وتطلعاتهم للحياة الجديدة، وما تحمله من قضايا اجتماعية وسياسية تمتلك طلاقة النظر وحرية التعبير، وتستعيد مكانة الفكر الحر والفن الحر وقدرتهما على تأسيس مجتمع سوري جديد.

مرحلة الثقافة السورية في زمنها الجديد هي مرحلة استعادة التاريخ السوري، لا بتدوين مفرداته وتفاصيله على نحو مختلف وحقائق مختلفة وحسب، ولكن أيضًا على نحو يستعيد صور سورية المتنوعة والزاخرة ببيئات اجتماعية كان النظام البائد يشجع على تقديمها في صور وأشكال أقرب إلى الكاريكاتورية، ولا صلة حقيقية لها بواقع المجتمع ولا بعادات أهله وثقافاتهم وموروثهم، وهي مهمة تنفتح على قراءات فنية وفكرية تخالف السائد، وتذهب نحو أفق آخر مغاير يقدر على تحقيق رؤى وأفكار تستلهم الواقع وتنهض به ومعه إلى زمن آخر، نراه “زمن الحرية” بكل ما تحمله وتؤسس له الحرية من معنى ومضمون.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى