الإنزال المظلّي على المؤسسات الثقافية السورية/ خليل صويلح

لم تكن الثقافة السورية امتدادًا للنظام السابق، باستثناء الجزر الرسمية فيها. وهناك عشرات الأفلام والعروض المسرحية والنصوص الأدبية التي خاضت معارك شرسة، انتهى كثير منها بانتصار مبدعيها على خصومهم في دوائر الرقابة.
أجل، هناك من يسعى إلى “تدمير” كل ما يخصّ تاريخ الثقافة السورية في ظل النظام الآفل بوصفها ثقافة خنوع واستبداد وطغيان، وذلك برسم خرائط مزوّرة تعمل على محو التضاريس الناتئة في الحقل الإبداعي السوري خلال نصف القرن المنصرم، بجرّة قلم.
وكأن هذه الحفريات ترجيع لمنهج “البعث” وحده، وليست نتاج ورشة إبداعية لطالما اشتغلت من خارج المنهاج المقرّر، فيما انكفأت الثقافة الرسمية نحو تدبيج شعارات جوفاء لم تترك أثرًا فعليًا في الفضاء العام.
وتاليًا، فإن وضع الثقافة السورية عمومًا في قفص الإدانة والاتهام، يقع في باب الخفّة والانزلاق إلى لحظة ضبابية تبدو أكثر خطرًا على الميراث السابق لجهة الانغلاق على مفردات ماضوية تطيح حرية التعبير في المقام الأول.
إن فحص المشهد العمومي للثقافة السورية، ما قبل سقوط النظام، ينطوي في العمق على تأصيل نصّ مارق، كان يتسلل من ثقوب المؤسسة الرسمية بطرق مختلفة، بعد أن أدركت الشيخوخة مكاتب هذه المؤسسات واهترأت شعارات حزب “البعث” التي لم تعد تقنع أصحابها أنفسهم.
هكذا، اكتفت السلطة بحجز الصفحات الأولى من الجرائد اليومية لأخبار القائد ومنجزات الحزب، فيما تفلتت الصفحات الثقافية من القبضة الصلبة للممنوعات بطرق مراوغة أصبحت جزءًا من مهارات المبدع السوري، ليس في الصحافة فحسب، إنما في الحقول الأخرى كلها.
ففي نظرة عجلى إلى أرشيف السينما السورية، سنقع على أفلام نوعية لم تتمكن الرقابة من خلع أنيابها. فما كان يُمنع من العروض الجماهيرية كان يجد ملاذه في العروض الخاصة والمهرجانات الدولية. والأمر ذاته في ما يخصّ العروض المسرحية والنصوص الأدبية، في معارك شرسة كانت تنتهي غالبًا بانتصار مبدعيها على خصومهم في دوائر الرقابة.
سنتذكّر أفلامًا مثل “الليل” لمحمد ملص، و”نجوم النهار” لأسامة محمد، و”طوفان في بلاد البعث” لعمر أميرلاي، بالإضافة إلى الصخب الذي أثارته نصوص سعد الله ونوس، وممدوح عدوان في المسرح (عُرضت مسرحية “ليل العبيد” لليلة واحدة قبل منعها)، إلى عشرات النصوص الروائية التي تنتمي إلى “أدب السجن” والسرديات الأخرى المضادة.
لنقل إذًا، إن الثقافة السورية في عمارتها الأصلية أتت من موقع الضد في معظم أطروحاتها، ولم تخضع لشعارات “البعث”، عدا الجزر الرسمية المعزولة عن الفضاء الطليعي، بمنشورات تنتهي إلى رطوبة المستودعات وغبار الأرشيف.
اليوم، تدور سجالات ومعارك دونكيشوتية حول منظمة “اتحاد الكتاب العرب” وضرورة تنظيف مكاتبه من مثقفي السلطة. لا ننفي أن هذا الاتحاد مجرد ثكنة رقابية على المطبوعات، ومكان “أكل عيش” لا أكثر، ولكنه عمليًا كان مجرد واجهة مصنوعة من القش.
وتاليًا، فإن احتلاله بالإنزال المظلي لمصلحة ورشة جديدة مجهولة النسب الإبداعي في معظم أعضائها، لن يحقق ما كان يحلم به المبدعون إلا في حال إلغاء الرقابة المسبقة على المطبوعات، وهو ما لم يتحقق إلى الآن، وضرورة استقطاب عشرات الشعراء والروائيين الذين شُطبوا أو رُفضوا من قوائم الاتحاد، فيما تسلل مئات الضباط المتقاعدين إلى عضوية الاتحاد بصفة شعراء وباحثين!
موقعة الإنزال المظلي ذاتها طالت مؤسسات أخرى مثل نقابة الفنانين، واتحاد التشكيليين، واتحاد الصحفيين، وذلك بإقصاء شخصيات مهمة وتعيين أسماء بلا رصيد أو خبرة أو مقترح تنويري، بانتظار وعود انتخابية يبدو أنها مؤجلة طويلًا!
ليس بإمكاننا تجاهل منجزات وزارة الثقافة، سواء على صعيد إنشاء المعاهد العليا للمسرح والسينما والموسيقا ودار الأوبرا والمكتبة الوطنية، أو نشر آلاف العناوين المهمة والمجلات المتخصصة. هذه الفضاءات أصبحت في مرمى الخطر اليوم لجهة تغيير بوصلة عملها برؤى لا ثقافية، وذلك بِهَيمنة شخصيات غامضة في تسيير عجلاتها أو تعطيلها على الأرجح.
هناك، إذًا، مخاوف حقيقية لدى المثقفين السوريين من محاولات هدم البنية التحتية للثقافة السورية بذريعة تأسيس مشهدية مغايرة لا تشبه جغرافية هذه البلاد تاريخيًا، واختراع تاريخ وهمي للأمجاد. ولعل أول مفاعيل هذه المشهدية تمجيد اللحظة بتعزيز حضور الشعر العمودي على حساب حداثة متأصلة، أسّست لها أسماء بارزة منذ ستينيات القرن المنصرم. وإذ بنا كمن يستبدل العمارة التاريخية بعمود الخيمة وحداء القوافل، ويستغني عن عسل النحل بحشود الذباب الالكتروني والأسماء الطارئة.
أوان