مقال في العدالة الانتقالية في سوريا/ مصطفى حايد -خمسة أجزاء-

الجزء الأول
تحديات في تنفيذ عدالة انتقالية في سوريا (1/2)/ مصطفى حايد
الالتفات إلى الوراء (2)
20-03-2025
ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشملها التعابير المستخدمة في هذا المقال
*****
استعرَض المقال الأول من هذه السلسلة بعض فُرصِ العدالة الانتقالية في سوريا بعد أن عرّفها وبيّن وطبيعتها الهجينة، واستعرض أيضاً التحديات التي قد تواجهنا خلال عملية تخطيطها وتنفيذها. ومنه سيركز هذا المقال على بعض هذه التحديات، مستعرضاً تجارب دولية ذات صلة، من شأنها أن ترشدنا خلال هذه العملية.
كُتِب هذا المقال بعد زيارة ميدانية في شباط (فبراير) 2025 إلى سوريا، تجاوزت العشرة أيام، وشملت كل من حلب وإدلب وحمص والسلمية ودمشق وريفها، وجرى خلال هذه الزيارة التحدث إلى أفراد ومجموعات شبابية مختلفة حول أفكارهم* ورؤيتهم* للعدالة والمحاسبة في سوريا، حيث تم تضمين بعض تلك الأفكار في هذا المقال، الذي يأتي على جزأين.
بعض التحديات والعقبات الرئيسية في طريق العدالة
تواجه عملية العدالة الانتقالية تحديات معقدة، خاصة لكونها ليست عملية بسيطة أو مباشرة، وليست فورية أو قصيرة الأمد كما تبيّن في المقال الأول، ولا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل الدولة فقط، أو من فئة واحدة ومحددة في المجتمع، إنما هي عملية متكاملة وشاملة وشفافة. وتتوزع هذه التحديات على ثلاث مستويات أساسية: صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها، وتلك المتعلّقة بالملفات التي ستعمل على معالجتها، وصعوبات تتعلّق بالجهات المستهدفة سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات.
وسأنطلقُ من قصة سمعتها خلال زيارتي إلى سوريا من شاب في حمص، لندعوه «رامي»، قبل البدء بالخوض في شرح كل مستوى من هذه المستويات الثلاث.
يعيش رامي في حي من أحياء حمص المأهول بسكّان من خلفيات دينية متنوعة. كان في الثالثة عشر من عمره عندما سمع طرْقاً عنيفاً على الباب وهو وحيدٌ في المنزل، فتح الباب لجد جاره «الشبيح» بعضلاته الضخمة يجرُّ ويركل رجلاً ملطخاً بالدماء. رمى الجارُ الرجلَ داخل المنزل قائلاً: «استلم… هاد من جماعتكون». أخبرني رامي أن تلك الحادثة أثّرت فيه نفسياً إلى درجة كبيرة، وبقي لسنوات طويلة يعاني من الخوف الشديد والهلع. حين جاء «الأمن العام» إلى حي رامي في كانون الثاني (يناير) 2025 وسأله إن كان هناك شبيحة يعرفهم في منطقته، تردد قليلاً ثم أجاب بالنفي. كان رامي عاطفياً جداً إثناء إخباري بالقصة، ولا يعرف إلى الآن إن كان ما فعله هو الصواب أم لا، وختم حديثه بعبارة «بدي جاري الشبيح يتحاسب لأني لهلأ خايف من الموقف اللي صار معي وأنا بالـ13، بس كمان أنا ماني واثق من هدول (الأمن العام) اذا كانوا رح ياخدولي حقي أو لا»، وأضاف: «بدنا عدالة انتقالية مو عدالة انتقائية ولا انتقامية».
تقدم هذه القصة، برأيي، مثالاً تتقاطع فيه صعوبات المستويات الثلاثة المذكورة أعلاه، وتشكل مدخلاً قيّماً للبدء في الحديث عنها.
1- صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها:
ذكرنا أن عملية العدالة الانتقالية لا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل جهة واحدة فقط، حتى وإن كانت الدولة أو الحكومة نفسها، فما بالك إن كانت «الحكومة الجديدة» طرفاً في النزاع، وقد يكون أعضاؤها ومسؤوليها جناة محتملين* و/أو ضحايا محتملين*. لكن الدولة، رغم ذلك، يجب أن تكون الجهة المنفذة لهذه العملية، باعتبار أن المؤسسات القضائية والتشريعية والتنفيذية جزءٌ منها، ومن هذا الاعتبار أيضاً، يمكننا أن نفهم لماذا يعتبر إشراك الضحايا وعائلاتهم*، والمجتمع بكل مكوناته، والمجتمع المدني أيضاً، أمراً بالغ الأهمية، إذ يضمن نزاهة وعدالة وشمولية هذه العملية.
في المرحلة الانتقالية تكون الحكومات الانتقالية ضعيفة، مهما بدت قوية، فهي تحتاج إلى كسب الشرعية والنفوذ واستعادة السلطات وتوفير الخدمات، وكذلك بناء الثقة. وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في سوريا، تكون هناك أعباء أمنية إضافية، خاصةً بعد أن حُلَّ الجيش والمؤسسات الأمنية والحزبية. نحن نتحدث هنا عن عشرات الآلاف من الأفراد ذوي الخبرات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج سلطات تعودوا عليها وأساءوا استخدامها لسنوات، إضافة إلى وفرة وعشوائية في انتشار السلاح في البلاد، مما يهدد بدورات جديدة من العنف والعنف المضاد من جانب، وبإعادة إنتاج الثنائية الكريهة المعتادة؛ «الأمن والإفلات من العقاب مقابل السلم والأمان»، من جانب آخر. لذلك يتمثّل التحدي الأول ضمن هذا المستوى في الضعف البنيوي و/أو الوظيفي للحكومات الانتقالية، وما يترتب عليها من أخطاء مرحلية تتعلق بالقرارات والتعيينات والتشكيلات الحكومية، وكذلك بإدارة المرحلة الانتقالية، أما التحدي الثاني فيكمُن في ضعف «الحكومة الانتقالية»، أو انعدام الإرادة السياسية لتنفيذ عملية حقيقية ومتكاملة لعدالة انتقالية في البلاد.
عادة ما تستخدم الحكومات الانتقالية تبريرات من قبيل أولوية توفير الخدمات الأساسية أو ضمان الأمن… إلخ، وكأن تنفيذ هذه الأولويات يجب أن يحدث بالتراتب، ولا يمكنه أن يتزامن مع إجراءات العدالة الانتقالية. وفي كثير من التجارب الدولية تشكلت الحكومات الانتقالية من الأطراف التي كانت تتنازع، وبالتالي لم يكن من مصلحة أي طرف فتح ملفات الماضي، لأنها في الغالب متورطة في الجرائم والانتهاكات. وخير مثال على ذلك هو لبنان، وما ذكرناه في المقال السابق عن الاتفاق الشهير لتقاسم السلطة طائفياً، والذي سمي بـ«اتفاق الطائف»، أو كما يحدث في كولومبيا، حيث اتفق الطرفان المتنازعان على إنهاء النزاع ونسيان الماضي بما فيه من انتهاكات قام بها كلاهما.
التحدي الثالث في هذا المستوى يتمثل في ضعف أو انعدام الخبرات والموارد المالية والبشرية، إذا أن تعقيدات عملية العدالة الانتقالية تتطلب الكثير من الخبرات والموارد المالية والبشرية، وعمادها هو القضاء والسلطات التشريعية وقوى إنفاذ القانون. وبالنظر إلى سوريا، نجد أن هذه العملية لا يمكن أن تنفذ بالشكل المطلوب بما تملكه سوريا وحدها اليوم من قضاة ومحققين* جنائيين وكوادر طب شرعي وتشريحي وأجهزة شرطية، فهذه الكوادر ستكون بالكاد قادرة على الاستجابة للقضايا الجنائية والجزائية المتراكمة منذ 2011. إضافة إلى تحدٍ جديد يتمثل بتعريف من هو «القاضي»، فمنذ عام 2012 تأسست محاكم «شرعية» (من «شريعة» وليست شرعية بمعنى قانونية) يُمثل فيها رجال الدين دور «الشرعيين» أو «القضاة»، حيث عيّنت الحكومة «المؤقتة» عدداً من هؤلاء الشرعيين كقضاة ووزير عدلٍ ورئيسٍ لمحكمة النقض. وهذا التحدي كبير ليس فقط نظراً لطبيعة هذه المناصب، وإنما أيضاً للمرجعية المتعلقة بالقوانين القضائية نفسها، هل هي القوانين الجزائية والجنائية الحالية أم وفقاً للشرع الإسلامي؟
أما التحدي المالي المتعلق بتكاليف العدالة الانتقالية فهو تحد بالغ الأهمية. سوريا اليوم، ووفق تقديرات البنك الدولي، تحتاج إلى أكثر من 400 مليار دولار لإعادة الإعمار، فكيف سنتمكّن من تمويل تحقيقات وجمع أدلة واعتقالات ومحاكمات وتعويضات؟ ليبيريا عانت من تحدٍ مالي مشابه، واعتمدت بعد انتهاء حربها الأهلية على تمويل دولي لإطلاق «لجنة الحقيقة والمصالحة»، لكن هذا التمويل جاء بشروطٍ دولية أثارت جدلاً في البلاد حول «الوصاية الخارجية»، ويتردد السوريون* اليوم في تكرار تجربة مشابهة، لكن قد يكون الدعم الدولي، مع ضمان الشفافية، خياراً لا بدّ منه. هناك بالتأكيد خيارات كثيرة ممكنة لتمويل جزء من هذه العملية، مثل خيار تضمين ضريبة مضافة للعدالة الانتقالية على بضائع وخدمات ترفيهية في البلاد، أو إنشاء صناديق تبرعات وأعمال خيرية، إضافة إلى فرص أخرى سنتحدث عنها في مقال آخر مخصص للـ«الفرص».
تحد آخر ضمن هذا المستوى من المهم أن نسلط الضوء عليه، وهو الوثائق وآليات التعامل معها. معظمنا شاهد تلك الفيديوهات واللقطات التي تظهر الناس يقتحمون الفروع الأمنية والسجون وبعض المؤسسات الحكومية، ويأخذون ويصورون بطاقات شخصية وجوازات سفر وقوائم تتضمن أسماء وبيانات مختلفة، بالإضافة لوثائق حكومية واستخباراتية وأمنية. تلك المشاهد حدثت سابقاً في مدن أخرى عام 2012 و2013، وظننا أننا تعلمنا الدرس ولن نكررها، لكنها حدثت وما زالت تحدث. هذه الوثائق في معظمها هي وثائق بالغة الأهمية لعملية العدالة الانتقالية، ورغم أن بعضها صُوِّر وتم تداوله إلكترونياً، إلا أن القيمة القانونية لهذه الوثائق تتمثل في وجودها الفيزيائي، فالوثيقة بحد ذاتها قد تكون دليلاً قوياً، ولكن تتعزز قوتها بشكل كبير عندما تكون مصحوبة بسجل يثبت سلسلة حيازتها، والذي يعرف بـChain of Custody، ويوضح كيف تم الحصول على الوثيقة، ومن كان مسؤولاً عن حيازتها في كل مرحلة، وكيف تم نقلها أو حفظها، وهل تعرّضت لأي تعديل أو تلاعب.
تأتي أهمية سجل سلسلة حيازة الوثيقة من ضمانه بأن الوثيقة لم يتم التلاعب بها أو تغيير محتواها، حيث يوفر الشفافية والمصداقية ويضمن عدم إساءة استخدام الوثائق بطرق قد تُعرّض الضحايا أو الناجين* للخطر، مما يجعلها مقبولة قانونياً. لذلك، من المهم تأسيس هيئة مركزية وشاملة تضم ممثلين* عن المنظمات الحقوقية وعائلات الضحايا ومؤسسات المجتمع المدني، يشمل دورها توحيد معايير جمع الوثائق وأرشفتها وتوثيق سلسلة حيازتها، وكذلك تدريب الأفراد العاملين* في الميدان على كيفية جمع الوثائق بشكل آمن، وإنشاء السجل وتحديثه. وأيضاً تطوير أنظمة إلكترونية مؤمنة لأرشفة الوثائق والسجلات والاعتماد على تقنيات التشفير لتأمينها ومنع التلاعب بها، وهنا يجب التأكيد على المسارعة في أخذ زمام المبادرة، خاصة في ظل غياب البنى المؤسساتية القادرة على القيام بهذا الدور بشكل مستقل.
2– صعوبات متعلّقة بالملفات التي ستتناولها العدالة الانتقالية:
كثيرة هي الملفات التي تقع ضمن ولاية العدالة الانتقالية، لكن تحديد الملفات التي ستُعالجها العملية وتحديد أولويات هذه الملفات وإطارها الزمني يجب ألا يكون منوطاً بالجهات التي ستدير العملية فقط، ولا بتوفر الإيرادات والموارد اللازمة للقيام بذلك، إذ لا بدّ من التأكيد على أهمية التنظيم المجتمعي ككل للضغط والمساهمة الفعالة في عملية العدالة الانتقالية، خاصة مجموعات الضحايا وأهاليهم*، بحيث تكون شريكاً أساسياً في تخطيط وتنفيذ العملية.
يعتبر ملف انتشار السلاح وعشوائيّته من الملفات الأكثر إلحاحاً ضمن مسار العدالة الانتقالية، إذ يلعب دوراً مهماً في الانتهاكات التي ما زالت تحدث بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. وهو من الملفات المهمة التي تتناولها عملية العدالة الانتقالية، أي نزع السلاح، بمعنى نزع صفة «المقاتل» عن المقاتلين*، وإعادة دمجهم* في الحياة العامة، أي إعادة مدنيتهم*. بالطبع سيكون هناك مقاتلون* لا يرغبون في العودة إلى الحياة المدنية، وسيكون الجيش السوري الجديد بحاجة إليهم*، لكن هذه العملية تتطلب إجراءات محددة أيضاً، تدعى التحري أو التدقيق (Vetting)، وتتضمن إجراء تحقيقات لضمان عدم ارتكاب هؤلاء المقاتلين* لانتهاكات خطيرة أو جرائم، وهو إجراء بالغ الصعوبة بالمناسبة. الغاية من ذلك ضمان أن يكون الجيش الجديد خال من مرتكبي جرائم محتملين*، وكذلك الالتزام بمعايير حقوقية تضمن بناء الثقة بهذا الجيش، وعدم تكرار ما حدث في السابق من تدخل الجيش في الحياة العامة وارتكاب الانتهاكات والجرائم.
نلاحظ اليوم في سوريا أن عدد الأفراد الذين يحملون السلاح في الشوارع كبير للغاية، خاصة في الأرياف أو في مدن مثل درعا وإدلب وغيرها، وهو سلاح غير منضبط في الغالب، وعليه يوجد جرائم قتل واعتداءات بوتيرة يومية. بعض ممن يحملون السلاح هم مقاتلون*، وبعض آخر مدنيون اضطروا إلى حمله لضمان الأمان والدفاع عن النفس، في ظل غياب جهات شرعية تضمن الأمن وتتمتع بالمصداقية والثقة لدى المجتمعات المحلية. أياً يكن المبرر، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه، ويجب جمع هذا السلاح واستعادته من قبل «السلطات الشرعية» في البلاد. لكن ذلك لن يكون بالأمر اليسير، فالكثير ممن يحملون* السلاح «يملكونه» ولن يتخلوا* عنه بلا مقابل، وآخرون* لن يتنازلوا عنه طواعية حتى بمقابل مادي.
في حديث أجرته صديقتي مع سائق تاكسي يحمل سلاحاً فردياً، أخبرها بأنه لن يتنازل عن سلاحه حتى يشعر بالأمان، مع أنه يقيم في منطقة بريف دمشق لم تسجل أي حوادث أمنية أو جنائية.
لم تحاول السلطات السورية الجديدة فتح هذا الملف بعد، بجدية، في مناطق مثل حلب وإدلب ودرعا ودمشق والسويداء، بينما تقوم بحملات لجمع السلاح والمطالبة بتسليمه في محافظات أخرى مثل حمص وحماة وطرطوس واللاذقية. في لقاءاتي مع مجموعات من حمص وحماه أخبروني أن السلطات تسترد السلاح الذي تم استلامه من النظام السابق وليس السلاح الذي تم شراؤه ويعتبر ملكية خاصة، (لم أستطع التحقق من مصداقية هذه المعلومة لكنها تواترت من أكثر من مصدر بمناطق مختلفة). تبايُن التعامل مع هذا الملف أدى إلى شعور بعض المجتمعات بالتمييز ضدهم. على سبيل المثال، أخبرتني بعض المجموعات في مدينة سلمية أن السلطات الجديدة جمعت السلاح من المدينة بينما تُرك مع «البدو» في ضواحي المدينة، وأخبروني أيضاً أن هناك «مشاكل وحساسيات تاريخية بين مدينة السلمية والبدو»، وأن حواجز الجيش سابقاً كانت تمنع «البدو» من دخول المدينة، مما جعلهم* يشعرون بالتمييز والغضب، لذلك، ووفقاً لما أخبرتني به المجموعات، حين تم نزع سلاح المدينة بدأ «البدو» باستعراض سلاحهم والقيام ببعض التعديات على سكان المدينة، إضافة لمحاولة خطف لفتاة (لم يتم التحقق فيما إذا كان «البدو» ورائها). حوادث مشابهة تجري في حمص والساحل السوري، وتنذر باحتمالية نشوب صراعات جديدة وعنيفة في أي لحظة بحال عدم معالجة هذا الملف بشكل شفاف وعادل وعاجل.
في هذا الإطار يمكن الاستفادة من تجربة كولومبيا مع أعضاء المجموعات المسلحة والتي تدعى «فارك». منذ عدة سنوات يتم العمل على نزع السلاح الخاص بهذه المجموعات وإعادة دمج مقاتليها* السابقين*، والذي كانوا في الغالب مزارعين* خسروا* أراضيهم*، حيث تقوم الحكومة الكولومبية ببرامج «مقايضة» السلاح بفرص عمل أو أراض زراعية. هذه البرامج قدمت للمقاتلين* السابقين* فرص عمل وتعليم مقابل تسليم أسلحتهم* وأعطتهم* الفرصة لبدء حياة جديدة ومختلفة.
السلاح العشوائي ليس الملف الوحيد ذي الصلة هنا، لكنه الأول نظراً لضرورة وقف الانتهاكات قبل البدء بمعالجتها، وبالتوازي معه، يوجد ملفات أخرى سنتناولها في الجزء الثاني من هذا المقال، وعلى رأسها ملف المفقودين وكشف المصير، كما سنكمل التعمّق في تحديات المستوى الثالث، علّ هذا يُسهم في توضيح أُطر يمكن البدء منها الآن، وفوراً، لضمان مستقبل خالٍ من العنف في سوريا.
———————————–
الجزء الثاني
تحديات في تنفيذ عدالة انتقالية في سوريا (2/2)/ مصطفى حايد
الالتفات إلى الوراء (2)
25-03-2025
ملاحظة الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يشير للتنوع الجندري والجنساني الذي تشملها التعابير المستخدمة في هذا المقال.
*****
ناقشنا في الجزء الأول صعوبات المستوى الأول وجزء من المستوى الثاني. مقالتنا اليوم ستتابع نقاش تحديات المستوى الثاني والثالث.
نحن نعرفُ الآن أن العدالة الانتقالية ليست عملية بسيطة أو مباشرة، وليست فورية أو قصيرة الأمد، ولا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل الدولة فقط، أو من فئة واحدة ومحددة في المجتمع، إنما هي عملية متكاملة وشاملة وشفافة.
هذه العملية تتطلّب مواجهة تحديات معقدة تتوزع على ثلاث مستويات أساسية: صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها، وتلك المتعلّقة بالملفات التي ستعمل على معالجتها، وصعوبات تتعلّق بالجهات المستهدفة سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات.
2- صعوبات متعلّقة بالملفات التي ستتناولها العدالة الانتقالية:
حين فُتحت السجون، اكتشفت الكثير من العائلات أن أحبابَها كانوا أحياء، رغم استلامهم لشهادات وفاة. وآخرون كانوا يرسلون الأموال والطعام واللباس لأحباب ظنوا أنهم أحياء لسنوات، لكن تبين عكس ذلك. وسواء عُرِف مصير بعض المختفين أم لا، ما زال أغلبهم بلا رفات، وحتى الرفات التي يتم العثور عليها، من الصعب الآن التعرف على هويتها والجهة المسؤولة عن قتلها.
وهنا نعود لأهمية الوثائق ودورها في تحديد هويات المخفيين والجناة المسؤولين عن هذه الجرائم. فكما شاهد العديد منا، هناك الكثير من الجثث التي تحمل أرقاماً، وفَهمُ النظام الخاص بهذه الأرقام قد يكون الخطوة الأولى نحو تحديد هويات أصحاب الرفات، والفروع المسؤولة عن تغييبها وتعذيبها وقتلها.
سيحتاجُ هذا الملف لسنوات من العمل وأيضاً الخبرات التي لا تتوفر، للأسف، حتى الآن في سوريا. وحتى تتم معالجة هذا الملف نحن بحاجة ملحة إلى العمل على جمع وحفظ الوثائق والأدلة، وأيضاً حماية المقابر الجماعية والقبور والرفات وأجزائها المتناثرة في أماكن كثيرة ومكشوفة، إلى درجة أن الأطفال والكلاب تلعب بها.
تحديدُ مصير الأشخاص المفقودين ومكان وجودهم يُعدُّ من أولويات عملية العدالة الانتقالية. يشكل هذا الملف أحد أكبر الجراح والمآسي في الصراع السوري. هناك عشرات الآلاف من الأشخاص مجهولي المصير منذ عام 2011؛ بعضهم اعتقلته جهات حكومية مختلفة وأخرى موالية لها، وآخرون اختطفتهم داعش أو فصائل عسكرية مختلفة وحركات جهادية متعددة في مختلف المناطق السورية التي كانت خارج سيطرة نظام الأسد. كما اختُطف أو قُتل بعضهم على يد عصابات جريمة منظمة وعشوائية، وآخرون اختفوا بعد أن عبروا حدود البلاد من جهاتها المختلفة.
تجربة لبنان في هذا الصعيد غير مبشرة أبداً، ولا نريد أن نرى تجربة مشابهة في سوريا، بحيث يبقى هذا الملف مفتوحاً لعقود دون تحديد مصير مفقودينا، ودون معرفة المسؤولين عن اختفائهم ومحاسبتهم.
ومن المهم أيضاً التأكيد على عدم استخراج أي رفات الآن، لأن المكان، كما هو، يعتبر جزءاً أساسياً من الأدلة، ويقدم معطيات كثيرة تساعد في تحديد سياق ما حدث، وكشف الهوية وتحديد الجناة، إضافة إلى عدم توفر الخبرات اللازمة لاستخراج الرفاة بالطريقة السليمة، كما لا توجد أماكن لحفظها وتأمينها. لكن للأسف، هناك أخطاء كثيرة على هذا الصعيد ترتكبها منظمات مجتمع مدني وجهات إعلامية، وتترتّب عليها أضرار لا يمكن إصلاحها.
تمثل العدالة الانتقالية مفهوماً أوسع بكثير من العدالة الجنائية. فالمساءلة الجنائية الفردية تلعب دوراً رئيسياً في عملية العدالة الانتقالية، لكن جوانب أخرى من المساءلة تعدُّ أيضاً عوامل حاسمة لبلوغ الأهداف الأوسع لهذه العملية. من هذا المنطلق يمكننا فهم الصعوبات الإضافية للتعامل مع هذه الملفات ضمن عملية العدالة الانتقالية، إذ سيواجه المحقّقون والقضاة والمحاكم قضايا جنائية غير اعتيادية، وجرائم كبرى لم يُعمل على مثيلاتها من قبل.
هناك ثلاث فئات رئيسية من الجرائم المصنفة بموجب القانون الدولي: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. ولكننا في هذا المقال سنستعرضُ نوعين من الجرائم الكبرى فقط، واللذين سنتعامل معهما ضمن هذه العملية: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
لكي تصنّف الجريمة على أنها جريمة حرب، يجب إثبات مجموعتين من العناصر:
أولاً: وجود نزاع مسلح، أي حرب.
ثانياً: أن يكون الجرم أحد الأفعال المحظورة الواردة في المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومنها: استهداف المدنيين أو الأهداف المدنية عمداً، استخدام أسلحة محظورة، تجنيد الأطفال أو تطويعهم، الاغتصاب، التعذيب وإساءة معاملة الأسرى… إلخ.
ومن أجل إثبات المسؤولية الجنائية الفردية فور تأكيد هذين العنصرين، يجب إظهار أن الجاني كان على علم بأن الفعل المرتكب وقع ضمن سياق الصراع المسلح، أي أنه لم يكن حادثاً عرضياً منعزلاً.
أما الجرائم ضد الإنسانية، فتعني أي فعل من الأفعال المحظورة الواردة في المادة (7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عند ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق، أو ممنهج موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وتتضمن مثل هذه الأفعال: القتل العمد، الإبادة، الاغتصاب، الإبعاد القسري للسكان مثل التهجير، التعذيب، اضطهاد أي جماعة لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، والإخفاء القسري للأشخاص.
ويجب أن يتحقق في الفعل الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية العناصر الأربعة التالية:
وقوع هجوم ضد مجموعة من السكان المدنيين.
أن يكون هذا الهجوم واسع النطاق أو ممنهجاً.
ارتكاب الفعل الجرمي كجزء من هذا الهجوم.
أن يكون المتهم أو الجاني على علم بالسياق الأوسع الذي ارتُكب فيه هذا الفعل الجرمي.
وهنا لا يوجد أي شرط لوجود نزاع مسلح أو حرب، فالقانون الذي يحظر الجرائم ضد الإنسانية ينطبق في أوقات السلم كما في أوقات الحرب، وبالتالي، يمكن لبعض جرائم الحرب أن تصنف أيضاً كجرائم ضد الإنسانية. كما أنه ليس من الضروري أن يكون المتهم عضواً في القوات المسلحة لكي يتحمل المسؤولية، إذ يمكن للمدنيين أيضاً أن يكونوا مسؤولين جنائياً عن انتهاكات القانون الجنائي الدولي. ولا تعفي المتهم حقيقة أنه كان يتصرف بناءً على أوامر من الحكومة أو الرئيس من المسؤولية الفردية الجنائية، على الرغم من أن ذلك يمكن أن يُؤخَذ في الاعتبار وفقاً للمبادئ العامة للقانون في تخفيف العقوبة. ووفقاً لهذه المبادئ الخاصة بالمسؤولية، إذا أُمر قائد بتنفيذ أفعال معينة، فإنه يحمل المسؤولية المباشرة عن تلك الأفعال. ومن المهم أيضاً أن نذكر أن القانون الجنائي الدولي يَفرض ما يُعرَف باسم «مسؤولية القيادة» (Chain of Command)، وهو المبدأ الذي يكون فيه الرئيس مسؤولاً عن أفعال مرؤوسيه ممن يعملون تحت قيادته.
هناك تشعبات أخرى تتعلق بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة والجرم المشترك لن نخوض فيها هنا، لكن لا بدّ أن نذكر أن هذه الجرائم، أي جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا تسقط بالتقادم الزمني، ويمكن ملاحقة مرتكبيها قضائياً حتى خارج بلادهم، وذلك باستخدام آليات قضائية دولية محددة، والغاية من كل هذا الحديث هي توضيح أن الجرائم الكبرى تتطلب توثيقاً وتحقيقاً أكثر تعقيداً من القضايا الجنائية الاعتيادية، مما يضيف بعداً أعمق للتحديات على هذا المستوى.
من الملفات الأخرى المهمة، والتي يجب تسليط الضوء عليها، هي ملفات الجرائم الثقافية والاقتصادية والسياسية، والتي تعود جذورها إلى ما قبل 2011. أبرز هذه الجرائم ارتُكبت بحق المكون الكردي في سوريا، حيث تعرّض الكرد السوريون لعقود طويلة من القمع والحرمان من التحدث بلغتهم بحرية، وإطلاق الأسماء الكردية على أولادهم وبناتهم، وممارسة بعض الطقوس الاجتماعية… إلخ. على سبيل المثال، لدي صديق اسمه الرسمي، وفقاً لبطاقته الشخصية، «جمعة»، في حين أن اسمه المتعارف عليه بين عائلته وأصدقائه الكرد هو «جوان»، إذ لم يُسمح لعائلته بتسجيله رسمياً باسم جوان، وهذه حالة تنطبق على الآلاف من الكرد السوريين. بالإضافة إلى ذلك، هناك عشرات الآلاف ممن لم يتم تسجيلهم رسمياً، ويعتبرون «غير مجنسين» أو بلا جنسية (كنت قد كتبت عن هذا الملف عام 2005 في مجلة «البوصلة»، كما نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً مفصلاً عن هذا الموضوع في العام نفسه).
إلى جانب ذلك، تبنّى النظام السوري، على مدى عقود، سياسات اقتصادية تقشفية في مناطق عيش الكرد، وتحديداً تلك التي يشكلون فيها أغلبية، كما فرض قيوداً صارمة ومنعَ كل ما يتعلق بثقافتهم وأعيادهم القومية. هذا الملف يعتبر من أكثر القضايا إثارة للانقسامات بين السوريين، وسيشكّل تحدياً بالغاً أثناء التعامل معه.
3- صعوبات تتعلق بالجهات المستهدفة:
أهم تحديات هذا المستوى تتمثل في الوعي المحدود بعملية العدالة الانتقالية وأهميتها وتعقيداتها، إضافة إلى الانقسامات المجتمعية. وتنعكس نتائج هذه التحديات في السرديات المختلفة لما حدث في سوريا منذ 2011، والمفاضلة والكيل بمكيالين، وكذلك تنميط الضحايا والجناة، إلى جانب للشائعات والتضليل الإعلامي.
في مجتمع متنوع مثل سوريا، تختلف مفاهيم وأولويات العدالة بشكل كبير بين المجتمعات والمدن المختلفة؛ ففي المناطق التي عانت من العقاب الجماعي، كالحصار والقصف الجوي، قد تكون الأولوية بالنسبة إلى سكانها هي محاكمة المسؤولين عن هذه الهجمات، أما في المناطق التي عانت تاريخياً من التمييز والحرمان، فقد تكون الأولوية هي الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية. وفي مناطق أخرى، قد يرى البعض أن الأولوية هي الحفاظ على الاستقرار وعدم فتح ملفات الماضي، خوفاً من الانتقام الفردي وانتشار العنف الأهلي، بينما في مناطق أخرى قد تكون الأولوية هي إعادة ترميم المنازل والعودة إليها، والتعويض وجبر الضرر.
ولا يمكننا القول إن بعض هذه الأولويات صحيح وبعضها الآخر خاطئ، أو بعضها ملحٌّ بينما الآخر يمكن أن ينتظر. لذلك، من المهم إجراء مشاورات مجتمعية مختلفة لفهم وجهات النظر المختلفة، والعمل معاً على تخطيط عملية تحترم هذه الاختلافات وتأخذها بالحسبان، من خلال نهج متكامل وتشاركي.
يضاف الى ما سبق تباينُ السرديات عما حصل في سوريا عموماً، وفي كل منطقة على وجه الخصوص، وكذلك تباين الروايات حول كيف تطورت الأمور منذ عام 2011 إلى اليوم، وكيفية النظر إلى القوى السياسية والعسكرية والدينية والإثنية المختلفة.
ما حدث في الساحل السوري في آذار (مارس) ٢٠٢٥ من مجازر وانتهاكات يُبيّن حجم الانقسام والاختلاف بين السوريين من كافة المناطق والمكونات والإيديولوجيات في رؤيتهم لما حدث، وفي مسألة مُساءلة المسؤولين عن ذلك. فالسوريون اليوم أيضاً منقسمون حول من هو «القتيل» ومن هو «الشهيد»، ومن هم «الأبطال» ومن هم «المجرمون»، ومن هم «الضحايا» ومن هم «الجناة». وسيختلفون كذلك حول هذه هذه الفقرة ضمن المقال وسيهاجمُها كثيرون ممّن سيعتبرون أن هذا النقاش مجحف بحق «الضحايا» وبحق ما حصل في سوريا، لأنه موضوع «واضح وغير قابل للنقاش أصلاً».
بعض هذه الاختلافات والنقاشات ستكون سلمية وصحية، ولكن بعضها أيضاً سيكون عنيفاً وقد يصبح دموياً، ومن هنا تأتي أهمية تناول هذا الملف ومعالجته. أحد خبراء العدالة الانتقالية في المانيا ذكر، خلال أحد اللقاءات، أن أهم خطوة اتُّبعت في ألمانيا الموحدة بعد هدم جدار برلين الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية، كانت الاتفاق على الحكاية أو السردية حول «قصة ما حدث». وسيكون هذا أيضاً من أهم الخطوات الأولى التي يجب أن نتفق عليها في سوريا، ولن يكون ذلك ممكناً دون حوارات مجتمعية كثيرة، وأحياناً قاسية.
هذا الانقسام ليس جديداً أو حكراً على الوضع في سوريا، ففي رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994، اختلفت روايات الضحايا والجناة حول «من بدأ العنف أولاً». الحل الذي اتبعته رواندا كان إنشاء برامج حوارية وتوعوية في المدارس وأماكن العبادة لتعريف الجميع بمفهوم العدالة المشتركة، وساعدت هذه البرامج في بناء لغة مشتركة بين الضحايا والجناة. في لبنان أيضاً تتباين الروايات حول ما حدث خلال الحرب الأهلية، وإلى اليوم لم يتم الاتفاق على سردية مشتركة، وبسبب ذلك، لا يتم تدريس هذه الفترة من تاريخ الى الآن.
في سوريا، نحن بحاجة ماسة لبرامج استشارية وتوعوية وحوارات مجتمعية تُسهم في بناء لغة وسرديات مشتركة. يمكن البدء بمبادرات محلية (وبعضها قد بدأ بالفعل، مثل مجموعة السلم الأهلي في حمص وبعض المبادرات المدنية في طرطوس) تنطلق من نقاشات مجتمعية بين الأحياء، ثم تتوسع لتشمل أحياء أخرى ضمن المنطقة. ثم يمكن لهذه المبادرات، بعد أن أصبحت تمثل مختلف المناطق، أن تبدأ بلقاءات تنقاشُ وتحاججُ خلالها سلمياً، بحيث تنتهي بحوارات على المستوى الوطني وفق نهج تصاعدي، من قاعدة الهرم إلى قمته.
ومن المهم هنا إدراك أن مثل هذه الحوارات تتطلب ميسرين ومديرين للحوار يتمتعون بمهارات اجتماعية وحوارية عالية، مع اطلاع واسع وحرص على مبدأ عدم الضرر وضمان السلامة. فرغم أهمية هذه والحاجة الماسة إليها، قد تنحرف في الاتجاه الخاطئ إذا لم تدار بحكمة، مما قد يحولها إلى تجمعات تحريضية مليئة بالكراهية والطائفية والانقسامات، بدلاً من تكون جامعة. وسيكون التوقيت، وضمان توفير مساحات آمنة، والاعتماد على مهارات خاصة في إدارة الحوار وظروفه، عوامل بالغة الأهمية لضمان نجاح هذه العملية.
بُعدٌ آخر مهم ضمن هذا المستوى، لكنه يمتد للمستويات الأخرى أيضاً، وهو موضوع الشائعات والتضليل الإعلامي. أغلبنا على اطلاع على حجم الشائعات والتضليل والمعلومات المغلوطة منذ عام 2011، لكننا اليوم، وفي المستقبل القريب أيضاً، نشهد وتيرة متزايدة من الشائعات الممنهجة، إضافة إلى التضليل المتعمّد والفيديوهات والأخبار المزيفة التي تهدف إلى نشر الكراهية والتحريض على العنف.
في أغلب الحروب والصراعات، يتم الربط بين العفو وبناء السلام، وليس بين العدالة وبناء السلام، وينبعُ ذلك من مبدأ أن معظم، إن لم يكن جميع، الأطراف المتصارعة ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهي نفسها التي تجلس على طاولة المفاوضات أو يفوز أحدها في النهاية، سواء كان طرفاً واحداً أو تكتلاً من الأطراف، ولكل من هذه الأطراف «إعلامٌ حربيٌّ» يدور في فلكها، ويملك موارد بشرية ومادية لا يستهان بها.
هذه الشبكات الإعلامية، إلى جانب أخرى فردية وعشوائية وغير ممنهجة، تنشطُ دائماً قرب الأحداث الكبرى أو المفصلية، وغالباً ما يكون يكون السلم المجتمعي والعدالة والمساءلة من أبرز ضحاياها أو مستهدفيها. لذلك، يُعدُّ الإعلام المستقل والاحترافي ضرورة لا غنى عنها، ليس فقط في مراحل التحول والانتقال، بل أيضاً في الحد من هذه التحديات وتوفير معلومات ذات مصداقية.
إن مراجعة سريعة لكل ما تم ذكره في الجزأين الأول والثاني من صعاب، تُبيّن أن القاسم المشترك لمعالجتها يتمثل في إجراء حوارات ومشاورات مجتمعية. حوارات تبدأ ضمن المستويات المحلية الصغيرة على مستوى المناطق والبلدات، ثم تتوسع تدريجياً لتشمل المدن والمحافظات، وصولاً إلى المستوى الوطني الشامل.
هنالك العديد من التجارب المشابهة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال، حيث أجرت دول مثل رواندا وسيراليون وأفغانستان مشاورات وطنية واسعة النطاق، نتج عنها بناء استراتيجيات وبرامج وطنية ساعدت في تشكيل عملية عدالة انتقالية تشاركية وفعّالة. المجتمع المدني السوري يمتلك الكثير من الخبرات للبدء بهذه العملية، ويجب عليه اليوم قبل الغد المباشرة بها في مختلف المناطق السورية.
———————————
الجزء الثالث
تنفيذ العدالة الانتقالية في سوريا/ مصطفى حايد
الالتفات إلى الوراء (3)
08-04-2025
*ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشملها التعابير المستخدمة في هذا المقال*
*****
تناولنا في المقالات السابقة ضمن هذه السلسة مفهوم العدالة الانتقالية وطبيعتها الهجينة، واستعرضنا بعضاً من التحديات الأساسية التي قد تواجه تطبيقها في سوريا. هذا المقال، وهو الثالث من سلسلة مكونة من خمس مقالات (نُشرَ الثاني منها على جزئين)، سيتناولُ الجوانب العملية لتنفيذ العدالة الانتقالية، كالتوقيت والنطاق والآليات المختلفة التي يمكن استخدامها، وكيفية تصميم نموذج سوري يراعي خصوصيات السياق المحلي.
في آذار (مارس) 2025، استفاق السوريون على مجازر وحشية في قرى ومدن في الساحل السوري: جثث مرمية في الشوارع، منازل محترقة، عائلات بأكملها قُتلت بدم بارد، وذلك في تكرار لمجازر اعتقد البعض أنها أصبحت جزءاً من الماضي بعد سقوط نظام الأسد. هذه المجازر لم تكن مجرد أحداث منفصلة، بل هي امتداد لعقود من الإفلات من العقاب، ومن غياب العدالة، ومن استمرار العنف دون مساءلة.
وبدلاً من أن يتوحّد السوريون* في فهم ما حدث وإدانته والحداد عليه، انقسموا* بين مشكك ومهلل ومبرر ومستاء وصامت. تحدّثنا عن هذه الانقسامات في المقال السابق كأحد أهم التحديات التي تواجه عملية العدالة الانتقالية في سوريا، ولكن لم نتوقع أن تتعمّق أكثر خلال أسابيع قليلة فقط. إضافة إلى هذا الانقسام وتبعاته، تشكل هذه الأحداث الأليمة تذكيراً بالغاً للجميع بأن الماضي لم ينتهِ بعد، وأن الجرائم قد تتكرر مجدداً.
في الأيام الماضية، كان كثير من السوريين* يتساءلون: هل سيحاسَب القتلة هذه المرة؟ أم أن هذه الدماء ستذهب كما ذهبت دماء آلاف السوريين من قبل. وهو تساؤل في صلب العدالة الانتقالية التي لا تقتصر على مجرد محاكمات، بل هي عملية طويلة ومعقدة، تبدأ بالكشف عن الحقيقة، لكنها لا تكتمل إلا عندما يشعر الضحايا أن صوتهم سُمع، وأن المجرمين حوسِبوا، وأن هكذا جرائم لن تتكرر.
من هذا المنطلق، تصبح العدالة الانتقالية أداة للحفاظ على ما تبقى من نسيج المجتمع، ولمنع المستقبل من أن يصبح تكراراً للماضي. كيف يمكن لسوريا أن تواجه هذا الإرث الدموي؟ متى يبدأ العمل على تحقيق العدالة؟ وما هي الوسائل التي يمكن تبنيها لضمان عدم التكرار؟ هذا ما سيناقشهُ مقال اليوم.
التوقيت والنطاق
أحد أهم الانتقادات التي وُجّهت إلى حكومة تصريف الأعمال السورية كانت إعطاء أولوية العفو على عملية متكاملة للعدالة الانتقالية، وبذلك وضعت نفسها في مواجهة هذه العملية لا كجزء منها، إضافة إلى احتكار القرار وسرعته وسؤال مدى مشروعيته في موضوع مصيري كهذا. ذُكِر العفو والمسامحة منذ التصريحات والمقابلات الأولى التي أجرتها الجهات الرسمية الجديدة، في حين لم تُذكَر العدالة الانتقالية إلا بعد أيام. وحتى حين ذُكِرت، لم تتم، حتى لحظة كتابة هذا المقال، الاستفاضة بالحديث عن ماهيتها وإطارها الزمني ومدى شموليتها وطبيعة تنفيذها.
يعدُّ سؤال التوقيت من أكثر الأسئلة إلحاحاً في مسار العدالة الانتقالية؛ فهل ننتظر استقرار الوضع الأمني والسياسي بشكل كامل قبل البدء بعملية العدالة الانتقالية، أم نبدأ فوراً بالعمل على جوانب معينة منها؟
تجارب الدول تُقدم دروساً متباينة. في تشيلي، انتظر المجتمع نحو عقد من الزمن، بعد سقوط نظام بينوشيه، قبل أن تبدأ محاكمات واسعة النطاق. وكان ذلك انتظاراً استراتيجياً للسماح بترسيخ المؤسسات الديمقراطية أولاً. بينما في الأرجنتين، بدأت لجنة الحقيقة «CONADEP» عملها بعد أقل من أسبوع من انتهاء الحكم العسكري، وأنتجت تقريرها الشهير «لن يتكرر ذلك أبداً Nunca Más» خلال عام واحد فقط. وفي رواندا، بدأت المحاكم فور انتهاء الإبادة الجماعية عام 1994. وكذلك بدأ مسار العدالة الانتقالية في كولومبيا بالتوازي مع مفاوضات السلام مع مجموعات «فارك» العسكرية.
في سوريا، يمكن القول إن العمل على بعض مسارات العدالة الانتقالية قد بدأ فعلياً منذ سنوات، خاصة في مجال التوثيق وجمع الأدلة الذي تقوم به عشرات المنظمات السورية والدولية. وقد نجح هذا العمل في تحقيق بعض الإنجازات، لكن خارج سوريا، مثل محاكمة أنور رسلان في ألمانيا عام 2021 وغيره ضمن محاكمات أخرى جرت، وما زال بعضها جارياً، في ألمانيا وفرنسا والسويد.
تخبرنا هذه التجارب المختلفة أنه لا داعٍ للانتظار حتى تستقر كل الأمور قبل أن نبدأ في تنفيذ عملية العدالة الانتقالية، فحين نتحدث عن المسارات غير القضائية، كالتوثيق وجمع الأدلة وتقصي الحقائق وحفظ الذاكرة، يمكن ويجب البدء بها فوراً. أما المسارات القضائية، فقد تحتاج لبيئة مؤسساتية مستقرة، لكن التحضير لها من خلال تدريب الكوادر القضائية وتجهيز البنى التحتية لا يحتمل التأخير ويجب البدء بتنفيذه الآن.
من التحديات المهمة التي تواجه العدالة الانتقالية في سوريا هي طول الفترة الزمنية التي شهدت انتهاكات، وتعدد الأطراف المسؤولة عن تلك الانتهاكات. فكما ذكرنا في المقالين السابقين، تمتدُّ جذور بعض هذه الانتهاكات إلى ما قبل 2011، بينما وقعت انتهاكات واسعة النطاق وممنهجة منذ بداية الانتفاضة وحتى يومنا هذا.
النقاش حول خط البداية ليس مجرد مسألة قانونية، بل هو جدل مجتمعي وسياسي. الكثير من السوريين* اليوم لا يثقون بأي عملية عدالة انتقالية إذا لم تكن شاملة، وتستهدف جميع من تورطوا في الجرائم الكبرى التي وقعت بعد سقوط نظام الأسد، بما فيها جرائم آذار (مارس) 2025. آخرون يخشون أن تؤدي المحاكمات إلى انتقائية تزيد من الشروخ المجتمعية بدلاً من معالجتها. لهذا، السؤال المهم هو كيفية تحديد الأولويات دون الوقوع في فخ «عدالة المنتصرين» أو «العدالة الانتقامية» أو «العدالة الانتقائية أو التمييزية».
تجربة البيرو قد تقدم نموذجاً مفيداً في هذا السياق، فقد واجهت تحدي التعامل مع انتهاكات امتدت لعقدين من الزمن (1980-2000) وتنوعّت بين ما ارتكبته قوات الأمن الرسمية وما قامت به المجموعات المسلحة. فتبنّت البيرو نهجاً مرحلياً للتعامل مع هذا التحدي، حيث قسّمت عملها إلى مراحل زمنية وجغرافية، وركزت على أنماط الانتهاكات بدلاً من كل حالة فردية. أما في المغرب فقد حددت هيئة الإنصاف والمصالحة نطاقاً زمنياً لمعالجة الانتهاكات بين عامي 1956 و1999. وفي تونس، ركزت العدالة الانتقالية على فترة تمتد من 1955 حتى 2013، مما سمح للضحايا من مختلف الأجيال بالحصول على فرصة لسرد معاناتهم. أما في رواندا، فواجه المجتمع تحدياً مشابهاً، حيث لم يكن القتلة فقط من النظام، بل من أفرادٍ داخل المجتمع نفسه، ما دفع الدولة إلى تبني نهج مزدوج يجمع بين العدالة القضائية والمجتمعية. كانت رواندا أمام تحدي محاكمة مئات الآلاف من المشتبه بمشاركتهم في الإبادة الجماعية عام 1994، ونظراً لاستحالة محاكمة هذا العدد الهائل عبر المحاكم التقليدية، ابتكرت رواندا نظام «غاكاكا» المستوحى من التقاليد المحلية للعدالة المجتمعية، بحيث سمح هذا النظام بمحاكمة أكثر من مليون شخص على مدى عشر سنوات. لكن هل سيكون هذا النهج ممكناً في ظل الانقسامات العميقة في المجتمع السوري، وفيما بين المدن المختلفة في سوريا؟
النهج
قد لا تكون العدالة الانتقالية قادرة على معالجة كل الانتهاكات التي حدثت بالعمق نفسه وفي الوقت نفسه. لذلك، من الممكن تحديد أهداف واضحة وواقعية، ووضع أولويات تستجيب للاحتياجات الملحة للمجتمع السوري وفق المعايير التالية:
1- خطورة الانتهاكات: إعطاء الأولوية للجرائم الأشد خطورة؛ كالقتل الجماعي والتعذيب الممنهج والاختفاء القسري.
2- الاستمرارية: التركيز على الانتهاكات المستمرة التي ما زالت آثارها قائمة، مثل ملف المعتقلين والمختفين قسراً.
3- النطاق: الاهتمام بالانتهاكات واسعة النطاق التي طالت شرائح كبيرة من المجتمع.
4- قابلية المعالجة: البدء بالقضايا التي يمكن إحراز تقدم فيها بشكل أسرع، مثل التعويضات المادية لضحايا انتهاكات محددة.
5- القيمة الرمزية: اختيار قضايا ذات رمزية عالية يمكن أن تساهم في بناء سردية مشتركة للتاريخ السوري المعاصر.
لنفترض أننا حددنا النطاق الزمني وكذلك المعايير، السؤال التالي سيكون: كيف يمكن التعامل مع انتهاكات ارتكبتها جهات متعددة، وليس فقط النظام؟ ماذا عن الجرائم التي ارتكبتها جماعات مسلحة أخرى؟ كيف يمكن تحقيق العدالة دون أن تتحول المحاكمات إلى ساحة انتقام؟
النهج الأكثر واقعية لسوريا للاستجابة لهذه الأسئلة قد يتمثل في استراتيجية متعددة المستويات تشمل:
1- تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية في الدول التي تسمح قوانينها بذلك (كما يحدث حالياً في ألمانيا والسويد وفرنسا).
2- العمل على إنشاء محكمة مختلطة/هجينة (سورية دولية) للتعامل مع أخطر الجرائم.
3- بناء قدرات المحاكم المحلية للتعامل مع القضايا الأقل تعقيداً.
4- الاستمرار في الجهود لإحالة الوضع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.
لجان الحقيقة
وفي هذه الأثناء، من الضروري العمل على إطلاق لجان الحقيقة، التي تعتبر من أهم آليات العدالة الانتقالية غير القضائية، والتي تهدف إلى توثيق الانتهاكات وكشف الحقائق وبناء سردية مشتركة.
انتظرت جنوب أفريقيا حتى نهاية نظام الفصل العنصري عام 1994 لبدء محاكماتها، لكنها بدأت فوراً بتشكيل «لجنة الحقيقة والمصالحة». التبكير سمح بمنع تدمير الأدلة وتهريب المجرمين. كما سمحت لجان الحقيقة للضحايا بسرد قصصهم أمام الجناة، ما ساهم في كسر حاجز الخوف، حيث جلس الضحايا والجناة وجهاً لوجه واضطرّ القتلة للاعتراف بجرائمهم مقابل احتمال الحصول على العفو. هل من الممكن إجراء جلسات مشابهة في سوريا؟
مهما كان السيناريو الذي ستختاره سوريا في اختيار مسار لجان الحقيقة، على هذه اللجان أن تتميز بالخصائص التالية:
1- تمثيل متوازن لمختلف المناطق والمكونات السورية.
2- صلاحيات واسعة للتحقيق والوصول إلى المعلومات.
3- تبني نهج الضحايا أولاً، مع توفير مساحات آمنة للإدلاء بالشهادات.
4- التكامل مع المسار القضائي، من خلال تحديد واضح للعلاقة بين اللجنة والمحاكم.
5- آليات حماية فعالة للشهود والضحايا.
عدم التكرار
بالعودة لمجازر الساحل السوري في آذار 2025، يجب العمل الفوري والجدي والفعال لضمان عدم تكرار الانتهاكات من خلال التحقيق الشفاف فيما حدث، والاعتراف به، وتحمل مسؤوليته، ومحاسبة الجناة. ولضمان عدم التكرار، لا بد من إصلاح المؤسسات التي كانت متورطة فيها، أو التي كان من المفترض أن تمنع وقوعها. إصلاح المؤسسات يجب أن يشمل:
1- إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية وضمان وجود آليات جدّية تضمن الالتزام بالقوانين الدولية وتحترم حقوق الإنسان وتضمن الشفافية والمساءلة. يمكن هنا الاستفادة من تجربة كولومبيا في إصلاح الشرطة (2016-الآن) حيث قامت بتدريب العناصر على حقوق الإنسان. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتدريب كوادر جديدة، وإنشاء آليات رقابة فعالة، هي شروط لا بد منها لضمان عدم تكرار المجازر مستقبلاً. قد يكون أحد النماذج الممكنة هو الاستفادة من التجربة الألمانية في التعامل مع «شتازي» بعد سقوط جدار برلين، حيث فُتحت ملفات المخابرات، وأُتيح للضحايا الاطلاع على الوثائق التي تكشف من كان مسؤولاً عن تعذيبهم أو ملاحقتهم.
2- فحص سجلات العاملين في هذه المؤسسات وفي كل المؤسسات الحساسة.
3- إصلاح النظام القضائي لضمان استقلاليته.
4- تطوير آليات رقابية فعالة، بما يشمل دوراً للمجتمع المدني.
5- تعديل التشريعات التي سهلت ارتكاب الانتهاكات أو تلك التي قد تسهل الإفلات من العقاب.
المشاورات والمشاركة
لا يمكن أن تنجح العدالة الانتقالية دون مشاركة واسعة من المجتمعات المحلية والضحايا وأهاليهم*. تجربة تونس في هذا المجال مفيدة، حيث أجرت هيئة الحقيقة والكرامة مشاورات وطنية شاملة قبل تحديد آليات عملها. وكانت نتائج استطلاعات الرأي في تونس، التي أجرتها «هيئة الحقيقة والكرامة» لمعرفة أولويات الضحايا، مُفاجئة، حيث فضل 60 بالمئة الاعتذارَ العلني على التعويض المادي. آما رواندا، بعد الإبادة، فنظمت حكومتها حواراتٍ في القرى بإشراف «أمناء الذاكرة» من كبار السن. هل بالإمكان تطبيق ذلك في سوريا؟ بحيث تلعب المجالس المحلية دوراً مماثلاً؟
ولضمان المشاركة المتساوية والعادلة لا بد من ضمان:
1- إجراء مشاورات على مستويات متعددة (محلية، إقليمية، وطنية).
2- تطوير آليات مشاركة تصل إلى المناطق النائية والفئات المهمشة.
3- تمثيل متوازن لمختلف المناطق والمكونات والفئات الاجتماعية.
4- الدور الجندري وأهمية المشاركة المتساوية والفعالة للنساء في هذه العملية.
5- الاستفادة من دور المجتمع المدني السوري في تيسير المشاركة المجتمعية.
6- إشراك السوريين في المهجر من خلال آليات مشاركة عن بعد.
في الختام، ما حدث في الساحل في آذار 2025 ليس مجرد جريمة أخرى تُضاف إلى قائمة طويلة من الفظائع. إنه جرس إنذار بأن العدالة لم تعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة ملحة. التاريخ يخبرنا أن المجتمعات التي واجهت ماضيها بشجاعة، هي التي استطاعت بناء مستقبل مستدام.
إن العدالة الانتقالية ليست فقط محاكمات، وليست فقط لجان حقيقة أو تعويضات. إنها وعدٌ للضحايا بأن ما حدث لهم لن يحدث مجدداً، وأن سوريا الجديدة ليست استمراراً لما قبلها. إنها اعتراف بأن هناك مظالم يجب تصحيحها، وأن العدالة ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل شرط أساسي لأي مستقبل مستقر.
————————————
الجزء الرابع
العدالة الانتقالية: الشرعية والشفافية والمشاركة/ مصطفى حايد
في الالتفات إلى الوراء (4)
02-05-2025
تنويه من الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يشير للتنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.
*****
في الأجزاء الثلاثة السابقة، حاولنا رسم ملامح العدالة الانتقالية في سوريا كعملية مُركَّبة، تتجاوز حدود المحاكم والعقوبات لتلامس احتياجات الناس في الحقيقة، والاعتراف، والمصالحة، وضمان عدم التكرار. تناولنا في الجزء الأول المفهوم الأساسي للعدالة الانتقالية في السياق السوري. وفي الجزء الثاني (نُشِرَ على قسمين 1و2) استعرضنا التحديات المتعددة التي تواجه تطبيقها، من ملفات المفقودين إلى السرديات المتضاربة. أما في الثالث فقد حاولنا رسم معالم تنفيذية لهذه العملية على الأرض، مع دروس مستفادة من تجارب دول أخرى. في هذا الجزء الرابع، نفتح النقاش على مسألة الشرعية، والمشاركة، والمُلكية المجتمعية، كأُسس ضرورية لنجاح عملية سوريّة للعدالة الانتقالية تنبثق من الواقع السوري ولا تفرض عليه.
* * * * *
عندما نتحدث عن العدالة الانتقالية في سوريا، يجب أن ننتبه إلى أن التجربة السورية تحتاج إلى مقاربة مرنة تُراعي تعقيدات الواقع، وثقل الذاكرة، وتشظّي المجتمع، وتَعدُّد روايات الضحايا. العدالة الانتقالية عملية تُصَاغ من الداخل وتنبع من السياق المحلي الثقافي والتاريخي والاجتماعي.
التجارب الدولية من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا، ومن أوروبا الشرقية إلى العالم العربي، تُثبت أن الآليات التي لا تُكيَّفُ مع السياق المحلي تفشل في بناء الثقة والاستجابة لتطلعات الناس.
جنوب أفريقيا، مثلاً، لم تعتمد فقط على المحاسبة القضائية، بل ابتكرت «لجنة الحقيقة والمصالحة»، التي جمعت بين كشف الحقيقة وسماع الضحايا وتوفير فرصة للصفح المشروط مقابل الاعتراف بالجرائم. أما كولومبيا، فقد صاغت اتفاق سلام أدخلَ العدالة الانتقالية ضمن رؤية شاملة للحل السياسي مع حركة فارك، وتضمّنَ آليات تتناسب مع السياق الريفي المُعقَّد والمجتمعات المُهمَّشة.
في الحالة السورية، يجب أن تُبنَى الآليات على فهم عميق للبنية الاجتماعية، وانقسام الروايات، والخوف من العقاب الجماعي، وتدهور الثقة بالمؤسسات.
العدالة التي لا يُشارِك في صياغتها من تضرَّروا لن تكون إلا إعادة إنتاج للتهميش. يجب أن تبدأ العملية بمشاورات حقيقية مع الناجين والضحايا وأُسَرهم، من خلال آليات آمنة ومحترمة، تضمن لهم التعبير الحر عن مطالبهم وهواجسهم. ليس المقصود فقط الاستماع إليهم، بل إشراكهم في تصميم وتنفيذ السياسات والبرامج المرتبطة بالعدالة.
في البيرو، أثبتت لجان الحقيقة والمصالحة أن جلسات الاستماع العلنية للضحايا لم تكن فقط وسيلة لجمع المعلومات، بل منصّة لبناء الاعتراف المجتمعي بمعاناتهم. التجربة نفسها يمكن أن تُلهِم سوريا، حيث إن الإنكار والتشكيك في بعض المجازر السورية ما زالا مُنتشرَين.
من الضروري أيضاً ضمان تمثيل الفئات التي عانت من الإقصاء المزدوج، مثل النساء وذوي الاحتياجات الخاصة وأهالي المعتقلين والمختفين، في المشاورات والحوارات الوطنية. ويجب أن يكون للشباب دور ريادي، فهم ليسوا فقط ضحايا، بل أيضاً صُنّاع تغيير محتملون. كثير من الشباب السوريين أداروا مبادرات مدنية محلية خلال النزاع، واستثمروا في التعليم الذاتي، وبنوا شبكات تضامن مجتمعية. لذلك لا يمكن تَصوّر عدالة انتقالية دونهم، بل إن إدماجهم في تصميم وتنفيذ برامج العدالة يضخّ الحيوية والمصداقية في العملية، ويُعيد الثقة بالمستقبل. في سيراليون، كان إشراك الشباب في لجان العدالة المجتمعية عاملاً أساسياً في تهدئة الصراعات ومَنعِ تجدد العنف.
أما الأطفال، فقد عانوا من النزاع ليس فقط كضحايا مباشرين، بل أيضاً من خلال فقدان التعليم، والتعرض للعنف، والنزوح. من الضروري دمج البرامج التربوية التي تركز على الذاكرة، وحقوق الإنسان، والتربية المدنية في المناهج التعليمية، وذلك لتعزيز وعي الجيل الجديد بتاريخ بلدهم وضرورة المُساءلة والمصالحة. تجربة رواندا في إدخال دروس حول الإبادة الجماعية والتسامح في التعليم كانت محورية في إعادة تشكيل وعي الأطفال وتحصينهم من الخطاب الانقسامي.
هؤلاء الذين لم يصنعوا الحرب، لكنهم وُلِدوا أو كبروا وسطها، هُم من سيتحمل مسؤولية بناء السلام غداً. إنَّ تمكينهم ليكونوا جزءاً من عملية العدالة الانتقالية ليس فقط من باب الإنصاف، بل من باب الاستثمار في مستقبل أكثر عدالة واستقراراً.
الشباب بحاجة إلى أدوات لفهم الماضي والتفاعل معه. وهذا يتطلب إشراكهم في أنشطة توثيق الذاكرة، والحوارات المجتمعية، والبرامج التعليمية التي تتناول تاريخ النزاع وأهمية المساءلة. أما الأطفال، فهم يحتاجون إلى نظام تعليمي جديد يزرع فيهم قيم العدالة والمساواة والتنوع، ويُحصّنهم من إعادة إنتاج الكراهية. يجب أن تكون المدارس مساحات لرواية قصص التعدد السوري، وأن تُدرَج في المناهج سرديات متنوعة تعكس الحقيقة كما عاشها مختلف السوريين، لا كما فُرِضَت عليهم.
لتحقيق كل ذلك، لا بد من استراتيجيات واضحة للمشاركة المجتمعية. الشفافية في طرح الأهداف، والوضوح في شرح المراحل، والاعتراف بالتحديات، هذه كلها عناصر تعزز الثقة بين الناس وعملية العدالة الانتقالية. التواصل ليس رفاهية، بل ضرورة لاحتواء القلق، وتبديد المخاوف، ومواجهة حملات التضليل.
لا بد أن تكون العدالة الانتقالية عملية يمتلكها المجتمع المحلي. «المُلكية المحلية» تعني أن تكون الأولوية لاحتياجات السكان، وأن تُبنى البرامج من الواقع وأولوياته، التي تتباين حسب كل منطقة، بحيث تنطلق من القواعد المجتمعية. سيكون الدعم الخارجي ضرورياً، لكنه يجب أن يأخذ طابع التيسير، والتوصيات والدعم والشراكة.
في تيمور الشرقية، أدى تكييف آليات العدالة الانتقالية مع الأعراف المحلية، مثل استخدام لجان المصالحة التقليدية (الـ«شيمبو»)، إلى تعزيز فعالية العملية وتوسيع نطاق قبولها المجتمعي. يمكن في سوريا استلهامُ مثل هذه المبادرات، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية، لكن بحيث أن لا تتعارض مع حقوق الإنسان والمعايير الدولية ذات الصلة.
المشروعية تبدأ من الشفافية والمشاركة
الشرعية ليست شعاراً يُرفَع، بل تُبنى عبر الممارسة والزمن من خلال ممارسات تُظهِرُ الاتساق والعدالة والشفافية. من هنا، لا بد من التواصل المستمر والصادق مع السوريين حول أهداف وآليات العدالة الانتقالية، مع الاعتراف بتحدياتها ومحدودياتها. يجب أن يشعر الناس أن هذه العملية تخصّهم، وأنها ليست امتداداً لصراعات النخب أو السلطات. أو الدول الفاعلة في سوريا.
إدارة التوقعات ضرورية أيضاً. لا يمكن أن تُحَلَّ جميع مشاكل سوريا من خلال العدالة الانتقالية. هي ليست عصا سحرية، لكنها أداة ضمن منظومة أوسع تشمل الإصلاح السياسي، والتنمية، وبناء الثقة المجتمعية. في جنوب أفريقيا، كان لشفافية لجنة الحقيقة والمصالحة، وتواصلها المباشر مع الناس، دور كبير في تجاوز النقد وتحقيق حدّ معقول من القبول.
في السياق السوري، يجب أن نرفض المقاربات التي تضع العدالة والمصالحة في تعارض دائم. فهُما ليستا نقيضين، بل يمكن أن تكونا متكاملتين. المصالحة الحقيقية لا تتحقق دون كشف الحقيقة، ولا معنى للعدالة إن لم تؤدِ إلى التئام الجراح وإنهاء العنف والمجازر.
التحدي هو بناء مساحات للحوار تسمح بهذا التوازن، وتمنع خطاب الانتقام، وتعزز مناخ الاعتراف المتبادل. قد يساعد استخدام الوساطة المجتمعية، والفن، وسرديات الضحايا، في فتح قنوات جديدة للتقارب بعيداً عن الاستقطاب السياسي التقليدي. العديد من المنظمات السورية عملت خلال السنوات الماضية على مشاريع للذاكرة الشفوية يمكن أن تُبنى عليها جسور لدرء الانقسامات السورية وكشف الحقيقة وسردها. كما تشكلت مؤخراً العديد من المبادرات المحلية التي تقودها نساء وعائلات الضحايا، مثل خيم الحقيقة وعائلات من أجل الحرية وسواها، والتي يمكن أن تكون مساحات للحوار والسرد والتضامن المجتمعي.
إذا أردنا لعدالتنا الانتقالية أن تُثمر، فلا بد أن نجعلها حواراً وطنياً شاملاً، لا مجرد سلسلة من الإجراءات القانونية. يجب أن تكون مساراً لبناء هوية سورية جديدة، تتسع للجميع، وتعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية كمبدأ لا يُساوَم عليه.
ربما تكون الطريق طويلة، لكن كل خطوة تبدأ من الاعتراف، ومن الشراكة الحقيقية، ومن الإرادة السياسية والمجتمعية لصنع التغيير. العدالة الانتقالية ليست فقط عن الماضي، بل عن مستقبل أفضل نستحقه جميعاً، ولا تتكرر فيه مجازر الماضي ولا تجاوزات الدولة ومؤسساتها.
لا معنى لعدالة تُفرَض من فوق، ولا مصداقية لآليات تُصمَّم في غرف مغلقة. يجب أن تشمل عملية التصميم مشاورات واسعة مع الضحايا من كل المناطق والانتماءات، وعائلات المفقودين والمعتقلين، والنساء اللواتي عانين من العنف الجنسي أو النزوح القسري، والمنظمات المحلية والنشطاء. دور النساء جوهري وقيادي في هذه العملية. في نيبال، تم تخصيص لجان نسائية محلية تساهم في توثيق الانتهاكات ودعم الضحايا، وهناك العديد من التجارب النسائية المشابهة، والتي يمكن التعلُّم منها والبناء عليها في سوريا.
لبنان مثال على الإخفاق عندما تُغيِّبُ الدولةُ مشاورةَ الضحايا. فبعد الحرب الأهلية، اعتمدت السلطة «العفو العام» دون حوار مجتمعي، ما أدى إلى إنكار جماعي واستمرار جراح الماضي بلا معالجة. في المقابل، اعتمدت تونس مقاربة مختلفة من خلال «هيئة الحقيقة والكرامة»، التي نظّمت جلسات استماع علنية وأتاحت للمواطنين رواية معاناتهم. التجربة لم تكن مثالية، لكنّها فتحت المجال للنقاش العام وأعطت الضحايا موقعاً محورياً.
المشاركة المحلية تعني أن المجتمعات تشعر أنها شريكة لا ضحية فقط. وهو دور يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني السوري، والمجتمعات المحلية، والنساء، والشباب.
في سيراليون، تم تصميم المحاكم الخاصة بالشراكة مع المجتمع، مع التركيز على رمزية المكان وعلى إشراك الضحايا. أما في البوسنة، فالفشل في تمكين المجتمعات المحلية من صياغة العدالة أدى إلى ضعف تأثير محكمة لاهاي في المصالحة.
سوريا بلد تعددي. ولكي تكون العدالة جامعة، لا بد من إشراك مكونات المجتمع كافة. هذا التنوع إذا أُدير جيداً، يمكن أن يُشكّل مصدر قوة لا انقسام. ويجب أن تُصمَّم آليات العدالة بحيث تُمكَّن هذه الأصوات من التعبير عن تجاربها الخاصة.
كما أن غياب المعلومات والتواصل يغذي الشكوك والمخاوف. لذلك، من الضروري إعداد حملات تواصل مجتمعي لشرح أهداف العدالة، واستخدام اللغة التي يفهمها الناس، والانفتاح على وسائل الإعلام.
في كندا، أنشأت لجنة الحقيقة والمصالحة حول السكان الأصليين منصّة رقمية، وأنتجت محتوى مرئياً ومكتوباً، بلغات السكان الأصليين، ما ساهم في تعزيز الوعي والدعم الشعبي.
بناء التوافق وإدارة التوقعات
العدالة الانتقالية لا تَفرضُ السلم الاجتماعي فوراً، ولا تُرضي جميع الأطراف بالكامل. لذلك من الضروري أن نكون صريحين في تحديد ما هو ممكن الآن، وما الذي سيحتاج لسنوات. وكذلك الاعتراف بالتحديات والقيود، وشرح طبيعة الموازنة بين المحاسبة والحقيقة، والإصلاح والمصالحة. في غواتيمالا، أدى عدم وضوح الأهداف وتضارب الرسائل إلى فقدان الثقة في العملية، رغم انطلاقتها القوية. أما في ساحل العاج، فقد ساعدت المقاربة المرحلية، وربط العدالة بالإصلاح السياسي، على تعزيز الثقة تدريجياً.
في النهاية، إن مُلكية السوريين لهذه العملية لا تُقاس فقط بمن يُشارك في كتابة القوانين أو حضور الاجتماعات، بل بمن يشعر أن هذه العدالة تخصّه، وأنها تعنيه هو وأولاده ومستقبل قريته أو حيّه. لهذا، لا بد أن تُصمَّم العملية بشكل يستوعب التعدد السوري، ويُخاطب الناس بلغتهم، ويمنحهم أدوات فهم وتفاعل ومُساءلة.
بهذا فقط، يمكن للعدالة الانتقالية في سوريا أن تكون أكثر من مجرد مفهوم قانوني؛ أن تكون مساراً وطنياً نحو التعافي الجماعي والمصالحة المجتمعية، ينقل سوريا من زمن الألم إلى أفق جديد من الأمل.
في المقال الخامس والأخير، سنحاول أن نقدم تصوراً عملياً وخارطة طريق، نطرح فيها خمسة محاور رئيسية تُشكِّل معاً اللبنات الأساسية لبناء نموذج سوري منفتح وعملي للعدالة الانتقالية.
————————————
الجزء الخامس
رؤية ختامية لعدالة انتقالية سورية/ صطفى حايد
في الالتفات إلى الوراء (5)
09-05-2025
تنويه من الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يشير إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المستخدمة في هذا المقال.
* * * * *
في المقالات السابقة، حاولنا أن نقترب خطوة بخطوة من سؤال العدالة في سوريا. استعرضنا المفهوم العام للعدالة الانتقالية، ثم تحدّثنا عن تحدياتها، وناقشنا بعض التجارب الدولية، وانتقلنا بعدها إلى مقاربة المشاركة المجتمعية والمُلكية المحلية.
في هذا المقال، وهو الخامس والأخير من سلسلة مكونة من خمسة أجزاء، نصلُ إلى المرحلة الأخيرة من تصوّر العدالة الانتقالية في سوريا ما بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. مرحلة لا تقتصر على محاسبة الجناة أو تقديم تعويضات، بل تشكّل لحظة مؤسسة لسوريا جديدة، تقوم على الشفافية والعدالة والمشاركة والانفتاح. ولأن أي عملية عدالة انتقالية تحتاج إلى تصور عملي، نطرح هنا خمسة محاور رئيسية تشكّل معاً اللبنات الأساسية لبناء نموذج سوري، من شأنه أن يمهّد الطريق لشفاء المجتمع السوري، ويؤسس لدولة قانون ومواطنة متساوية للجميع. لتحقيق ذلك، ما الذي نحتاج إليه؟ ومن يجب أن يفعل ماذا؟
أولاً: قيادة سورية جامعة وشرعية
لكي تتمكن عملية العدالة الانتقالية من أن تتجذر وتؤتي ثمارها، فإنها تحتاج إلى قيادة سورية تمتلك الشرعية القانونية والأخلاقية والمجتمعية. هذه القيادة يجب أن تضم ممثلين عن ضحايا الانتهاكات، وممثلين عن المجتمع المدني، والأوساط القضائية، وناجين وناجيات من جميع المناطق. ويجب أن تكون منفتحة على كافة مكونات المجتمع السوري، وملتزمة بالمساءلة الفورية والجادة.
أما الحكومة الانتقالية، فعليها، وعلى الفور، أن تتخذ خطوات سريعة وحازمة لوقف الانتهاكات الجارية، وعلى رأسها المجازر والجرائم المتكررة في أنحاء متفرقة من البلاد، بما فيها وسط البلاد والساحل السوري، حيث ما تزال النزعات الانتقامية والتهديدات الطائفية قائمة. هذه الخطوات تتطلب إجراءات فعلية وشفافة، تطال مرتكبي الجرائم في جميع المناطق، بغض النظر عن انتماءاتهم. الصمت أو التباطؤ في هذا المجال سيعيد إنتاج العنف بشكلٍ مباشر، وسيقوّض أي جهود لتأسيس قيادة عملية شاملة وشرعية للعدالة الانتقالية.
يجب أن تضم قيادة العدالة الانتقالية قضاة وخبراء قانونيين يتمتعون بالنزاهة والكفاءة، وتمثيل حقيقي للنساء، والناجين، وعائلات الضحايا، وممثلي المجتمعات المحلية المختلفة، والشباب، وذوي الاحتياجات الخاصة. التعددية في القيادة ليست شكلاً ديمقراطياً فقط، بل شرطاً لتحقيق عدالة تنبع من وجدان الناس وتعبر عنهم وتمثل تنوعهم.
تجربة جنوب أفريقيا تقدم مثالاً ملهماً هنا. فمشاركة نيلسون مانديلا وديزموند توتو في تصميم قيادة لجنة الحقيقة والمصالحة أعطى للعملية شرعية أخلاقية وطمأنينة مجتمعية. أما في سيراليون، فإن إشراك النساء والضحايا في صياغة آليات العدالة ساهم في بناء ثقة مجتمعية أكبر في العدالة الانتقالية.
في لقاء دولي عن العدالة الانتقالية في سوريا، التأم في برلين في نيسان (أبريل) 2025، اعتبر بعض ممثلي المجتمع المدني السوري أن الحكومة السورية المؤقتة يجب أن تقود عملية العدالة الانتقالية. بينما اعتبر آخرون أن هذه العملية يجب أن تقودها هيئة مستقلة شاملة وممثلة لكل أطياف المجتمع السوري، وتتمتع بولاية قضائية وبآليات شفافية ومحاسبة. هذا الانقسام في التصورات والرؤى هو إثبات إضافي على ضرورة إجراء مشاورات وحوارات مجتمعية ووطنية من أجل التأسيس والتحضير لهذه العملية قبل البدء في تنفيذها.
ثانياً: خارطة طريق متدرجة وواضحة
من التجارب العالمية، كما في كولومبيا وجنوب أفريقيا وتونس، نعلم أن العدالة الانتقالية لا تحدُث دفعة واحدة، بل تحتاج إلى خارطة طريق متدرجة، تُبنى عبر التوافق المجتمعي والسياسي، وتراعي التحديات الأمنية والمعايير الدولية. يجب أن تشمل هذه الخارطة خطوات واضحة تبدأ بوقف الانتهاكات الحالية ومحاسبة مرتكبيها، وضمان عدم التكرار، ثم الانتقال إلى عمليات كشف الحقيقة والمحاسبة والتعويض والإصلاح المؤسسي. هذه الخطوات لا تحتاج الى تراتبية، فالكثير منها يمكن أن ينفّذ بالتوازي إذا توفرت الموارد البشرية والمالية اللازمة، وكذلك الإرادة السياسية والمجتمعية.
أي خارطة طريق لا يمكن لها أن تنجح في بيئة يلفها الغموض وسوء التفاهم. لذلك نحن بحاجة إلى خارطة طريق واضحة، تتضمن إطاراً زمنياً واقعياً، ومعايير أداء محددة، وتوزيعاً شفافاً للأدوار والمسؤوليات. لا بد من تحديد ما الذي ستقوم به كل جهة، ومتى، وبأي أدوات، وكيف يمكن ضمان شفافيتها ومساءلتها.
التحدي الأكبر في العمليات الانتقالية هو إدارة التوقعات، فالناس تتوقع عدالة فورية، وجبر ضرر مباشر، وهو أمر غالباً ما لا يكون ممكناً بالسرعة المطلوبة. هنا تأتي أهمية التواصل الواضح مع السوريين، وإشراكهم في تحديد أولويات المرحلة، وتقديم تقارير دورية حول التقدم المُحرز، والانفتاح الكامل على النقد والمساءلة. يجب إدراك أن العدالة لن تتحقق في يومٍ واحد، وأن الطريق سيكون طويلاً ومعقداً. لكن هذا لا يعني غياب الطمأنينة، بل يتطلب تواصلاً شفافاً، وتفسيراً مستمراً للأهداف والنتائج والخطوات القادمة. تجربة تونس تُظهر أهمية هذا الأمر. فقد وضعت هيئة الحقيقة والكرامة خارطة طريق واضحة تضمنت فترات لجمع الشهادات، وأخرى للتحقيق، وثالثة للمساءلة. صحيح أن التنفيذ كان متعثراً في بعض المحطات، لكنه شكّل مرجعية يمكن القياس عليها والمساءلة على أساسها.
يجب أن يكون الإطار الوطني للعدالة الانتقالية متاحاً ومفتوحاً للنقاش العام، يحدد المعايير الوطنية، وينسجم مع التزامات سوريا الدولية، ويستند إلى حقوق الضحايا لا إلى مصالح سياسية. في كولومبيا، أصدرت الحكومة خطة عمل مفصلة تضمنت مراحل العدالة، وتواريخها، وأدوات المتابعة، مما ساهم في خلق شعور عام بالثقة، رغم كل التحديات.
ثالثاً: صياغة نموذج سوري
النموذج السوري سيستفيد من تجارب الآخرين، لكن لا يجب أن يكون نسخة عنها، بل أن ينطلق من خصوصية الصراع السوري، التي جمعت بين الاستبداد والنزاع المسلح والانقسام المجتمعي والتدخلات الخارجية. هذا النموذج يجب أن يجمع بين السيادة والانفتاح الدولي، وأن يركز على:
كشف الحقيقة: ليس فقط عبر لجان رسمية، بل من خلال توثيق روايات الضحايا، وتاريخ المناطق، والذاكرة الجماعية والذاكرة الشفهية.
العدالة الترميمية: التي لا تكتفي بالعقاب، بل تسعى إلى تعويض الضحايا وإعادة دمجهم في المجتمع.
العدالة الجنائية: لمساءلة المسؤولين عن المجازر والجرائم الجسيمة.
الإصلاح المؤسسي: لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وبناء مؤسسات قضائية وأمنية خاضعة للمساءلة.
تصميم نموذج سوري للعدالة الانتقالية لا يعني الانغلاق على الذات، أو رفض الدعم الدولي بحجة السيادة، بل على العكس، نحن نحتاج إلى الخبرات والأدوات التي لا نمتلكها. نحتاج إلى الدعم في جمع الأدلة، وحماية الشهود، والتحليل الجنائي، وأرشفة الجرائم، وضمان عدالة تحترم المعايير الدولية. ولذلك، من الضروري أن نتواصل مع المؤسسات الدولية التي أُنشئت خصيصاً لدعم السوريين في هذا المجال، مثل:
الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) لجمع الأدلة وحفظها.
لجنة التحقيق الدولية المستقلة (COI) التابعة للأمم المتحدة.
المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا (IIMP)، التي تعمل على كشف مصير ومكان المفقودين، وتوفير الدعم الكافي للضحايا، بما في ذلك الناجين والناجيات وأسر المفقودين في سوريا.
الانفتاح والشراكة التي تستند إلى الوضوح والاحترام المتبادل ترسِل إشارة واضحة إلى الشعب السوري بأن العدالة ليست مجرد وعد داخلي، بل التزام دولي أيضاً. نحن بحاجة إلى الدعم الفني واللوجستي، وبحاجة إلى تطوير التعاون مع هذه الآليات، وسواها، التي أنشأها المجتمع الدولي من أجل سوريا.
رابعاً: أدوار الفاعلين: من يفعل ماذا؟
الحكومة الانتقالية:
يجب أن تضع العدالة الانتقالية في صلب أولوياتها، وأن تدعم وتُسهل المشاورات المجتمعية والحوارات الوطنية والدولية من أجل تأسيس هيئة مستقلة لقيادة هذا المسار، وكذلك توفير الدعم السياسي والتشريعي اللازم. تأسيس هذه الهيئة يجب ألا يكون احتكارياً وبمشاورات شكلية، وإنما بجدية وتشاركية وشفافية. يجب أن يكون أغلب أعضاء الهيئة من الناجين وعائلات الضحايا وممثلين من المجتمع المدني ومستقلين يتمتعون بالمصداقية والنزاهة، ودون أجندات أو ولاءات سياسية، وألا يقل تمثيل النساء فيها عن النصف. ويجب أن تكون عملية اختيار الأعضاء شفافة ويتم التعريف بأعضائها ومؤهلاتهم وأسباب اختيارهم. مع التركيز على حق السوريين في أن يعرفوا كيفية اتخاذ قرارات الاختيار والتعيين، ليكونوا قادرين على مساءلة الهيئة وأعضائها. ونعيد التأكيد هنا على أهمية إجراء مشاورات مكثفة وطنية ودولية عن الخيارات الأفضل لشكل هذه الهيئة وولايتها القضائية، وآلية تشكيلها والصلاحيات والموارد المالية، وكذلك الإطار الزمني لعملها. ومن المهم جداً أن تتمتع هذه الهيئة بالاستقلالية والحياد والشفافية.
السلطات الانتقالية، من جهتها، تتحمل مسؤولية الإشراف على تنفيذ السياسة الوطنية للعدالة الانتقالية، وضمان التنسيق بين الجهات القضائية، والمؤسسات المعنية بالتوثيق، وجبر الضرر، والمصالحة.
الناجون وعائلات الضحايا:
العدالة الانتقالية تبدأ من الضحايا، أو لا تبدأ أبداً. لكن ليس كـ«رمزيات» أو كـ«شهادات مؤثرة» فقط، بل كفاعلين رئيسيين في تصميم وتنفيذ ومراقبة العملية. الناجون يعرفون التفاصيل، ويملكون البوصلة الأخلاقية، ويدركون ما تعنيه المحاسبة وما تعنيه المصالحة القسرية. ينبغي أن يكونوا ممثَّلين في لجان التخطيط، وأن تكون لهم قدرة على وضع الفيتو الأخلاقي في وجه الصفقات السياسية التي تهدد كرامتهم. وفي ملف المفقودين والمختفين، لا أحد يمتلك الشرعية للمطالبة أكثر من أهاليهم، كما أثبتت «جمعية أمهات ساحة مايو» في الأرجنتين.
الضحايا يمكن أن يكونوا أيضاً جسوراً للتفاهم بين المجتمعات، إن تم تمكينهم ومنحهم المساحة. بعضهم فقد من الجانبين، البعض ينتمي لمناطق كانت في قلب الاستقطاب، وبعضهم حوّل ألمه إلى طاقة للتعليم والمصالحة. يجب حماية هذه الأصوات، وتمويلها، وفتح المساحات العامة لها، فهي الضمانة الأولى والأخيرة لعدالة لا تُختطف.
النساء:
غالباً ما تكون النساء أول من يتعرض للانتهاك وآخر من يُمنح الكلمة، وهذا ظلم مزدوج. فالنساء السوريات لم يكنَّ فقط ضحايا لعنف متعدد الأبعاد والأشكال، بل كنّ أيضاً عماداً لصمود العائلات والمجتمعات، وخط الدفاع الأول عن الحياة في زمن الفقد.
تمتلك النساء أدوات فريدة لفهم الظلم، لا من منظور الأرقام، بل من خلال التفاصيل المسكوت عنها: السجون التي لم توثق، الإذلال اليومي في نقاط التفتيش، الابتزاز الجنسي، الإفقار المنهجي، وانهيار الشبكات المجتمعية. فهم العدالة الانتقالية من منظور النساء يعني تضمين ما لا يُرى في الإحصاءات.
دور النساء لا يقتصر على الشهادات. بل عليهن أن يكنّ في موقع القيادة: كمصممات للعملية، ومنسقات لحوارات المصالحة المجتمعية، ووسيطات موثوقات في مناطق الانقسام. وهذا ليس تنظيراً، بل درساً مستفاداً من تجارب مثل ليبيريا، حيث قادت النساء عملية السلام، وكولومبيا، حيث لعبت الجمعيات النسائية دوراً محورياً في تشكيل لجان الحقيقة، وتونس، التي قدمت مثالاً مهماً حين ألزمت هيئة الحقيقة والكرامة بتمثيل نسائي حقيقي داخل لجانها، كما نظمت جلسات استماع خاصة حول العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي.
في سوريا، لا يمكن الحديث عن إعادة بناء البلاد أو تحقيق عدالة شاملة، دون الاعتراف الصريح بدور النساء وضمان مشاركتهن الحقيقية والتمثيل المتكافئ في كل مستوى من مستويات تنفيذ العدالة الانتقالية.
منظمات المجتمع المدني السوري:
لم يكن المجتمع المدني السوري طرفاً محايداً في الصراع ولا مجرد مراقب. كانت منظمات المجتمع المدني السورية أول من بادر إلى التوثيق، وجمع الشهادات، وأرشفة الأدلة، وإيصال الصوت السوري إلى المحافل الدولية. لقد حافظت هذه المنظمات، رغم الانقسامات والخلافات والتحديات الهائلة، على دورها كصمّام أمان أخلاقي ومهني. كثير منها شارك في جلسات مجلس حقوق الإنسان ومجلس الأمن، وقدّم ملفات قانونية إلى آليات مثل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM) والمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
عملت مئات المنظمات والمبادرات السورية على توثيق الانتهاكات الكبرى في سياقات مختلفة. هذا العمل التوثيقي شكّل العمود الفقري لأغلب الجهود الدولية القضائية، ومنها محاكمات كوبلنز في ألمانيا.
إلى جانب ذلك، يمثل المجتمع المدني جهة رقابة مستقلة على سير عمليات العدالة الانتقالية. يمكن أن يقيّم السياسات الحكومية، ويرصد تنفيذها، ويقترح البدائل عندما تغيب العدالة أو تنحرف عن مسارها. هو بمثابة جهاز «ضبط جودة» وطني.
يجب على هذه المنظمات أن تكون شريكة في تصميم وتنفيذ نموذج العدالة الانتقالية، لا كمزود خدمات أو صوت استشاري فقط، بل كفاعل أساسي وشرعي. وتستطيع هذه المنظمات، عبر شبكاتها المحلية، أن تيسّر الحوارات المجتمعية، وتشكّل جسور ثقة بين المجتمعات المختلفة، وتُسهم في إيصال أصوات المهمّشين.
تاريخياً، لعب المجتمع المدني هذا الدور في جنوب أفريقيا والأرجنتين والبوسنة. وكان لضغط منظمات الضحايا في البوسنة تأثيرٌ حاسم في توجيه عمل محكمة لاهاي وتوسيع اختصاصها. يمكن الاستفادة هنا من تجربة جنوب أفريقيا، حيث كانت منظمات المجتمع المدني شريكة في عملية تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، وساهمت في تدريب الميسّرين وتجهيز جلسات الاستماع وتقديم الدعم النفسي للضحايا.
الإعلام المستقل:
لا تُبنى العدالة في الظلام. وأحد أخطر ما عاناه السوريون خلال السنوات الماضية، وحتى الآن، هو التشويش الإعلامي، والتضليل، وتزييف الوقائع. الإعلام المستقل هو القناة التي تنقل أصوات الضحايا، تفضح محاولات التلاعب، وتسلط الضوء على الانحرافات في مسارات العدالة الانتقالية. هو مرآة للرأي العام ووسيلة لخلق الوعي والضغط باتجاه المحاسبة.
في سيراليون، قامت وسائل الإعلام المحلية المستقلة بتغطية تفصيلية لأعمال لجان الحقيقة، مما ساعد في خلق نقاش مجتمعي واسع. وفي تونس، لعب الإعلام دوراً مهماً في كسر حاجز الخوف وجعل العدالة الانتقالية قضية رأي عام.
نعلم أن الإعلام السوري، لعقود، كان أداة بيد السلطة. ومنذ 2011، تحوّل إلى ساحة صراع أخرى، تغذّيها منصات حزبية وإيديولوجية. لكن وسط هذا الركام، نشأ إعلام مستقل، شجاع، رغم ضعف التمويل والموارد. لعب هذا الإعلام دوراً مهماً في توثيق المجازر، وكشف الانتهاكات، وأوصل الصوت المحلي إلى العالم.
في النموذج السوري للعدالة الانتقالية، يجب الاعتراف بهذا الإعلام كشريك، لا كمراقب فقط. لا بد من حماية استقلاليته، ودعمه، وتمكينه من أداء دور توثيقي وتحليلي ونقدي، خاصةً في مراحل الحقيقة وجبر الضرر والمساءلة. وكذلك إعطاءه الحق في الوصول إلى كافة المعلومات. الإعلام المستقل يمكنه أن يكون منصةً للسرديات المختلفة، ومساحةً لعرض الشهادات، وحاملاً للذاكرة الجماعية.
تجربة سيراليون مثال مهم، حيث أُنشئت إذاعة وطنية للعدالة الانتقالية، تبث جلسات الاستماع، وتشرح أهداف العملية، وتجيب على أسئلة الناس. يمكن تبنّي تجربة مشابهة في سوريا، عبر إنشاء منصات صوتية ومرئية ترافق العملية من بدايتها حتى نهايتها.
في سوريا، نحتاج بشدة لدعم الإعلام المستقل، وخلق شراكات بينه وبين مؤسسات العدالة الانتقالية لضمان الشفافية، وفتح النقاشات الصعبة، وضمان ألا تتحول هذه العملية إلى صفقة مغلقة خلف أبواب السياسة.
الشباب والأطفال:
غالباً ما يُنظر إلى الشباب إما كضحايا أو كخطر. وفي الحالتين، يُقصون عن طاولة العدالة. لكن الحقيقة أن العدالة الانتقالية دون الشباب ليست سوى إعادة تموضع للماضي.
الشباب السوري اليوم، الذي نشأ خلال الحرب، عايش أشكالاً متعددة من الانهيار الأخلاقي والمؤسساتي. بعضهم حَمَل السلاح، وبعضهم أُجبر على الهجرة، وبعضهم يعيش صدمة لم تُسمع بعد. لكنهم أيضاً الأكثر قدرة على تجاوز الانقسامات، وخلق سرديات جديدة، وإعادة بناء الجسور بين المناطق والمجتمعات. ففي راوندا، أطلقت منظمات شبابية برامج لإعادة دمج المقاتلين السابقين من خلال الفن والرياضة والمشاريع المجتمعية. وفي جنوب أفريقيا، أسهم الشباب في توثيق الذاكرة ونقلها للأجيال التالية.
أما الأطفال، فيجب ألا ننسى أن الصراع كان حاضراً في حياتهم منذ المهد. العدالة الانتقالية يجب أن تشملهم: في المناهج التعليمية، والمساحات الآمنة للحوار، والبرامج النفسية، وفي روايتهم للتاريخ القادم. ليس كضحايا صامتين، بل كصُنّاع لذاكرة جديدة.
المجتمع الدولي:
لا يمكن للعدالة الانتقالية أن تنجح في بيئة معزولة. المجتمع الدولي له دور جوهري، ليس فقط في الدعم المالي والتقني، بل أيضاً في مرافقة العملية وتوفير ضمانات سياسية وأمنية. من الضروري أن يضع السوريون تصوراً واضحاً لدور هذه الجهات في كل مرحلة، بما يضمن المشاركة الأمثل والفعالة. يمكن للآليات الدولية أن تلعب أدواراً مهمة مثل:
تقديم الخبرة الفنية في جمع الأدلة وأرشفة الوثائق وتحليل البيانات.
تدريب الكوادر السورية على التوثيق الآمن والتحقيق الجنائي.
بناء قواعد بيانات مشتركة، ومواءمة الجهود مع المحاكم الوطنية لاحقاً.
دعم تأسيس أرشيف وطني للضحايا، كما فعلت في رواندا ويوغوسلافيا السابقة.
تجربة كولومبيا في هذا السياق مفيدة، حيث لعبت الأمم المتحدة دوراً حاسماً في دعم لجنة الحقيقة، وتسهيل المفاوضات، وتقديم الضمانات للطرفين، مع احترام السيادة الكاملة للعملية.
خامساً: إعادة بناء النسيج المجتمعي
العدالة الانتقالية ليست فقط عن الماضي، بل هي أيضاً مشروع للمستقبل. نحتاج إلى بناء ذاكرة جماعية تعترف بكل الضحايا، وتُظهر الحقيقة كاملة، وتمنع الإنكار. لكن كيف نفعل ذلك في بلدٍ مثقل بالانقسامات؟
الجواب يبدأ بالتربية والمناهج. يجب أن تعاد صياغة الكتب المدرسية لتعكس سرديات متعددة، وتُعلّم قيم التسامح، وحقوق الإنسان، والمساءلة. كما ينبغي إشراك الأطفال والشباب في ورشات عمل، وأفلام وثائقية، ومسرحيات مدرسية تُعزز الذاكرة الوطنية دون كراهية.
في رواندا، لعبت المناهج التعليمية دوراً كبيراً في تجاوز خطاب الكراهية، حيث تم إدراج مواد حول الإبادة الجماعية وأثرها، إلى جانب برامج إذاعية ومشاريع شبابية عززت الحوار بين الناجين وأبناء الجناة. وفي سيراليون، أنشئت لجان طلابية شاركت في بناء أرشيف صوتي لذاكرة الحرب. لذلك يجب تضمين مواضيع العدالة، والحقوق، والتنوع، والتاريخ النقدي في المناهج المدرسية، عبر سردية متعددة الأصوات، لا تستثني أحداً. ويجب إشراك الأطفال والشباب، ليس فقط كمستفيدين، بل كفاعلين ومساهمين في إعادة تخيل سوريا.
أيضاً، ينبغي دعم مبادرات المصالحة المجتمعية الصغيرة التي تُبنى من القاعدة، مثل الدوائر المجتمعية، والمصالحة على مستوى الأحياء، ومراكز الدعم النفسي للناجين. هذه المبادرات تصنع فرقاً حقيقياً على الأرض، وتساعد في ترميم العلاقات الاجتماعية من الأسفل إلى الأعلى.
العدالة الانتقالية يجب أن تؤسس لسوريا موحدة، خالية من الكراهية، تقوم على التعدد والانفتاح والكرامة الإنسانية. ولكي يتحقق ذلك، علينا أن نزيل كل أسباب تكرار الجرائم والانتهاكات، بدءاً من خطاب الكراهية والتحريض الطائفي، وانتهاءً بالتمييز المؤسسي وغياب المحاسبة. علينا تفكيك كل مراحل الإبادة والعنف المنظم، من التنميط، إلى نزع الإنسانية، إلى الإفلات من العقاب. وهذا لا يتم إلا من خلال منظومة عدالة مستقلة، وقضاء مهني، وأجهزة أمنية خاضعة للمساءلة وللرقابة البرلمانية والقضائية. نحتاج إلى قضاء مستقل، محترف، غير مسيّس، يستطيع أن يحمي الحقوق ويحاسب المعتدين.
العدالة الانتقالية كضرورة تاريخية وأخلاقية، هي الوحيدة القادرة على أن تفتح الطريق نحو سلام عادل، ومجتمع متصالِح، ودولة حامية للحقوق، لا قاهرة لها. إنها دعوة لكل سوري وسورية، بأن نكون مستعدّين للانفتاح على بعضنا البعض، والانفتاح على العالم، والتفكير معاً في كيف نعيد بناء بلدنا، بكرامة، وبمسؤولية مشتركة.
موقع الجمهورية