الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

كيف أصبح “الأناناس” رمزاً للتحوّل السياسي في سوريا؟/ عمر الهادي

21.05.2025

في بيوت السوريين، الفاكهة ليست مجرد طعام، بل لذة مؤجلة، يتعاملون معها كما لو أنها هدايا مغلّفة لا يُعرف ما بداخلها، يراهنون على لون القشرة الخارجي، وإن لم يتطابق المذاق مع التخيل، يبقى السؤال عالقاً: هل استحق تذوق “الأناناس” كل هذا السقوط؟!.

تقف طفلة صغيرة وسط سوق شعبي في مدينة السويداء، أمام أحد متاجر الخضار، تشير بإصبعها إلى الأعلى بينما تشدُّ بيدها الأُخرى ثوب والدتها التي تنتقي بعض حبات البطاطا، قائلة: “بدي من هذا”.

تنظر والدتها إلى حيث يدل الإصبع، تشهر ظهرها بينما تحاول تذكر اسم الفاكهة المعلّقة في السقف داخل شبكة بلاستيكية ملونة يعلوها ملصق شعار الجودة. تشرد قليلاً لتعيد بدورها السؤال للبائع: “قديش كيلو المانغا؟”، يصحح لها البائع: “هذا أناناس، والحبة الوحدة بـ 80 ألف ل.س”.

تخفض يدها نحو صندوق الخضار في ترتيب سريع لأولوياتها، مرددةً لابنتها: “هذه زينة، مش للأكل”، وتكمل فحص حبات البطاطا قبل أن تضعها في كيس نايلون أسود.

أطعمة تتدلّى من الأسقف

تمتلك تلك السيدة إجابات معلّبة وجاهزة، مثل أمهات سوريات كثيرات احترفنَ صناعة مبرّرات تبرّك ما تبقّى من مطابخهن ومخرجاتها التي أخذت تتقلّص منذ بداية الحرب. لم تكن المرأة السورية يوماً في منأى عمّا حصل، بل كانت غالباً أول من تلقّت شكوى الجوع وتبعاته، فإن قلّ الطعام يوماً، توزع النقص من صحنها، قبل أن يصل إلى باقي أفراد الأسرة.

تلك الحجج اليومية لم تكن رفضاً لطلبات أطفالهن بقدر ما كانت تمريناً يومياً لتدارك العيش مع اقتصاد ضعيف، انحدر بأكثر من 90 في المئة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، بحسب آخر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي صدر في شباط/ فبراير الماضي.

أمام إلحاح طفل محروم من معظم الأشياء الشهية حوله، تتكيف تلك الإجابات مع الوقت، تُفصّل بما يتناسب مع إدراكه ووعيه لما حوله.

في عالم سوريا الداخلي، معظم الأطفال لا يعرفون مذاق الفاكهة التي تتدلّى من الأسقف، تُرفع هذه الأشياء عالياً بحيث لا يمكن لمسها، بينما تبقى صناديق الخضراوات الرخيصة أقرب إليهم.

المسافة بين حبة البطاطا في يد السيدة وثمرة الأناناس فوقها كانت تجسيداً صريحاً للمسافات التي أقصت السوريين عما حولهم، وأغرقتهم في فراغ الحرمان، تلك المسافة وإن بدت أنها صغيرة نسبياً، قابلة للتجاوز بامتداد صغير على رؤوس الأصابع، إلا أن المسافة المادية بين جيبها وتسعيرة ملصق شعار الجودة كانت أطول بكثير.

هذه الأطعمة غالباً ما وضعت في علوٍ مقصود، لتشارك السوريين نظرة استعلاء، تاركةً لهم تخمين مذاقها من بعيد، بينما يسيل اللعاب من المخيّلة.

أكثر من يلحظ تلك الأطعمة هم الأطفال، ليس لأن الكبار لا يشتهونها، بل لأن رؤيتها تحتاج الى رؤوس مرفوعة تبحث في الأعلى دوماً، أما رؤوس الآباء فقد نما فوقها انحناء ثقيل، وانخفضت إما خوفاً من التعثّر أو بحثاً عن طعام يمكن التقاطه من “سحّارة” قريبة؛ هكذا تناسى الكبار أسماء تلك الفاكهة، معتبرين الطعام الذي يبقى في الأعلى طويلاً يتحول مع الوقت إلى زينة.

التذوّق كفعلٍ سياسي

عندما تُترك الأشياء من دون استخدام، يتراكم الفراغ فوقها، طبقة تلو الأُخرى، إلى أن تتكدّس وتشكل عازلاً عليها، بهذه الطريقة انفصل السوري عن حواسه منذ سنوات، وأصبحت بينهما مسافات طويلة من الحذر والتجنّب.

لطالما كانت الحواس في سوريا مغيّبة، ليس فقط بسبب القمع السياسي، بل أيضاً بفعل الضائقة المادية التي فرضها نظام الأسد عبر تقتير مفتعل للسيطرة على الشعب وترويضه من جوعه. مع سقوط نظام الأسد، بدأت تتكشّف أبعاد جديدة للحياة اليومية، وأصبح السوريون قادرين على اختبار طعمٍ جديدٍ للحرية، حتى لو جاء من خلال تذوّق قطعة أناناس.

طوال حكم الأسد، تحوّلت الاحتياجات إلى رفاهيات مفقودة، الفاكهة الاستوائية نموذجاً، كانت أحد رموز هذا الفقدان، ورفاهية بعيدة تستورد من الخارج للـ 10 في المئة المتبقين من سكان سوريا، والذين ينتمون الى الطبقة الميسورة مادياً، في بلدٍ كان فيه الخبز والأرز والزيت يُشترى تحت رقابة البطاقة التموينية ودفتر الديون.

ترافق خروج عائلة الأسد مع تدفّق ملحوظ للمواد التي كانت محظورة أو نادرة في الأسواق، في مشهد كشف علاقة عكسية بين سطوة النظام وتأمين الاحتياجات: فكلما اشتدت قبضته، تلاشت المواد حتى نَدُرت، وأفسح مجالاً لتوسع السوق السوداء في البلاد، هكذا تحول القصر الرئاسي خلال العقود الماضية إلى رمز للاختلاس السلطوي، ومقرّ لاستهلاك المأكولات ذات النخب الأول.

لم يكتفِ النظام باحتكار السلطة فقط، بل سيطر على حركة الاستيراد والتصدير، وفرض ضرائب حتى على المنتجات المحلية، فيما لم يتخطّ أعلى دخل شهري عتبة الـ25 دولاراً. تشير أرقام البنك الدولي إلى أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 بلغ نحو 1,051 دولاراً، ما يعكس عمق الانهيار المعيشي في أواخر عهد الأسد.

وبين العقوبات، والفساد، ودمار البنية التحتية، تمكن النظام من تحويل الكارثة إلى مورد شخصي، فصار الجمرك ضعف السلعة، وأصبحت سوريا نموذجاً للدول التي تُنفق فيها الشعوب على السلطة، لا العكس.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى