عن انتخابات مصياف -مقالين-

أينشتاين في مصياف/ علي سفر
2025.05.23
منذ زمن طويل، ينتشر بين هواة حل الألغاز والمسائل والمعادلات الرياضية المعقدة، لغزٌ يحمل اسم “أينشتاين”، يقوم على الطلب ممن يرغب في حله الإجابة عن سؤال: “من يملك السمكة؟”، بناءً على فرضية وجود خمسة بيوت، لكل واحدٍ منها لونٌ خاص به، ويسكنه شخص من قومية مختلفة، يشرب نوعًا محددًا من المشاريب، ويدخن تبغًا مختلفًا، ويربّي حيوانًا أليفًا.
اللغز يُقدِّم معلومة واحدة في كل بند من البنود السابقة، وعلى من يتنطّح لحلّه أن يبحث عن الإجابات الباقية، وصولًا إلى العثور على جواب للسؤال الرئيس.
يُوصَف هذا اللغز بأنه من أعقد التسليات الرائجة، ويعود هذا التقييم إلى عدّة عوامل؛ فهو يحتوي عددًا كبيرًا من العناصر المتشابكة، ويغيب عنه المعطى المباشر الذي يقود إلى الحل، أي أن على الشخص الذي يريد حله أن يصل إلى ذلك عبر الاستنتاج، وسط فوضى وضع المعطيات الباقية. حيث إن عليه بناء خريطة عقلية دقيقة، تقود إلى عملية تركيب مرحلي لعدد من الحلول الجزئية، وأن يتمتع بالصبر والتركيز، فدونهما سيُصاب المرء بالملل بعد أول فشلٍ يُصيبه.
على المستوى الشخصي، فشلت عدّة مرات في محاولة البحث عن إجابة للسؤال المطروح أعلاه، بسبب الاستعجال وقلة الصبر. لكنني حين عرفتُ طريقة الحل، وجدتُ أنني بحاجة إلى إعادة ترتيب آلية التفكير؛ فبدلًا من اعتبار اللغز أداة تسلية، يجب أن أتعاطى معه كمنشّط ذهني، يأخذ المشتغل فيه إلى إدراك حقيقة تقول إننا لا يمكننا الوصول إلى حلٍّ لأي معضلة دون أن نأخذ بعين الاعتبار كافة المعطيات العامة، وألّا نهمل -في سبيل ترسيخها- المعطيات الصغيرة والجزئية. وتبعًا لهذا، يصبح التمعّن في لغز أينشتاين، فيما لو عكسْتَه على الواقع المادي، أشبهَ بعملٍ سياسيٍّ معقد، يَطلَب منك أن توسّع رئتيك، كي تمتلك أدوات الحل.
لا يراد لهذه المقالة أن تأخذ القارئ إلى عتبة منوّعات وقصص غير جدّية، طالما أن كاتب هذه السطور يفترض بأن السوريين في هذه الأيام يحتاجون إلى حلحلة ألغازهم المحلية المعقّدة، بعد كل ما تم إنجازه على الصعيد الخارجي من تغيّرٍ في رؤية أغلب دول العالم تجاه القضية السورية؛ الأمر الذي نتج عنه رفع العقوبات المدمّرة لمساعي وجهود أي قوة تريد إصلاح حال البلد.
بل إن الهدف من إيراد قصة اللغز المنسوب إلى أينشتاين -دون دليل يثبت ذلك- إنما يتركّز حول استخلاص أسلوب معالجة للعديد من القضايا التي تبدو معقدة، ويظن كثير من السوريين أنها غير قابلة للتسوية، بسبب غياب أدوات الحل، واستحالة توفرها، ووجود قوى أخرى تدفع نحو تعقيدها أكثر.
منذ سقط نظام الأسد المجرم، وجدت المكونات السورية نفسها في دائرة قلق، وهذا أمر طبيعي بعد اعتياد آلية الإدارة عبر القمع والإرهاب، وتعطيل الذوات الخاصة لصالح “أنا” السلطة، التي التهمت الجميع تحت شعارات “اشتراكوية” وسيطرة عميقة إلغائية، انتهى وجودها على أرضية مذبحة دموية استمرت لمدة أربع عشرة سنة بشكلٍ متواصل!
كل طائفة، وكل جماعة، ترى الحياة من خلال لون بيتها، ومن خلال الانتماء الديني أو القومي، وبما تشربه، وبما تقتنيه من مقومات العيش، وغير ذلك. أي إنها تشبه في حالاتها ذلك التوصيف العبقري في اللغز. لكن إلحاح الأسئلة التي تبحث عن إجابات، ليس بالبساطة المتخيّلة، فحتى أولئك المنتشين بالنصر العظيم على وحشية العائلة الأسدية، لا يمتلكون تصورات عن آلية إعادة تركيب القطع المتفرّقة هنا، بما يصنع لوحة سورية متماسكة. ولهذا تراهم يُحيلون الإشكاليات وإلحاح أصحابها إلى نزقهم، وإلى رغبتهم في تعطيل مسار عمل الدولة الجديدة، بينما، لو أن هؤلاء الذين يُنافحون عن إدارة الرئيس أحمد الشرع يرون الأمور من أعلى قليلًا، ويتخلون عن اعتبار امتلاك القوة معيارًا لنجاح الإدارة، لوجدوا أن عليهم تكريس الجهد لمعالجة التفاصيل الصغيرة، من أجل دفع المكونات التي تنافرت بسبب الخلخلة الكبرى التي تسبب بها سقوط النظام، إلى التقارب أكثر فأكثر، من أجل صياغة عقدٍ جديد يجمعها مع بعضها، ويعيد بناءها وفق طموحات الثائرين الذين فجّروا التمرد على سلطة الأسديين الغاشمة!
قبل أيام قليلة، أنجز “المصايتة” -أي أهل مدينة مصياف- عملًا كبيرًا، يستحق أن يُنظر فيه؛ ففي ازدحام حياة السوريين بالإشكالات والإنجازات على حدٍّ سواء، كانت هناك فئة في هذه المدينة، التي تحتوي نسيجًا طائفيًا مختلطًا، تعمل من أجل اقتراح آلية تواصل بين السلطة وبين السكان، تقوم على إنشاء مجلس أهلي، يعمل من أجل مهام محددة وفق بيانه عن نفسه، كـالتحرّك بشكلٍ فاعل لمعالجة هموم وقضايا المجتمع، وبناء جسور تواصل مع المجتمع والسلطات على حدٍّ سواء، وتركيز الجهود على حفظ السلم الأهلي، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية في سبيل بناء الدولة السورية الجديدة.
العمل الذي أنجزه ناشطون وفاعلون من المدينة، من خلال آلية انتخابية في اجتماعٍ حضره 138 شخصًا من مختلف الفئات العمرية، يمكن اعتباره واحدًا من أبرز الإنجازات التي يؤديها المجتمع المدني في البيئات المحلية السورية في الظرف الحالي، الذي تغيب فيه -بسبب الوضع الانتقالي- القدرة على تنفيذ انتخابات ديمقراطية لسلطة الإدارة المحلية. فبدلًا من ترك الأمور فضفاضة، وترك حبل اتخاذ القرارات على الغارب، والسؤال عن حلٍّ للغز المستقبل، يجب على المجتمع المدني (الأفراد والجمعيات والنقابات والاتحادات والروابط المهنية وغيرها) أن يملأ الفراغ بما يمكنه أن يفعله. وعبر هذا النهج، يبني السكان المحليون واجهاتهم التمثيلية، دون انتظار قرارات تُسقَط عليهم من الأعلى، كما أنهم يُوفّرون على الإدارة الجديدة جهدًا كبيرًا في البحث عمّن يمكن التعامل معه ليكون معبّرًا عنهم، أو صلة وصلٍ معهم!
هذه التجربة تبدو واعدة، وتُحرّض الآخرين على اعتبار ذات الأسلوب. وإذا تمكنت من الانتشار كعدوى إيجابية في البيئات المضطربة، التي تشكّل فيها قصة التمثيل إشكالًا كبيرًا يرقى إلى حالة اللغز، فإن السبيل إلى خلق أرضية الحل يصبح بيد السوريين، كلٍّ في بيئته، وفي فضائه.
تلفزيون سوريا
——————————–
“انتخابات” بمصياف.. تدشن أولى مبادرات إنعاش المجتمع المدني/ محمد كساح
الخميس 2025/05/22
يمكن وضع الإعلان عن تشكيل مجلس مصياف الأهلي، في سياق محاولات أولية لتعزيز المجتمع المدني في سوريا بعد عقود من تغول السلطة على الدولة والمجتمع، لكن هذه الخطوة تواجه في حال تعميمها عقبات كبيرة، على رأسها احتمالية سوء فهم السلطة الانتقالية لها، فضلاً عن إنتاج نماذج تقليدية من المحسوبيات.
انتخابات جريئة
وكان ناشطون وفاعلون من مدينة مصياف، قد عقدوا اجتماعاً موسعاً لانتخاب مجلس مصياف الأهلي، حضره 138 شخصاً من مختلف الفئات العمرية، وتنضوي مهام مجلس مصياف الأهلي، وفقاً لبيان صادر عن المجلس، على التحرك بشكل فاعل لمعالجة هموم وقضايا المجتمع، وبناء جسور تواصل مع المجتمع والسلطات على حد سواء، كما يركّز جهوده أيضاً على حفظ السلم الأهلي والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية في سبيل بناء الدولة السورية الجديدة.
وتقول ندى الخش، إحدى المشاركات في هذه الفعالية، إن التجربة كانت “ثمرة حوارات طويلة مجتمعية بعد انهيار حكم الأسد والفراغ الذي عاشته مصياف ريثما تبدأ السلطة الجديدة في إدارة البلد”. وتضيف لـ”المدن”، أن “الحوارات وصلت إلى أهمية وجود مجلس أهلي يكون بمثابة المرجعية للمجتمع الأهلي فيما بينه وبين السلطة بحيث تنتظم العلاقات توفيراً للوقت ومنعاً لانتشار للفوضى والحد من الإشاعات”.
وتلفت الخش إلى المتاعب التي واجهت انتخاب المجلس المحلي والتي تمثلت في “التهميش الطويل للمجتمع وخشية السلطة من التجمعات خوفاً من أي اختراق لا تحمد عقباه، لا سيما وأن الظروف الأمنية لسوريا لم تستقر جيداً”. وتوضح أن “التجربة لاتزال في بداياتها وتحتاج إلى خطط عمل واقعية كي تتحول من الحوار إلى الفعل الشعبي وإلى اعتراف رسمي بها كي لا تصطدم بالسلطة وتتراجع عن دورها الأهلي”.
تجارب أخرى
وفي خطوة مشابهة لكن على نطاق أضيق، يحاول ناشطون تفعيل دور المجتمع المدني في قرية البريخية بريف طرطوس. ويقول الأكاديمي والكاتب والمشرف على المبادرة منير شحود، لـ”المدن”، إن البداية كانت بدعوة عشرات الأشخاص من الجنسين لتنشيط دور المجتمع المدني الذي يتمثل بكونه وسيطاً بين السلطة والمجتمع، وتم تقسيم المجموعة إلى لجان تخصصية، كما تم انتخاب منسقي الفرق في معظم الحالات وليس في كلها في هذه المرحلة، وحتى استقرار التجربة.
ويضيف أن المبادرة تهدف إلى “الارتقاء بالمجتمع الأهلي إلى مرحلة أعلى من مجتمعات ما قبل الدولة بحيث تمثل جميع المواطنين”، معتبراً أن “دور المجتمع المدني مهم جدا لكنه لا يتلاءم مع الدول غير الديمقراطية”.
ويرى شحود أنه في ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، لا يمكن معرفة مصير مبادرات المجتمع المدني في نهاية المطاف، مؤكداً أن “المشرفين على المبادرة لم يتعرضوا لأي تدخل غير إيجابي حتى الآن، خصوصاً أن مثل هذه المبادرات لا تتعارض مع الإعلان الدستوري وتوفر على الدولة صفة تمثيلية مهمة جداً، حيث يخرج المجتمع المدني صوتا تمثيليا حقيقيا يصل إلى السلطة بعد تغييب كبير لدوره خلال العقود الماضية”.
ويشير شحود إلى النتائج السريعة التي لمستها البريخية في ظل هذه المبادرة، من خلال تنظيم الفعاليات ومشاركة الإناث بنسبة تقارب 80%، ما يدل على أن المجتمع الأنثوي لم يتحطم في الحرب بخلاف المجتمع الذكوري.
تساؤلات جوهرية
وتعليقا، يرى الدبلوماسي المستقل في “مؤسسة الوساطة وتحويل النزاع” في فيينا عزت بغدادي، أن تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذه الانتخابات ومشروعيتها تقف خلف هذا المشهد الإيجابي، مشيراً في حديث لـ”المدن”، إلى أنه “يتعين مراعاة ثلاثة معايير أساسية لتقييم التجربة وهي طريقة التشكيل، والأفراد المكونين، والكفاءة”.
وبالنسبة للأفراد المكونين، يوضح بغدادي أن بعض المنتقدين يرون أن عدداً من الفائزين يعيدون إنتاج نماذج تقليدية من المحسوبيات، حيث لا يزال الصوت النقدي مرفوضاً، وأي محاولة لإبداء الرأي المخالف تواجه بردود دفاعية أو تبريرات.
أما فيما يخص الكفاءة، فيرى أن التحدي الأكبر يكمن في قدرة المجلس الجديد على تجاوز الأطر التقليدية، والتحرك بشكل فاعل لمعالجة قضايا المجتمع، وبناء جسور تواصل مع السلطات بشكل مستقل عن المحسوبيات والولاءات.
المدن