الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

من الميادين إلى المكاتب.. تحوّلات المنظمات السورية في زمن الحرب/ أنس الفتيّح

2025.05.23

في بداية الثورة السورية، لم تكن المنظمات الإنسانية مؤسسات ذات طابع إداري جاف، بل كانت تنبض بحب الناس، تولد حيث الحاجة، وتتحرك بدافع الضمير. حتى عام 2013، تأسّس أكثر من 500 كيان مدني محلي وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، معظمها بقيادة شباب لم يعرفوا شيئاً عن المأسسة أو الدعم الدولي، لكنهم عرفوا وجوه الجياع، وأسماء الأطفال الذين فارقوا مدارسهم، وخرائط القرى التي لا تصلها المساعدات.

في تلك اللحظة الحرجة من التاريخ السوري، غابت الدولة كمقدّم للخدمة، وحضرت فقط بجيشها الذي يقصف ويقتل، فحاول المجتمع المحلي عبر المنظمات المستحدثة سدّ الفجوة.

ففي القطاع الصحي مثلاً، انهارت 80% من المرافق الصحية في بعض المناطق المحررة، وفق ما أعلنته منظمة الصحة العالمية عام 2013. فانبثقت هذه المنظمات كأذرع للنجدة، وكاستجابة إنسانية تملأ الفراغ.

كانت المبادرات تبدأ بغرفة وبضع أدوية، ثم تتوسع لتصبح في عام 2014 مراكز صحية، يقدّم بعضها، حسب ما صرّحت منظمة أطباء بلا حدود، حوالي 5,000 خدمة طبية شهرياً. لم تكن الغاية من وجودها تسجيل الأرقام في قاعدة بيانات، بل خلق فرصة للحياة في قلب الموت.

تغيّر الإيقاع

مع دخول التمويل الدولي على الخط، بدأ مشهد العمل الإنساني يتبدل. في عام 2015 وحده، وحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، بلغ حجم التمويل المخصص لسوريا 3.3 مليارات دولار أميركي، وُزّعت على حوالي 350 منظمة دولية ومحلية. لكن المفارقة أن 40% فقط من هذه الأموال وصلت فعلياً إلى المستفيدين في المناطق الأكثر احتياجاً، وفق تقرير لـ”هيومن رايتس ووتش” عام 2016.

تدريجياً، بدأت لغة المشاريع تطغى على لغة الاحتياج، وبحلول عام 2017، أصبح 70% من المنظمات المحلية تعتمد كلياً على التمويل الخارجي، حسب دراسة لمركز بدائل البحثي، ما حوّل الأولويات من حاجات الناس إلى شروط المانحين. وحسب تقرير صادر عن اتحاد المنظمات الطبية السورية، أُغلق 60% من المراكز الصحية المؤقتة بسبب عدم الاستدامة المالية، في حين اختفت 75% من برامج التوعية المجتمعية لأنها لا تُنتج أرقاماً قابلة للقياس، وفق مسح أجرته منظمة الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2019.

من الميدان إلى الشاشة

في هذا التحوّل، أصبح العاملون في الميدان، الذين ما زالوا يستنشقون رائحة الطين والخوف، قلّة. تشير إحصائية صادرة عن منظمة العمل ضد الجوع في عام 2020 إلى أن 70% من موظفي المنظمات الدولية في سوريا لم يزوروا أبداً المناطق التي يقدّمون لها المساعدة، في حين يذكر تقرير للمرصد السوري للإغاثة، صدر عام 2020، أن عدد خبراء المشاريع ارتفع بنسبة 300% بين عامي 2016 و2020.

“كنا نكتب التقارير بالدم، فصرنا نكتبها بلغة المانحين”، يقول أحد العاملين الميدانيين الشاهدين على التحول، في دراسة لمعهد أبحاث العمل الإنساني عام 2022، تُثبت أن 85% من تقارير المنظمات تحوّلت إلى نماذج معيارية لا تسأل عن كيف يشعر الناجون، بل عن عدد المستفيدين شهرياً.

وفي مسح ميداني لمنظمة رصد أُجري عام 2023، لوحظ أنه حتى عمليات التوزيع نفسها لم تسلم من البيروقراطية، فقد أصبح 50% من وقت العاملين يُستهلك في تعبئة النماذج بدلاً من التواصل المباشر مع المستفيدين.

الانقسام الأخلاقي: المأساة الصامتة

في حين كان أحد المتطوعين في إدلب ينقل الإمدادات في عربة متهالكة عبر خطوط النار، رفض المدير في المقر الرئيسي في مدينة مطمئنة خارج سوريا توقيع مصاريف النقل لأن البند غير مدرج في الموازنة. هذه القصة تعكس واقعاً مؤلماً. يقول تقرير للتحالف السوري للمنظمات الإنسانية الصادر عام 2023 إن 60% من المنظمات الإنسانية استغنت عن مشاريع أكثر إلحاحاً لتوافق شروط الممول.

وظهر جيل جديد من “المحترفين” الذين يتقنون صياغة المقترحات الفنية، لكن، وفق استطلاع أجرته منصة سوريا الإحصائية عام 2024، فإن 40% منهم يعترفون بأنهم لا يعرفون واقع المخيمات. بل إن بعض التقارير، في تحقيق أجرته شبكة أريج الإعلامية عام 2023، كشفت أن 30% من مشاريع الإغاثة تُعدّل بياناتها لتناسب مؤشرات الأداء.

مفترق الطرق

أربعة عشر عاماً على انطلاق العمل الإنساني، وبعد سقوط الأسد، وبعد أن أصبح 90% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر، وفق آخر تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي عام 2024، تقف المنظمات السورية على مفترق طرق. السؤال ليس فقط: كيف نزيد التمويل ونفتح أبواباً جديدة ونعزّز استمراريتها؟ بل: كيف نضمن أن سبعة عشر مليون سوري بحاجة للمساعدة لن يتحولوا إلى مجرد أرقام في جداول؟

الخطر أبداً ليس أن تتحول المنظمات إلى مؤسسات تتبع الأنظمة واللوائح، بل أن تتحول إلى مؤسسات تنسى لماذا وُجدت. فالمأساة لا تكمن في الاحتراف، بل في تحويل المعاناة إلى سلعة.

كان الشاب بيلي ميلز، وهو من السكان الأصليين في أميركا، يجري حافياً في البراري وهو يغني للطبيعة، للأشجار والريح والمطر. كان الركض طقساً روحانياً، جزءاً من علاقة متناغمة مع الأرض. وفي يومٍ، رآه أحد صيادي المواهب ووجد فيه فرصة. اشترى لميلز لباساً رياضياً أنيقاً، وأحذية مريحة، وساعات توقيت، وقدم له تدريبات مكثفة، في مسارات مجهزة للسباق. وبالفعل، صار ميلز يركض أسرع، وصار عدّاءً ماراثونياً محترفاً، وفاز بالميدالية الذهبية في أولمبياد طوكيو عام 1964. لكنه لم يعُد يغني.

العمل الإنساني في سوريا كان يغني للحرية والكرامة والعدالة. اليوم، وقد صار أكثر احترافية، يجد السير، لكن بصمت. صار يعرف كيف يملأ النماذج، لكنه نسي لماذا بدأ.

ربما آن الأوان لوقفةٍ مع “الهندي الأحمر” فينا، لا لنرفض الاحتراف، بل لنستعيد الغناء. فالسوري ليس رقماً في تقرير، ولا سطراً في خطة استجابة، هو إنسان، له قصة، وله حلم.

وإذا كان لا بدَّ من السباق، فلنعد إلى الغناء.. كي لا نصل إلى المستقبل بأقدامنا فقط، وقد خلّفنا وراءنا القلب والروح.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى