كيف خسرت إسرائيل تأثيرها على ترمب في الملف السوري؟/ إياد الجعفري

2025.05.21
لو قُدّر للأكاديمي الأميركي الشهير، جوزيف صموئيل ناي الابن، أن تمتد حياته لبضعة أيام أخرى فقط، ربما لأشاد بحصيلة زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، وبالذات، لقاؤه بالرئيس أحمد الشرع، وإعلانه رفع العقوبات عن سوريا.
لكن الرجل الذي اعتُبر من أوائل المنظّرين للنيوليبرالية في العلاقات الدولية، غادر حياتنا، في 6 أيار/مايو الجاري، ليترك إرثاً ضخماً أثّر بشدة على صنّاع القرار وعلماء السياسة في الولايات المتحدة، بصورة خاصة، وفي العالم أجمع، بصورة عامة.
في الأشهر الأخيرة من حياته، أبدى الرجل علانيةً، استياءه من طريقة إدارة ترامب وتياره السلطوي، للدبلوماسية الأميركية.
وقال مبتكر مفهوم “القوة الناعمة”، إن ترامب خلال أشهر قليلة فقط من توليه للسلطة، بدد معظم مصادر هذه القوة وفكك أدواتها. وقد شاءت الأقدار أن يغادر ناي الحياة، قبل أن يشهد استخداماً بارعاً لـ “القوة الناعمة” من جانب عدد كبير من اللاعبين، من بينهم ترامب شخصياً، إلى جانب صنّاع الدبلوماسية في كلٍ من السعودية وقطر والإمارات وتركيا، ومن جانب صنّاع السياسة الخارجية داخل الحكومة السورية أيضاً. حيث حلت وسائل الجاذبية والإغواء بدلاً من الإكراه السافر للقوة، لتكون ركيزة صفقات استثمارية، واتفاقات كبرى، كان أبرزها، جذب سوريا إلى دائرة تأثير الدول الغربية وحلفائها التقليديين في المنطقة (دول الخليج، وتركيا).
الحليف الوحيد للغرب، الذي كان مستاءً مما حدث، هو إسرائيل. تلك التي غلب منطق “المدرسة الواقعية” على عقلية صنّاع القرار فيها، وبقيت “القوة”، هي المحدد الوحيد لانتزاع المصلحة، لديها، حتى خسرت جانباً كبيراً من القدرة على التأثير فيما يخص الملف السوري، داخل دوائر صنع القرار بواشنطن.
في عام 1977، كتب جوزيف ناي، مع روبرت كوهان، كتاباً شهيراً، بعنوان “القوة والاعتماد المتبادل: السياسة العالمية في مرحلة انتقالية”. اعتُبر الكتاب نقلة نوعية في أدبيات العلاقات الدولية، وتأسيساً لفهم جديد فيها، عُرف باسم “المؤسساتية الليبرالية الجديدة”، أو –النيوليبرالية في العلاقات الدولية-. تحدث ناي وكوهان في الكتاب عن عالمٍ يسوده الاعتماد المتبادل الدولي – المركب. وأبرز سماته، أنه لا توجد فيه هرمية واضحة للقضايا، ولا تمثل فيه القوة وسيلة فعالة في السياسة.
كان ذلك، من زاوية ما، ثورة ضد ركائز المدرسة الواقعية التي حكمت، وما تزال، الكثير من عالم السياسات الدولية، على صعيد صناعتها ومحاولة تحليلها وفهمها.
وتميّز أدبيات العلاقات الدولية بين ما يعرف بـ “السياسات الدنيا” – (القضايا الاقتصادية والاجتماعية)، و”السياسات العليا” – (القضايا الأمنية). ووفق أدبيات المدرسة الواقعية تقدّم الدول الأمن على الاقتصاد والقضايا الاجتماعية. وقد حكم هذا الفهم، وما يزال، الكثير من عمليات صنع القرار في السياسة الخارجية، لدى الكثير من دول العالم. لكن كلفته كانت باهظة وفق الليبراليين الجدد. الذين رأوا أن الدولة التي تقدم الأمن على
حساب التعاون الاقتصادي، تخسر على مستوى الفرص التعاونية الرائجة.
وفيما يرى الواقعيون أن القوة هي الوسيلة المثلى لتحقيق الأمن بوصفه غاية الدولة، يرى الليبراليون الجدد أن الاعتماد الدولي المتبادل، يتيح وسائل أفضل من القوة لتحقيق مصالح الدول. وكان ذلك المدخل الذي عرج منه ناي باتجاه التأسيس لمفهومه الشهير عن “القوة الناعمة”، في العام 1990.
هذا الإبحار السابق في أدبيات ومدارس العلاقات الدولية، يتيح لنا فهم كيف خسرت إسرائيل تأثيرها على الإدارة الأميركية –بصورة خاصة على شخص ترامب- في الملف السوري. فمنذ سقوط النظام البائد، استخدمت إسرائيل القوة “العارية” للتأثير سلباً في المشهد السوري، بصورة تتيح لها تحقيق الأمن، وفق مفهوم صنّاع القرار لديها. لكن هذه القوة بدأت تهدد كياناً هشاً بالانحدار نحو حالة خطرة من عدم الاستقرار، بدا جلياً أنها غير مرغوب بها من جانب معظم المعنيين الإقليميين والدوليين بالشأن السوري. فالأوروبيون والأتراك والأردنيون والخليجيون، لم يجدوا في “سوريا ضعيفة ومقسمة”، كما تريد إسرائيل، مشهداً مرغوباً به، لأنه يضرّ بأمن معظم هذه الدول. وبذلك، تفوق الفهم الليبرالي الحديث القائل بالاعتماد الدولي المتبادل، عبر قضايا من قبيل الأمن الجماعي والهجرة وتأثير الفقر.. إلخ، على الفهم الواقعي القائل بانتزاع المكاسب باستخدام “القوة العارية”. واستطاعت دول المنطقة، الخليجية وتركيا – بصورة خاصة-، باستخدام أدوات “القوة الناعمة”، التأثير على ترامب، أكثر من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي راح إلحاحه على عدم رفع العقوبات عن سوريا، أدراج الرياح. حتى أن ترامب أقر أنه لم يستشر إسرائيل في قراره هذا، قبيل إعلانه في 13 أيار/مايو الجاري.
من المفردات التي أشار إليها كل من ناي وكوهان في كتابهما الشهير: تشكيل الائتلافات، والتأثير في شبكات النخبة. وقد نجحت الدبلوماسية السورية باقتدار، في هذين المسارين، عبر تشكيل مظلة داعمة لسوريا من دول كتركيا والسعودية وقطر والإمارات. ومن خلال الانفتاح على نخب رأسمالية أميركية، من قبيل رجل الأعمال، جوناثان باس، الذي لعب دور جسرٍ بين الشرع وترامب، قبيل لقائهما، ناهيك عن دور الجالية السورية –الأميركية، التي حظيت بودٍ ملحوظ من جانب إدارة الشرع ووزير خارجيته، في الأشهر الفائتة.
وهكذا اضطرت إسرائيل للانقلاب على هدفها المعلن، بـ “سوريا ضعيفة ومقسمة”، والذي كانت قد أعلنت عنه، وضغطت باتجاهه، خلال الأشهر القليلة الفائتة، لتتحدث بصورة مفاجئة عن الرغبة بعلاقات جيدة مع النظام السوري الجديد. بطبيعة الحال، فإن انفتاح إدارة الشرع على الخوض في قنوات تفاوضية غير مباشرة لتبديد المخاوف الأمنية مع تل أبيب عبر الوسيط الإماراتي، إلى جانب قناة التفاوض الإسرائيلية – التركية في أذربيجان، أسهما في خفض التوتر، ونزع الذرائع الأمنية الإسرائيلية.
وكما يعلم المتخصصون، تستند النيوليبرالية في العلاقات الدولية إلى الإرث الليبرالي القائم على الحريات وحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين وسيادة القانون، داخل الدول.
وبالعكس من ذلك، تفضّل معظم الأنظمة الشمولية عزل الداخل لديها، عن التأثير الخارجي. وتعتمد بصورة أكبر على “القوة العارية”، وتكتيكات المدرسة الواقعية. ويكون استقرارها غير مستدام على المدى البعيد. لذا، وكي يُستكمل النجاح الدبلوماسي السوري المشهود به، والمستند إلى أدوات الليبرالية الجديدة، يجب أن يُحكم الداخل السوري بالعقلية نفسها أيضاً. فالتناقض بين انفتاح وتعاون مع الخارج، وانغلاق وتقوقع حيال الفرقاء والجمهور في الداخل، سيمثّل مقتلاً لنجاحات الدبلوماسية، وعامل إجهاض لمكاسبها.
تلفزيون سوريا