تاريخسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟/ جيفري كرم

23.05.2025

قبل أيام قليلة، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن جهاز الموساد استعاد آلاف الوثائق والصور والممتلكات الشخصية التي تعود الى الجاسوس الإسرائيلي الراحل إيلي كوهين. وبحسب المصادر الإسرائيلية، كانت هذه المواد محفوظة في أرشيفات الأمن السوري، وقد نُقلت سرًّا إلى إسرائيل في عملية سرية شاركت فيها جهة استخباراتية أجنبية. وزعمت إسرائيل أن هذه الوثائق “حفظتها بسرية تامة الأجهزة الأمنية السورية لعقود”، بما في ذلك “الوثيقة الأصلية للحكم وقرار إعدامه”.

لكن أخيراً ظهرت تقارير جديدة أضافت تعقيدات الى الرواية الرسمية. فوفقًا لتحقيق أجرته وكالة “رويترز”، قد لا تكون هذه الأرشيفات استُرجعت في عملية سرية كما تدّعي إسرائيل. بل يُقال إن القيادة السورية الجديدة سلّمتها، بعد إطاحة بشار الأسد، كجزء من مبادرة دبلوماسية أوسع تجاه إسرائيل والولايات المتحدة. وبهذا، تصبح هذه الخطوة أشبه بمصالحة رمزية، تجعل من الأرشيف ليس مجرد استرجاع لماضٍ، بل صفقة سياسية في منطقة يمكن أن تكون فيها الوثائق بقوة الأسلحة.

وفي الوقت نفسه، قد تكون القيادة السورية—الساعية إلى إعادة بناء شرعية دبلوماسية بعد تغيير النظام وبعد أكثر من عقد من الثورة والحرب— استخدمت الأرشيف كعرض رمزي، وأعادت توظيف الماضي لاكتساب نفوذ في مشهد جيوسياسي سريع التغير. لكن سواء تم الحصول على أرشيف كوهين سرًا أو كهدية دبلوماسية، فإن هذا الاسترجاع لم يكن فقط عن التذكّر. بل كان حلقة جديدة في الاستخدام الطويل الأمد للاستخبارات ليس لكشف التاريخ، بل للسيطرة على سرديته.

من جاسوس إلى رمز: أسطورة إيلي كوهين

إيلي كوهين، اليهودي المولود في مصر والذي هاجر إلى إسرائيل وجنّده لاحقًا الموساد، أُرسل إلى سوريا في أوائل الستينات تحت اسم مستعار هو “كامل أمين ثابت”. وعلى مدى أربع سنوات، نجح في التسلل إلى أعلى مستويات القيادة السياسية والعسكرية السورية. كوّن علاقات شخصية مع كبار الجنرالات والوزراء، وحضر تجمعاتهم، وأنصت جيدًا، وأرسل المعلومات الاستخباراتية إلى إسرائيل.

وبحسب روايات إسرائيلية عدة، كانت تقاريره أساسية في رسم خرائط المواقع العسكرية السورية في الجولان—معلومات أثبتت أهميتها في انتصارات إسرائيل السريعة واحتلالها الأراضي بعد حرب 1967. سواء أكانت معلوماته حاسمة أم لا، فقد ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بحرب أعادت تشكيل المنطقة وثبّتت احتلال إسرائيل الأراضي العربية.

منذ إعدامه في دمشق عام 1965، تحوّل كوهين من عميل سري إلى أسطورة وطنية—مخلّد في الذاكرة الإسرائيلية عبر الكتب المدرسية، وتكريمات الموساد، والمسلسلات التلفزيونية. لكن هذا التحوّل لم يكن عفويًا؛ بل استراتيجيًا: فمن خلال تحويله إلى رمز بطولي خالد، غطّت الدولة الإسرائيلية على الحسابات الجيوسياسية التي دفعت بمهمته، وعلى العواقب البعيدة المدى التي نتجت منها.

أسطورة إيلي كوهين لا تخلّد الماضي فقط، بل تديم سردية التفوّق والاستحقاق الأخلاقي والهيمنة الإقليمية.

التاريخ كمسرح: ما الذي يؤدّيه أرشيف كوهين؟

قيل لنا إن أرشيف إيلي كوهين يحتوي على أوامر الإعدام، وملفات المراقبة، ووثائق مزورة، وبقايا من حياة عاشها في التخفي العميق. هذا القول يغذّي سردية وطنية إسرائيلية ترى أن الدولة العبرية دائمة التهديد لكنها دائمًا ذكية—متفوقة على أنظمة عربية تُوصَف بالقمعية، أو اللاعقلانية، أو الرجعية، أو العجز.

في الرواية التي تُنسَج الآن في الإعلام الإسرائيلي وغيره، يعود كوهين كبطل لا يُشكّ فيه: تراجيدي في موته، شجاع في فعله، وخالد كأسطورة. لكن هذا ليس مجرد صناعة للأسطورة؛ بل هو تلاعب سردي، جهد متعمّد لإعادة تشكيل الذاكرة العامّة من خلال انتقاء الروايات.

لا وضوح أخلاقي في هذا الاسترجاع، ولا مواجهة حقيقية مع الماضي. سواء أكان استرجاع الأرشيف سرًا أم عبر صفقة دبلوماسية، فإنه يظل متشابكًا بعمق مع سياسات العنف والشرعية والمحو. والاحتفاء بهذا الحدث كانتصار للتاريخ على النسيان هو فهم خاطئ لطبيعة الأرشيفات.

الأرشيف ليس محايداً أبداً. ففي الأنظمة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية الاستيطانية وحتى الليبرالية، تُستخدم الأرشيفات لا لحفظ الحقيقة بل لتكريس السلطة. تُصادر، وتُعرض، وتُحذف، وتُشوَّه. قد يُفرج عن بعض أجزائها للباحثين أو الجمهو، لكن دائماً بشروط تعزز سيطرة المؤسسة.

كشخص يعمل في أرشيفات منزوعة السرية—أميركية وعربية وأوروبية— تعلمت أن أكثر الحقائق تفجيراً نادراً ما تكون في الوثيقة الرئيسة. القصة الحقيقية غالباً ما تكمن في الهوامش، أو في جملة مشطوبة، أو في ما تم تدميره عمدًا. لكن قوة الأرشيف تتجاوز فعل الإخفاء أو الكشف، إنها في الأداء نفسه. في أيدي وكالات الاستخبارات والدول المحاصَرة، يتحول الأرشيف إلى مسرح، أداة استعراض، أداة للهيمنة.

وغالبًا، الأرشيفات الأخطر هي تلك التي تبدو في ظاهرها وكأنها “تتكلم الحقيقة فقط”، وبخاصة “الحقيقة في وجه السلطة”.

ما يجعل الأرشيف خطرًا ليس ما يكشفه، بل ما يخفيه، اجتماعات رفيعة المستوى، ملاحظات استخباراتية ميدانية، ديناميات بين العملاء والمشرفين، وأكثر.

هناك نجد قوة هائلة في الفراغات، والملفات المفقودة، والصناديق المُخزّنة عمدًا في أقبية وزارات الخارجية وأجهزة الاستخبارات. وفي حالة إيلي كوهين، لم تُستعد رفاته بعد. ما عُرض حتى الآن ليس أرشيفًا، بل وهم أرشيف، عرض مُتقن بُني على رمزية الاسترجاع. ومع انعدام الوصول العام إلى الوثائق نفسها، تصبح “عملية الاسترجاع” رسالة بحد ذاتها: لحظة تذكّر مُفبركة، تهدف إلى إثارة المشاعر الوطنية وإعادة تأكيد هالة الموساد الأسطورية.

العدوان على غزة والرمزية المتعمدة

هذا الحدث، أي استعادة ملفات كوهين، لا يحدث في فراغ سياسي. فهو يأتي فيما تشن إسرائيل حربًا كارثية على غزة—مشوبة بمجازر جماعية، إذ قُتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وشُرِّد الملايين، والغضب الدولي يتصاعد. المحكمة الجنائية الدولية طلبت أوامر توقيف لقادة إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

في هذا السياق، تصبح عملية إيلي كوهين أقل من “استعادة التاريخ” وأكثر من “تشتيت الانتباه”: تأكيد للأسطورة الوطنية في وجه فقدان الشرعية. مرة أخرى، يتحول الأرشيف إلى خشبة مسرح—ليس لكشف الحقيقة، بل لإعادة توجيهها.

إسرائيل لا تستعيد ما تعتبره جزءًا من “ماضيها” فحسب، بل تعيد فرض السيطرة على كيفية تذكّر هذا “الماضي” المنتقى—وعلى كيفية تصور العالم العربي، وسوريا على وجه الخصوص.

الذاكرة تحت الاحتلال: الأرشيفات، الإبادة، وسياسات الإلهاء

سواء صُوّرت كعملية سرية أو صفقة دبلوماسية، لم تنبع هذه الخطوة من فراغ تاريخي. إنها فعل رمزي محسوب التوقيت. في لحظة تواجه فيها إسرائيل تدقيقًا دوليًا غير مسبوق بسبب مجازرها المتواصلة في غزة— إذ قُتل أكثر من 55,000 فلسطيني وشُرّد الملايين في ما تصفه منظمات حقوقية بالإبادة الجماعية—تبحث حكومة نتانياهو عن نصر رمزي. ليس فقط لتشتيت الرأي العام الإسرائيلي القلق، بل لاستعادة شعور بالسيطرة، وإظهار الحزم في وجه الإدانة المتزايدة.

في غياب الحسم العسكري أو التقدّم الدبلوماسي، تصبح الأرشيفات الأرض التي تُمارَس عليها السيادة. هذا العرض لا يدور حول تكريم كوهين فقط، بل حول إعادة تأكيد أسطورة تفوّق الموساد، في وقت تُشكّك فيه أسس السياسة الإسرائيلية—الاحتلال، التوسع، الإفلات من العقاب—على مستوى عالمي.

لكن الذاكرة، كالأرض، يمكن أن احتلالها.

ما استُخرج من خزائن سوريا ليس فقط معلومات. بل مطالبة بأرشيف العرب أنفسهم—شظاياه، تاريخه، صمته. ولم تكن هذه المرة الأولى.

فخلال غزوها للبنان عام 1982، نهبت القوات الإسرائيلية محتويات “مركز الأبحاث الفلسطيني” في بيروت—وهو مؤسسة مركزية في الذاكرة الفكرية والتاريخية الفلسطينية. نحو 25,000 مجلد، ومخطوطات نادرة، وميكروفيلم، نُهبت ونُقلت إلى إسرائيل. عُرضت بعض هذه المواد—بما في ذلك أفلام أرشيفية—في تل أبيب عام 2017.

عملية الموساد لاستعادة أو استلام أرشيف كوهين تستخدم منطقًا أوسع: سواء عبر النهب المباشر أو عبر دبلوماسية محسوبة، لا تُحفَظ الأرشيفات في المنطقة من أجل “الحقيقة العامة”، بل تُستخدم للإيحاء بالهيمنة، والسيطرة على السردية، وإعادة كتابة الذاكرة وفق شروط السلطة.

بهذا المعنى تصبح هذه السيطرة للشعب ولذاكرته وسرديته.

تسليح الأرشيف: من الاستخبارات إلى التدخل

إسرائيل ليست جديدة على هذه الاستراتيجية. فعندما استعرضت الوثائق النووية الإيرانية المسروقة في 2018، لم تكن فقط تكشف معلومات، بل كانت تُمهّد لصراع جيوسياسي. قد يؤدي أرشيف كوهين دورًا مشابهًا: ليس إيضاحًا تاريخيًا، بل تبريرًا لتدخلات مستقبلية، سواء في سوريا أو أماكن أخرى.

علينا مقاومة الميل إلى تقديس الأرشيف، فهو ليس مقدسًا بل سياسي ويمكن إساءة استخدامه. في الأنظمة الاستبدادية، غالبًا ما يُطهَّر. في الأنظمة الاستعمارية، يُهرّب ويُغلق. في الديمقراطيات، يُؤخّر ويُحرّف حتى التفاهة. وفي الدول الاستعمارية الاستيطانية، يُوظّف لتعزيز روايات التأسيس والحق بالاحتلال.

في أيدي الاستخبارات الإسرائيلية، الأرشيف ليس تجميعًا للحقائق—بل عرض للقوة. عرض مُنسَّق للاستهلاك الدولي وطمأنة الداخل.

الغزو الأرشيفي: محو التاريخ وإنكار العودة

ما فعله الموساد في سوريا يُشبه ما فعلته قوى أخرى في المنطقة. على سبيل المثال، نهب القوات الفرنسية الأرشيف الجزائري بعد الاستقلال. أيضًا، سرقة القوات الأميركية وثائق حزب البعث والأرشيف الحكومي العراقي من بغداد. كلها أفعال غزو أرشيفي—قوة لا تُمارَس فقط على الناس، بل على قدرتهم على سرد أنفسهم.

وفي حين تحتفل إسرائيل بهذا “الاسترجاع”، من المؤلم أن الفلسطينيين ما زالوا ينتظرون أرشيفهم الخاص، ناهيك بالاعتراف به أو إعادته. عشرات الآلاف من الوثائق الموجودة في الأرشيفات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية—عن التهجير، وهدم القرى، وأوامر المجازر—لا تزال غير متاحة. النكبة ليست منكرة فقط في الخطاب، بل مغلقة داخل خزائن، ومشوّهة، ومدفونة مجددًا. وبينما كشف “المؤرخون الجدد” الإسرائيليون بعضًا من هذه القصة، لا يزال الوصول الحقيقي الى الأرشيف الفلسطيني بعيد المنال. الرقابة شديدة، والباحثون غير الإسرائيليين ممنوعون غالبًا من الوصول الكامل.

الغياب كاستراتيجية والذاكرة كمقاومة

ربما تكون أكبر مفارقة أن الوثائق التي نحتاجها بشدة، تلك التي توضح العنف البنيوي للاحتلال، والصفقات الإقليمية السرية، وطموحات التحرر المدفونة، وهذه غالبًا ما تكون مفقودة. لكن هذا الغياب ليس عَرَضيًا. بل مصنَّع. سياسي. وبينما تظل الأرشيفات الرسمية أدوات قوية للمحو والاستعراض، فهي ليست مصادر الحقيقة الوحيدة. التاريخ الشفوي، والشهادات المهمشة، والذاكرة الجمعية لطالما روت ما تُخفيه الوثائق الرسمية. العنف معروف سلفًا وهذا الذي يرفض الاعتراف به هو الأرشيف.

يجب أن نتعلم قراءة الغيابات، والصمت، والأسرار. القصص التي لم تدخل الأرشيف أبدًا، أو اعتُبِرت غير جديرة بالحفظ. أحيانًا، لا تكون الحقيقة في الملف—ولا تحتاج أن تكون. إنها تعيش في التاريخ الشفوي، في الشهادات المتناقلة، في الروايات المقموعة التي تصمد خارج سلطة الدولة. ما يجعل هذه الغيابات خطيرة ليس أن الناس نسوها، بل إن المؤسسات ترفض الاعتراف بما كان معروفًا دومًا. دول مثل إسرائيل تجسّد هذا النمط—حيث لا يُعتبر الغياب فراغًا، بل استراتيجية، وركيزة أساسية للهيمنة والسيطرة على الرواية باسم التاريخ، والأخلاق، والذاكرة الوطنية.

هذا المقال جزء من مشروع أكاديمي أوسع عن العمليات الاستخباراتية وسياسات الأرشيف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

*جيفري كرم: أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – الأميركية، يكتب عن الثورات، الاستبداد، والسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى