الإعلان الدستوري لسوريا 2025العدالة الانتقاليةتشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

العدالة الانتقالية تحديث 21 أيار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

العدالة الانتقالية في سوريا

——————————

لماذا من الأفضل أن تشكل هيئة العدالة الانتقالية عبر المجلس التشريعي؟/ فضل عبد الغني

2025.05.20

أولا: مقدمة

تواجه سوريا تحدياً جوهرياً يتمثل في كيفية التعامل مع إرث أربعة عشر عاماً من النزاع المسلح وما رافقه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. في هذا السياق، تبرز أهمية العدالة الانتقالية كإطار ضروري لمعالجة الماضي وتأسيس أُسس متينة لمستقبل يقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. ولإنشاء هيئة للعدالة الانتقالية في سوريا، تظهر إشكالية تتعلق بالآلية القانونية والإجرائية المثلى لتأسيس هذه الهيئة. تتمحور هذه الإشكالية حول خيارين رئيسين: الأول يتمثل في إنشاء الهيئة من خلال مرسوم تنفيذي صادر عن السلطة التنفيذية، والثاني يتمثل في تأسيسها استناداً إلى قانون يصدر عن المجلس التشريعي. تكتسب هذه الإشكالية أهمية نظراً لتأثيرها العميق على استقلالية هذه الهيئة وفعاليتها وشرعيتها، وبالتالي على قدرتها على تحقيق أهداف العدالة الانتقالية في السياق السوري المعقد.

وفي ظل التحديات الهائلة التي تواجه سوريا في مرحلتها الانتقالية، يصبح اختيار الآلية المؤسسية المناسبة لتأسيس هيئة العدالة الانتقالية شرطاً لازماً لنجاح المسار الانتقالي بأكمله. فالقرارات المتخذة بشأن تأسيس هذه الهيئة ستشكل إلى حد كبير مستقبل العدالة والمصالحة والاستقرار في سوريا، وستحدد مدى قدرة البلاد على مواجهة إرث الماضي وبناء مستقبل أكثر عدالة واستقراراً.

ثانيا: الأبعاد الأساسية لدور المجلس التشريعي في تأسيس هيئة العدالة الانتقالية

يُشكل مفهوم “كرامة التشريع” إطاراً نظرياً محورياً في فهم القيمة المؤسسية المميزة للعمليات التشريعية مقارنة بالإجراءات التنفيذية. يستند هذا المفهوم إلى فكرة أن القوانين الصادرة عن هيئة تشريعية منتخبة ومتعددة الأطراف تكتسب سلطة أخلاقية متميزة تتجاوز مجرد الإلزام القانوني الرسمي. هذه السلطة الأخلاقية متأصلة في طبيعة العملية التداولية التي تتضمن مناقشات مفتوحة وتمثيلية، تعكس تنوع وجهات النظر داخل المجتمع، وتخضع للمساءلة أمام العامة.

تؤكد الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ المجلس التشريعي، الذي سيُشكّل بعد صدور الإعلان الدستوري، هو الجهة التي ينبغي أن تتولى صياغة قانونٍ تأسيسي لتنظيم عملية العدالة الانتقالية. ويكتسب هذا الطرح أهمية في المرحلة الانتقالية السورية، حيث تُعالج “معضلة التفويض” – وهي إشكالية تواجه المؤسسات الانتقالية.

تبرز أهمية كرامة التشريع بشكل خاص في السياق السوري نظراً للتعقيد الاستثنائي للنسيج الاجتماعي والسياسي في البلاد. فالتنوع الإثني والديني والسياسي العميق في سوريا يستدعي عملية تأسيسية تعكس هذا التنوع وتستوعبه. ويوفر المسار التشريعي، بحكم طبيعته التداولية والتمثيلية، الإطار المؤسسي الأمثل لاستيعاب هذا التنوع، من خلال إتاحة مساحة للنقاش العام وتمثيل مختلف وجهات النظر والتوصل إلى توافقات عريضة.

تُظهر التجارب الدولية المقارنة أهمية هذا البعد بوضوح. ففي جنوب إفريقيا، اكتسبت لجنة الحقيقة والمصالحة شرعية استثنائية من خلال تأسيسها بموجب قانون تعزيز الوحدة الوطنية والمصالحة لعام 1995، الذي صدر عقب مناقشات برلمانية مكثفة عكست مدخلات من طيف واسع من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني. وفي المقابل، واجهت لجان الحقيقة في أوغندا، التي أُنشئت بموجب مراسيم رئاسية، تحديات كبيرة في تحقيق القبول المجتمعي والفعالية المؤسسية، حيث ظلت تُنظر إليها باعتبارها أدوات سياسية في يد السلطة التنفيذية أكثر منها آليات وطنية للعدالة الانتقالية.

شمولية أصحاب المصلحة

يُشير مفهوم “شمولية أصحاب المصلحة” إلى مدى قدرة العمليات المؤسسية على استيعاب وجهات نظر ومصالح الفئات المتنوعة داخل المجتمع. في سياق العدالة الانتقالية، تكتسب هذه الشمولية أهمية مضاعفة، نظراً لأن نجاح آليات العدالة الانتقالية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرتها على عكس احتياجات وتطلعات المجتمعات المتضررة من النزاع.

يحقق الانخراط التشريعي ما يُعرف بـ «شمولية أصحاب المصلحة»، من خلال ضمان مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية في تصميم إطار العدالة الانتقالية. اعتقد أنَّ هيئة العدالة الانتقالية يجب أن تكون شاملة ومُمثلة لشرائح المجتمع السوري لضمان شرعيتها وفاعليتها. وتتيح العمليات التشريعية هذه الشمولية عبر آليات التشاور الرسمية وجلسات الاستماع العامة، فضلاً عن إجراءات التعديل التي عادةً ما تفتقدها المراسيم التنفيذية.

تتجلى أهمية شمولية أصحاب المصلحة في السياق السوري بالنظر إلى تعدد مستويات الانتهاكات وتنوع الفئات المتضررة. فقد تأثرت مختلف المكونات السورية – على اختلاف انتماءاتها الإثنية والدينية والسياسية – بأشكال متنوعة من الانتهاكات، مما يتطلب إطاراً قانونياً يستوعب هذا التنوع ويستجيب له. ويوفر المسار التشريعي، عبر ما يتضمنه من جلسات استماع عامة ولجان برلمانية متخصصة ومشاورات مجتمعية، الآليات المؤسسية اللازمة لضمان تمثيل مصالح واحتياجات مختلف الفئات المتضررة.

تبرز تجربة لجنة الحقيقة والكرامة في تونس كمثال دال على أهمية الشمولية في السياق الانتقالي. فقد أُنشئت اللجنة بموجب قانون العدالة الانتقالية الذي أقره المجلس الوطني التأسيسي عام 2013، بعد مشاورات واسعة شملت منظمات المجتمع المدني وجمعيات الضحايا والأحزاب السياسية. وسمح هذا الأساس القانوني للجنة بتطوير إجراءات تشغيلية تستجيب للاحتياجات المتنوعة للضحايا، بما في ذلك النساء والمجتمعات المهمشة اقتصادياً. وفي المقابل، واجهت لجنة الحقيقة في المغرب، التي أُنشئت بمرسوم ملكي، انتقادات واسعة بسبب محدودية إشراك الضحايا في تصميم إجراءاتها ونطاق عملها.

ثالثا: الاستقلالية كشرط أساسي لنجاح هيئة العدالة الانتقالية

يُعدُّ الاستقلال المالي والإداري عن السلطة التنفيذية شرطاً جوهرياً لنجاح وفاعلية عمل هيئة العدالة الانتقالية. وأنا أجادل أن إنشاء الهيئة يجب أن يرتكز على أسسٍ راسخة تضمن استقلالها المالي والإداري الكامل عن السلطة التنفيذية، وذلك لتفادي استخدام التمويل كآلية للتحكم والسيطرة على عمل الهيئة.

وتشكل حماية المخصصات المالية للهيئة ضماناً أساسياً لاستقلاليتها، من خلال منع التخفيضات التعسفية في التمويل، خصوصاً عند قيام الهيئة بتحقيقات ذات حساسية سياسية. تُظهر تجارب العدالة الانتقالية أن التحكم في الموارد المالية يُمثل إحدى الأدوات الرئيسة التي تستخدمها السلطات التنفيذية للتأثير على المؤسسات المستقلة ظاهرياً. لذلك، يجب أن تُعدّ ميزانية الهيئة من خلال إجراءات تشريعية شفافة ومحددة بوضوح، بعيداً عن التخصيصات التنفيذية التي قد تتسم بالتحيز أو التقلب.

في سياق الحالة السورية، تكتسب حماية المخصصات المالية أهمية استثنائية نظراً لطبيعة التحقيقات المرتقبة والتي ستتناول انتهاكات ذات حساسية سياسية عالية، مما قد يدفع بعض الأطراف إلى محاولة التأثير على سير التحقيقات من خلال التحكم بالتمويل. يضمن الأساس التشريعي لإنشاء الهيئة توفير حماية قانونية للميزانية تجعل تخفيضها أو التلاعب بها أمراً يتطلب عملية تشريعية كاملة، وليس مجرد قرار تنفيذي.

صلاحية التحكم في الموارد التشغيلية

يُشير التحكم في الموارد التشغيلية إلى قدرة الهيئة على اتخاذ قرارات مالية داخلية مستقلة من دون الحاجة إلى الحصول على موافقة السلطة التنفيذية، وخاصة فيما يتعلق بالنفقات المرتبطة بالتحقيقات ذات الحساسية العالية. تعتبر هذه الصلاحية ضرورية لتمكين الهيئة من إدارة مواردها بمرونة واستجابة للأولويات التحقيقية المتغيرة.

تكشف التجارب الدولية أن غياب هذه الصلاحية يمكن أن يؤدي إلى “شلل وظيفي” يُعيق قدرة الهيئة على الاستجابة بفاعلية للقضايا الناشئة. على سبيل المثال، في بيرو، واجهت لجنة الحقيقة والمصالحة تحديات كبيرة عندما تطلبت كل نفقة غير روتينية موافقة من وزارة المالية، مما أثر سلباً على سرعة واستقلالية التحقيقات في المناطق النائية. في المقابل، تمتعت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا بصلاحيات أوسع في إدارة مواردها، مما أسهم في فاعليتها وقدرتها على تكييف استراتيجياتها التحقيقية.

استقلالية التوظيف

تمثل استقلالية التوظيف ركيزة أساسية للاستقلال الإداري، إذ تحتاج الهيئة إلى سلطة كاملة في قرارات توظيف وترقية وتعويض الموظفين، من دون تدخل أو تأثير من السلطة التنفيذية. تتيح هذه الاستقلالية للهيئة اختيار الخبرات والكفاءات المتخصصة اللازمة لعملها، وتحميها من محاولات التأثير على سير التحقيقات من خلال التحكم بالتعيينات.

في السياق السوري، تبرز أهمية استقلالية التوظيف بالنظر إلى تعقيد وحساسية القضايا المرتقبة، والتي تتطلب خبرات متنوعة في مجالات التوثيق والتحقيق الجنائي والدعم النفسي للضحايا والتحليل الاقتصادي لانتهاكات حقوق الإنسان. ولضمان هذه الاستقلالية، يجب أن ينص القانون التأسيسي للهيئة بوضوح على آليات شفافة للتوظيف تستند إلى معايير الكفاءة والنزاهة، بعيداً عن التدخلات السياسية.

حماية عملية التعيينات

تمثل حماية عملية التعيينات ضماناً أساسياً ضد التلاعب السياسي في اختيار أعضاء الهيئة. وبشكل لالبس فيه، يجب أن يكون لدى المرشحين سجلٌ خالٍ تماماً من الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان، مع استقلاليتهم الكاملة عن الأحزاب والفصائل السياسية لضمان نزاهة الهيئة.

يفترض أنه يكون هناك آلية اختيار متعددة الأطراف، تتضمن تشكيل لجنة توصية تتألف من خبراء مستقلين وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا لترشيح الأعضاء المحتملين. تهدف هذه الآلية إلى تحقيق “مسافة التعيين” – أي الفصل المؤسسي الواضح بين السلطات السياسية وعملية اختيار الأعضاء، مما يمنع الاستحواذ الحزبي أو تسييس عملية التعيينات.

حماية الحيازة

تشير حماية الحيازة إلى ضمان عدم إمكانية عزل الأعضاء أو تعرضهم للانتقام بسبب القرارات التي تتخذها الهيئة، خاصةً تلك التي تتمتع بحساسية سياسية. يمكن تحديد فترة عضوية ثابتة تتراوح من ثلاث إلى خمس سنوات، مما يضمن استقراراً مؤسسياً ويُجنب الأعضاء تهديدات الإبعاد التعسفي.

يجب أن يتضمن القانون التأسيسي للهيئة في سوريا إجراءات محددة وصارمة لعزل الأعضاء، بحيث تقتصر أسباب العزل على المخالفات الجسيمة المثبتة قانوناً، وتتطلب آليات تصويت معقدة تمنع الاستخدام السياسي لسلطة العزل.

حماية الاستقلالية التشغيلية

تتعلق حماية الاستقلالية التشغيلية بضمان عدم التدخل في القرارات اليومية والأنشطة التنفيذية للهيئة. تمنح رؤية الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان الهيئة صلاحيات تحقيقية واسعة، تشمل استدعاء الشهود، وجمع الأدلة، والاطلاع على الوثائق الرسمية والخاصة، وإجراء التحقيقات في الانتهاكات، والمطالبة القضائية بإصدار أوامر الاعتقال.

ضرورة استقلال الهيئة عن وزارة العدل

رغم عمل الهيئة ضمن النظام القضائي الأوسع، يجب أن تحافظ هيئة العدالة الانتقالية على استقلالها عن وزارة العدل، باعتبارها جزءاً من السلطة التنفيذية. يهدف هذا الاستقلال إلى معالجة نقاط ضعف جوهرية قد تؤثر سلباً على فاعلية العدالة الانتقالية.

ويعالج الاستقلال عن وزارة العدل مشكلة الإرث المؤسسي، أي استمرار الأنماط السابقة في الحكم داخل المؤسسات التي يُفترض أنَّها خضعت للإصلاح. فقد عملت وزارة العدل على مدى عقود من حكم عائلة الأسد كأداة لفرض السيطرة السياسية بدلاً من دورها الأساسي في حماية الحقوق وإرساء العدالة.

تشير تجارب دول مثل الأرجنتين وتشيلي إلى أن الهيئات المستقلة كلياً عن وزارات العدل كانت أكثر قدرة على التحقيق بفعالية في انتهاكات قد تكون ارتكبت بتواطؤ من داخل المنظومة القضائية ذاتها.

حرية تطوير مناهج عمل متخصصة

يُتيح الاستقلال عن وزارة العدل للهيئة حرية أكبر في تطوير مناهج وأساليب عمل متخصصة تلبي الاحتياجات الدقيقة للعدالة الانتقالية، والتي قد تختلف جوهرياً عن إجراءات الوزارة التقليدية. هناك أهمية لاستقطاب خبرات ومنهجيات متخصصة، بما في ذلك الاستعانة بخبراء في القانون الوطني والدولي، والتوثيق وجمع الأدلة، إضافة إلى خبراء الاقتصاد والدعم النفسي والاجتماعي.

توفر التجارب الدولية أمثلة واضحة على أهمية هذا الاستقلال. ففي كولومبيا، تمكنت وحدة البحث عن المفقودين، التي أُنشئت كهيئة مستقلة عن النظام القضائي التقليدي، من تطوير منهجيات متخصصة في البحث الجنائي والأنثروبولوجيا الجنائية، أسهمت في تحديد مصير آلاف المفقودين. وفي تونس، سمح استقلال هيئة الحقيقة والكرامة بتطوير إجراءات مراعية للنوع الاجتماعي في التعامل مع ضحايا العنف الجنسي، بما يتجاوز الإجراءات القضائية التقليدية.

خاتمة

إن إنشاء هيئة العدالة الانتقالية في سوريا عبر قانون صادر عن المجلس التشريعي يُشكل الخيار الأمثل لضمان فعالية واستقلالية وشرعية هذه الهيئة، وبالتالي تعزيز قدرتها على تحقيق أهداف العدالة الانتقالية في سياق سوري معقد. حيث يشكل التكوين والتمثيل الشامل في هيئة العدالة الانتقالية ركيزة لنجاحها، حيث يتيح التنوع الوصول إلى قواعد معرفية متعددة، ويسهم في بناء الثقة بين مختلف فئات المجتمع، ويوفر معلومات تنفيذية قيّمة.

ويسهم التنوع في بناء الثقة بين مختلف فئات المجتمع، ويمنح هذه الفئات شعوراً قوياً بأنَّ تجاربهم وأولوياتهم ستكون محل اهتمام فعلي وجاد. يشكل هذا البعد أهمية خاصة في السياق السوري، حيث أدى النزاع المستمر على مدى 14 عاماً إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وتراجع الثقة بين مختلف المكونات.

يواجه المجتمع السوري تحدياً خاصاً يتمثل في “الشك المؤسسي العميق”، أي تشكيك فئات واسعة من المجتمع في إمكانية قيام أي مؤسسة رسمية بخدمة مصالحهم بنزاهة. ويمثل التكوين المتنوع للهيئة خطوة أساسية لمعالجة هذا الشك، من خلال إرسال إشارة واضحة بأن العدالة الانتقالية لن تكون أداة للانتقام أو الانحياز لطرف على حساب طرف آخر.

تلفزيون سوريا

————————

العدالة الانتقالية في سوريا والتكيُّف مع الماضي/ موفق نيربية

عن مرسوم تشكيل الهيئة والتجارب التي يمكن الاستفادة منها

20-05-2025

        بعد تَرقُّب وانتظار وقلق، صدر مرسوم تشكيل هيئة العدالة الانتقالية في سوريا في السابع عشر من أيّار (مايو) الجاري، لكن نصّه لم يستطع إرواء تعطّش السوريين-ات وحاجتهم-نّ إلى عدالة انتقالية كما ينبغي أن تكون، فهو لم يُراعِ المتطلّبات التي حدّدتها الأمم المتحدة لتلك العملية ومبادئها التوجيهية، التي تُحدّد مكوّنات تلك العملية الحسّاسة من حيث إمكانية إطلاقها شرارات مؤذية في الحقل الذي تقوم من أجله:

        «تتكوّن العدالة الانتقالية من عمليات وآليات قضائية وغير قضائية، تشمل مبادرات المقاضاة، وتيسير المبادرات المتعلّقة بالحقّ في معرفة الحقيقة، وتقديم التعويضات، والإصلاح المؤسسي، والمشاورات الوطنية. ويجب أن يتوافق أي مزيج من هذه العناصر مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية».

        لم يُحدّد مرسوم إنشاء الهيئة علاقتها المهمّة بالسلطة القضائية المحلّية وربّما الدولية، ولم ينصّ بوضوح على استقلالها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية أو علاقتها بهما، كما لم يحدّد مرجعيّتها التي ينبغي أن تُشير إلى الالتزام بالقانون والمعايير الدولية. كذلك، لم يأتِ على ذكر علاقتها بالإصلاحات المؤسساتية المتعلّقة بها، والضرورية من أجل فاعليّة عملها ومردوده المطلوب… على سبيل المثال.

        ولم يُحدّد المرسوم أيضاً حدود مهمّتها ومجالاتها، بحيث تشمل انتهاكات النظام السابق بكلّ مؤسّساته وشخصيّاته، وقوى المعارضة المسلّحة بكلّ تشكيلاتها، كما لم يُشر إلى علاقة الهيئة بانتهاكات داعش وتفريعاتها.

        تشير العدالة الانتقالية في أفضل تعريفاتها إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تهدف إلى معالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان والفظائع الماضية، ومساعدة المجتمع على الانتقال من الصراع أو الحكم الاستبدادي إلى السلام والديمقراطية. وتشمل جهوداً لتوفير العدالة والمساءلة والمصالحة، وغالباً ما تتضمّن آليات مثل المحاكمات، ولجان الحقيقة، والتعويضات، والإصلاحات المؤسسية، وأعمال المصالحة الرمزية.

        أما مصطلح «التصالح مع الماضي أو ما مضى» فقد قام إيكهارد جيسي عالم السياسة الألماني بتحديد العوامل التي يقوم عليها، حيث يتطلّب ثلاثة عوامل: أوّلاً، الجرائم ذاتها؛ وثانياً، إيقافها؛ وثالثاً، إرساء الديمقراطية. ولا يمكن للتصالح مع الماضي، تصالحاً يستحق هذا الاسم، أن يترسّخَ إلّا بتوفّر هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة. لكن زميله هيلموت كونيش قدّمَ تعريفاً أوضح للمصطلح، واعتبره «مجموع تلك الأفعال والمعارف التي تحملها أو تكتسبها الأنظمة الديمقراطية الناشئة بعدما تنتهي من دولها غير الديمقراطية السابقة عليها»… طبعاً بافتراض أن التغيير الذي جرى هو من تلك إلى هذه، لأنّ تغييراً لا ينتهي إلى الديمقراطية لا يكون تغييراً قادراً على المصالحة مع الماضي وآثاره.

        كأنّ العدالة الانتقالية أساسٌ ماديّ ملموس يجعل التكيّف مع الماضي المظلم ممكناً أو هادئاً غير متفجّر. هما إذن مفهومان مترابطان بقوة، لكنهما ليسا متطابقين، بل متداخلان إلى حدّ كبير في الهدف والوظيفة؛ لأنّ كليهما يهدفان إلى مواجهة مظالم الماضي وفظائعه، لكنهما يختلفان في إطار ونطاق عملهما وبؤر تركيزه.

        تلك العدالة تعالج  المجتمع المعني قانونياً وعملياً ونفسياً، وتُقرِّبُ إليه إمكانية المصالحة مع ماضيه. إنّها جزء أساسي ومؤسِّس، عبر آلياتها وسياساتها ومكوّناتها، من مرحلة الانتقال السياسي من الحرب إلى السلام، ومن الاستبداد إلى الحرية والديمقراطية. يتمّ ذلك من خلال كشف حقيقة انتهاكات الماضي، ومحاسبة الجناة، وتحقيق العدالة وجبر ضرر الضحايا وبرنامج التعويضات، وإصلاح مؤسسات الدولة المعنيّة وأدوات ممارستها لاحتكار العنف، لأنّ تكرار الانتهاكات في الوضع الجديد ينكأ الجراح والندوب، ومن ثمّ تستشري حالات الثأر والانتقام، وتتغذّى على تلك الحالات الناشئة. تكون تلك العدالة بذلك هي الأساس والأداة لشفاء المجتمع ووقايته من تكرار مآسيه.

        فيما يلي أوّلاً استعراضٌ سريع لأهم ملامح بعض التجارب في مراحلها الانتقالية، التالية لانتهاء الحرب أو سقوط نظام الاستبداد والتمييز، أو تسوية النزاع… قد تكون عوناً لبرمجة الطريق الوطني الخاص للعدالة الانتقالية في سوريا، ولفتح الطريق إلى التكيّف مع الماضي والتصالح معه. ثم نخوض قليلاً في بعض ما يفيد التجربة السورية:

        ألمانيا 1945:

        لا ريب أنّ التجربة الألمانية في الحقل الذي نتكلّم عنه كانت الأولى والأكبر في العصر الحديث، وقد انطلقت بعد نهاية الحرب وتقسيم ألمانيا بين الحلفاء المنتصرين؛ الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي. وقد ارتكزت تلك العملية على ثلاثة أسس: المحاكمات، واجتثاث النازية، وجبر الضرر.

        شملت محاكمات مدينة نورمبرغ، التي اشتهرت بها، كبارَ الضباط النازيين المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، والتي خيّمت عليها خصوصاً كآبة الهولوكوست و«الحلّ النهائي» النازي للمسألة اليهودية كما تصوّرته قيادات النازية. حُكم على البعض بالإعدام، وعلى آخرين بفترات سجن متفاوتة، وتمّت تبرئة عدد منهم أيضاً.

        بالمقابل، أخذت عملية اجتثاث النازية وقتاً أطول، وربما ما زالت مستمرة حتى الآن. وينبع ذلك من كونها جزءاً من «التصالح مع الماضي» بعد فترتها الأولى كجزء من ترتيبات «العدالة الانتقالية». شمل الاجتثاث إجراءات واسعة من مراجعة وتدقيق سجلات المنتمين إلى الحزب، مع مراعاة الأعضاء «العاديين» أكثر من غيرهم، كما امتد إلى تضمينه في الدستور والقوانين والقواعد الناظمة، وفي مناهج التعليم والثقافة والفنون.

        جنوب أفريقيا 1994:

        كانت تجربة جنوب أفريقيا الثانية من حيث الأهمية عالمياً، وساعد اختلافها وتركيزها على «الحقيقة والمصالحة» على تفادي الحرب الأهلية وتخميد عواملها، بشكل مختلف عن التجربة الألمانية. في الوقت ذاته، جعلت عملية «المحاسبة» المحدودة و«جبر الضرر» البطيء عملية التكيُّف مع الماضي هشّة وضعيفة وغير متساوية.

        اعتمد المسار في جنوب أفريقيا على تحويل الديمقراطية «البيضاء» إلى أخرى «ملوّنة» أكثر توازناً وحداثة، دون أن يتمّ التحوّل بسهولة أو بساطة. وكانت «لجنة الحقيقة والمصالحة»، التي ارتبطت بالأُسقف ديزموند توتو، هي الآلية الأشهر والأكثر تميزاً في العدالة الانتقالية. بدأت اللجنة عملها عام 1995، وحقّقت في الانتهاكات وكشفت حقيقتها، لكنها تسامحت مع من اعترفوا بأخطائهم.

        كان خيار العدالة التصالحية بدلاً من العقابية سمة مميّزة للتجربة، وسمح بالكشف عن بشاعة جرائم العنصرية مع الكثير من العفو والتسامح، أو ما قد يراه البعض «إفلاتاً من العقاب». وبطريقة أخرى، أتاح ذلك تسهيل عملية المصالحة وساعد، نسبياً، على تعافي المجتمع من آثار ماضيه.

        بالطبع، ساعدت التعويضات، سواء المالية أو تلك التي كانت على شكل اعتراف رمزي بالتسبّب بالمعاناة، في التخفيف من آثارها. وساهمت إجراءات الحكومة في تعديل أو إصدار قوانين وتأسيس أجهزة أمن وعدالة متلائمة مع عملية التغيير، مع تعزيز النظام الديمقراطي، وتحصين المجتمع من أي انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان، وهو ما أُنشئت لأجله لجنة مستقلة أيضاً.

        رغم ذلك، وُجِّهت انتقادات للفشل في تحقيق المُساءلة الكاملة، وعدم محاكمة العديد من المنتهكين السابقين، واستمرار بروز مظاهر عدم المساواة حتى الآن. هذه التحديات أثّرت على التجربة، وكان لا بدّ من مواجهتها. ويعرقل ذلك أحياناً تواتر الغرق في التنافس السياسي أو الفساد. على هذا الأساس، ما تزال النقاشات جارية حول مقدار ما تحقّقَ من العدالة، في أجواء ما تزال فيها إجراءات المصالحة مستمرة هنا وهناك.

        رواندا 1994:

        على مدى مائة يوم، وقعت مقتلة لن تنساها البشرية، أو ينبغي ألّا تنساها على الإطلاق، راح ضحيّتها حوالي 800 ألف من قبائل التوتسي والهوتو المعتدلين، ودخلت البلاد في حالة دمار ومجتمع ممزّق ومصدوم.

        تميّزت محاكمات رواندا بما يُعرَف هناك بمحاكم «غاكاكا» التقليدية، التي وفّرت ملتقيات لكشف الحقائق، والتعامل مع تلك المجازر الجماعية، والاعتراف بها، ثم العودة إلى التفاعل المجتمعي ومن ثمّ المصالحة. وقف الضحايا والجناة وجهاً لوجه، ونتج عن تلك المحاكمات أحكام مُخفَّفة مقابل الاعتراف بالجرائم.

        تميّزت حالة رواندا أيضاً بإسهام الأمم المتحدة في تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، التي حاكمت كبار المسؤولين عن تلك المأساة، بمن فيهم رئيس الوزراء كامباندا وقادة عسكريون كبار.

        كانت، ولا تزال، تجربة رواندا مهمّة جداً من حيث درجة نجاحها في ما كان يُحسَب مستحيلاً. وقد ساعد على ذلك الانخراط في عملية إعادة البناء، وبرامج الوحدة الوطنية، وتوفير فرص النجاح في إعادة الإدماج: للناجين والجناة السابقين في الوقت نفسه. أسهمت «اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة» في هذه العملية، من خلال تركيزها على تعزيز الانتماء والهوية الوطنية، وعزل الجوانب السلبية من الانقسامات القبلية والعرقية. وكما في الأمثلة السابقة، بقي هناك من ينتقد محاكم «غاكاكا» لقصورها في مُحاسبة الجناة وتساهلها معهم، وكان من بين المنتقدين العديد من الضحايا الذين بقي الشعور بالظلم وضعف القصاص كامِناً في صدورهم.

        تظلّ تجربة رواندا تحت الرقابة والسيطرة، رغم نجاحاتها المشهودة. وهي موضع شكاوى من انتهاكات حقوق الإنسان الطارئة، ومن القيود على حرية التعبير والعمل السياسي المعارض أيضاً.

        البوسنة والهرسك:

        بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول «المعسكر الاشتراكي»، تفكّكت دولة السلاف الجنوبية (يوغوسلافيا) بعنف، ووقعت حرب البوسنة بين عامي 1992 و1995، وتميّزت بالتطهير العرقي، والقتل الجماعي، والانتهاكات الجسيمة، في الصراع بين صرب البوسنة وكرواتها والبوشناق (المسلمين البوسنيين).

        تأسّست «المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة» في لاهاي، وحاكمت المسؤولين الكبار عن فظائع تلك الحرب، وأدانت زعيمي الصرب كاراديتش وملاديتش بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. كما أنشأت البوسنة والهرسك نظامها القضائي الخاص لمحاكمة بقية الجناة المحليين.

        لكن النظام السياسي الناشئ، المعقّد والمنقسم على أساس عرقي، شكّل عائقاً أمام تنفيذ المحاكمات واستكمال وظيفتها. بالمقابل، ساعدت لجان الحقيقة وأعمال التوثيق على استيعاب الفظائع، ومساعدة الجمهور على معالجة آثار الحرب.

        ورغم المساعدة المهمّة التي قدّمها المجتمع الدولي في تنفيذ العدالة الانتقالية، فإن الإصرار على الانعزال، ورفض الاعتراف بما جرى، أو مقاومته، كلها عوامل منعت المصالحة من بلوغ غاياتها الأعمق والأكثر استدامةً.

        ما هو مشترك؟

        هناك قواسم مشتركة بين هذه التجارب وغيرها، يمكن تلخيصها بما يلي:

        وقفت الموازنة بين متطلبات العدالة المجرّدة والمصالحة الوطنية، كمصلحة مستقبلية، دائماً أمام أعين من صمّموا مسارات العدالة الانتقالية وإجراءاتها، كما لعبت الظروف الخاصة بكل بلد دوراً حاسماً في تحديد الخيار الوطني لذلك التصميم.

        غالباً ما ارتكز التوجّه نحو الملاحقات الجنائية على أسس ضرورية للمحاسبة. على سبيل المثال: تعرّضَ للمحاكمة في نورمبرغ 199 قيادياً نازياً فقط، بينما خضع آخرون لأشكال أخرى من المُساءلة، كان آخرها وأكثرها تعميماً وبساطة هو «التدقيق» وفحص السجلات الخاصة بالأفراد ومدى أهليّتهم للعمل في الدولة من جديد.

        تعرّضت التجارب، بتنوّعها، إلى مسألة الاختيار أو توزيع العمل بين المحاكم الدولية والمحلية. فالأولى ضرورية لتعميق المسؤولية وتقديم المثال، وخصوصاً في ما يخص القادة، لكنّ الإمكانيات لا تسمح بذلك إلّا لعدد محدود. وتقوم العدالة المحليّة بتنفيذ محاسبة العدد الأكبر من المُنتهِكين. من المهم أن تكون هناك لجنة قضائية رفيعة تضع أسساً لذلك، وتحدّد المتّهمين الذين يُحالون إلى المحاكمة دون تفريط ولا مبالغة؛ فالتفريط يُفقد العملية وظيفتها، والمبالغة قد تحوّل العدالة إلى انتقام يجعل المصالحة الوطنية والسلم الأهلي أكثر صعوبة.

        كما يمكن أن يكون هناك جدل وتركيز على التعويضات المادية المباشرة للضحايا، وذلك بمثابة دفعة أولى نحو المصالحة؛ في حين ينبغي توفير الوقت والإمكانيات اللازمة لإعادة التماسك المجتمعي، الذي قد يحتاج إلى معالجة في مجال علم النفس الاجتماعي، إضافةً إلى لجان السلم الأهلي أو الوطني، وكلّ الإمكانيات التي تتيحها الأعراف المحليّة. يحتاج ذلك إلى مأسسة مناسبة أيضاً، ضمن إطار مأسسة العدالة الانتقالية المحدودة الأمد، ومأسسة المصالحة مع الماضي وتعزيز الوحدة الوطنية، وهي عملية طويلة الأمد وتحتاج إلى استدامة.

        بالمقابل، كثيراً ما تكون انتهاكات النظام الاستبدادي متداخلة مع انتهاكات جديدة يرتكبها من يُعتبَرون من ضحايا الانتهاكات الأصلية، في فترة الكفاح ضد الاستبداد أو بعد الانتصار عليه. لذلك يُعتَبر من أهم مبادئ العدالة، ومن عوامل نجاحها، إعلان الاستعداد للمُساءلة وقبول تطبيقها من قِبل المشتكي ذاته، من بين أولئك الذين يطالبون بالعدالة لما لحق بهم من انتهاكات سابقة.

        وبالطبع، لا بدّ من الإصلاح المؤسسي قبل أو مع انطلاق عملية العدالة الانتقالية؛ فذلك لا يمنع فقط تكرار الانتهاكات تحت شعارات جديدة، بل يُعزّز أيضاً قدرة قوى الأمن والقضاء على محاسبة الانتهاكات السابقة. لذلك، لا بدّ من تنظيم عملية فحص سجلات المسؤولين في هيكلية الدولة قبل التغيير، كمقدّمة لاستبعاد الميؤوس منهم، وإعادة توظيف البقية مع إعادة التأهيل الضرورية، وبدرجة التسامح الممكنة. يتمّ ذلك دون أن يعرقل متابعة آليات محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات السابقة الجليّة وتحويلهم إلى القضاء.

        فيما يلي بعض الاقتراحات العاجلة للحالة في سوريا:

        مناقشة الموضوع الأكثر ضرورة: هل يجب متابعة موضوع إحالة بشار الأسد وأهم المسؤولين عن الانتهاكات في نظامه إلى محكمة الجنايات الدولية أو ما يحلّ محلّها؟ وما هي مستلزمات ذلك، مثل توقيع اتفاقية روما مثلاً؟

        ومع رفع العقوبات، ينبغي عدم تأجيل أو تأخير تشكيل مؤسسة العدالة الانتقالية ومكوّناتها الفرعية، وضمان استقلاليتها وتأمين ميزانيتها وصندوق جبر الضرر المرتبط بها. فالتأخير قد يفضي إلى خسائر جسيمة، كما حدث في الساحل أو في جرمانا وأشرفية صحنايا.

        ويجب أيضاً تشكيل لجنة تنظّم وتصمّم مسائل المصالحة مع الماضي، وتفريعاتها المتعلقة بالسلم الأهلي، والتوثيق، والتماسك الاجتماعي، وإحياء ذكرى الضحايا، ومنع نسيان المفقودين ومتابعة قضيتهم، ومتطلبات ذلك في مجالات التربية والتعليم والثقافة والفنون، وغيرها.

        ويمكن البدء أيضاً بإقرار تأسيس متحف لذكريات القمع في سجن صيدنايا وتدمر أو في أي موقع مناسب، وإنشاء دائرة للتوثيق والذاكرة، وبناء نصب تذكارية تحدّ من النسيان، وأخرى تحفّز على التسامح حيث يكون ذلك ممكناً وبالقدر الضروري.

        من الضروري الإشارة هنا إلى أن مرسوم تأسيس هيئة العدالة الانتقالية، المشار إليه في مقدّمة هذا المقال، قد ترافق مع مرسوم آخر بتشكيل لجنة للمفقودين، وهي خطوة ضرورية وإيجابية، إن تأكّدت جديّتها ومردودها مع الوقت، كما هو مأمول.

        أخيراً:

        كان واضحاً أعلاه ارتباطُ كلّ المسار بالديمقراطية؛ فغياب الاستقرار، وظهور معالم الاستفراد بالسلطة، والابتعاد عن تأمين مشاركة أوسع في القرار وصناعته، وبعض مظاهره التي تبرز من وقت لآخر؛ كلها عوامل تمنع، أو على الأقل تعرقل، مسار العدالة الانتقالية وتسوية العلاقة مع الماضي الاستبدادي، بل وقد تقوم بتشويهه!

موقع الجمهورية

——————————————–

الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بسوريا بين الآمال وتحديات الواقع/ أحمد العكلة

20/5/2025

دمشق- أصدرت الرئاسة السورية، السبت الماضي، مرسوما -رقم (20)- يقضي بتشكيل هيئة مستقلة باسم “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ مبادئ عدم التكرار.

ووفق نص المرسوم، فقد عُيّن عبد الباسط عبد اللطيف رئيسا للهيئة، وكُلف بتشكيل فريق العمل ووضع نظامها الداخلي خلال مدة لا تتجاوز 30 يوما، على أن تتمتع الهيئة بـ”الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية”.

في حديث للجزيرة نت، اعتبر المحامي والخبير القانوني عبدو فاروق عبد الغفور أن إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية يشكل خطوة قانونية مهمة جدا، يمكن وصفها بأنها بداية لمسار إصلاحي مؤسسيّ يعكس نيات جدية لإحداث تغيير قانوني.

دلالة إيجابية

ورأى المحامي عبد الغفور أن الإطار القانوني الذي أُنشئت بموجبه يحمل دلالة إيجابية، لكنه ما يزال بحاجة إلى تطوير ليتماشى مع المعايير الدولية المعتمدة في تجارب العدالة الانتقالية حول العالم. وأوضح أن “الفكرة بحد ذاتها ضرورية للحد من الثأر الشخصي، وبناء منطق قانوني جامع”.

وحول ما إذا كان المرسوم يضمن استقلال الهيئة بشكل فعلي، قال إنه نص صراحة على ذلك، وهو مؤشر جيد من الناحية القانونية، مشيرا إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في التطبيق العملي، وإلى ضرورة تحصين هذا الاستقلال مؤسسيًا، ومنع تدخل أي جهة تنفيذية في عمل الهيئة “حتى لا نعود إلى دوامة الخلط بين السلطات كما كان سائدا في عهد النظام المخلوع”.

وأكد ضرورة أن تُمنح الهيئة صلاحيات واسعة تشمل التحقيق، والوصول إلى المعلومات، والتوصية بالإصلاحات. وقال إن بعض هذه الصلاحيات وردت بالفعل في المرسوم، بينما يحتاج بعضها الآخر إلى توضيح وتعزيز، مشددا على ضرورة إشراك قضاة ومحامين يتمتعون بالنزاهة والشفافية ضمن آليات عملها.

واعتبر المحامي عبد الغفور أن توقيت تشكيل الهيئة يحمل رمزية بالغة للسوريين، خاصة بعد سنوات من انتهاكات النظام الأمني، وأنه يمكن قراءة الخطوة كرسالة سياسية نحو الانفتاح والتهدئة وإعادة التوازن الاجتماعي قبل القانوني. وأضاف أن السياق الإقليمي يشجع عليها في ظل تأكيد دولي متكرر على أهمية العدالة الانتقالية لضمان عدم انزلاق سوريا نحو “اقتتال أهلي، نظرا لتعدد مكوناتها الدينية والعرقية”.

وعن مدى قدرة الهيئة على ترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع، قال إن الأمر مرهون بمدى جدية التفعيل، مشددا على ضرورة إشراك الضحايا وذوي المغيبين قسريا والمهجرين ومصابي الحرب، ومنظمات المجتمع المدني، لضمان تحقيق نتائج ملموسة تعزز الثقة بالقانون بعد سنوات من الفوضى الأمنية والعسكرية.

ضمانات قانونية

وبشأن استعداد الأطراف المختلفة للتعاون مع الهيئة، خاصة إذا طالت التحقيقات شخصيات نافذة، رأى المحامي عبد الغفور أن النجاح في هذا الجانب يعتمد على “إدارة الملف بذكاء قانوني” يضمن شمولية العدالة دون استثناءات.

وأكد أن وجود ضمانات قانونية ونزاهة في المعالجة، ومنح أعضاء الهيئة حصانة قانونية حقيقية، قد يسهم في تحقيق تجاوب حتى من شخصيات حالية متهمة، قائلا “المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ويجب أن يكون القانون كالمنشار، لا يستثني أحدا”.

وجاء تشكيل الهيئة استنادا إلى الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية، وأحكام الإعلان الدستوري، وإيمانا بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية بوصفها ركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضمانا لحقوق الضحايا، وتحقيقا للمصالحة الوطنية الشاملة، وفقا لما ورد في نص المرسوم.

بالمقابل، قال الخبير الحقوقي أحمد جمجمي للجزيرة نت إن الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية كان من الممكن أن تضمن إشراك الضحايا وذويهم بشكل فعلي، إلا أن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب. وأوضح أن المرسوم منح رئيس الجمهورية صلاحية تشكيل الهيئة وكان من المفترض أن يستغلها بالتواصل مع روابط الضحايا والناجين ومنظمات المجتمع المدني، وأن يضمن تمثيلهم الواضح ضمن نص المرسوم ذاته.

وحسب جمجمي، فإن آليات جبر الضرر يجب أن تأتي بعد كشف الحقيقة وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات، مضيفا “من الضروري أن يشمل ذلك الحجز على أموال الجناة المنقولة وغير المنقولة، وتغريمهم لصالح الضحايا. وكان من الأفضل أن يتم إشراك المفوضية السامية لحقوق الإنسان في عملية تشكيل الهيئة، وأن يتم تأسيس صندوق خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، لتعويض المتضررين ماديا ومعنويا”.

وأعرب عن قلقه مما اعتبره “محدودية قدرة الدولة السورية” على تحمل أعباء التعويض بمفردها، مؤكدا أن عدد الضحايا يُقدّر بمئات الآلاف، وغالبية الجناة إما لا يملكون أموالا أو هربوا خارج البلاد، مما يستدعي -برأيه- إشراك الأمم المتحدة، وخاصة المفوضية، في إنشاء صندوق دولي لتعويض الضحايا.

تحديات

وبشأن التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية، قال الخبير جمجمي إن ضياع الأدلة يُعد من أكبر العقبات، كما أن العبث بها خلال تحرير المقرات الأمنية والسجون مثل صيدنايا، أدى إلى فقدان وثائق مهمة وأجهزة كمبيوتر كانت تحتوي على أرشيف الأدلة.

وشدد على أن مسار العدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن يكتمل دون أن يشمل جميع الضحايا. كما أكد على ضمان وجود آليات دولية مستقلة تشرف على عملية كشف الحقيقة وجبر الضرر.

وطالب الكثير من السوريين الحكومة بالإسراع في إعادة حقوقهم المسلوبة وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، من بينهم محمد المعروف من ريف إدلب حيث “هُدم منزله وتم قطع 300 شجرة زيتون في أرضه من قبل ورشات تتبع لأحد شبيحة النظام السابق”.

ويقول المعروف للجزيرة نت إن هذا المسؤول السابق والورشات العمالية التي جلبها معه، هدمت أسقفًا وسلبت أملاكًا بمئات ملايين الدولارات من ريف حماة الشمالي والغربي وريف إدلب الجنوبي والشرقي وريف حلب الغربي، و”هذا مثال صغير عن ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بحق كل من ساهم في مأساة الشعب السوري”.

وأكد “أريد تعويضا من كل من شارك وأعطى أمرا بخسارتي لبيتي وأرزاقي، سوف أرفع عليهم دعوى قانونية بعد تشكيل الهيئة الجديدة لأحصل على تعويض منهم”.

المصدر : الجزيرة

——————————

 “هيومن رايتس ووتش”: الصلاحية المحدودة لهيئة العدالة الانتقالية تقوض مصداقيتها

2025.05.20

حذّرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” من أن الصلاحية المحدودة لهيئة العدالة الانتقالية تقوّض مصداقيتها وتقصي العديد من الضحايا، داعية الحكومة السورية لضمان أن يكون للناجين والمجتمعات المتضررة دور محوري في تشكيل عملية العدالة الانتقالية.

وفي بيان لها تعليقاً على مرسوم الرئاسة السورية بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطني للمفقودين، قالت المنظمة إنه “يُمكن لهاتين الهيئتين أن تمثلا نقطة تحول في كشف ما لحق بسوريا من فظائع وتحقيق المساءلة حيالها”، مضيفة أن “صلاحيات هيئة العدالة الانتقالية، وفقاً لما يذكره المرسوم، محدودة بشكل مقلق، وتقصي العديد من الضحايا”.

وذكرت المنظمة أن الإعلان الدستوري السوري، الصادر في آذار الماضي، وعد بإنشاء هيئة فيها “آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين”.

وأشارت إلى أن مرسوم إنشاء هيئة العدالة الانتقالية يقتصر على الجرائم التي ارتكبها نظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد فقط، مُستثنياً ضحايا الانتهاكات التي ارتكبتها الجهات غير الحكومية، كما أنه لا يوضح كيفية إشراك الضحايا بفاعلية في تشكيل عمل اللجنة أو المشاركة فيه، أو ما إذا كان سيتم ذلك.

تفاؤل حذر

وقالت “رايتس ووتش” إن إنشاء الهيئة الوطنية للمفقودين “قوبل بتفاؤل مشوب بالحذر، لكن سيعتمد نجاحها على الشفافية، وإطار عمل قائم على الحقوق، ومشاركة حقيقية للضحايا، كما هو الحال مع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، مؤكدة أنه “من دون هذه العناصر، لن ينجح حتى هذا الجهد الهام في تلبية توقعات السوريين المُبررة”.

وأضافت أن “الفظائع الأخيرة وتصاعد الخطاب الطائفي يؤكدان على الحاجة المُلحة إلى عملية عدالة انتقالية شاملة، عملية لجميع السوريين، وليس لبعضهم فقط”، معتبرة أن “الحكومة السورية تقف الآن عند مفترق طرق: إما أن تتبنى عملية حقيقية تُركز على الضحايا وتُقر بحقوق جميع الناجين، أو تُديم الإقصاء وتُعمّق الانقسامات”.

وأكدت المنظمة الحقوقية أن “الاتجاه الذي ينبغي اتباعه واضح”، مشيرة إلى أن “الناشطين والمحامين والناجين السوريين قادوا النضال من أجل العدالة لسنوات عديدة، وثّقوا الانتهاكات، ودعموا العائلات التي تبحث عن أحبائها، وتفاعلوا مع آليات العدالة الدولية، هو ما يجعل مشاركتهم ضرورية، وليست اختيارية”.

وطالبت المنظمة السلطات السورية بالاستفادة من التجارب الناجحة للتعاون بين آليات الأمم المتحدة ومنظمات الضحايا، مثل المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا، وضمان أن يكون للناجين والمجتمعات المتضررة دور محوري في تشكيل تصميم عملية العدالة الانتقالية وأهدافها وتنفيذها.

وأكدت “رايتس ووتش” أنه ينبغي على شركاء سوريا الدوليين توضيح أن دعم هذه الجهود سيعتمد على نهج شفاف وشامل ويركز على الضحايا”، مشددة على أن “هناك فرصة ملموسة لتحقيق عدالة حقيقية، لكن هذه الفرصة ستضيع إذا استبعدت العملية بعض الضحايا أو همشتهم”.

الرئاسة السورية تشكّل هيئتين وطنيتين للعدالة الانتقالية والمفقودين

والسبت الماضي، أعلنت الرئاسة السورية، في مرسومين منفصلين، عن تشكيل هيئتين وطنيتين مستقلتين للعدالة الانتقالية والمفقودين في سوريا.

وجاء تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” وفقاً للمرسوم الرئاسي رقم (20) لعام 2025، “بناءً على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية العربية السورية، واستناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وإيماناً بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً للمصالحة الوطنية الشاملة”.

ووفق المرسوم، تُعنى الهيئة بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية.

كما أعلن المرسوم رقم (19) لعام 2025 عن تشكيل هيئة مستقلة باسم “الهيئة الوطنية للمفقودين”، وذلك “بناءً على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية العربية السورية، واستناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وحرصاً على كشف مصير آلاف المفقودين في سوريا وإنصاف ذويهم”.

ونصّ المرسوم على أن الهيئة “تُكلَّف بالبحث عن مصير المفقودين والمختفين قسراً، وتوثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم”.

تلفزيون سوريا

—————————–

هيئة العدالة الانتقالية.. آمال ومخاوف من الانتقائية والعدالة المجتزأة/ محمد سليمان

19 مايو 2025

أصدرت الرئاسة السورية، السبت الفائت، مرسومًا يقضي بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، تتولى ”كشف الحقائق بشأن انتهاكات النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ المصالحة الوطنية”. وقد أُسندت رئاسة الهيئة إلى عبد الباسط عبد اللطيف، مع منحه مهلة ثلاثين يومًا لتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي.

يُعد المرسوم أول إجراء رسمي يُعلن في سياق العدالة الانتقالية، وقد فُسّر على نطاق واسع باعتباره خطوة أولى في هذا المسار، لكنه في الوقت نفسه أثار سلسلة من المخاوف والانتقادات القانونية والسياسية.

يرى المحامي عز الدين عز الدين أن هذا القرار كان متوقعًا، لكنه يُشدد على أن تشكيل الهيئة لا بد أن يستند إلى قانون خاص يحدد صلاحياتها المكانية والزمانية بشكل دقيق، وينظّم طبيعة عملها.

وأكد عز الدين، في حديثه لـ”الترا سوريا”، أن اللجنة يجب أن تكون مستقلة، نزيهة، شفافة، وأن تُجرى كل إجراءاتها بشكل علني، وفي مقدمتها الاستماع إلى إفادات الضحايا والشهود، معتبرًا أن ذلك يمثّل جوهر عمل أي هيئة للعدالة الانتقالية. وأضاف أنه يجب أن تضم أفرادًا يتمتعون بخبرة حقيقية، واطلاع واسع على تجارب العدالة الانتقالية في الدول الأخرى.

وأشار عز الدين إلى ضرورة أن تضم الهيئة مختصين بالقانون الجنائي الدولي، وخاصةً اتفاقية روما التي تُعنى بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إضافةً إلى ذوي دراية بآليات جبر الضرر والتعويض. ويقترح أن تضم الهيئة أيضًا اقتصاديين قادرين على تدبير مصادر التمويل، وتوزيع المساعدات، ووضع برامج تعويض فعالة.

وأوضح أن الهيئة ليست جهة قضائية، وإنما لجنة قانونية تُصدر توصيات فقط، لا أحكامًا. وهذه التوصيات “قد تُحال إلى المحاكم لملاحقة مرتكبي الانتهاكات، أو تُرفع إلى الوزارات المختصة، مثل وزارة الاقتصاد ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل”.

وفيما يخص آليات الجبر والتعويض، أعاد عز الدين التأكيد على أن الاستقلالية تعد الشرط الجوهري لنجاح الهيئة، مشددًا على وجوب أن تكون مستقلة تمامًا عن الحكومة أو أي طرف آخر، إلى جانب توافر النزاهة والخبرة لدى أعضائها.

تساؤلات حول الحياد وضمانات غير كافية

من جانبه، يرى المحامي مصطفى كليب أن هذا المرسوم يمكن اعتباره بالفعل نقطة بداية لمسار العدالة الانتقالية، لكن الخطوة المنطقية، بحسب رأيه، كان يجب أن تبدأ بإصدار قانون خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، يُقر من خلال مجلس تشريعي من المفترض أن يتشكل لاحقًا، بحيث يوفّر الأساس القانوني الذي يحدد اختصاصات الهيئة، ويضمن آليات شفافة لاختيار أعضائها، ويكفل استقلالها، وحياد من يشغلون مواقعها، إلى جانب إنشاء منظومة رقابة على عملها.

ويؤكد كليب أن مجرد التأكيد على استقلال الهيئة المالي والإداري في نص المرسوم لا يكفي، ولا يُعد ضمانًا فعليًا لهذا الاستقلال، إذ إن التجربة السورية تُظهر أن القوانين دون إرادة تنفيذية صادقة قد تبقى “حبرًا على ورق”.

ويشير إلى أن أكثر ما يُؤخذ على المرسوم هو حصر اختصاص الهيئة بـ”الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد”. إذ إنه “على الرغم من أن الجرائم التي ارتكبها النظام تشكل الغالبية الساحقة من الانتهاكات في سوريا –  وتصل بحسب التقديرات إلى ما بين 85% إلى 90%  – إلا أن هذا لا يُبرر تجاهل ما ارتكبته أطراف أخرى بحق السوريين”.

وبرأيه، فإن العدالة لا يمكن أن تُجزأ، والضحايا لا يجوز أن يُصنّفوا حسب الجهة التي انتهكت حقوقهم، لأن ذلك يُفضي إلى “عدالة اجتزائية”، تُعيد إنتاج الظلم بدل معالجته. كما حذّر من أن هذه الصياغة تفتح الباب نحو نموذج من العدالة الانتقالية قائم على منطق “عدالة المنتصر”، كما حدث في تجارب فاشلة حول العالم.

ويضيف كليب أن هناك إشكالًا في المفهوم نفسه، متسائلًا: من يحدد ما يُعدّ “انتهاكًا جسيمًا”؟ فالعدالة الانتقالية لا تُعنى فقط بأشد الجرائم قسوة، رغم أن هذه تشكّل محورًا رئيسيًا، بل هي معنية بكل الانتهاكات على اختلاف طبيعتها، خاصةً عندما تُبنى العملية على مبدأ الشمول والاعتراف بالضحايا كافة.

ويُبدي قلقًا بالغًا من تعيين شخصية معروفة بانتمائها السابق إلى المكتب السياسي لأحد الفصائل العسكرية، في إشارة إلى عبد الباسط عبد اللطيف، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة تثير كثيرًا من التساؤلات حول مدى الالتزام بالحياد، وهو شرط أساسي في أي هيئة عدالة انتقالية ذات مصداقية.

ويتابع كليب بأن ما سيتضمنه النظام الداخلي المنتظر سيكون كاشفًا لكيفية إشراك المجتمع المدني، وعائلات الضحايا، في عمل الهيئة. ويُصر على أن العدالة الانتقالية ليست مسارًا تقنيًا تصممه الدولة من فوق، بل هي عملية مجتمعية تشاركية. ويؤكد على أنه من دون إشراك الضحايا الحقيقي “لا يمكن أن تكون هناك مصالحة صادقة، ولا يمكن للمجتمع أن يشعر أن الحقيقة تُصاغ لصالحه، لا لصالح السلطة”.

بين الفرصة والتوجّس

يبقى تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية تطورًا بارزًا في السياق السوري، لكنه محفوف بالأسئلة الجوهرية: هل هي بالفعل بداية مسار وطني للإنصاف والمساءلة والمصالحة؟ أم أنها ستكون إطارًا شكليًا تُفرض فيه “العدالة من الأعلى” دون مشاركة مجتمعية فعلية؟

تجارب الشعوب التي سبقت سوريا إلى العدالة الانتقالية تُظهر بوضوح أنه لا عدالة دون اعتراف كامل بالضحايا، ولا مصالحة دون مساءلة حقيقية، ولا حقيقة تُحتكر من طرف واحد. فما ستقرره الأيام القادمة، وخاصةً ما سينص عليه النظام الداخلي، هو ما سيحسم ما إذا كانت هذه الهيئة بداية طريق، أم التفافًا جديدًا على آمال السوريين في العدالة.

الترا سوريا

———————

كتب محمد العبد الله Mohammad Al Abdallahmad al مدير المركز لسوري للعدالة والمساءلة وأحد العاملين في مجال  العدالة الانتقالية منذ أرع عشر سنة:

ملف العدالة الانتقالية مانه ملف سياسي ولا لازم يتم التعامل معه كملف سياسي. لا الهدف منه النيل من طرف ولا حماية طرف آخر.  الهدف منه مساعدة البلد والناس.

ملف العدالة الانتقالية يساعد البلد والناس على تجاوز جراحها والمضي للأمام عبر كشف الحقيقة حول ما حصل للضحايا، محاكمة الفاعلين، وتعويض أهالي الضحايا. يؤسس لإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب ويكرس احترام كرامات الناس.

ملف العدالة الانتقالية ملف إنساني بأحد جوانبه. تخيل تقدر تعرف مصير ابنك او بنتك، أو أخوك، أو تعرفي مصير زوجك وتحاكم الفاعل وتحصل حقك… وتحصل على اعتذار واعتراف وتعويض ومساعدة طبية وقانونية ونفسية…. بس لازم تعرف أنه غيرك كثير عالم ما راح تقدر تحصل ذات الشي.

صحيح، نظام الأسد القذر وصلنا لهون. وصحيح أن النسبة الأكبر للجرائم وقعت على يده وأيدي زبانيته في أجهزة الأمن. لكن باقي الأطراف ارتكبت انتهاكات أيضاً، في ضحايا، عندهم أهل منتظرين يعرفوا مصيرهم ويحصلوا حقوقهم، مثلنا كلنا.

جميع الأطراف، الجميع بدون استثناء، ارتكبت انتهاكات في سوريا. تتفاوت فداحتها ونسبتها، نعم، لكن الجميع ارتكب انتهاكات: الجيش الحر بمختلف فصائله وتشكيلاته، الجيش الوطني، قسد، داعش، حزب الله، إيران، روسيا، تركيا، ميليشات طائفية من لبنان وإيران والعراق وأفغانستان، التحالف الدولي يلي دمر بيوت فوق رؤوس أهلها خلال حربه على داعش، وغيرها، وطبعاً هيئة تحرير الشام التي وصلت إلى السلطة.

مرسوم اليوم يُبرأ الجميع عدا نظام الأسد، دولاً وميليشيات وفصائل وغيرها…

ربما يسأل البعض أن عبارة “التي تسبب بها النظام البائد” قد تشمل بعض الأطراف الآخرين مثل روسيا وإيران. لكن لو كان القصد كذلك تبقى أطراف كثيرة خارج صلاحيات عمل الهيئة ويسلب الأهالي حقهم بمعرفة حقيقة ما حصل لأحبائهم.

ملاحظة ثانية، عبارة “الانتهاكات الجسيمة” تحمل تفسيرات عديدة. ما هو الانتهاك الجسيم؟ ومن يقرر اذا كان جسيم. مع العلم أنه ببساطة يمكن الإشارة إلى الانتهاكات الواقعة ضد القانون الدولي، فيشمل بذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي وقعت في سوريا.

باختصار وبدون لف أو دوران، يجب إعادة النظر بهيئة العدالة الانتقالية قبل أن تباشر عملها، احتراماً للضحايا السوريين جميعاً. محاسبة طرف دون آخر يؤسس فقط لما يعرف بـ “عدالة المنتصر”. وهي نسخة ملطفة قليلاً ومقنونة عن أعمال الانتقام التي تحصل خارج إطار القانون. لا تؤسس لعدالة ولا لاحترام حقوق الناس ولا لإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.

و لسنا سذج أو غرباء عن البلد، المعضلة في هيئة تحرير الشام تحديداً. لو فتحت الهيئة أبواب محاسبة باقي الفصائل، ستعلو الأصوات المطالبة بمحاسبة الهيئة ذاتها.  مهما كان الحل لهذه المعضلة، لا يحق لأي طرف سلب الضحايا وذويهم حقوقهم في معرفة الحقيقة، كشف مصير المعتقلين وجبر الضرر والتعويض.

—————————–

ملاحظات على مرسوم هيئة العدالة الانتقالية.. ليس بالإمكان أفضل مما كان/ ميشال شماس

2025.05.21

ليس كل يتمناه المرء يتحقق على أرض الواقع، فالظروف أحياناً تكون أقوى وتحول دون تحقيق ما يطمح إليه الانسان. كما هو الحال اليوم مع تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية التي واجهت انتقادات كثيرة من السوريات والسوريين على امتداد سوريا خاصة من جهة عائلات الضحايا كما لاقت ترحيبا من فئات واسعة.

والانتقادات لم توجه إلى تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية بحد ذاتها، بل إلى اقتصار عمل الهيئة على البحث فقط في الجرائم المرتكبة من قبل نظام الأسد الإجرامي، وعدم شمولها لكل الضحايا وكل المجرمين الذين ارتكبوا عمليات إجرامية.

ومن حق جميع الضحايا وعائلاتهم أن يتلمسوا العدالة بصرف النظر عن المرتكبين سواء انتموا إلى نظام الأسد البائد أو لأي من القوى والتنظيمات المسلحة كقوات سوريا الديمقراطية وتنظيم داعش والفصائل الموالية للسلطة.

وطبعا للضحايا وعائلاتهم كل الحق في إبداء انزعاجهم وعدم رضاهم عن إقصائهم وعدم استشارتهم في هذا الأمر، ولهم الحق أيضاً في المطالبة بأن تشملهم إجراءات العدالة الانتقالية أسوة بضحايا نظام الأسد الإجرامي، وهم يشعرون بالغبن والظلم لهذا التمييز والإقصاء ويطالبون بشمولية مسار العدالة الانتقالية لجميع الضحايا وعلى جميع المرتكبين بصرف النظر عن خلفياتهم السياسية والاجتماعية والدينية والعرقية.

وأنه لا يجوز لفئة من هؤلاء المرتكبين الإفلات من العقاب لقطع الطريق أمام إمكانية حدوث تأجيج لمشاعر الضحايا في الانتقام، وأن بناء السلم الأهلي يجب أن يرتكز بشكل أساسي على معالجة كل المظالم دون استثناء وكائناً من كان الظالم أو المظلوم.

وإضافة إلى ما تقدم يمكن إبداء الملاحظات التالية على مرسوم تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية:

1- يؤخذ على مرسوم تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية عدم تحديده للمدة التي يجب أن يشملها عمل هذه الهيئة.

2- كان يجب تفصيل أحكام المرسوم على شكل مواد قانونية محددة بوضوح لا تحتمل اللبس أو التأويل، وليس صياغته بكتلة واحدة.

3- وردت عبارة “تُعنى” بكشف الحقيقة، وهذه العبارة ليس فيها إلزام بل فقط الاهتمام بالشيء، وكان يجب استخدام كلمة “تكلّف” لأنها تعبر عن الالتزام والتفويض الرسمي بأداء المهمة الموكلة لها رسمياً.

4- لم يحدد المرسوم أعضاء الهيئة، ومن هي الجهة التي ستراقب عملهم..؟

5- لم يوضح المرسوم ماهية الانتهاكات الجسيمة، إذ كان يجب تحديدها بدقة كالقول “الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الانسان وفقاً للقانون الدولي”، فهذه الصياغة أكثر دقة لأنها تحدد الإطار القانوني الذي يُستند إليه في توصيف الانتهاكات، وتُعطي بُعداً قانونياً واضحاً وتؤكد على المعايير الدولية التي تُحدد مدى جسامة هذه الانتهاكات.

6- وردت في المرسوم عبارة “التنسيق مع الجهات المعنية، دون توضيح ماهية هذه الجهات؟ كان من الأفضل تحديد الجهات المعنية في المرسوم لتوضيح المسؤوليات وتجنب أي غموض في التنفيذ. ومن يجب أن يتولى التنسيق، هل هي الجهات الحكومية، القضائية، المنظمات الدولية، أم منظمات المجتمع المدني؟

7- من غير الواضح أن الهيئة تتمتع بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية ولا يوجود وضوح في صلاحياتها وغياب آليات الرقابة والمساءلة على عملها.

8- أما لجهة عدم مشاورة ممثلي عائلات الضحايا والمنظمات المدنية العاملة عند تشكيل هذه الهيئة، فنأمل أن يتم استدراكها حين تشكيل فريق عمل الهيئة، بحيث يتم تمثيل عائلات الضحايا واختيار شخصيات وطنية كفوءة وذات خبرة.

هذا الرأي وتلك الملاحظات ليس الهدف منها الاعتراض على تشكيل الهيئة الوطنية للعدلة الانتقالية أو الهيئة الوطنية للمفقودين، بل على العكس تماماً، فإني أرى أن تشكيل تلك الهيئات ضرورة وطنية ملحة ومدخل مهم للسلم الأهلي واستقرار الأوضاع في البلاد.

وكنت على الدوام من المطالبين بتشكيلها، واعتراضي وملاحظاتي إنما تهدف بشكل أساسي إلى جعل تلك الهيئات مشكلة بأفضل طريقة لتحقيق العدالة لجميع الضحايا وعائلاتهم ومحاسبة المرتكبين أيا كانوا، إذا أردنا فعلاً أن نؤسس لسوريا جديدة، فهذه الملفات التي ستعالجها تلك الهيئات لا يمكن المرور عليها مرور الكرام وكأنها مجرد تفاصيل، بل هي تعبر عن مدى قدرتنا على حفظ الحقوق والذاكرة والكرامة وتحقيق العدالة للضحايا وتكريمهم منعا لتكرار هذه المآسي مستقبلاً.

وانتقاداتي وملاحظاتي لا تعني أننا اليوم غير مدركين وواعين لحساسية وخطورة المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا، وندرك جيداً أن الواقع الذي نعيشه أعقد بكثير مما نتصور، وليس بالإمكان أفضل مما كان في هذه الظروف العصيبة التي نعيشها.

فغالبية السوريات والسوريين وطبعاً أنا منهم رأينا ماذا حصل في ليبيا والعراق ولبنان واليمن، بالتالي نحن حريصون وراغبون جداً في ألا تفشل العملية الانتقالية الجارية في سوريا، ونتطلع والأمل يحدونا في أن تنهض الدولة السورية وتقوم ممثلة لكافة السوريات والسوريين، دولة تساوي بين بناتها وأبنائها وتحترم حرياتهم وتصون كراماتهم وتحفظ حقوقهم بصرف النظر عن الانتماء للسياسية أو الدين والعرق والجنس.

المهم اليوم أن نعمل ونساهم في تطوير عمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية لتشمل جميع المرتكبين أياً كانوا في المستقبل إنصافاً لجميع ضحايا الانتهاكات، وأيضاً تطوير عمل الهيئة الوطنية للمفقودين لتشمل جميع المفقودين على الأراضي السورية، على أن تضم في عضويتها ممثلين عن عائلات الضحايا بالاضافة إلى شخصيات وطنية مستقلة ذات خبرة وكفاءة. لأن تحقيق العدالة الانتقالية اليوم يساعد في استقرار الأوضاع في سوريا، كما يساعد الضحايا على تجاوز ألامهم وجراحهم من خلال كشف حقيقة ما جرى لهم، ومحاكمة المرتكبين خاصة الكبار منهم وأولئك الذين تلذذوا بقتل الناس وتعذيبهم، وتعويض أهالي الضحايا وتكريم الضحايا، كما يساعد أيضاً على التأسيس لإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب ويكرس احترام حرية وكرامة الإنسان في سوريا.

في الختام، نحن بشر قد نخطئ أو نصيب في نقدنا وملاحظاتنا، لكن هذا لا يمنع أبداً من أن نستمر في الكتابة طالما أن هدفنا هو مصلحة الشعب والوطن.

تلفزيون سوريا

————————–

هيئة المفقودين… سوريون ينتظرون العدالة ومداواة الجراح/ مها دياب

20 مايو 2025

خلفت سنوات الحرب الأهلية السورية مأساة إنسانية عميقة، وجاء المرسوم الرئاسي القاضي بتشكيل “هيئة عامة للمفقودين”، ليفتح ملفاً شائكاً يمس الآلاف من العائلات التي تبحث عن أبنائها المفقودين، وخطوة رسمية تهدف إلى توثيق حالات الاختفاء القسري على أمل الكشف عن مصير الضحايا.

يبعث مرسوم إحداث هيئة المفقودين الأمل لدى العائلات التي لا تعرف مصير أبنائها منذ سنوات، رغم أن هناك دلائل تشير إلى وفاة الكثيرين منهم، خصوصاً مع عدم العثور عليهم أحياء في أي من سجون نظام الأسد بعد إسقاطه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لكن العائلات تعول على إنشاء الهيئة في إتاحة فرصة، ولو محدودة، لمعرفة أماكن وجود جثامين ذويهم كي يتسنى لهم دفنهم وفق الأصول والشرائع، ومن أجل الحفاظ على كراماتهم وتخليد ذكراهم.

فقد سامر دياب، من مدينة الزبداني بريف دمشق، شقيقيه وسام ورامي، وابن عمه جلال في عام 2014، والثلاثة جرى اعتقالهم من قبل قوات النظام بعد مداهمتها المدينة، على خلفية مشاركتهم في تظاهرة للمعارضة.

يقول دياب لـ”العربي الجديد”: “رغم مرور كل تلك السنوات، لم نعرف عن مصيرهم أي معلومة، ولم نتمكن من الوصول إلى الجهة الأمنية التي اعتقلتهم. كل ما نريده الآن هو معرفة الحقيقة، ومعرفة مكان وجودهم، سواء كانوا على قيد الحياة أم لا. لدينا أمل كبير بأن تساعدنا هذه الهيئة”.

بدورها، فقدت فرح شرشار، من مدينة دمشق، شقيقها نديم في عام 2017، إذ تم اعتقاله على يد دورية أمنية عند دوار كفر سوسة، وتؤكد لـ”العربي الجديد”، أن عائلتها لم تتمكن من معرفة أي معلومة عن شقيقها سوى أن تهمته هي التعامل مع المعارضة، وتضيف: “منذ تاريخ اعتقاله حتى الآن، نبحث عن أي معلومة عنه، لكن من دون جدوى، وكنا نأمل بأن نجده ضمن المجموعات التي خرجت من السجون، أو حتى معرفة معلومة عنه من خلال من خرجوا أحياء، لكن للأسف لم نعثر على أي دليل”.

وتوضح شرشار قائلة: “رغم عدم وجود أثر يدل على أن شقيقي لا يزال على قيد الحياة إلا أن عدم وجود جثمان أو دليل قطعي على وفاته يبقينا في حالة شك بشأن احتمال إيجاده حياً، ما يبقينا في حالة بحث دائم عن أي خيط يوصلنا إلى معرفة مصيره، وبعد سماع قرار تشكيل هيئة المفقودين، أصبح لدينا أمل أكبر، فلسنا العائلة الوحيدة التي تبحث عن مفقودين، وأتمنى أن نصل من خلال الهيئة إلى نتيجة”.

أما السوري عمار مظلوم، من مدينة الزبداني، فهو يأمل بمعرفة مصير والده المفقود منذ عام 2018، ويقول لـ”العربي الجديد”: “كان والدي مرشد مظلوم تاجراً انحاز إلى الثورة السورية منذ بدايتها، لكنه تلقى تهديدات بالخطف والقتل، فتوقف عن المشاركة في أي نشاط، وفي عام 2018، اعتقلته جهة أمنية من المنزل، ولم نعرف شيئاً عن مصيره ولا عن الجهة الأمنية التي أخذته رغم الأموال الطائلة التي دفعناها رشاوى لضباط ومتنفذين. سنتواصل مع هيئة المفقودين الجديدة لمعرفة مصيره، على أمل أن تعمل بجدية لكشف الحقائق وطمأنة ذوي المفقودين عن أبنائهم، علها تساهم في إراحة قلوبهم المتعبة”.

يشكك حقوقيون سوريون بمدى استقلالية هيئة المفقودين أو قدرتها على تحقيق العدالة

في المقابل، يشكك حقوقيون ومتابعون لملف المفقودين بمدى استقلالية الهيئة وشموليتها، أو قدرتها على تحقيق العدالة، وإن اعتبروا أن تشكيلها يمثل خطوة إيجابية في ظل غياب أي إطار رسمي للتعامل مع الملف.

تقول المحامية السورية عتاب محسن لـ”العربي الجديد”: “هذا المرسوم يشكل خطوة في طريق حل مشكلة المفقودين بشرط أن يشمل جميع المفقودين بغض النظر عن الجهة التي تسببت في الاختفاء. عموماً، لا يمكننا الحكم على الهيئة قبل صدور نظامها الداخلي وتعليماتها التنفيذية، فهي ما زالت في مرحلة التأسيس”. 

من جانبه، يرى الحقوقي غزوان قرنفل في حديثه لـ”العربي الجديد”، أنه “كان من الأفضل إجراء مشاورات مع منظمات المجتمع المدني التي عملت لسنوات على توثيق حالات الاختفاء القسري وملف المفقودين، والتشاور أيضاً مع روابط وعائلات الضحايا قبل الإعلان عن إنشاء الهيئة، لضمان تمثيل أوسع وأكثر شمولية”.

بدوره، يوجه مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني انتقادات للطريقة التي تقرر بها تشكيل هيئة المفقودين، وقال لـ”العربي الجديد”: “كان يجب أن تشكل الهيئة بقانون من المجلس التشريعي، وليس بمرسوم رئاسي، وذلك لضمان شرعيتها واستقلاليتها، فتعيين أعضاءها من قبل السلطة التنفيذية يفقدها المصداقية، خصوصاً في ظل غياب تمثيل حقيقي لعائلات الضحايا والمنظمات الحقوقية”.

يضيف عبد الغني: “أسلوب تشكيل الهيئة يعد تكريساً للبيروقراطية في ملف العدالة الانتقالية. يفترض أن تكون هناك هيئة للمفقودين، ولجنة لجلاء الحقيقة، وأن تنسق مع لجان أخرى للمحاسبة والإصلاح والتحقيق في الانتهاكات، لكن يجب ألا تكون هناك هيئة واحدة لديها لجان منبثقة عنها لأن هذا يدخلها في تعقيدات لا نهاية لها”.

ووفقاً لتقارير المنظمات الحقوقية، يقدّر عدد المفقودين في سورية بنحو 157 ألف شخص، ويتحمل النظام السابق والمليشيات التابعة له مسؤولية أكثر من 85% من حالات الاختفاء القسري. في حين يواجه تحديد هويات المفقودين في سورية تحديات أبرزها نقص المختبرات والأدوات اللازمة لتحاليل الحمض النووي، خاصة في حالات المقابر الجماعية، إضافة إلى تعقيدات جمع الأدلة وحفظها بعد تدمير العديد من السجلات الرسمية، الأمر الذي يصعّب عملية التوثيق.

ويشكل ملف المفقودين جرحاً نازفاً في الذاكرة السورية، وتظل الحقيقة والعدالة شرطين أساسيين لأي مصالحة وطنية حقيقية، ورغم أن الهيئة الجديدة قد تكون خطوة على هذا الطريق، إلا أن مصداقيتها ستقاس بقدرتها على كسر حاجز الإفلات من العقاب التي كانت سائدة في المشهد السوري، ووضع حد لمعاناة آلاف العائلات التي تنتظر معرفة مصير أحبائها منذ سنوات، ولضمان تحقيق العدالة، ينبغي أن تتمتع الهيئة بالاستقلالية الكاملة، وأن تشمل جميع المفقودين من دون تمييز.

العربي الجديد

——————————–

الجريمة التي لا تزال تُرتكب في سوريا/ حنان البلخي

21/5/2025

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية

لنتخيل معًا أمًّا قضت ثلاث عشرة سنة تنتظر خبرًا عن ابنها المختفي قسرًا، تعيش على أمل واهن بأن يكون على قيد الحياة، وحين تفتح المعتقلات بعد سقوط النظام ولا تجده تبحث عن رفاته في مقبرة جماعية اكتشفت قرب أحد السجون، وعندما تحاول استيعاب الصدمة، يظهر شخص ما على شاشة التلفاز ليقول لها إن هذه الجرائم لم تحدث، وإن النظام كان يحافظ على الاستقرار، وإن كل ما يُقال مجرد مبالغات سياسية. ما الذي ستشعر به هذه الأمّ؟

في تلك اللحظة، يُسحب منها آخر ما تبقى لها من حقوق، وهو اعتراف العالم بمظلمتها. وستشعر أن معاناتها محل تشكيك، وأن ما يُطلب منها هو أن تصمت لأنها مجرد جزء من رواية مبالغ فيها. هنا، يتحول الإنكار إلى امتداد للجريمة نفسها. فإذا كان النظام قد قتل ابنها وأخفاه، فإن المنكرين يقتلون ذكراه ويحاولون دفن الحقيقة معه.

إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته

في كل ظهور إعلامي، تواصل بعض الشخصيات العامة أسلوبها المستفز، مستهترة بمشاعر الضحايا وأهاليهم. هؤلاء الأشخاص لا يترددون في إنكار الجرائم الموثقة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفية في سجون النظام السابق سوى مبالغات، رغم أن العالم كله شاهدها.

فكيف يمكن لمن يتجاهل الحقائق أن يكون شاهدًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني ليس فقط طعنة في جراح الضحايا، بل هو محاولة لتحويل المجرم إلى ضحية، وإعادة إنتاج الدعاية التي لطالما استخدمها النظام.

إن إنكار المجازر في صيدنايا، والتغطية على عمليات الاغتصاب في السجون، والتشكيك في وجود آلاف المعتقلين الذين لا تزال أمهاتهم يقفن أمام السجون بانتظار بصيص أمل، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر، بل هو امتداد للجريمة نفسها، وهو ما يستوجب إيقافها وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة.

الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال، التي تظهر في الإعلام وتدافع عن روايات النظام السابق، هي واحدة من الشخصيات التي تحاول تلميع صورة هذا النظام، رغم ما تحمله الحقائق من إثباتات دامغة على الجرائم المرتكبة.

تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة وابتسامتها المصطنعة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة، لكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث.

هذا التناقض الصارخ بين شكلها الخارجي وبين خطابها المستفزّ ليس مجرد مفارقة شخصية، بل هو انعكاس لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل، وكأن الكاميرات والمكياج يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر والمقابر الجماعية.

وكم من شخصيات في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب لكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا، تستخدم مظهرها لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا، لكن مهما كانت الملامح جذابة، فإنها لا تستطيع تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق، ولم يكن الوجه الحسن حجة تبرر تبرئة نظام قتل مليون إنسان.

فالحقيقة لا تتغير مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم.

وقد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها، لكنها لن تخدع الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، ولن تخدع الناجين من سجون الموت، ولن تخدع كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم، والحقيقة لا تُطمس بمكياج الكاميرات، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار.

التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد

هذا الظهور الإعلامي لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد في مسلسل طويل من تبرير الجرائم وإنكار الحقيقة.

هي ليست وحدها في هذا الدور، فوسائل الإعلام التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة للحديث عن مظلومية النظام السابق، بينما المقابر الجماعية لا تزال تُكتشف، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا، بل تساهم في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء ليست إلا رواية قابلة للنقاش.

من هنا فإن استضافة شخصيات تدافع عن الجريمة دون مساءلتها، هو شكل من أشكال التواطؤ. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة لا يمكنه أن يسمح بتمرير الأكاذيب على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة. لذلك، لا بد من أن يتحمل الإعلام مسؤوليته في مواجهة الإنكار، لا في الترويج له.

ولكن رغم الدور السلبي الذي تلعبه وسائل إعلامية في مثل هذه الحالات، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان قبح تلك الشخصيات الداخلي للجمهور.

فكلما تحدثت، زاد وضوح تناقضها بين المظهر المصطنع والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا، يفضح هؤلاء أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد.

كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟!

الجرائم التي ارتكبها النظام السابق لم تكن خيالات أو مجرد ادعاءات سياسية، بل وقائع مثبتة بشهادات الناجين، بالصور المسربة، وبالتقارير الحقوقية، وحتى بالوثائق التي كشفتها المؤسسات الدولية. آلة فرم المعتقلين في صيدنايا، والاغتصابات التي وُلد بسببها أطفال لا يعرفون آباءهم، فضلًا عن، الجثث المكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة، بل كان ماكينة قتل جماعي، تعمل بلا رحمة وبلا محاسبة.

كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا وعقلًا أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة؟ كيف يُمكن لمن رأى جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي أن كل هذا لم يحدث؟ إنه عمى اختياري، بل ولاء متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة، حتى بعد سقوط النظام.

ومن هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام كمنصات لتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ لن يحاسبهم.

من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية في العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو اعتراف بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويهيئ الأرضية لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية.

أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الضحايا لا يطلبون الشفقة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة. يريدون أن ترفع الأقنعة عن الوجوه الملوثة بالدماء.

لن تكون العدالة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع للعدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم بطمس ما حدث، بل تتحقق حين يجبر المجتمع على مواجهة ماضيه بشجاعة، دون مجاملات أو مواربة.

من حق كل أمّ أن تعرف مصير ابنها، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب أن يسمع صوته، ومن حق كل طفل وُلد في السجن بسبب اغتصاب والدته أن يعرف الحقيقة كاملة، لا أن يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب على الإرهاب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

صحفية، وممثلة سابقة للائتلاف السوري المعارض في أوسلو

الجزيرة

———————————

===========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى